الثلاثاء، 30 مايو 2017

تجليات رمضانية - 5 ..


إنّ قدرة الإنسان على الخروج عن الخطوط الغريزية لديه يحمّله مسؤولية اختياراته ويوجب عليه تدعيم جهازه الداخلي.

فالنصر والفتح حينما يتحرر التائب (الثائر) من أَسْر الغرائز، وقيود أوهام الجهل؛ لينتقل من ثقافة القشر إلى آفاق الحريّة والأمن النفسي والسلام.

وما أروع أن يكون الصوم صوماً للسان عن التفوه بالأكاذيب والسفاهة، وصوماً عن أخذ الرشوة والسرقة من مال وممتلكات الغير، وصوماً للعين عن النظرات الشريرة الشهوانية، وصوماً عن الأنانية وحب الذات..

وكما قال علي (ع) -مناظراً بين صوم الجسد وصوم النفس-: "صوم الجسد الإمساك عن الأغذية بإرادة واختيار خوفاً من العقاب ورغبة في الثواب والأجر، وصوم النفس إمساك الحواس الخمس من سائر المآثم وخلو القلب من أسباب الشر".


ويقول حفيده زين العابدين (ع): "وأعنا على صيامه بكفّ الجوارح عن معاصيك واستعمالها فيه بما يرضيك". فالجاذبية الحقيقية للإنسان تنبع من جمال الروح وصفاء النفس وحسن الخلق، وحتى لا تقع في الإحباط اجمع بين التنظير العقلي والارتقاء الروحي.

الاثنين، 29 مايو 2017

تجليات رمضانية - 4 ..


إنَّ أعظم معاركنا -كبشر- يتم خوضها في حجرات صامتة داخل أنفسنا، وهناك -في نفس كل إنسان- تُصنع الانتصارات الحقيقية.

وبمقدار استجابتنا الوجدانية والسلوكية لما يحبه الله سبحانه وتعالى يكون هو الفيصل بين حقيقة حب الله وادّعائه، وروعة انعكاس هذا الحب في أنفسنا.

والغاية الأولى في الصوم تعبّدٌ مثالي، وزهدٌ حقيقي، لما فيه من الاستعانة على تقوى الله تعالى، بحيث يترك محبوبات النفس من شراب وطعام وجنس وغيرها إيثاراً لمحبة الله ومرضاته، فهي رحلة جميلة للتأمل في ذات كل إنسان بعيداً عن مشتهيات الجسد..

وليس الامتناع عن الأكل والشرب، وسائر ما يتحقق به شكل الصوم، إلا مدخلاً بسيطاً إلى الصوم الحقيقي. يقول الإمام في دعائه: "وبلِّغْنا شهرَ الصِّيام، ولا تجَعلْ حظَّنا منه الجوعَ والعطَش".

ويقول أمير المؤمنين (ع): "فَرَضَ اللهُ... الصِّيَامَ ابْتِلَاءً لإِخْلَاصِ الْخَلْقِ".

وقد يؤدي هذا المدخل إلى التقوى، ﴿لعلّكم تتّقون﴾، إذا فهمنا الطريق الصحيح لحركة العبادة، و"التقوى" هي إقامة العدل في دولة النفس..

فالتقوى توبة وكَدْح، والتوبة ثورة، والكَدْح سعيٌ وجهاد، ﴿يا أيها الإنسان إنَّك كادحٌ إلى ربّك كدْحاً فملاقيه﴾.

الأحد، 28 مايو 2017

تجليات رمضانية - 3 ..


شهر رمضان علامة متميزة على امتداد أيام السنة، مرتبط ارتباطاً وثيقاً ببهجة خاصة عند لقائه، وشجن عند فراقه.. شهرٌ له قدرة فارقة على التأثير والانفعال.

فرمضان يمثل رحلة وجدانية مختزلة في مخيلتي، ومخيلة الجميع، لا زال ينبض بالعطاء والسلام والصفاء، إنه يستجلب فيك كلَّ ما كان متعلقاً بأيام صباك، فتصحب معه كلَّ جميل، ويتغير في وجوده شكل الأيام، وتتبدل الأحوال، وأول شيء يقفز إلى نفسك هو الشعور العميق بالاطمئنان.

ومن خلال قراءتنا لخطبة الرسول الكريم (ص) في مناسبة استقبال شهر رمضان، نجد أنَّ الصوم يرتبط بعدة أمور نذكر بعضاً منها:

1- الارتباط بالتوبة والرجوع إلى الله وطلب رحمته.. يقول (ص): "وَتُوبُوا إِلَى اللهِ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَارْفَعُوا إِلَيْهِ أَيْدِيَكُمْ بِالدُّعَاءِ فِي أَوْقَاتِ صَلَاتِكُم‏، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ السَّاعَاتِ، يَنْظُرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا بِالرَّحْمَةِ إِلَى عِبَادِهِ، يُجِيبُهُمْ إِذَا نَاجَوْهُ، وَيُلَبِّيهِمْ إِذَا نَادَوْهُ، وَيُعْطِيهِمْ إِذَا سَأَلُوهُ، وَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ إِذَا دَعَوْهُ".

2- الارتباط بالقوى الروحية للانتصار على قوى الشر: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَنْفُسَكُمْ مَرْهُونَةٌ بِأَعْمَالِكُمْ فَفُكُّوهَا بِاسْتِغْفَارِكُمْ، وَظُهُورَكُمْ ثَقِيلَةٌ مِنْ أَوْزَارِكُمْ فَخَفِّفُوا عَنْهَا بِطُولِ سُجُودِكُمْ".

3- الارتباط بالخدمة والمهام الجليلة: "وَتَحَنَّنُوا عَلَى أَيْتَامِ النَّاسِ يُتَحَنَّنْ عَلَى أَيْتَامِكُمْ... أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ فَطَّرَ مِنْكُمْ صَائِماً مُؤْمِناً فِي هَذَا الشَّهْرِ كَانَ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عِتْقُ نَسَمَةٍ وَمَغْفِرَةٌ لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ".

4- الارتباط بنشر مكارم الأخلاق بين الناس: "أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ حَسَّنَ مِنْكُمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ خُلُقَهُ كَانَ لَهُ جَوَازاً عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَامُ، وَمَنْ خَفَّفَ فِي هَذَا الشَّهْرِ عَمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ خَفَّفَ اللهُ عَلَيْهِ حِسَابَهُ، وَمَنْ كَفَّ فِيهِ شَرَّهُ كَفَّ اللهُ عَنْهُ غَضَبَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَمَنْ أَكْرَمَ فِيهِ يَتِيماً أَكْرَمَهُ اللهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَمَنْ وَصَلَ فِيهِ رَحِمَهُ وَصَلَهُ اللهُ بِرَحْمَتِهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَمَنْ قَطَعَ فِيهِ رَحِمَهُ قَطَعَ اللهُ عَنْهُ رَحْمَتَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ".

وهكذا نرى دائماً بركات التذلل أمام الله والسلوك بالتواضع أمامه، يقول الرسول (ص): "وَمَنْ تَطَوَّعَ فِيهِ بِصَلَاةٍ كَتَبَ اللهُ لَهُ بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرْضاً كَانَ لَهُ ثَوَابُ مَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الشُّهُورِ، وَمَنْ أَكْثَرَ فِيهِ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيَّ ثَقَّلَ اللهُ مِيزَانَهُ يَوْمَ تَخِفُّ الْمَوَازِينُ، وَمَنْ تَلَا فِيهِ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ".

