الخميس، 29 يونيو 2017

.. ( في تأبين شهيد القرآن ) ..


أقف على جثمانك أيها الأمين لا لأبكي أو أستعبر..

بل أقف ممجداً بصمت هذا الموقف الجليل..

وكأنما الصمت بحر لا نهاية له..

ولا يمكنني ملامسة السماء إلا بقلبي..

في هذه الليلة وأمام جثمانك أيها الأمين..


أقف كالمشدوه في تصاريف الحياة ..

في همسة هذا الليل الكئيب ..

وفي رعشة هذا الصمت الكبير ..

تعتصر الأوراق في كفي ...

وأنا أمشي إلى نعشك في عباءة دامية ..

وأراني اقتفي النجوم والأثر تلو الأثر ..

لعلي أنزع اللحظة من شسع نعالك ..

لعلي أقطف الحبات من خطاك ..

أيها الأمين..

حين أترك دفة سفينتي أرتعش في نشوة آلامي ..

وحين أغوص في الأشكال تحرق أوتار يدي ورجلي حتى تحيل إلى رماد ..

توهموا حينما أحرقوا جسدك أنك حلت إلى رماد تذروه الرياح..

أيها المغفلون ..

لقد أصبح جسده منارة شامخة يهتدي بها كل عاشق للقرآن ..

فكل من لمس شغفك استطاع أن يتحسس أوتار القرآن في رؤاك ...

أيها الأمين..

أما آن لك أن تتسلل في أوتارك وتتنزل من نجومك..

ولكن قدر الله فوق كلِّ قدر ..

بعض الناس يمضي في سبيله ...

وبعضهم يتمهل ...

بعض الناس حرّ ...

وبعضهم مقيّد ...

وأنت الحرُّ الذي استعجل لقاء حبيبه..

أيها الأمين ..

قدماي واهنتان من عبء قلبي..

وبقيتُ كجثة افترشت الأرض والتحفت السماء ..

جثة قيمتها أنها تعيش السكون على مضض ..

ولكن هيهات أن تستكين فنداؤك يناديها من الأعماق ..

ويستصرخها لكي تقف بنشوة عارمة..

ولطالما تحملت شوك وردك فأورق وزها ..

ولطالما انسابت ترانيم قلبك في من حولك لتوقظها من سباتها ..

أيها الأمين ..

لقد غابت كلماتك في كتاب ربك ..

واختفت حروفك في تلاوة مستديمة ..

وكأنك خاطبت ربك في شهره المبارك لتقول:

هل كتبتني من الصائمين؟

هل كتبتني من القائمين؟

هل كتبتني من المخلصين؟

هل كتبتني من المسبحين المستغفرين؟

بل كتبك أيها الأمين من الشهداء الصابرين ..

رحلت إليه وأنت تناجيه:

هذا يا إلهي حبي لك..

وهذا عشقي احتضن ملكوتك..

وغام في شهودك..

والتهبت جوانحي فيك دون غيرك..

وسيكون هذا الحب دليلي إليك..

فجللني بخالصة توحيدك.


الأربعاء : 28 / 6 / 2017

الأحد، 25 يونيو 2017

العيد يوم جائزة..


أهم المعاني القلبية: النية والإخلاص -حب الله والأنس به- الرضا والشكر والصبر. وأكبر نقطة ضعف في وعي الإنسان هو إهماله لشؤون القلب والروح.

إنَّ السعادة القصوى، بعد صيام شهر رمضان، تنبع من إحساسنا بمباهج التقرب إلى الله والانتصار على الأهواء والمغريات والشهوات.. يقول الإمام علي (ع): "إِنَّمَا هُوَ عِيدٌ: لِمَنْ قَبِلَ اللهُ صِيَامَهُ وَشَكَرَ قِيَامَهُ، وَكُلُّ يَوْمٍ لاَ يُعْصَى اللهُ فِيهِ فَهُوَ عِيدٌ".

فالعيد يوم فرح يتخفف فيه الإنسان من بعض ألمه وبعض حزنه؛ لأنَّ الحياة بكل أحداثها وتطوراتها تخترق أمن الإنسان وصحته وأوضاعه الاقتصادية..، وبذلك فلن يستطيع إنسان أن يعيش الفرح الكبير، لأنَّ فرحه يبقى -عادة- مجرد فرح ممزوج بألم.
يقول الإمام علي (ع) في كتاب وجهه لعبد الله بن عباس: "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْمَرْءَ لَيَفْرَحُ بِالشَّيءِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ وَيَحْزَنُ عَلَى الشَّيءِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ فَلَا يَكُنْ أَفْضَلَ مَا نِلْتَ فِي نَفْسِكَ مِنْ دُنْيَاكَ بُلُوغُ لَذَّةٍ أَوْ شِفَاءُ غَيْظٍ وَلَكِنْ إِطْفَاءُ بَاطِلٍ أَوْ إِحْيَاءُ حَقٍّ وَلْيَكُنْ سُرُورُكَ بِمَا قَدَّمْتَ وَأَسَفُكَ عَلَى مَا خَلَّفْتَ وَهَمُّكَ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ"..
إذن الفرح الحقيقي هو ما أشار إليه سبحانه وتعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.. فافرح بفضل الله عليك، وافرح برحمة الله عليك، فإنّ فيه معنى الحب والرضا؛ فهو سبحانه يفتح أبواب رحمته عليك، ويحتضنك في مصيرك بكل عطفه ورحمته.
وقد اختصر أمير المؤمنين (ع) فرح العيد في هذا الاتجاه القرآني فقال: "إنما هُوَ عِيدٌ لِمَنْ قَبِلَ اللهُ صِيَامَهُ وَشَكَرَ قِيَامَهُ وَكُلُّ يَوْمٍ لَا يُعْصَى اللهُ فِيهِ فَهُوَ عِيدٌ".. فإذا كنت في أشد حالات ألمك، وفي عمق مشاكلك وحاصرتك الحياة بكل مشاكلها، وكان الله راضياً عنك، فذلك هو الفرح والسعادة الحقيقية.

