**التطير والتشاؤم وسلوك الناس**
{فَإِذَا جَاءتْهُمُ
الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ
بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 130].
شاءت سنّة الله في خلقه، أن لا
تكون أيّامنا على حال واحدة، وأن يُقلّبها بين اليُسر والعسر، والناس تجاه الحالين
بين حامد وناقم: إنسان يحمد الله على السرّاء والضرّاء، فكلّما مال عليه حِملُ
الأيام، وأغلقت أمامه الأبواب، انتظر الفرج، وظل يرى في نفق أزمته بصيص ضوء، وما
فَقَدَ ثقته بالله، وحاله حال ذلك الشّاعر الّذي يقول:
ما بين غمْضة عينٍ
وانتباهتها يُغيّر الله من حالٍ إلى حالِ
ذلك هو المتفائل.. والتفاؤل
الفعّال هو ذاك الذي لا يولد من فراغ، بل يُبنى على الثقة بالله، وإلا فإنَّ
التعثر قد يدفع إلى اليأس والإحباط، والدخول في لعبة التشاؤم: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ
فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.
والتشاؤم والتطير من الظواهر
العالمية. فمن الناس من يتشاءم من أيامٍ معينةٍ في الشهر أو في الأسبوع، ومنهم من يتشاءم
ويعتقد النحسَ وسوءَ الطالع في الأجير -مثلاً- فمنذ قدومه، والمصائب تتوالى والخسائر
تزداد على صاحب عمله.
وبعضم يحجم عن السفر في يوم معين.
وبعضهم يحجم عن عقد النكاح في اليوم
الفلاني، والشهر الفلاني.
وقد يصل الاعتقاد بشؤم المكان؛
فيقول أحدهم: هذه دار منحوسة، ما سكنها أحدٌ ووجد فيها خيراً.
فالتشاؤم والتطير عادةٌ قديمة في
البشر، ولم تنجو منه حتى الأمم المتعلمة الراقية. وها نحن في القرن الحادي والعشرين
وما زالت سوق المنجِّمين وأصحاب الفأل رائجةً! فهناك مشترون كُثُر للطالع والبخت...
والمراد بالتطير والتشأم: توهُّم أو توقُّع
حصول المكروه مرئياً أو معلوماً أو مسموعاً.
فمثال المرئي: التطير برؤية أصحاب
العاهات، والبومة، والغراب، وغير ذلك.
ومثال المعلوم: التشاؤم ببعض
الأيام، أو بعض الشهور، أو بعض السنوات.
ومثال المسموع: التشاؤم بسماع كلمة
نحو: يا خاسر، أو يا خائب، أو يا طايح الحظ.. ونحو ذلك من الألفاظ.
والسبب الرئيس للتشاؤم والتطير هو جهل الإنسان بحقائق الأشياء، وحدود
تأثيرها.
التطير في النصوص الإسلامية:
(1) في القرآن الكريم:
نقرأ في القرآن الكريم كيف كان
الناس يتشاءمون حين يلتقون بالدعاة إلى الله فيعتبرونهم مظهرَ شؤم؛ باعتبار أنهّم
جاءوا من أجل كسر عقائدهم، وكأنهّم يرون أنّ هذا اللقاء سوف يُنذر بالسوء فيما يَستَقبِلون
من الأيام.. {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ
لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ
أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ
مُّسْرِفُونَ}.
وكان جواب الدعاة: أنّهم لا
يمثّلون التشاؤم والشر، وإنّما يمثلون الخير، ويعملون على فتح عقول وقلوب الناس
على الله وعلى سعادة الدنيا والآخرة، ولكنّ الشؤم هو عند هؤلاء الذين يتهمونهم،
فالشرك والضلال والانحراف يمثل أوضح مصاديق الشؤم؛ لأنّها تقود الإنسان إلى النار
وتدفعه إلى التعرض لغضب الله سبحانه وتعالى.
(قصة من واقع السيرة): تطير يهود المدينة بالرسول
(ص) فقالوا: >قَلَّتْ الْأَمْطَارُ، وَارْتَفَعَت الْأَسْعَارُ مِنْ شُؤْمِ
مَجِيءِ هَذَا الرَّجُلِ<.