إنها التقوى التي أرادها الله سبحانه أن يتفيأها الإنسان في هذا الشهر الفضيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.. ومن أفضل أعمال التقوى التدبر وتلاوة القرآن الكريم.

وعندما وصف الإمام علي (ع) المتقين، قال: "أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ؛ تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ، يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وَظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ، وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ".


فالمؤمنون المتقون هم أهل القرآن لا يسبقهم بالعمل به أحد، لهم أذن واعية، إن مرّوا على القرآن لم يمرّوا مرور الكرام بل جعلوه منارة هدى ورشاد، يستذكرون به أحوالهم ويحاسبون به أنفسهم، ويرغبون في عطاء الله، ويسألونه العفو والنجاة من العذاب.

السبت، 27 مايو 2017

تجليات رمضانية - 2 ..

لا توجد أمة من الأمم إلا ولها عباداتها الخاصة بها.

وقد حلّت العبادة في الإسلام محلَّ العبادة في العصر الجاهلي؛ فكانت من قبيل: التسبيح والتنزيه والحمد والركوع والسجود بين يدي الله (= الصلاة)، أو التدريب على التحكم بشهوات النفس (= الصوم)، أو الإنفاق والإحسان في سبيل الله (=الزكاة)، أو مركبة من التضحية والزيارة والاعتكاف والتضرّع (= الحج)،... الخ. ولقد كانت هذه الأعمال -في نظر المسلمين- نحو اعتراف وإقرار بألوهية الله (=العبادة).

وتصف السيدة فاطمة الزهراء (ع) الصوم بقولها: "والصيامَ تثبيتاً للإخلاص" فالحكمة البارزة للصيام هي تثبيت الإخلاص، ولا يعني بالضرورة حصر فائدة الصيام بذلك. ولكن في الصيام ميزة لا تتوفر في غيره من العبادات؛ وهي كونه عملاً عبادياً قوامه الترك، بحيث لا يُترك فيه مجال للرياء والسمعة.

فالصوم هو عبارة عن ترك مجموعة من المفطرات، سواء أكان الشخص صائماً أو كان إمساكه لغرض آخر. أما العبادات الأخرى فهي تختلف في هذا الجانب.. ومن هنا فإنَّ الذي يؤدِّي هذه العبادة على مدى شهر كامل سيكون عمله هذا تمريناً على الإخلاص، إذ أنَّ تكرار المرء لعمل معيِّن كلَّ يوم طوال شهر من الزمن يجعل منه مَلَكة. ولهذا فإنّ الصيام يثبِّت الإخلاص في نفس ابن آدم، وهذه الفائدة تترتب على الصيام أكثر من ترتبها على سائر العبادات.

والإخلاص لله عزَّ وجلَّ هو من أكبر عوامل النهوض بالأمّة واستنقاذها من واقعها المرير؛ فإنَّ المخلص يضحي بكل شيء لخدمة مصالح الإسلام والمسلمين، أما غير المخلص فيضحي بمصالح الدين والأمة من أجل أن يعيش حياته الخاصة به ولا تعنيه حياة غيره. يقول الرسول الكرم (ص): "أما علامة المخلص فأربعة: يسلم قلبه، وتسلم جوارحه، وبَذَلَ خيره، وَكَفَّ شره". ولذا ترى أنّ المخلص يملك من التقوى ما لا يملكها غيره..

بل إنَّ الشهادة لله قائمة على مبدأ الاخلاص في العمل، ولهذا فسرته السيدة الزهراء (ع) بقولها: "كلمة جعل الإخلاص تأويلها".

وبحسب التعبير القرآني، فإنّ (التأويل) يعني (المآل). والشيء الذي تكون عودته ونهايته بل وحقيقته عائدة له يعتبر تأويلاً لتلك الحقيقة.

وهذه الجملة تبين أنّ التوحيد إذا لم يتعد مرحلة الفكر إلى مرحلة العمل، وتوقف في مرحلة التصور ولم يتحقق في مرحلة حياة الإنسان، فإنه لا يعتبر توحيداً حقيقياً.

ولذا يوجد أناس ووجوداتها مشركة! وعبيداً لألف شيء وألف شخص، ومع ذلك يكونون موحدين من ناحية التصور، ويثبتون وجود الله بأدلة جيدة. فهل يعتبر هؤلاء موحدين من وجهة نظر الإسلام؟

نقول بصورة مختصرة إسلامية: إنّ (الله) في التصور والفكر إنما هو مقدمة لـ(الله) في الحياة والوجود.

فمثل الموحد من الناحية النفسية، كمثل الشخص الذي يسلِّم أمره لشخص واحد، ومقام واحد، وتسيطر على وجوده قوة واحدة .. أما المشرك، فلا تتوفر وحدة وتجانس وتناسق في شخصيته، ويستحوذ على نفسيته عدة شركاء ومالكين، يشتركون في وجوده، وهؤلاء الشركاء لهم طبائع وأخلاق متنافسة فيما بينهم.

وفي الحديث المشهور الصحيح عن جعفر الصادق (ع): أَنَّ رَسُولَ اللهِ (ص) خَطَبَ النَّاسَ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ فَقَالَ: "نَضَّرَ اللهُ عَبْداً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلاثٌ لا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ: إِخْلاصُ الْعَمَلِ للهِ، وَالنَّصِيحَةُ لأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَاللُّزُومُ لِجَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ مُحِيطَةٌ مِنْ وَرَائِهِمْ، الْمُسْلِمُونَ إِخْوَةٌ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ".

أيها الصائم.. عندما يغريك الشيطان بأن تحرك فكرك في التخطيط للشر، فإنك تحتاج -عندئذ- إلى إرادة إيمانية قوية تمنعك من ذلك.

الخميس، 25 مايو 2017


تجليات رمضانية 1 ..


علينا أن نؤمن بوجود قوة التغيير في أعماقنا، وأن نثق ثقة مطلقة بأننا سنصل إلى هذه القوة. ونكون بذلك قطعنا نصف طريقنا نحو التغيير.

ويمكن لكل فرد منا أن يحصل على هذه الثقة بأن يقنع نفسه بأنه سيتغير؛ لأنَّ أسرتك تطلب منك ذلك، والحياة -بما فيها- تطلب ذلك منك أيضاً.. وقبل كل ذلك الله سبحانه يطلب منك أن تتغير: {إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.

فهناك تغيير يجب أن يبدأ من داخل النفس، وسوف يؤدي ذلك إلى تغيير في الظروف المحيطة بك، وهذا كلام الله لنا ويجب أن نثق به.

إذن.. ساعد نفسك على اتخاذ القرارات، ولا تقل لم يعد هناك وقت، أو تقول لقد كبرت على أن أحدث تغييراً بحياتي.. لأنَّ الإنسان إذا افتقد الثقة في نفسه فإنه لن يستطيع أن يحقق أي إنجاز، وسيكون وجوده في الحياة بلا قيمة تذكر.

ولو تأملنا كلَّ شيء من حولنا نجد أنه في حالة تغير دائم، الماء الذي نشربه، الطعام الذي نأكله، اللباس الذي نلبسه، حتى الناس من حولنا يتغيرون..

فلماذا تبقى على كما أنت؟.. لا بدَّ لنا من اتخاذ إجراءات يضمن لنا السعادة في الدنيا والآخرة.

ولعل السبب الرئيس في أنّك لا تتغير، أنك -ككثير ممن حولك- لم تدرك قوة التغيير في أعماقك، ولذلك تجد نفسك باق على ما أنت عليه.