فالعيد هو يوم جائزة لم أطاع الله في سلوكه وقوله.. قال النبي (ص) لجابر: "إِذَا كَانَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ نَادَى مُنَادٍ: أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ اغْدُوا إِلَى جَوَائِزِكُمْ". ثم قال: "يَا جَابِرُ جَوَائِزُ اللَّهِ لَيْسَتْ بِجَوَائِزِ هَؤُلَاءِ الْمُلُوكِ".


فعلينا أن نعيش الطاعة عقلاً وقلباً وحركة وحياة حتى نحصل على تلك الهمسة الروحية ونحن نودع هذه الحياة {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}.

الجمعة، 23 يونيو 2017

الشيخ المصطفى: جهال المشهد الثقافي ينشرون الخرافات والمعتقدات الخاطئة

/ تقرير: شبكة جهينة الأخبارية

أكد الشيخ حسين المصطفى ان أهم العوامل التي تسبب انتشار الخرافات والمعتقدات الخاطئة في المجتمع هي: الجهل والأمية، والتربية الدينية الخاطئة السائدة في المجتمع، والإيحاء النفسي، والدور السلبي لوسائل الإعلام، وتبرير السلوك والدفاع عن النفس، وترأس الجهَّال للمشهد الثقافية.

واعتبر ان الانحراف الفكري أُسَّ البلايا والشرور؛ والينبوع المفجِّر لكل المفاسد على مرِّ التأريخ، لافتا الى الانحراف الفكري تنطلق الأفكار الهدامة والتصورات الفاسدة والخرافات المتتالية التي تحرك الناس نحو التدمير والتخريب.

جاء ذلك خلال محاضرة قدمها في البرنامج الثقافي ”بينات من الهدى“ ببلدة الربيعية في جزيرة تاروت بعنوان ”السطحية الفكرية وانتشار الفرق المنحرفةوالتي تطرق فيها إلى مجالات الاعتقادات والخرافات وأسباب انتشار الانحراف الفكري.

وأشار الى ان الله سبحانه وتعالى أولى في كتابه الكريم العناية القصوى بالفكر والتصور الذي يعبِّر عن عقيدة الإنسان، حيث ركزت الآيات القرآنية، ثم التربية النبوية على تصحيح التصورات والأفكار حول القضايا الكبرى.

وبين ان من بين القضايا الكبرى الخالق، والمبدأ، والمنتهى، والرسالة والأهداف، ثم تنظيم العلاقة بين الإنسان وربه، وبينه وبين سائر المخلوقات.. وحذَّر من الكذب والتحريف.

وقال ان صلاح الفكر والتصور بمثابة صلاح التوجه، وتحرك العمل نحو الهدف المنشود، بينما اذا فسد الفكر والتصور فسدت العقيدة، وأصبح القلب مريضاً، والروح شريرة، والنفس أمارة بالسوء.

وأكد ان التفكير من العمليات العقلية العليا التي تتدخل في كثير من العمليات الأخرى، مبينا ان التفكير يتخذ كثيراً من الأنماط، حيث تتضمن هذه العملية الحكم والتجريد والإدراك والاستدلال والخيال والتذكر والتنبؤ.

وأشار الى عملية حل المشكلات التي تعتمد على الأفكار أكثر من اعتمادها على الإدراك وعلى المعالجات الظاهرية.

وذكر ان التفكير ينقسم الى ثلاث أنواع وهي: سطحي، عميق، ومستنير، فالتفكير السطحي: هو التفكير في قضايا كبيرة ومعقدة بأساليب وأدوات بسيطة، بينما التفكير العميق: وهو الإحاطة بالواقع، من جميع أركان عملية التفكير، والثالث التفكير المستنير وهو: يمتاز التفكير المستنير عن التفكير العميق بأن يتم ربط الواقع بوقائع أخرى متعلقة به.

وأشار الى ان التفكير الخرافي يختلف عن التفكير العلمي أو المنطقي، لأنه لا يقوم على أساس إدراك علاقة العليِّة أو السببية العلمية، وإن كان يقوم على أساس عليِّة أخرى غير العليِّة العلمية.

وأضاف، ان التفكير الخرافي يرجع الظواهر الطبيعية إلى أسباب غير طبيعية، بخلاف التفكير العلمي الذي يقوم على تتبع الأحداث في الزمان والمكان، وتنظيم الملاحظة، وتسجيل كافة العلاقات التي تحيط بالظاهرة موضوع البحث.

وأوضح ان مجالات الاعتقادات والخرافة متعددة منها: التفكير الخرافي يأخذ طابعاً محدداً حسب الموقف الذي صدر عنه أو الظاهرة التي يفسرها وهو بذلك يتوقف عند طبيعة حياة الإنسان ومواقفها وأحوالها.

