الاثنين، 25 ديسمبر 2017

** من وصايا سيدنا المسيح **


هل سقطت الروح عن مركزها السامي الذي تربعت عليه على مدى التاريخ؟

فإذا كان الجواب بالنفي.

فما الذي أدّى إلى أن نتمسك بالخطط والتنظيمات التي لا تدعم الجوانب الروحية والخلقية.

هل عَمِي على إنسانِ اليوم مدى التناقض في إمكانات النمو المادي، بحيث لا يرى أي روح جديدة يتشبث بها؟

إذن .. من الذي تتحمل نتائج الانتكاسات في مجالات الحياة المختلفة؟

إننا بحاجة إلى قاعدة روحية أخلاقية.

هذه التساؤلات تطرح ونحن نعيش امتداد ذكرى ولادة سيدنا المسيح (ع)، الذي رفعه الله ليكون منهجاً يضيء سماء الروح في وجداننا، وليبقى الشاهد على أنَّ الله لم يخلق الإنسان ليكون ضئيلاً، ولكنَّ الإنسان أراد لنفسه أن يعيش كسولاً إلى حد بعيد.

ومع امتداد هذه الذكرى نستنشق روح هذا الامتداد بذكرى ولادة سيدنا محمد (ص)، فكما أنَّ المسيح كان رأفة ورحمة لمن اتبعوه {وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}، كذلك كان سيد المرسلين محمد (ص) رحمة للعالمين.

وفي حديث الإمام علي (ع) مع نوف البكالي، يقول: "طوبى للزاهدين...، قرضوا الدنيا قرضاً على منهاج المسيح".

ويتحدث الامام علي عن سيدنا المسيح (ع)، في خطبته البليغة التي يمتدح فيها الزهد ويذمّ جمع المال، ويصف زهد أنبياء الله الكرام موسى وداود والمسيح وخاتم الانبياء صلوات الله عليهم أجمعين.

فقال بشأن المسيح (ع): "وإنْ شئتُ قلت في عيسى بن مريم (ع)، فلقد كان يتوسّد الحجر، ويلبس الخشنَ، ويأكل الجشبَ، وكان إدامُه الجوعَ، وسراجُه بالليل القمرَ، وظِلالُه في الشتاء مشارقَ الأرض ومغاربَها، وفاكهتُه وريحانُه ما تُنبتُ الارضُ للبهائمِ، ولم تكن له زوجةٌ تفتنُه، ولا ولد يحزنُه، ولا مالٌ يلفتُه، ولا طمعٌ يذلُّه، دابّتُه رجلاه، وخادمُه يداه".

وما كانت تلك التعاليم إلا امتداد لمشوار من أتى قبله من التوراة والأنبياء. يقول السيد المسيح: "لا تظنُّوا أني جئت لأَنقض الناموس أو الأنبياءَ. ما جئت لأنقض بل لأكمّل. فإني الحقَّ أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرفٌ واحدٌ أو نقطةٌ واحدةٌ من الناموس حتى يكون الكل" بل جاء (ع) ليكمل في تعاليمه التوراة وما جاء به الأنبياء.

ولنقرأ من وصايا السيد المسيح التي جاءت في العهد الجديد:

( ١ ) "قد سمعتم أنهُ قيل للقُدَماء لا تقتل. ومن قتل يكون مستوجب الحُكم. وأما أنا فأقول لكم إن كل من يغضب على أخيهِ باطلاً يكون مستوجب الحُكم. ومن قال لأخيهِ رَقا (فارغ أو باطل) يكون مستوجب المجمع. ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنَّم".

قال جعفر بن محمد الصادق (ع): قال الحواريون لعيسى بن مريم: يا معلم الخير، علمنا أي الأشياء أشد؟
فقال (ع): غضب الله عز وجل.
قالوا: فبم يُتقى غضب الله؟
قال: بأن لا تغضبوا.
قالوا: وما بدء الغضب؟
قال: الكبر والتجبر ومحقرة الناس.

( ٢ ) "إن كل من ينظر إلى امرأةٍ ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه".

( ٣ ) "لا تحلفوا البتَّة".

قال الإمام جعفر الصادق (ع): اجتمع الحواريون إلى عيسى، فقالوا: يا معلم الخير، أرشدنا.
فقال لهم: إنَّ موسى كليم الله أمركم أن لا تحلفوا بالله تبارك وتعالى كاذبين، وأنا آمركم أن لا تحلفوا بالله كاذبين ولا صادقين.
قالوا: يا روح الله، زدنا.
فقال: إنَّ موسى نبي الله أمركم أن لا تزنوا، وأنا آمركم أن لا تحدثوا أنفسكم بالزنى، فضلاً عن أن تزنوا، فإنَّ من حدث نفسه بالزنى كمن أوقد في بيت مزوق، فأفسد التزاويق الدخان وإن لم يحترق البيت.