عليك أن تتأمل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.. كم تعطيك من قوة لتغير نفسك باتجاه الأفضل، ولتدرك من خلالها أنَّ الله معك.

وليس معنى التغيير أن يتبدل الإنسان كلياً، بل يسعى لتربية التنظيم في سلوكه على الصعيد النفسي؛ من خلال تنظيم المعيشة مما يحقق الوفر والاقتصاد إذا التزم الصائم بآداب الصيام، يقول الإمام الصادق (ع): "ليس بدّ لابن آدم من أكلة يقيم بها صلبه، فيجعل ثلث بطنه للطعام، وثلث بطنه للشراب، وثلث بطنه للنَفَس".

إنَّ مكارم الأفعال تقوم بمساهمة فعالة في تنمية ملكات الخير، وتربية نوازع الإنسان الخيرة.. فهي تربي الإحساس والرغبة الذاتية في التسامي نحو الخير والتكامل، ويحقق التفوق على الحد الأدنى من الالتزام والاستقامة، ويربي الشخصية على روح المبادرة والتطوع بفعل الخير.

وقد روي عن الحسن (ع): "الَّذِي يَفُوقُ النَّاسَ فِي الْعِلْمِ جَدِيرٌ بِأَنْ يفُوقَهم بِالْعَمَلِ"، وكان من تمام تمسك الحسين (ع) بهذا المعنى العظيم وتذكيراً لنفسه به فقد نقش خاتمه (ع) "عَلِمْتَ فَاعْمَلْ".

إنك بحاجة ماسة إلى جهاد النفس، وجهاد التعلم، وجهاد الدعوة إلى الله، وجهاد الصبر،...

ولنتهيأ فرصة التغيير في شهر رمضان الكريم، وما فيه من فرص التغيير "إِنَّ أَبْوَابَ الْجِنَانِ فِي هَذَا الشَّهْرِ مُفَتَّحَةٌ، فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لا يُغَلِّقَهَا عَنْكُمْ، وَأَبْوَابَ النِّيرَانِ مُغَلَّقَةٌ فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لا يُفَتِّحَهَا عَلَيْكُمْ، وَالشَّيَاطِينَ مَغْلُولَةٌ، فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لا يُسَلِّطَهَا عَلَيْكُمْ".

مبارك عليكم حلول شهر رمضان المبارك

السبت، 20 مايو 2017

لا شخص فوق النصيحة..

في الحديث "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها".

يركز النبي الأكرم (ص) على المنهج التربوي الإسلامي، وهما كلمتان تشكلان ركيزة في تعاطي الإنسان مع الآخرين؛ واحدة إيجابية يريد الله للناس أن يلتزموها ويأخذوا بها، وهي النصيحة، وأخرى سلبية يريد الله للناس أن يرفضوها ويبتعدوا عنها، وهي الغش.

فالله تعالى أرسل الأنبياء إلى الناس كافة من أجل أن ينفتحوا عليهم بالنصيحة، وذلك بما يملأ عقولهم بتوحيد الله، وحياتهم بطاعته وعبادته، وبما يجعلهم يتحركون من أجل إقامة العدل بين الناس، وإسقاط الظلم من حياتهم.

وقد اختصر الرسول الأكرم (ص) الدين بكلمة فقال: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ".
قِيلَ: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: "للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ".

والرسول (ص) لم يحصر النصيحة بقوم من المسلمين، ولا بموقع دون موقع. بل اعتبر أنَّ على الإنسان أن يقدِّم النصيحة لكلِّ العالم حيث قال (ص): "إنّ أعظم الناس منزلة عند الله يوم القيامة أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه" مسلمين وغير مسلمين، فيتعهد بالنصيحة لهم بما يرفع مستواهم ويقوِّي مواقعهم.

ودعت الشريعة أن نحفظ الناس في حضورهم وغيابهم، فلا نسمح لأحد بأن يتطاول عليهم أو يسيء إليهم، وأن نبدي لهم النصيحة، ونشجِّعهم على طاعة الله تعالى، ونعينهم على أنفسهم بتجاوز أخطائهم وسيئاتهم.. وكم هو جميل قول الإمام (ع): "كن عليه رحمة ولا تكن عليه عذاباً".

ووصل الحال بالنصيحة؛ إذا توقف نصح المستشير أو النصيحة على إفشاء السر وكان ملاك النصيحة أو النصح أهم من ملاك إفشاء السر كمن اطلع على أحد عند شخص سلاحاً يريد قتل آخر به، فهنا ملاك النصيحة ونصح المستشير أهم من إفشاء السر فيجب أن ينصحه بإفشاء السر.

وللنصيحة في الإسلام آداباً، وأهمها:
1.            أن تكون في السر ما لم يجاهر بها صاحبها.
2.            أن تكون بالأسلوب المناسب وفي اللحظة المناسبة.
3.            أن تكون بنية الإصلاح والتغيير إلى ما هو أحسن.
4.            أن تكون خالصة لوجه الله تعالى.

وعدم رعاية هذه الآداب قد يولِّد في نفس المنصوح نوعاً من العزة بالإثم، ويحاول التعبير عنها في شكل مراء أو جدل ليبرر به ما هو عليه من خطأ، ولا يقبل النصيحة. وإنّ رعاية هذه الآداب من شأنها أن تقضي على المراء أو الجدل، والقصة التالية خير ما يشرح ذلك:

أصاب المأمون بخراسان كانوناً من ذهب مرصعاً بجواهر كثيرة، قيل: إنه كان ليزدجر بن شهريار الفارسي، لا تعرف قيمته لكثرتها، فقال ذو الرياستين الفضل بن سهل: يا أمير المؤمنين، الرأي أن تجعله في الكعبة يوقد عليه العود، والند بالليل والنهار.
فقال المأمون: أفعل. وأمر بحمله إلى مكة.
واتصل الخبر بيزيد بن هارون المحدِّث، فأمر مستمليه أن يقف يوم الخميس عند اجتماع الناس، وأصحاب الحديث فيشكر المأمون، ويدعو له، ويخبر بخبر الكانون، ففعل المستملي ذلك.
فلما سمع يزيد كلامه، صاح وانتهره، وقال له: ويلك، اسكت، إنّ أمير المؤمنين أجلّ قدراً، وأعلم بالله عز وجل من أن يجعل بيته بيت نار، فكبَّ أصحاب البريد إلى المأمون، فأمر بكسر الكانون، وبطل ما دبّره ذو الرياستين(القلائد من فرائد الفوائد، للدكتور مصطفى السباعي: ص 98).

يقول المرجع الكبير السيد محمد حسين فضل الله: "إنَّ الإسلام يؤكّد ويركّز على النصيحة للمسلمين، وعلى النصيحة للنّاس، ويطلب من الإنسان المسلم أن يعيش النصيحة في عقله وقلبه وفي علاقاته ومعاملاته مع النّاس، وأن لا يعيش الغش بكلّ أنواعه. وفي ظلّ هذا التأكيد، إذا أردت -أيها المسلم- أن تفكر في أمر يخص الواقع العام، فعليك أن تخلص في تفكيرك وتجتهد لتصل إلى الحقّ، حتى تقدّم للنّاس فكراً حقّاً لا باطل فيه، وحين تقدّم تحليلاً سياسياً أو اجتماعياً يتصل بالواقع، فإنَّ عليك أن تجهد فكرك ليكون تحليلك منفتحاً على الواقع دون غش، أي بغير أن تشوبه أيّة غاية شخصية أو حزبية ضيّقة. وهكذا إذا طلبت من النّاس الوقوف إلى جانب شخص في أيّ شأن ديني أو دنيوي، فعليك أن لا تنطلق من أيّ غايات خاصة دعائية لا تتصل بمصالح النّاس العامة، فتدعو إلى تأييده ولا يكون بمستوى المسؤولية، وهو ما يدخل في دائرة الغش".