وأشار الى تصنيف الخرافة والاعتقاد الخاطئ إلى ستة مجالات تتضمن أهم جوانب حياة الفرد وبصفة عامة في المجتمع المحلي وبصفة خاصة.

وعدد تلك المجالات الى ست مجالات وهي: الخرافات والاعتقادات المرتبطة ب «الحياة الاجتماعية»، الخرافات والاعتقادات الخاطئة المرتبطة ب «الغيبيات»، الخرافات والاعتقادات المرتبطة ب «الصحة والمرض»، الخرافات والاعتقادات المرتبطة ب «التفاؤل والتشاؤم»، الخرافات والمعتقدات المرتبطة ب «الخطبة والزواج»، الخرافات والمعتقدات المرتبطة ب «الحمل والولادة».

واكد ان أهم العوامل التي تسبب انتشار الخرافات والمعتقدات الخاطئة هي: الجهل والأمية، والتربية الدينية الخاطئة السائدة في المجتمع، والإيحاء النفسي، والدور السلبي لوسائل الإعلام، وتبرير السلوك والدفاع عن النفس، وترأس الجهَّال للمشهد الثقافية.

وقال يدخل في هذا الباب ما يأتي: الأخذ بشكل النص وظاهره دون مقاصده وعلله ومناطه وبالتالي عدم التفقه في النصوص الشرعية، مع أنَّ رعاية المناط والنتائج معتبرة في هذه الشريعة، بالإضافة الى ضعف المعرفة بالتاريخ وعدم الفقه بسنن النصر والهزيمة.

وأشار الى الجهل بسنن الكون والحياة والأمة، وسنة التدرج وغيرها من السنن، وكذلك اتباع المتشابهات وترك المحكمات والتباس المفاهيم، والاشتغال بالمعارك الجانبية عن القضايا الكبرى.

ولفت الى المبالغة في التوسع في دائرة البراء، والتضييق في دائرة الولاء، وايضاً تبني فكرة التكفير أو التضليل للمخالفين من الفرق الإسلامية الذين لهم تأويل سائغ - حتى ولو لم يكن راجحاً في نظر الآخرين، والاعتماد على بعض الآيات أو الأحاديث، وترك ما سواها، مع أنَّ المنهج الصالح هو جمع الأدلة كلها ثم استخراج الحكم منها، واخير الفقر والبطالة.

المصدر: http://xn--ogbf2fdp.net/index.php?act=artc&id=41909&hl=%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%AD%D8%B1%D9%81%D8%A9


الأربعاء، 21 يونيو 2017

تجليات رمضانية - 17 ..


الإنجاز الروحي لا يقل أهمية عن الإنجاز المادي، بل يفوقه أهمية على جميع الأصعدة.

يقول جيمس آلان: "ما الإنجازات الروحية إلا تحقق للتطلعات الروحية، فمن يعيش باستمرار وفقاً لتصورات الأفكار النبيلة السامية، ومن ينشغل بكل ما هو نقي وغير أناني، سيصبح يقيناً -كاليقين بوصول الشمس إلى أوجها والقمر إلى اكتماله- صاحب شخصية حكيمة ونبيلة، وسيرتقي إلى موقع التأثير والسعادة الخالدة"(الإنسان كما يفكر يكون، جيمس آلان: ص 46).

فإذا استخدمنا ما لدينا من إمكانات مادية بعيداً عن الأخلاق والقيم المعنوية، فإنَّ إنجازاتنا ستكون فارغة، وسينتفع بها عدد محدود من الناس.. وهذا ما يجب علينا أن نستوعبه في هذا الشهر المبارك، وفي الليالي الأخيرة الباقية منه.

أهم المعاني القلبية: النية والإخلاص - حب الله والأنس به - الرضا والشكر والصبر. وأكبر نقطة ضعف في وعي الإنسان إهماله لشؤون القلب والروح. فالسعادة القصوى، بعد صيام شهر رمضان، تنبع من إحساسه بمباهج التقرب إلى الله والانتصار على الأهواء والمغريات والشهوات..


يقول الإمام علي (ع): "إِنَّمَا هُوَ عِيدٌ: لِمَنْ قَبِلَ اللهُ صِيَامَهُ وَشَكَرَ قِيَامَهُ، وَكُلُّ يَوْمٍ لاَ يُعْصَى اللهُ فِيهِ فَهُوَ عِيدٌ".

الاثنين، 19 يونيو 2017

يا شيعة علي احذروا من الوقوع في الغلو..


من القضايا الأساسية التي أصاب علم الكلام بالشلل هو خلق نزعة إخبارية تتساهل إزاء الأخبار العقائدية، وتتسامح في دراسة أسانيدها وتغضّ الطرف عن محاكمتها وفق الموازين العقلية، الأمر الذي فتح الباب واسعاً أمام اجتياح أخبار الغلو والتشبيه والجبر والخرافة، عقول المسلمين، ووجدت لها جمهوراً عريضاً تلَّقاها بالقبول دون تحقيق أو توثيق.

وما يبعث على الاستغراب أن يدعو البعض إلى التسامح في أسانيد الأخبار ذات المضامين العقدية، وأنها تتساوى مع أخبار المستحبات، بحيث تجاوز ما هو معروف من أنَّ خبر الواحد ليس حجة ولا يعوَّل عليه في أصول العقائد فيما لو كان صحيح السند، فضلاً عما لو كان ضعيفاً.