( ٤ ) "لا تقاوموا الشرَّ. بل مَن لطمك على خدّك الأيمن فحوِّل لهُ الآخر أيضاً".

قال جعفر بن محمد الصادق (ع): قال عيسى بن مريم لبعض أصحابه: "ما لا تحب أن يُفعل بك فلا تفعله بأحد، وإن لطم أحدٌ خدك الأيمن فأعط الأيسر".

( ٥ ) "أحِبُّوا أعداءَكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مُبغضيكم. وصلَّوا لأجل الذين يسيئُون إليكم ويطردونكم".

أيها الأحبة:
فلنخلق روحاً، لنخلق محبة ..
ولنغيِّر قانون الموت: (البقاء للأقوى) ..

إلى قانون الحياة: (البقاء للأكثر محبة) ..

السيد المسيح كلمة محبة وسلام


حينما قال السيد المسيح كلمته البليغة، وحكمته الأبدية، في قاموس كرامة الإنسان: "ليسَ بِالخُبزِ وَحدَه يَحيْا الإِنْسان بل بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فَمِ الله".. جاءت لترسخ منهجاً قائماً بالعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين البشر عموماً، وبين أبناء الوطن الواحد بوجه خاص؛ لأنَّ العدالة هي الأهم لحياته وبقائه.

وهنا يتجلى استحضار قول جبران خليل جبران:
"ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين، ويل لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر، ويل لأمة تحسب المستبد بطلاً، وترى الفاتح المذل رحيماً، ويل لأمة لا ترفع صوتها إلا إذا مشت بجنازة، ولا تفخر إلا بالخراب ولا تثور إلا وعنقها بين السيف والنطع. ويلٌ لأمة سائسها ثعلب، وفيلسوفها مشعوذ، وفنها فن الترقيع والتقليد".

ولكننا في كلِّ يأس يمر بنا، تفتح لنا بارقة أمل جديدة، فلا نردد ما قاله الشاعر القروي رشيد سليم الخوري حينما قال: "سلام على كفر يوحد بيننا".

بل إننا نعلنها في ميلاد سيدنا المسيح: "سلام على حب يوحد بيننا".

إذن، نحن ننشدُّ إلى المحبة كطريق..

وننشدُّ إلى المحبة كهدف..

وثمرة المحبة أنها لا تأتي بالسعادة دائماً. بل في عمقها تتلاحق الابتلاءات، وبمقدار هذه الابتلاءات تتجذر المحبة في علاقة وحدانية، وجداناً وعقلاً وقانوناً.

إنَّ المحبة كنز يفتش عنه كل البشر في هذا الوجود، بل به سينقشع الكنز، وسيتراءى لكل واحد منا تلك الكينونة بأفرعها المتعددة، والمترتبة على طبيعة التصورات أو المفاهيم والقوانين العلمية..

فعلينا أن ننظر دوماً إلى الجانب المشرق والمضيء في شخصيتنا وشخصية الآخر، وأن نكتشف العناصر الإيجابية في شخصيتنا وشخصيات الآخرين، بدل أن نفتش على المعايب، ونحدِّق في السلبيات ونعمل على تضخيمها.

وهذا ما أكدَّه السيد المسيح، عندما مرَّ مع الحواريين على جيفة كلب فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا الكلب!
فقال المسيح: "ما أشدّ بياض أسنانه".

يريدنا دين الحب أن نحمل الآخر على المراد بالأحسن، وهو بذلك لا يريدنا أن نبني شخصيتنا بناءً ساذجاً، تفقد معها فطنتك وكياستك، بل يهدف إلى إزالة عوامل التوتر الداخلي، وخلق مناخات الثقة بين البشر؛ لأنَّ سوء الظن إذا ما فتك بأي مجتمع؛ فإنه يفكك عرى الأخوة، ويضعف المناعة الداخلية بما يهدد بانهيار المجتمع برمته.
وقالها الإمام علي في حكمة بليغة: "احْصُدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ"..

فكما مسَّ المسيح بيديه المرض ليشفي الأبرص والأكمه، ويعيد الموتى إلى الحياة.. كذلك فعل الشيء نفسه حينما سار مع الناس يتفاعل معهم، وينشر رسالة محبة الله وسلامه بينهم؛ ليبعث من خلال ذلك الحياة في إنسان جديد ومجتمع جديد.

هذا هو المسيح بكل تجلياته ومحبته:

إنه رسول الله وكلمته..

إنه آية للناس في كل وجوده..

إنه العطاء المتجدد روحاً وأخلاقاً وتوحيداً..

إنه الدال على كل معاني المحبة والرحمة والعدالة..

محرم 1447 في الصحافة الكويتية