ولذا يقول الإمام الباقر: "اتبع من يبكيك وهو لك ناصح ولا تتبع من يضحكك وهو لك غاش" فعليك أن تتّبع النصيحة من الناصح حتى لو كانت على خلاف رغبتك، أو كانت مؤذية لك؛ لأنّ فيها الخير والمصلحة لك من موقع الخلوص في النصيحة، بينما تمثّل المشورة من الشَّخص الذي يمارس الغشّ في الرّأي وفي الأسلوب مشكلة لك، حتى لو كانت تنسجم مع رغبتك الذاتيّة.

ومن هذا المنطلق للأبن أن ينصح أباه، وللبنت أن تنصح أمها، وللتلميذ أن ينصح معلمه، وللمأموم أن ينصح الإمام، وللمحكوم أن ينصح الحاكم، وللأدنى أن ينصح الأعلى وهكذا..

فقد روى الكليني بسند صحيح عن أبي عبد الله الصادق: أَنَّ رَسُولَ اللهِ (ص) خَطَبَ النَّاسَ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ فَقَالَ: "نَضَّرَ اللهُ عَبْداً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلاثٌ لا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ: إِخْلاصُ الْعَمَلِ للهِ، وَالنَّصِيحَةُ لأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَاللُّزُومُ لِجَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ مُحِيطَةٌ مِنْ وَرَائِهِمْ، الْمُسْلِمُونَ إِخْوَةٌ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ".


وإنّ علياً (ع) صدح بها أنه ليس فوق النقد النصيحة، فقال: "وَلَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالًا فِي حَقٍّ قِيلَ لِي، وَلَا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ، أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ، فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ، أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ، فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ، وَلَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي، إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي، فَإِنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، يَمْلِكُ مِنَّا مَا لَا نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَأَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى وَأَعْطَانَا الْبَصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى".

الأربعاء، 17 مايو 2017

هل للقرآن بطون ..
جاء في الصحيح، قال جعفر بن محمَّد الصادق (ع): قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع): "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْفَقِيهِ حَقِّ الْفَقِيهِ؟ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللهِ، وَلَمْ يَتْرُكِ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ؛ أَلَا لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ، أَلَا لَا خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ، أَلَا لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَكُّرٌ".

القرآن الكريم كلام الله المنزَل، أنزله على قلب رسوله محمَّد (ص)، هداية للعالمين، وهو المصدر الأعظم من مصادر تلقي العقيدة والأحكام عند كل المسلمين، وقد ذكر الإمام علي الرضا (ع) يوماً القرآن فعظَّم الحُجّة فيه والآية والمعجزة في نظمه، وقال: >هو حبل الله المتين، وعروته الوثقى، وطريقته المثلى، المؤدِّي إلى الجنة، والمنجي من النار، لا يخلق على الأزمنة، ولا يغث على الألسُنَّة؛ لأنه لم يجعل لزمان دون زمان، بل جعل دليل البرهان، والحُجّة على كل إنسان، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(فصلت: 42)".

وعن جعفر بن محمَّد الصادق (ع)، قَالَ: قَالَ رسول الله (ص): "... فَإِذَا الْتَبَسَتْ عَلَيْكُمُ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، فَعَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ، وَمَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ، وَهُوَ الْدَلِيلُ إِلَى خَيْرِ سَبِيلٍ، وَهُوَ كِتَابٌ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَبَيَانٌ وَتَحصِيلٌ، وَهُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالهَزْلِ...".

وعن موسى الكاظم (ع) قَالَ: قَالَ النبي (ص): "إِنِّما الْعِلْمُ ثَلَاثْةٌ: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، وما خلاهن فهو فضل".

والمشهور أنَّ للقرآن الكريم ظهراً وبطناً، وذهب القاضي النعمان الإسماعيلي إلى أنَّ "آيات كثيرة من كتابه سبحانه وتعالى ذكرٌ للأمثال والباطن والتأويل، وذلك معروف في لسان العرب الذي نزل القرآن به وخاطبهم بلسانهم فيه، وذلك من معجزات وغرائب تأليفه، أنَّه يأتي بالشيء الواحد وله معنى في ظاهره ومعنى في باطنه، فجعل عزَّ وجلَّ ظواهره معجزة رسوله، وباطنه معجزة الأئمة من أهل البيت، لا يوجد إلا عندهم، ولا يستطيع أحد أن يأتي بباطنه غير الأئمة من ذريته، وهو علم متوافر بينهم مستودع فيهم، يخاطبون كل قوم منه بمقدار ما يفهمون، ويعطون كل أهل حد منه ما يستحقون، ويمنعون منه ما يجب منعه، ويدفعون عنه من استحق دفعه"(كتاب أساس التأويل، للقاضي النعمان: ص 31).

والمراد من (الظاهر = ظاهر القرآن) هو فصيح اللغة وعجيب النظم، وغريب الأسلوب.
والمقصود من (الباطن = باطن القرآن) عمق المعنى ولطافة المفهوم.
وقد رووا عن علي (ع) أنه قال: "ما من آية إلا ولها أربعة معان: ظاهر وباطن وحد ومطلع، فالظاهر التلاوة والباطن الفهم، والحد هو أحكام الحلال والحرام، والمطلع هو مراد الله من العبد بها"(تفسير العياشي). فباطن القرآن كما صرَّح به في هذه الرواية هو عمق مفاهيمه، وذلك يدرك بالتدبر والتأمل.

ووجدنا هذا المعنى في كلام الإمام علي (ع) حيث يقول: "وَإِنَّ الْقُرْآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ، وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ، لَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ، وَلَا تَنْقَضِي غَرَائِبُهُ، وَلَا تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إِلَّا بِهِ".

فتعلقت طائفة من العلماء بهذا الكلام، وصرفوا معنى القرآن الكريم عن وجهه فوضعوه في غير موضعه، وأتوا في تأويل باطن الكتاب بما لم يُروَ مثله عن رسول الله (ص)، ولا شبهه عن أهل بيته وأصحابه.

وأما ما حكي في الروايات الشاذة عن باطن القرآن مما لا يدل عليه الكتاب بوجه من الوجوه، فليس من باطن كتاب الله عز وجل، فكيف يعد من معاني القرآن ما لا يدل القرآن عليه بدلالة لفظية ولا معنوية؟!

والأقرب أنَّ تلك الروايات الشاذة من وضع الباطنية والفرق الضالة، وضعوها للتغرير بالناس ودعوتهم إلى مذاهبهم المبتدعة.

إنَّ فكرة عدم استيعاب اللفظ لمراد الله، غير مقبولة؛ لأنَّ الله يقول: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}؛ أي أنَّ الله أراد أن يبين لنا ما يريده من خلال اللغة، بما تتحمله اللغة، وأما المعاني التي لا تتحملها اللغة، فلا مجال للتعبير عنها بها، وكون الله يريد تلك المعاني، فهذا أمر لا تبرير له. صحيح أنَّ علم الله لا يتناهى، ولكن الله لم يكشف لنا كلَّ هذا العلم في القرآن.