إنَّ مساواة أخبار العقائد بأخبار المستحبات قياس مع الفارق؛ لأنَّ أخبار العقائد تؤسس للبناء المعرفي الذي لا يكمل إسلام وإيمان الشخص إلاّ به، بينما المستحبات هي مجرد نوافل عملية لا يخدش الإخلال بها في استقامة المسلم فضلاً عن إيمانه وإسلامه.

إنَّ الحديث عن أشخاص ومنزلتهم ومكانتهم وصفاتهم لا بدَّ أن يخضع للضوابط ويلتزم بحدود ما يقوم عليه الدليل، فلا يمكن أن يُفوّض إلى الناس ليقول كل إنسان بما يراه ويريده وهو يفتح باباً للغلو وقول ما ليس بحق، وليس شأن أهل البيت G أن يسمحوا بذلك.

والميزان في ذلك هو قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ}(المائدة: 77).

يقول المحقق الفقيه الشيخ محمد آصف محسني: "فكل شيء لم يثبت بدليل معتبر في حق أحد وقال به قائل فهو غلو، أي زيادة وتجاوز عن الحد الثابت شرعاً، وإن شئت فقل: إنه غير الحق، وإنه قول على الله بغير الحق، ولا فرق في حرمته وقبحه بين أهل الكتاب والمسلمين وغيرهم. فالغلو لا يختص بالقول بربوبية المخلوق ونبوة غير النبي كما يبدو من جملة من روايات الباب"[المشرعة: ج 1 ص 458].

والله سبحانه وتعالى -وهو يتحدث عن العدل في القول يقول: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}. فيؤكد الله سبحانه أنَّ في القول عدلاً وظلماً؛ فالعدل في القول "هو الاستقامة في التعبير عن الواقع من دون زيادة ولا نقصان، بحيث إنك إذا سمعت الكلمة، انفتحت على الواقع الذي تعالجه، سواء كان هذا الواقع متصلاً بالأحداث التي تتحرك في حياة الناس، أو مرتبطاً بالتقويم للناس، أو كان منفتحاً على مسائل العقيدة في مفاهيمها، أو الشريعة في خطوطها، وما إلى ذلك".

وقد جاء في حديث الإمام علي (ع): "هلك فيَّ اثنان: محبٌّ غالٍ، ومبغض قالٍ"، فالأول أحبّ الإمام إلى الدرجة التي فقد فيها توازنه، فغالى في حبّه، ووضعه فوق الموقع الذي وضعه الله فيه، فوصل به إلى الربوبيّة، والثاني أبغض الإمام (ع)، حتى أعرض عنه وابتعد به عن درجته الحقيقية. وكان الأئمة (ع) ينهون الذين يغلون فيهم؛ إذ كانوا يريدون لمن يتّبعهم أن يقفوا على الموقع الوسط في تصوّراتهم، لهم وفي سلوكهم معهم.

وفي هذه الأيام العصيبة على الأمة، وفي سابقة غير معهودة، وبحضور كثيف، وفي ذكرى ليلة مقتل أمير المؤمنين (ع)، يخرج في فضاء التواصل مقطع لرادود مشهور تحمل فيها ما لم نعهده من الغلو السافر في حق أمير المؤمنين (ع)، مما يوجب على العلماء الانكار والاعتراض دفاعاً عن مدرسة أهل البيت (ع) والتزاماً بنهجهم.

فقد دأب أئمة أهل البيت (ع) فترة حياتهم في التحذير من الغلو فيهم، وأنَّ الغلو فيهم والاعتقاد بألوهيتهم أو ما يقرب من الألوهية، يعد كفراً..

وفي الصحيح، عن أبان بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: "لعن الله عبد الله بن سبأ إنه ادعى الربوبية في أمير المؤمنين، وكان والله أمير المؤمنين (ع) عبداً لله طائعاً، الويل لمن كذب علينا، وإنَّ قوماً يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، نبرأ إلى الله منهم، نبرأ إلى الله منهم".

وفي الصحيح عن أبي حمزة الثمالي قال: قال علي بن الحسين (ع): "لعن الله من كذب علينا، إني ذكرت عبد الله بن سبأ فقامت كلُّ شعرة في جسدي؛ لقد ادّعى أمراً عظيماً، ماله لعنه الله، كان علي (ع) والله عبداً لله صالحاً أخاً لرسول الله (ص)، ما نال الكرامة من الله إلا بطاعته ولرسوله، وما نال رسول الله (ص) الكرامة من الله إلا بطاعته لله".

وفي الصحيح عن إبراهيم بن أبي محمود، قلت للرضا (ع): إنَّ عندنا أخباراً في فضائل أمير المؤمنين (ع) وفضلكم أهل البيت وهي من مخالفيكم، ولا نعرف مثلها عندكم أفندين بها؟
فقال (ع): "يا ابن أبي محمود، لقد أخبرني أبي عن أبيه عن جدّه، أنَّ رسول الله (ص)، قال: مَن أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله عز وجل فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس".
ثم قال (ع): "يابن أبي محمود: إنَّ مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها: الغلوّ، وثانيها: التقصير في أمرنا، وثالثها: التصريح بمثالب أعدائنا. فإذا سمع الناس الغلوّ فينا كفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيّتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالبَ أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا وقد قال الله عزَّ وجل: {وَلا تسبُّوا الذين يَدْعُون من دون الله فيسبُّوا الله عَدْوَاً بغير علم}. يابن أبي محمود، إذا أخذ الناس يميناً وشمالاً فالزم طريقتنا فإنَّه مَنْ لَزِمَنا لَزِمْناه، ومَن فارقنا فارقناه، إنَّ أدنى ما يخرج به الرجل من الإيمان أن يقول للحصاة نواة، ثم يدين بذلك ويبرأ ممن خالفه، يابن أبي محمود، احفظْ ما حدّثتك به، فقد جمعت لك خيرَ الدنيا والآخرة".