فقد كان اليهود سادةً في الجزيرة،
وكانوا يسيطرون على حركة السوق التجارية، ويتعاملون في الربا وتجارة السلاح، وكان
عندهم الحصون والأسلحة، وأراد الله أن يشغلهم بأخذ شيء من أسبابهم ويهد كيانهم
ليلفتهم إلى أنّهم خرجوا عن المنهج، وجاء النبي الذي سيطبق ذلك المنهج.. فأنزل
الله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ
-أي خصب ورخاء- يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ
اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ -أي جدب وقحط- يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ -أي من الخصب والقحط- مِّنْ
عِندِ اللهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً}
[النساء: 78].
(قصة من الأدب): ذكروا أنّ ملكاً كان
يعتقد النحس والتشاؤم في الأشياء فخرج صبيحة يوم إلى الصيد فكان أول من قابله وواجهه رجل فقير أعور،
فتشاؤم الملك من التصبح به فأمر بسجنه وكان نهار الملك على عكس ما اعتقد وتطير كان
نهاره سروراً كلَّه ونشاطاً وبهجة. فلما رجع في المساء. أمر بالإفراج عن الفقير
الأعور من السجن، فامتنع الأعور عن الخروج من سجنه، إلا إذا سمح له الملك بلقائه
فأدخل على الملك.
قال الأعور: لم سجنتني أيها الملك؟
فقال: تصبحت بأعور مشوه الخلق،
فخشيت أن يتشوه جمال يومي وينقص سروره، فلما كان العكس خليت سبيلك.
فقال الأعور: أيها الملك أينا
المنحوس أنا أم أنت؟
قال الملك مدهوشاً: وكيف ذلك؟!
قال: تصبحت بي فكان يومك سروراً
وحبوراً، وتصبحت بك فكان يومي ضرباً وسجناً وشروراً.
(2) في الحديث الشريف:
روي عن النبي (ص) -بسند صحيح- ما
يدل على أنّ التطير من طبيعة الإنسان، ولذلك ورد أنّه لا يؤاخذ عليه لعدم اختياره
فيه؛ قال رسول الله (ص): "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي
تِسْعةٌ: الْخَطَأُ، وَالنِّسْيَانُ، وَمَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ، وَمَا لا
يُطِيقُونَ، وَمَا لا يَعْلَمُونَ، ، وَمَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ، وَالْحَسَدُ، وَالطِّيَرَةُ،
والتَّفَكُّرُ فِي الْوَسْوَسَةِ فِي الْخَلْقِ،
مَا لَمْ يَنْطِقْ بِشَفةٍ" [التوحيد: ص 352].
فكيف نفسر ذلك؟!!
المرفوع -ظاهراً- ليس هو المؤاخذة
على الطيرة بما هو اعتقاد وموقف فكري؛ فإنّ هذا الاعتقاد بما أنه أمرٌ اختياري فهو
اعتقادٌ باطلٌ ومرفوضٌ ولا يجوز تبنيه.
وإنما المرفوع هو حالة الانقباض
النفسي التي تعتري الإنسان عندما يواجه بعض ما يوجب التشاؤم بحيث يدفعه إلى
الانسياق عملاً مع هذه الحالة، فإنّ الانقباض المذكور يعبِّر عن حالة لا إرادية، فيرفع
الله المؤاخذة على ما ليس إرادياً للإنسان.
ويفسره النبي (ص) بقوله: "ثَلَاثٌ لَمْ يَنْجُ مِنْهَا أَحَدٌ: الظَّنُّ،
وَالطِّيَرَةُ، وَالْحَسَدُ. وسأُحَدِثُكُم بِالْمَخْرَجِ مِنْ ذَلِكَ: إِذَا
ظَنَنْتَ فَلَا تُحَقِقْ، وَإِذَا تَطَيَّرْتَ فَامْضِ، وَإِذَا حَسَدْتَ فَلَا
تَبْغِ".