فقد دخل الاتجاه الباطني على التفسير، وركَّز على أنَّ للقرآن بطوناً قد تصل إلى السبعين، واختصرها بعضهم في سبعة، ما جعل المعنى القرآني يغرق في معانٍ باطنية لا علاقة للفظ بها، بحيث لا نشعر بوجود أية علاقة بين اللفظ وبين المعنى الذي يستبطنه القرآن كما يعتقد أصحاب هذا الاتجاه.

ولذلك لا معنى للتفسير الباطني؛ لأنّه من قبيل استعمال اللفظ في أكثر من معنى إلا أن يكون تأويلاً، أو بياناً للمصداق، أو استيحاءً.. كما ورد عن الإمام الباقر (ع) في آية {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}(المائدة: 32)، حيث يرى (ع): "أنَّ تأويلها الأعظم من نقلها من ضلال إلى هدى"(بحار الأنوار: 2ص 20)، فالقتل بمعناه الظاهري هو القتل الجسدي، ولكنَّ الإمام (ع) كأنّه يقول: إذا كان الله يمنّ علينا بهذا فالحياة المعنوية أهم وأولى.

وكذلك آية: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}(عبس: 24)، هناك رواية تقول "طعامه: علمه"(الكافي: ج 1 ص 50) والمقصود بقرينة السياق العام للآية من كلمة "الطعام" هو معناها المعروف، ولكن تفسيره بالعلم استيحاء.

نعم ربما يكون المعنى أحياناً عميقاً وله عدة أعماق بحسب وعي المتلقي مثل قضية التوحيد "لا إله إلا الله"، هذه الكلمة تدل على التوحيد، وقد يفهمه الإنسان بشكل ساذج، وقد يفهمه بمعناه العميق، بالتفصيلات التي يذكرها المتكلمون، فإذا كان المراد بالباطن هذا الأمر فنحن نوافق عليه أيضاً.

لقد بينت بعض الروايات شمول القرآن الكريم، وعجز العقول عن إدراك كلِّ أسراره، منها: قول الإمام جعفر بن محمَّد الصادق (ع): "مَا مِنْ أَمْرٍ يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ إِلَّا وَلَهُ أَصْلٌ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنْ لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُ الرِّجَالِ"(المحاسن: ج 1 ص 267 ح 355؛ الكافي: ج 1 ص 60 و ج 7 ص 158؛ تهذيب الأحكام: ج 9 ص 357 ح 1275).

وما جاء في ذيل هذه الرواية تحصر معرفة ذلك بالإمام (ع)، وأنَّ الناس لا تفهم ذلك، ولا يمكن تبريره إلا على أساس أنَّ للقرآن بطوناً ورموزاً.

ولكنَّ الخبر ضعيف بالإرسال؛ لأنَّ ثعلبة بن ميمون نقله عمّن حدَّثه عن المعلَّى بن خنيس في بعض المصادر، ونقله عن بعض أصحابنا عن الإمام في مصادر أخرى، فهو مرسل أو ضعيف لا يعتمد عليه.

ولذا جاء في نص معتبر. حسنة الْفُضَيْل بن يَسَار، قال: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (ع): إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ؟ فَقَالَ: "كَذَبُوا أَعْدَاءُ اللهِ، وَلَكِنَّهُ نَزَلَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ عِنْدِ الْوَاحِدِ"(الكافي: ج 2 ص 630).

وبناءً عليه، فمن يريد الاستدلال برواية الحروف السبعة على وجود بطون سبعة فإنَّ هذا الخبر التام سنداً يكذِّب نظريته؛ لأنه صريح في نفي الحروف السبعة؛ ومكذِّب لفكرة البطون السبع كما هو واضح.

نعم، قد نقول بوجود ظهر للقرآن وبطن، إذا حملنا أنَّ المراد بظهر القرآن هو من نزل فيهم، وأنَّ بطنه هو تأويله، أي المصاديق الحادثة المستجدّة التي تكون منطَبَقاً للقرآن الكريم، فمفهوم "أبي لهب" -مثلاً- ظهره هو أبو لهب عمّ النبي (ص)، لكنَّ بطنه كلُّ الذين يحاربون الدين ويؤذون المؤمنين ويهزؤون بهم إلى يوم القيامة. كذلك مفهوم "أب الخليل إبراهيم" هو رمزٌ لكلِّ السلطات والمؤسسات الاجتماعية التي تكرِّس بقاء التقاليد والمسلَّمات والأعراف، وتوفر لها الحماية والاستمرارية (عبر دعاوى الشرعية).

وعليه يمكن حمل قول الإمام (ع): "لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُ الرِّجَالِ" -بعيداً عن التمسك بنظرية البطون- بأنَّ هذه الكلمة توحي أنَّ "على العلماء أن يدقّقوا في فهمهم للقرآن، بحيث يستوحون عمقه وامتداده، ولا يتجمّدون عند حروفه وكلماته؛ لأنَّ اللغة العربية في قواعدها، قد تقف بالإنسان على المعنى الحرفي للكلمة، ولكنّها لا تنفتح على الإنسان بالآفاق الواسعة لها"، كما يقول العلامة المرجع فضل الله.

ومهما يكن، لا بدَّ للنص في قيمه ومقاصده وأحكامه أن يبقى حاكماً على الواقع وليس العكس. وهنا لا بدَّ من تجاوز الوقوف على حرفية النص، وإعادة النظر في (حجية الظهور)، فما فهمه الأقدمون من النص، ليس بالضرورة أن نفهمه نحن اليوم منه. لا بدَّ من الاعتراف أنَّ فهم دلالة النص تتأثر بالواقع الاجتماعي، وثقافة الفقيه، ومزاجه الشخصي، وروح العصر الذي يعيشه.

أما عندما يغيب النص الصريح والمباشر، فإنَّ العقل هنا لا بدَّ له أن يلعب دوره من خلال الإحاطة بروح النص فيما نسميه بالتفهمية القيمية التي تتجاوز الفهم المجزأ والموضوعي معاً.

لقد اعتبر الشريف المرتضى أنَّ أدلة العقول -وهي متطورة بحسب الزمان والمكان- ليس فيها احتمال ومجاز وتأويل، خلافاً للنص، ومن ثم لا بد من صرف كل ظاهر للنص بما يوافق هذه الأدلة(أمالي الشريف المرتضى: ج 2 ص 125-126).

كما اعتبر في محل آخر أنَّ ظواهر الكتاب الكريم اما أن تكون محتملة مشتركة أو أنها ظواهر خالصة، وفي كلا الحالين لا بدَّ من الرجوع إلى الأدلة العقلية المخالفة لهذه الظواهر؛ باعتبار أنَّ هذه الأدلة قطعية(رسائل الشريف المرتضى: ص 14 و 24 و 93).

وجاء عنه أيضاً تأكيده بأنَّ للعقول "دلالة على جميع الأحوال غير محتملة، فرددنا كل مشتبه من آيات وغيرها إلى أدلة العقول لأنها أصل"(رسائل الشريف المرتضى: ج 2 ص 56).

وهو نفس ما قرره تلميذه الشيخ الطوسي، إذ أكدَّ هذا المعنى وهو أنَّ ظواهر النصوص تبنى على أدلة العقول لا العكس، وبالتالي لا بدَّ من تأويل هذه الظواهر عند معارضتها للعقل(الاقتصاد في الاعتقاد: ص 162؛ الرسائل العشر: ص 325).