وفي حديث الأربعمائة: قال أمير المؤمنين (ع): "إياكم والغلو فينا، قولوا إنا عبيد مربوبون".

إنّ الخروج السافر عن هذا النهج يعد خروجاً عن ثوابت الدين الصحيح، وانحرافاً عن خط منهج أهل البيت (ع)؛ لأنهم يؤمنون بالتوحيد الخالص، وأنَّ الله سبحانه وتعالى هو الإله الواحد الذي لا بدَّ من أن نوحِّده في الألوهية ولا إله غيره، ونوحِّده في العبادة فلا معبود سواه، ونوحِّده في الطاعة فلا طاعة لغيره.

{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}.
{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}.





الأحد، 18 يونيو 2017

تجليات رمضانية - 16 ..


/ المسلم الرمضاني:

ونحن على أعتاب نهاية هذا الشهر المبارك أذكر نفسي من هو المسلم الرمضاني؟!

المسلم الرمضاني هو:

1 . هو الذي يستمد قوته من ثقته بالله، وليس من أسرته أو قبيلته أو ماله أو وظيفته.

2 . هو الذي يصمد أمام المحن فلا تتغير مبادئه.

3 . هو الذي يكتب ما له، وما عليه، وليس كأهل الهوى الذي لا يكتب إلا ما له.

4 . هو الذي يستطيع السيطرة على سلوكه ونزواته، والوقوف عند الحدود التي تبدأ عندها حقوق الآخرين.

5 . هو الذي يعيش أجواء هذا الشهر برؤية خاصة، وهمة عالية في أن يدرك ركب الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.

6 . هو الذي يتسابق لإبراز المحبة لكلِّ إنسان، ونشر الفضيلة والإحسان بين الناس.


من درر ما روي عن مولانا الحسن بن علي (ع): "إنَّ الله جعل رمضان مضماراً لخلقه؛ يستبقون فيه بطاعته إلى رضوانه، فسبق قوم ففازوا، وقصَّر قوم فخابوا، فالعجبُ كلُّ العجب من الضاحك اللاهي في يوم يثاب فيه المحسنون، ويخسر فيه المسيئون".

السبت، 17 يونيو 2017


تجليات رمضانية - 15 ..


قبل ليلة القدر / صوم الأبدان أم صوم الشهوات

جاء في الحديث القدسي: "الصَّوْمُ لِي وأَنَا أَجْزِي عَلَيْه"(الكافي: ج 4 ص 63).. فأي صيام يريده هذا الحديث؟

ولنا أن نتساءل:

هل صام بطنك عن أكل الحرام كما صام عن الأكل والشرب؟ وكنت متيقظاً لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}، و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

هل صام لسانك عن الغيبة والكذب والبهتان والفحش؟ أم كنت منتبهاً لقوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} و {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} و ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ}..

هل صامت يدك عن البخل والسرقة والبطش وأخذ الرشوة ومزاحمة الناس في الطرقات العامة؟

هل صامت عينك عن مراقبة الناس والتفتيش في أعراضهم والتلصص على من حولك؟ أم كنت منتبهاً لقوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} و {حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}..

هل صام أذنك عن تقفِّي ما ليس لك به علم؟ أم كنت كما قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ}.

هل صام قلبك عن سيء الأعمال، وكريه الأخلاق، وغش الإخوان، والعداوة بينهم، وإذكاء نيران الفرقة في صفوفهم؟ أم كنت متذكراً لقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.

إذاً، لا رقيب على الصائم إلا ربه، وفي ذلك تربية النفس على الخشية من الله تعالى في السر والعلن، وتلك الخشية تحقّق معنى الخوف منه سبحانه وتعالى؛ والخوف متعلق بالإدراك، وفاقد الإدراك هو من لا يخاف.. يقول الإمام علي (ع): "إنَّ أقربكم اليوم من الله أشدكم منه خوفاً".

المهم هو صوم القلب والفكر عن كل رغبة خاطئة. أما صوم الجسد فهو أقل شيء.. واحرص إذن في صومك أن تضبط لسانك، وكما تمنع فمك عن الطعام، امنعه عن الكلام الرديء، وسيطر على أفكارك، واضبط نفسك.

ومتى تفاعل هذا المعنى في صومك فإنك -أيها الصائم- تترفع عن الشهوات استحياء من الله سبحانه. وإذا ما استبدت الأهواء بنفسك كنت سريع التذكر قريب الرجوع بالتوبة {إنّ الذِينَ اتقَوا إذَا مَسهُم طَائِف مِنَ الشيطَانِ تَذَكرُوا فَإذَا هُم مُبصِرُونَ}.

وفي كل ذلك تربية لضمير الإنسان، فيصبح الإنسان ملتزماً بالسلوك الإسلامي بوازع من ضميره من غير حاجة إلى رقابة أحد عليه. بل يتجلى عنده خوف من أن تنقطع علاقته بالله التي تحرص عليها.

إنها رحمة الله المنبسطة على كونه الفسيح.