إنَّ العقل والنص يتفقان حول مجموعة القيم الإنسانية الكبرى كالعدالة والحرية والمساواة والإحسان والخير والجمال، ويدعوان إلى تنزيه وسائل تحقيق هذه القيم عن إيذاء الآخرين أو ظلمهم أو إلحاق الضرر بهم..

وعلى هذا الأساس، يمكن للعقل الفقهي أن يتحرك في مساحة المسكوت عنه التشريعي ليملأها بما يستجيب لحاجات الأمة، وأن يتحرك بين النصوص من أجل تنقيتها مما يمكن أن يكون قد علق بها من تغييرات أو مما التصق بها من رؤى عرفية أو تاريخية أو اجتماعية وصولاً إلى تنزيلها في الواقع تنزيلاً جديداً يجعل من النص غضاً نظراً في كل زمان جديد، فـ"لَا يَعْوَجُّ فَيُقَامَ، وَلَا يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبَ وَلَا تُخْلِقُهُ كَثْرَةُ الرَّدِّ وَوُلُوجُ السَّمْع"(نهج البلاغة: خطبة 156)؛ لأنَّ الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة، إنه يبقى قادراً على التفاعل مع مشاكل الناس في كل مرحلة تاريخية بالكفاءة نفسها.

التأويل ليس الباطن:

فالتأويل هو أقرب شيء للاستيحاء. والاستيحاء، بمعنى أنَّ الناظر في القرآن يلحظ فيه إشارات ولطائف ودلالات متحركة يمكن استيحاء تصورات منها وفقاً لنظام اللغة العربية، فقد يستوحي من قصة "ملكة سبأ"، أنَّ القرآن يريد أن يركِّز مفهوم قدرة المرأة على ممارسة إدارة سياسية حسنة للسلطة، وينتفع الفقيه بهذا الاستيحاء، أو قد يستوحي الفقيه من سرد كبرى الفرائض في الإسلام فيضع القرآن الأمر بالمعروف إلى جانب الصلاة والزكاة والإيمان بالله وطاعة الرسول، فصحيح أنه لا يوجد صيغة أمر أو مادة أمرية، لكنّ هذا السياق يقدّم استيحاءً بعظمة هذه الفريضة.

إذن، التأويل ليس إلا عملية استيحاء للمعنى من خلال التقاء المعاني ببعضها البعض في الأهداف التي يستهدفها القرآن في القضايا التي يثيرها أمام الناس، والمفاهيم التي يوحيها إليهم.

وبناء فكرة الاستيحاء يتم:
1.         تارةً على المقاربة والمقارنة بين النصوص القرآنية.
2.         وأخرى على الربط بين المعاني والمفاهيم المأخوذة من القرآن الكريم.
3.         وثالثة على فكرة الذوق التفسيري الذي يملكه المفسِّر من خلال خبرته بالنص القرآني تماماً كما يملك الفقيه ذوقاً فقهياً.

إنّ الكلمات تحمل في تاريخ استعمالاتها من الإيحاءات التي يعيشها المستعمل في مدى التاريخ؛ لأنّها تحيط بالمعنى الذي وضعت له الكلمة، فتعطيه أفقاً أوسع مما هو في القاموس.

و(الاستيحاء) تعطي العملية التفسيرية طابعاً مرناً يمكننا من خلاله تحريك الاستناد إلى النصوص وتحريك التعاطي مع المعاني بما يخدم الجري القرآني والتطبيق القرآني على مختلف مرافق الحياة بمظاهرها الجديدة.

الخميس، 11 مايو 2017


علاقة الصوفية بفكرة الإمام المهدي


تقول الدكتورة سعاد الحكيم:
"1. فكرة المهدي تضرب عمقاً في جذور الفكر الإنساني، لكأنها محفورة في قوالبه -الفكر- نفسية. فالكل على اختلاف مذاهبهم وتنوع عقائدهم وأحدية ميولهم، ما بين مادية وغيبية، ينتظر (يوماً موعوداً) يعم فيه العدل ويرتفع الظلم من العالم ... فهذا اليوم ينتظره المفكر المادي الديني كلٌ من خلال بنيانه الفكري أو الفلسفي ... وسواء أكان هذا اليوم يتمثل في شخص أَم في ارتفاع تناقض ... أم ... أَم يبقى هو (المنتظر).
لذلك لا نستطيع أن نقول أنّ فكرة المهدي هي إسلامية فقط أو شيعية أو صوفية خاصة ... وإن كانت صيغتها الإسلامية بسيطة تتلخص من خلال الأحاديث الشريفة، بشخص يخرج في آخر الزمان يملأ الدنيا عدلاً بعد ما ملئت جوراً ... ولن نتعرض لما تحويه هذه الفكرة للأوساط الفقيرة والمظلومة من جوانب نفسية تعويضية، لأننا بذلك نفرغ فكرة (المهدي) من دلالتها الفلسفية في بنيان أفسح لها مكاناً فيه.
2 . اهتم الفكر الشيعي (بالمهدي). والفرق الوحيد بينه وبين الفكر الصوفي: أنَّ المهدي في الفكر الشيعي هو شخص معين بالذات وجد في زمن سابق ... وبالتالي طرح أمامهم مشكلة هذه (الغيبة الطويلة ...) وما الفائدة منها؟ والمبرر لها؟ على حين أنه احتفظ في الفكر الصوفي بصورة بسيطة نراها عند ابن عربي.
"المهدي: خليفة لله، نص رسول الله على إمامته، فالعالم كله بانتظار ظهوره، اسمه: اسم رسول، وهو من آله.
يقول: "... هذا الخليفة (المهدي) من عترة رسول الله. من ولد فاطمة، يواطئ اسمه اسم رسول الله" ... "كما أنه ما نص رسول الله، على إمام من أئمة الدين يكون بعده، يرثه، ويقفو أثره، ولا يخطئ، إلا المهدي خاصة. فقد شهد بعصمته في أحكامه..".
"يظهر (المهدي) بكل صفات الولاية من فعل، فيبدل الأحكام في العالم:
من الجور إلى العدل.
من الجهل إلى العلم.
من الفقر إلى الغنى.
من الضعف إلى القوة.
وهذا التبديل أعطاه الحق القدرة عليه فهو: ولي وخليفة وإمام ... يضاف إلى ذلك طاقة الهداية التي أكسبته الاسم: المهدي".


هل يمكن أن يتحقق كلام أئمة التصوف؟ أم يبقى كلامهم نظري فقط؟

من الفرق الإسلامية مَنْ يرى أنه في آخر الزمان سيظهر كائن جبار يسمى الدجال وسينزل عيسى بن مريم (ع) الذي كان رسولاً إلى بني إسرائيل سينزل من السماء لقتل هذا الكائن الضخم وسيظهر في تلك الفترة ملك أو خليفة عادل يتلقب بالمهدي ليقيم المملكة الإسلامية وبمساعدة عيسى بن مريم (ع) ستغزو المملكة الإسلامية كل العالم وتخير الناس بين الإسلام أو القتل حيث أنّ الجزية ستُلغى ويحل محلها الإسلام أو القتل.

ويعتمدون في هذا التفريق بين شخصية المهدي وشخصية المسيح على الأحاديث النبوية التي تذكر المهدي بأنه من آل محمد (ص) واسمه اسم النبي (ص). أما المسيح فمعروف أنه من بني إسرائيل وقد رفع إلى السماء في وجهة نظرهم وسينزل منها.