وهذه القيمة هي في أعلى قيم المنظومة القرآنية: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}.

ولعل الغياب الأبرز في خطابنا الإسلامي هو غياب صفة الرحمة عن الخطاب الديني عند الكثير من الوعاظ المسلمين، حيث نلحظ أنّ هذا الخطاب ينحو منحى التشدد، فهو يركز على صفة "الانتقام" الإلهي ويبالغ في الحديث عن صور العذاب ومشاهد النيران أكثر مما نراه يركز أو يتحدث عن رحمانية الله ورحيميته، وهذا ما يترك تأثيراً سلبياً على ذهن المتلقي والمخاطب.

إنّ المطلوب أن نقدّم "الله" إلى الناس بما قدّم به نفسه، قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}.

الثلاثاء، 13 يونيو 2017

تجليات رمضانية - 14 ..


على خلفية ما كتبته سابقاً (الصوم مرتبط بعطف الوالدين على أبنائهم) سألني بعضهم، هل يمكننا أن نتلمس ما هو الهدف الإسلامي في تربية المسلم لأبنائه؟

فسألته عن سبب سؤاله هذا السؤال؟

فأجاب: عندما عرضت رأيك على جملة الآباء والأمهات شاهدت عزوفاً عن تقبلهم لهذه الفكرة، بينما انهالوا مديحاً على مقالتك (الصوم مرتبط ببر الأبناء للوالدين).. فاستغربت: أليس هذا تناقض في المواقف؟!

فتبسمت، وقلت: لقد كتب لي بعض أعزائي من الأصدقاء: (إنَّ رحمة الآباء لأبنائهم هو شيء في جبلة الآباء)..

وأعقبت بالقول: أنت لا تعيش في مجتمع مؤسسات مدنية تربوية، تحاكم مؤسساتها بالمنهج التربوي العلمي. أنت جزء من ذهنية القبيلة والعشيرة، والوالدان جزء من هذه الذهنية، إنها ثقافة (الراعي والرعية).. ولكن ليس بمفهوم الإسلام الصحيح، بل بالمفهوم القبلي الصارم.

وأرشدته بأهمية أن يقرأ كتاب المرجع العلامة السيد محمد حسين فضل الله رحمه الله: (دنيا الطفل).

فما هو هدف التربية في الإسلام ولماذا نربي الطفل؟

إنّ هدف التربية هو إعداد الإنسان المسؤول عن الكون والحياة، سواء على مستوى انفتاحه على الله، أو انفتاحه على الناس، أو انفتاحه على نفسه...

وعلى الرغم من ضعف الإنسان، لكونه خلق ضعيفاً، {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً}. لكن لديه قابلية أخذ القوة.

وعلى الرغم من أنّ الإنسان خلق سريع الحركة والانفعال، {خُلِقَ الأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ}، لكن لديه قابلية الوصول إلى التأني...

فدور التربية إذن:

1 - أن تؤسس التوازن في شخصية الإنسان بمختلف أبعادها الجسدية والنفسية والروحية والذهنية والاجتماعية..

2 - أن تنمي معرفته بالنشاط الذي ينسجم مع مستواه الفكري.

3 - أن تزرع القيم والمفاهيم داخل شخصيته، بالمستوى الذي يتحول فيه الطفل إلى تجسيد حي لتلك القيم، حيث تقوم تربيته على الصدق في شخص صادق وتربيته على الأمانة في شخص أمين وهكذا..

4 - تجسيد القيم في الإنسان ونقلها من عالم المفاهيم المجردة إلى عالم الحركة في الحياة، بحيث يتحول الإنسان نفسه إلى قيمة متجسدة، بدرجات متفاوتة في التجسيد تبعاً لتفاوت المؤهلات، هذا ما يمكن أن نفهمه من حديث وصف النبي (ص): "كان خلقه القرآن"، بحيث إنه (ص) تحول إلى قرآن متحرك.

إذن، دور التربية هو أن تؤصل القيم النبيلة في حركة الإنسان في الواقع.

قال رسول الله (ص): "أَكْرِمُوا أَوْلادَكُمْ وَأَحْسِنُوا آدَابَهُمْ يُغْفَرْ لَكُمْ".

وقال (ص): "رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ بِالإحْسَانِ إِلَيْهِ وَالتَّأَلُّفِ لَهُ وَتَعْلِيمِهِ وَتَأْدِيبِهِ".
وقال (ص): "نَظَرُ الْوَالِدِ إِلَى وَلَدِهِ حُبّاً لَهُ عِبَادَةٌ".


إنَّ الله وضع لنا هذا الزمان (شهر رمضان) لنتغير، فجعله الله متغيراً لنستوعب هذا الدرس الحقيقي من هذا الشهر المبارك.

الاثنين، 12 يونيو 2017

تجليات رمضانية - 13 ..


إذا كان الصوم مرتبط ببر الأبناء للوالدين، وعدم الإساءة لهما.. أليس الصوم مرتبط بعطف الوالدين على أبنائهم؟..

من المبادئ الأساسية التي يكتمل معها نضج الفرد المؤمن: رحمة الكبير على الصغير.

يقول الرسول الكريم (ص) في خطبة استقبال شهر رمضان: "وَوَقِّرُوا كِبَارَكُمْ، وَارْحَمُوا صِغَارَكُمْ". وكأنَّ الحديث عن جيلين، جيل الآباء والأمهات، وجيل الأبناء والبنات.. فـكما يريد الإسلام للجيل الجديد أن يوقِّر الجيل القديم، بكلِ وسائل الاحترام والرعاية، كذلك يريد للجيل القديم أن يرحم الجيل الصغير في قلّة تجربته وضيق آفاقه إذا أخطأوا.

فالخطاب الموجَّه للكبار يدعوهم إلى يرحموا من هم أصغر منهم في السن، سواءاً كانوا أطفالاً لم يدخلوا معترك الحياة بعد، أم شباباً ينفتحون حديثاً على الحياة من دون خبرةٍ سابقة، أن يرحموا أحلامهم وآمالهم وتطلُّعاتهم، وأن يساندوهم ويكونوا إلى جانبهم في الرأي والمشورة، دون أن يفرضوا عليهم رأيهم بتعنُّتٍ واستكبارٍ.

فأولادنا قد يخطئون، وقد يفشلون؛ لأنّهم لم يملكوا تجربة الكبار، ولا معرفة لهم بدهاليز الحياة.. فعلينا أن نستوعبهم، وأن نسكب من عطفنا ما نرشده إلى الطريقة الصحيحة.

وللأسف إنَّ كثيراً من الآباء والأمهات يخفقون مع أولادهم، ولا يبدون اهتماماً في التجاوب مع المتغيرات، وهذا لا يعود إلى الطبيعة البشرية، وإنما إلى الطريقة التي ربينا بها، والتعليم الذي تلقيناه.

وفي مجتمعاتنا الشرقية المحافظة، نلاحظ أنَّ الوالدين يبحثان دائماً عن التقدير والبر من أبنائهم، ويصران على ذلك، بينما ينسيان أن يسكبا من الرحمة والعطف على أولادهم ما يأملون منهم.

وحين يخفت صوت المنهج في بيوتنا، أو تشوه صورته، ولا يكون إلا الصوت الواحد، ولا شيء يعلو عليه، ولا صوت فيه للولد، فإنَّ المقاييس الذاتية تكون حينئذ هي البديل الجاهز، وهنا يصبح معه الإصلاح والتقويم أمراً في غاية الصعوبة.

ذلك أمر لا شك فيه، وحقيقة علمية مجردة من أي خيال أو انفعال.

فإذا كنا نصبو للتغيير في هذا الشهر المبارك، ونصبو لبيت إسلامي نظيف ومعافى، علينا أن نجهد باستلهام ما جاء عن الرسول محمد (ص) وعترته الأطهار، ونتأسى بسيرتهم وقاية من الأهواء وانعطافاً نحو إبراز النظم الخلقية والسلوكية المنبعثة من أخلاق رسول الله (ص).

إنَّ الإسلام يرتقي بالمسلم من خلال الإيمان في النفس المؤمنة، ويطالبها أن تتعامل بلطف وإحسان وشفقة مع الأولاد، من خلال خطاب "وَارْحَمُوا صِغَارَكُمْ".

وكان من دعاء الإمام السجاد (ع) لأبنائه وبناته: "اللَّهُمَّ وَ مُنَّ عَلَيَّ بِبَقَاءِ وُلْدِي وَبِإِصْلَاحِهِمْ لِي و بِإِمْتَاعِي بِهِمْ. إِلَهِي امْدُدْ لِي فِي أَعْمَارِهِمْ، وَزِدْ لِي فِي آجَالِهِمْ، وَرَبِّ لِي صَغِيرَهُمْ، وَقَوِّ لِي ضَعِيفَهُمْ، وَأَصِحَّ لِي أَبْدَانَهُمْ وَأَدْيَانَهُمْ وَأَخْلَاقَهُمْ، وَعَافِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي جَوَارِحِهِمْ وَفِي كُلِّ مَا عُنِيتُ بِهِ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَأَدْرِرْ لِي وَعَلَى يَدِي أَرْزَاقَهُمْ. وَاجْعَلْهُمْ أَبْرَاراً أَتْقِيَاءَ بُصَرَاءَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ لَكَ، وَلِأَوْلِيَائِكَ مُحِبِّينَ مُنَاصِحِينَ، وَلِجَمِيعِ أَعْدَائِكَ مُعَانِدِينَ وَمُبْغِضِينَ، آمِينَ...".


إنه خطاب المرحمة في أعلى مقاييس الرحمة.

الأحد، 11 يونيو 2017

تجليات رمضانية - 12 ..


الصوم مرتبط ببر الأبناء للوالدين، وعدم الإساءة لهما.

وقد جاء القرآن بخطين متجاورين:

الخط الأول: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـاهُ}، وهو يمثل القاعدة التي تتفرع منها كل الخطوط، وهو توحيد العبادة لله، من خلال ما تمثله من الخضوع والطاعة والاستسلام لأوامره ونواهيه في كلّ شيء.

الخط الثاني: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}، وهو الخط العملي "الذي يثير في الإنسان الإحساس به، عندما يستشعر الإحساس بالله، فإذا كان الله هو السبب الأعمق في وجوده، فإنّ الوالدين يمثلان السبب المباشر لهذا الوجود، وإذا كان الله هو الذي أنعم عليه بكل النعم التي جعلت لحياته قوةً واستمراراً، فإنَّ الوالدين قد عملا بكل ما لديهما من جهد ومعاناة وتضحية في سبيل تحريك عناصر الامتداد في عمق وجوده".