ونحن لا ننكر هذه الأحاديث ولكن لا نأخذها على ظاهرها وإنما نفهمها ونعقلها ونعتمد في فهمنا على كتاب الله القران الكريم وأحاديث النبي (ص) وأقوال الأئمة والعلماء.

وهنا لا بد من توضيح بعض الأمور الهامة التي تساعدنا في فهم وجهة النظر:

معنى (آل محمد):

لا بد أولاً من فهم معنى (آل محمد) حتى يتسنى لنا فهم جملة أنّ المهدي من آل محمد.

يقول الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي في الفتوحات المكية: "و(الآل) يُعَظّمُ الأشخاص. فَعُظْمُ الشخص في (السراب) يسمى (الآل). فـ(آل محمد) هم العظماء بمحمد. ومحمد (ص) مثل السراب يُعَظِّمُ من يكون فيه وأنت تحسبه محمد العظيم الشأن كما تحسب السراب ماءاً وهو ماء في رأي العين" انتهى.

ومعنى هذا الكلام أنّ كلمة (آل) في اللغة العربية تعني السراب. ومعنى آل محمد هو الشخص الذي إذا رأيته حسبته محمداً من شدة ما بينهما من تشابهه في الخُلُق ولكن ليس هو محمد على الحقيقة. كما أنك ترى السراب في الطريق أو في الصحراء تحسبه ماء وهو ليس بماء على الحقيقة.
وهذا هو معنى قول النبي (ص): "خُلقه خُلقي"، وقوله (ص): "اسمه اسمي"، فالاسم يأتي بمعنى الصفة كما نقل الله تعالى عن عيسى (ع): {ومبشراً برسولٍ يأتي من بعدي اسمه أحمد}، فالرسول الذي جاء بعد المسيح اسمه محمد فدلّ ذلك على أنّ كلمة "اسمه" في الآية الكريمة ليس الاسم الذي سيُعرف به بين الناس وإنما معناه صفته أنه كثير الحمد.

والخلاصة من ذلك أنّ الإمام المهدي سيكون مظهراً كاملاً للنبي (ص) حتى إذا رأيته فكأنما رأيت النبي (ص) بخُلقه وصفته.

المهدي منا أهل البيت:

نأتي الآن إلى معنى قول النبي (ص) أنّ المهدي من أهل البيت، وهنا انقل كلام الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي في الفتوحات المكية المجلد الحادي عشر حيث يقول:

"ولما كان رسول الله (ص) عبداً محضاً قد طهَّره الله وأهل بيته تطهيراً وأذهب عنهم الرجس وهو كل ما يشينهم -فإنّ الرجس هو القذر عند العرب هكذا حكي الفراء. قال تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.
فلا يضاف إليهم إلا مُطهر ولا بد. فإنَّ المضاف إليهم هو الذي يشبههم. فما يُضيفون لأنفسهم إلا من له حكم الطهارة والتقديس. فهذه شهادة من النبي (ص) لسلمان الفارسي بالطهارة والحفظ الإلهي والعصمة؛ حيث قال رسول الله (ص) فيه: (سلمان منا أهل البيت)".

ثم يقول الشيخ الأكبر: "فدخل الشرفاء أولاد فاطمة كلهم ومن هو من (أهل البيت) مثل سلمان الفارسي إلى يوم القيامة في حكم هذه الآية" انتهى.

وهذا هو معنى وصف النبي (ص) للمهدي أنه من أهل البيت أي أنه مُطهَّر ومقدَّس، وداخل في نطاق هذه الآية مثل سلمان الفارسي.

إطلاق أسم الشيء على شبيهه:

هذه نقطة مهمة هل يمكن أن يُطلق اسم شيء ما على شيء آخر لوجود تشابهه بينهما؟

الجواب: نعم. وقد استخدم القران الكريم هذه الطريقة في قوله: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الشعراء: 53-59).

يقول الله تعالى هنا بعد أن ذكر قصة موسى (ع) مع فرعون أنّ الله سبحانه وتعالى قد أخرج فرعون وقومه من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم؛ وذلك بإغراقهم في اليم، وأنّ الذي ورث هذه الحياة الكريم والملك العظيم هم بنو إسرائيل، ومن المعروف أن قصة فرعون مع موسى قد حدثت في مصر.
فهل ورث بنو إسرائيل ملك مصر؟

لا، ولكنهم ورثوا ملك فلسطين.

إذاً كيف يقول الله تعالى {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}؟

الجواب هنا: هو المشابهة؛ أي أنَّ الله قد أعطى لهم ملك فلسطين الذي يشبهه ملك مصر فكأنهم قد ورثوا ملك مصر.

إذاً عندما نقول أنّ معنى مجيء المسيح عيسى بن مريم يعني شخص من الأمة الإسلامية يشبهه في الفضل فقولنا ليس ببدعة وقد أستخدمها القرآن الكريم نفسه.

كذلك أطلق النبي (ص) على أبي جهل لقب (فرعون)، كما ورد في كتاب البداية والنهاية، عندما رآه النبي (ص) مقتولاً، فقال: "الحمد لله الذي قد أخزاك الله يا عدو الله؛ هذا فرعون هذه الأمة". مع أنّ أبا جهل لم يكن مصرياً ولا فرعونياً ولكن لأنه قام بأعمال عدائية ضد النبي محمد (ص) مثل التي قام بها فرعون ضد موسى (ع) فاستحق أن يُطلق عليه اسم فرعون.

علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل:

وفي قول النبي (ص): "العلماء ورثة الأنبياء"، وقوله: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"، في ذلك دلالة على أنه يمكن لعالم ربانيّ من الأمة الإسلامية أن يصل إلى درجة نبي من الأنبياء السابقين ويدعى في السماء باسمه.

وقد ذكر الشيخ محي الدين بن عربي في كتابه الفتوحات المكيّة كلاماً لطيفاً عن وراثة العلماء للأنبياء حيث يقول في المجلد الرابع: "فالوارث الكامل من الأولياء منا، من انقطع إلى الله بشريعة رسول الله (ص) إلى أن فتح الله له في قلبه في فهم ما أنزل الله عز وجل على نبيه ورسوله محمد (ص) بتجلي إلهي في باطنه. فرزقه الله الفهم في كتابه عز وجل وجعله من المُحدثين في هذه الأمة. فقام له هذا مقام الملك الذي جاء إلى رسول الله (ص). ثم رده الله إلى الخلق يرشدهم إلى صلاح قلوبهم مع الله، ويفرق لهم بين الخواطر المحمودة والمذمومة. ويبين لهم مقاصد الشرع وما ثبت من الأحكام عن رسول الله (ص) وما لم يثبت، بإعلام الله {آتاه رحمة من عنده، وعلمه من لدنه علماً} فيُرقى هممهم إلى طلب الأنفَس بالمقام الأقدس، ويرغبهم فيما عند الله، كما فعل رسول الله (ص) في تبليغ رسالته. غير أنّ الوارث لا يحدث شريعة ولا ينسخ حكماً مقرراً. لكن يُبين. فإنه على {بينة من ربه} وبصيرة من علمه، {ويتلوه شاهد منه} بصدق أتباعه. وهو الذي أشركه الله تعالى مع رسوله (ص) في الصفة التي يدعو إلى الله فأخبر تعالى وقال: {أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} وهم الورثة. فهم يدعون إلى الله على بصيرة. وكذلك شركهم مع الأنبياء (ع) في المحنة وما ابتلوا به فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ}، وهم الورثة فشرك بينهم في البلاء، كما شرك بينهم في الدعوة إلى الله" انتهى.