ولذا امتلأت الأحاديث عن النبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) ما يقف الإنسان حزيناً أنه بموتهما قد فقد الإحساس بهذه النعمة الغامرة:

1- في الصحيح: عن أبي وَلَّادٍ الْحَنَّاطِ، قَالَ:
سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ -الإمام جعفر الصادق- (ع) عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً}: مَا هَذَا الْإِحْسَانُ؟
فَقَالَ (ع): "الْإِحْسَانُ أَنْ تُحْسِنَ صُحْبَتَهُمَا، وَأَنْ لَا تُكَلِّفَهُمَا أَنْ يَسْأَلَاكَ شَيْئاً مِمَّا يَحْتَاجَانِ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَا مُسْتَغْنِيَيْنِ؛ أَلَيْسَ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}".
ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (ع): "وَأَمَّا قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما}.. إِنْ أَضْجَرَاكَ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ، وَلَا تَنْهَرْهُمَا إِنْ ضَرَبَاكَ".
قَالَ (ع): "{وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً}.. إِنْ ضَرَبَاكَ فَقُلْ لَهُمَا: غَفَرَ اللهُ لَكُمَا، فَذَلِكَ مِنْكَ قَوْلٌ كَرِيمٌ".
قَالَ: "{وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}.. لَا تَمْلَأُ عَيْنَيْكَ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِمَا إِلَّا بِرَحْمَةٍ وَرِقَّةٍ، وَلَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ فَوْقَ أَصْوَاتِهِمَا، وَلَا يَدَكَ فَوْقَ أَيْدِيهِمَا، وَلَا تَقَدَّمْ قُدَّامَهُمَا" (الكافي: ج 2 ص 157؛ من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص 292).

2- وفي الصحيح: عن مُعَمَّرِ بْنِ خَلَّادٍ، قال:
قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (ع): أَدْعُو لِوَالِدَيَّ إِذَا كَانَا لَا يَعْرِفَانِ الْحَقَّ؟ -بمعنى أنهما ليسا على ديني وطريقتي-.
قال (ع): "ادْعُ لَهُمَا، وَتَصَدَّقْ عَنْهُمَا، وَإِنْ كَانَا حَيَّيْنِ لَا يَعْرِفَانِ الْحَقَّ فَدَارِهِمَا؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ (ص) قَالَ: إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي بِالرَّحْمَةِ، لَا بِالْعُقُوقِ"(الكافي: ج 2 ص 159).

3 - وفي الحسن أو الصحيح: عن هشام بن سالم:
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ -الإمام جعفر الصادق-، قال: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (ص)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: أُمَّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَبَاكَ"(الكافي: ج 2 ص 162).

4- وفي الحسن أو الصحيح: عن عبد الله بن المغيرة، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ (ع)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (ص): "كُنْ بَارّاً وَاقْتَصِرْ عَلَى الْجَنَّةِ، وَإِنْ كُنْتَ عَاقّاً فَظّاً فَاقْتَصِرْ عَلَى النَّارِ"(الكافي: ج 2 ص 348).

5- في الصحيح: عن سَيْفِ بن عَمِيرَةَ:
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع)، قال: "مَنْ نَظَرَ إِلَى أَبَوَيْهِ نَظَرَ مَاقِتٍ -وَهُمَا ظَالِمَانِ لَهُ- لَمْ يَقْبَلِ اللهُ لَهُ صَلَاةً"(الكافي: ج 2 ص 349).

6- وفي الصحيح: عن الإمام جعفر الصادق (ع) قال: "أَدْنَى الْعُقُوقِ أُفٍّ، وَ لَوْ عَلِمَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ شَيْئاً أَهْوَنَ مِنْهُ لَنَهَى عَنْهُ"(عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 44).


7 - وما أروع فقرات دعاء الإمام علي بن الحسين (ع) لوالديه حيث يقول في جملة منه: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ كَمَا شَرَّفْتَنَا بِهِ وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ كَمَا أَوْجَبْتَ لَنَا الْحَقَّ عَلَى الْخَلْقِ بِسَبَبِهِ. اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أَهَابُهُمَا هَيْبَةَ السُّلْطَانِ الْعَسُوفِ، وَأَبَرُّهُمَا بِرَّ الاُمِّ الرَّؤُوفِ، وَاجْعَلْ طَاعَتِي لِوَالِدَيَّ وَبِرِّيْ بِهِمَا أَقَرَّ لِعَيْنِي مِنْ رَقْدَةِ الْوَسْنَانِ، وَأَثْلَجَ لِصَدْرِي مِنْ شَرْبَةِ الظَّمْآنِ حَتَّى أوثِرَ عَلَى هَوَايَ هَوَاهُمَا وَاُقَدِّمَ عَلَى رِضَايَ رِضَاهُمَا وَأَسْتَكْثِرَ بِرَّهُمَا بِي وَإنْ قَلَّ وَأَسْتَقِلَّ بِرِّي بِهِمَا وَإنْ كَثُرَ. أللَّهُمَّ خَفِّضْ لَهُمَا صَوْتِي، وَأَطِبْ لَهُمَا كَلاَمِي، وَأَلِنْ لَهُمَا عَرِيْكَتِي، وَاعْطِفْ عَلَيْهِمَا قَلْبِي، وَصَيِّرْنِي بِهِمَا رَفِيقاً، وَعَلَيْهِمَا شَفِيقاً...".

محرم 1447 في الصحافة الكويتية