ويقول في المجلد الرابع: "ومن الرجال الواصلين، من ليس لهم معرفة بهذا المقام، ولا بالأسماء الإلهية. ولكن لهم وصول إلى حقائق الأنبياء ولطائفهم. فإذا وصلوا، فُتح لهم باب لطائف الأنبياء، على قدر ما كانوا عليه من الأعمال في وقت الفتح. فمنهم من تتجلى له حقيقة موسى (ع) فيكون موسوي المشهد. ومنهم من تتجلى له لطيفة عيسى. وهكذا سائر الرسل. فيُنسب (الواصل) إلى ذلك النبي بالوراثة، ولكن من حيث شريعة محمد (ص) المقررة من شرع ذلك النبي، الذي تتجلى له" انتهى.

ثم يقول في المجلد الحادي عشر: "فمن كرامة رسول الله محمد (ص) أن جعل من أمته وأتباعه رسلاً وإن لم يرسلوا. فهم من أهل المقام الذي منه يرسلون وقد كانوا أرسلوا. فاعلم ذلك ! ولهذا صلى رسول الله (ص) ليلة إسرائه بالأنبياء (ع) في السماوات لتصح له الإمامة على الجميع" انتهى.

نفهم من هذا أنّ في هذه الأمة من وصلوا إلى درجة النبوة وهذه كرامة للنبي (ص) ولهذه الأمة. كذلك نفهم من كلامه عن الوراثة انه يمكن لشخص من الأمة الإسلامية أن يصل إلى مقام نبي من الأنبياء السابقين فيظهر بمظهر هذا النبي. وهذا ما قصده النبي (ص) عندما وصف المهدي بأنه عيسى بن مريم أو المسيح.

وقد ذكر الشيخ الأكبر محي الدين أيضاً في كتابه الفتوحات المكية كلاماً بهذا المعنى إذ يقول في قصيدة له:
كل من أحيا حقيقته
وشَفَى من علة الحُجُب
فهو عيسى لا يناط به
عندنا، شيء من الريب
فلقد أَعطت سجيته
رتبة تسمو على الرتب
بنعوت القدس تعرفه
في صريح الوحي والكتب
لم ينلها غير وارثه
صفة في سالف الحقب
فسرت في الكون همته
في أعاجيم وفي عرب
فبها تحيا نفوسهم
وبها إزالة النوب

توضح هذه القصيدة: أنَّ الإنسان إذا سمى في روحانيته وإيمانه ووصل إلى درجة عيسى بن مريم يصبح هو نفسه عيسى بن مريم.

ثم يقول بن عربي تحت عنوان (الشريعة المحمدية وعالمية وارثيها):
"اعلم أيدك الله أنه لما كان شرع محمد (ص) تضمن جميع الشرائع المتقدمة وأنه ما بقي لها حكم، في هذه الدنيا إلا ما قررته الشريعة المحمدية فبتقريرها ثبتت. فتعبدنا بها نفوسنا من حيث أنّ محمد (ص) قررها، لا من حيث أنّ النبي المخصوص بها، في وقته قررها.
فلهذا أوتي رسول الله (ص) (جوامع الكلم) فإذا عمل المحمدي فلا يخلو عمل هذا العامل من هذه الأمة أن يصادف في عمله، فيما يفتح له منه في قلبه وطريقه، ويتحقق به طريقة من طرق نبي من الأنبياء المتقدمين، مما تتضمنه هذه الشريعة... فإذا فتح له في ذلك فأنه ينتسب إلى صاحب تلك الشريعة فيقال عيسوي، أو موسوي، أو إبراهيمي. وذلك لتحقيق ما تميز له من المعارف وظهر له من المقام جملة ما هو تحت حيطة شريعة محمد (ص)". انتهى.

يتضح من هذا الكلام أنه قد يحصل فرد من المسلمين مرتبة نبي سابق من الأنبياء فيظهر ذلك الشخص المسلم وكأنه مسلم بصبغة موسوية أو عيسوية أو إبراهيمية. وهذا الكلام يجرنا إلى الحديث عن استمرار النبوة.

ما هي النبوة؟

النبوة منزلة يعينها الله سبحانه وتعالى ويحصل عليها الإنسان بأخلاقه الصالحة وأعماله الحسنة تعرفها القلوب ولا تنكرها العقول وتوافق الأغراض وتزيل الأمراض فإذا وصلوا إلى هذه المنزلة فتلك منزلة الأنباء الإلهية المطاق لكل من حصل في تلك المنزلة من رفيع الدرجات ذي العرش  وهى مستمرة إلى يوم القيامة.

يقول الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي في الفتوحات المكية المجلد الثاني عشر: "فالنبوة سارية إلى يوم القيامة في الخلق، وإن كان التشريع قد انقطع فالتشريع جزء من أجزاء النبوة فإنه يستحيل أن ينقطع خبر الله وإخباره من العالم، إذ لو انقطع لم يبق للعالم غذاء يتغذى به في بقاء وجوده {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} و{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وقد أخبر الله أنه ما من شيء يريد إيجاده إلا ويقول له كن. فهذه كلمات الله لا تنقطع، وهي الغذاء العام لجميع الموجودات. فهذا جزء واحد من أجزاء النبوة لا ينفد. فأين أنت من باقي الأجزاء التي لها؟" انتهى.

ويقول في موضع آخر: "فما ارتفعت النبوة بالكلية. ولهذا قلنا إنما ارتفعت نبوة التشريع فهذا معنى: (لا نبي بعدي)".

ويتلوه شاهد منه:

لقد وصف النبي (ص) الشاهد الآتي من بعده بأنه المهدي الذي خُلُقه كخُلُق النبي (ص) واسمه اسم النبي (ص) وقد بينا ذلك من قبل، كذلك وصفه بأنه عيسى بن مريم. وبهذا قد جمع هذا الشاهد صفات عيسى (ع) وصفات محمد (ص).

يقول ابن عربي في كلامه عن عيسى (ع) في المجلد الثاني عشر من الفتوحات المكية: "وأما ختم الولاية العامة الذي لا يوجد بعده ولي فهو عيسى (ع)، ولقينا جماعة ممن هو على قلب عيسى (ع) وغيره من الرسل. بأي صفة يكون ذلك المستحق لذلك؟ الجواب: المستحق لختم الولاية العامة يكون بصفة الأمانة. فبيده مفاتيح الأنفاس وحالة التجريد والحركة وهذا هو نعت عيسى (ع) كان يحي بالنفخ وكان من زهاد الرسل وكانت له السياحة وكان حافظاً للأمانة مؤدياً لها ولهذا عادته اليهود" انتهى.

ويذكرني هذا الكلام بوصف النبي (ص) للمسيح الآتي في آخر الزمان عندما قال: "لا يحل لكافر يجد ريحه إلا مات" فكلام ابن عربي وكلام النبي (ص) يوضحان ما هي صفة عيسى ومن يقوم مقام عيسى في ختم الولاية العامة وهو ذلك الشاهد الآتي بعد الرسول (ص).


ثم يوضح ابن عربي وصفه لذلك الشخص الذي سيكون ختم الولاية المحمدية فيقول: "وأما الصفة التي استحق بها خاتم الولاية المحمدية أن يكون خاتماً فبتمام مكارم الأخلاق مع الله. وجميع ما حصل للناس من وجهته من الأخلاق" انتهى.

محرم 1447 في الصحافة الكويتية