إذن: إذا تطيرتَ وتشاءمتً من شيء فلا توقف عملك وامضِ وتوكل على الله؛
لأنهما من عمل الإنسان، فهو بفعله يجعل اليوم سعداً أو نحساً، وإلاّ فاليوم هو
اليوم، والشمس هي الشمس، والقمر هو القمر، يجريان بأمر الله سبحانه.
والإمام علي الهادي (ع) يخاطب أحد
أصحابه الذي كان يقول: "كَفَانِيَ اللهُ شَرَّكَ مِنْ يَوْمٍ فَمَا أَيْشَمَكَ"
بقوله: "تَرْمِي بِذَنْبِكَ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ،
مَا ذَنْبُ الْأَيَّامِ حَتَّى صِرْتُمْ تتشاءمون بِهَا إِذَا جُوزِيتُمْ
بِأَعْمَالِكُمْ فِيهَا"، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ
اللهَ هُوَ الْمُثِيبُ وَالْمُعَاقِبُ، وَالْمُجَازِي بِالْأَعْمَالِ عَاجِلًا
وَآجِلًا، لَا تَعُدْ وَلَا تَجْعَلْ لِلْأَيَّامِ صُنْعاً فِي حُكْمِ اللهِ".
وورد كثيراً عن النبي (ص) في هذا
الشأن: "الطِّيَرَةُ شِرْكٌ"، "مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حَاجَتِهِ فَقَدْ
أَشْرَكَ"، "مَنْ تَطَّيَرَ وَأَمْسَكَ
عَنْ سَفَرِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ بِاللهِ الْعَظِيمِ"؛ من باب أنّ الإنسان
عندما يواجه شيئاً يوحي أنّه يعتقد أنّ الشؤم هو نتيجة هذا الشيء الذي يكون سبباً
لهذا الشؤم. في حين أنّ الله وحده هو صانع ما في الكون كلّه إمّا بشكل مباشر أو
بشكل غير مباشر فهو مسبّب الأسباب وكلّ شيء في الكون يصدر منه. [بحار: ج 55 ص 323].
كيف عالج الإسلام ظاهرة التطيّر والتشاؤم؟
النبي (ص) يريد للإنسان أن يتحرك في
الاتجاه المعاكس حيث يقول (ص) -كما في الرواية المعتبرة-: "كَفَّارَةُ
الطِّيَرَةِ التَّوَكُّلُ" فعندما نتشاءم علينا أن نكسر هذا الطوق
النفسي وهذه الخرافة بأن نتحرك ولا نتوقف ولا نجمد عند بعض الأشياء التي تصادفنا مما
قد تسيء إلى حركتنا.
وفي برنامج الإمام علي (ع): "إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيهِ، فَإِنَّ شِدَّةَ
تَوَقِّيهِ أَعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْهُ". فهذا القلق الذي تعيشه
أمام هذا الشيء ينتج وضعاً سلبياً على مستوى حركتك في الحياة أكثر من الشيء الذي
تخاف أن تقع فيه.
وفي الصحيح عن جعفر الصادق (ع): "الطِّيَرَةُ عَلَى مَا تَجْعَلُهَا إِنْ هَوَّنْتَهَا
تَهَوَّنَتْ، وإِنْ شَدَّدْتَهَا تَشَدَّدَتْ، وَإِنْ لَمْ تَجْعَلْهَا شَيْئاً
لَمْ تَكُنْ شَيْئاً"؛ لأنّه لا واقع للطيرة، وليست شيئاً يُملك.. بل هي
مجرد تهاويل ومخاوف تعيش في ذهنك إن هوّنتها تهونّت، وإن شدّدتها تشدّدت. فالمسألة
من خلال حالتك النفسية لا غير.
وعن محمد بن أحمد الدقاق كتب إلى علي
الهادي (ع) يَسْأَلُهُ: عَنِ الْخُرُوجِ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ لا يَدُورُ؟ -(أي
الأربعاء الأخيرة من الشهر ومنها ما يفعله الناس في آخر أربعاء من شهر صفر
واعتقادهم النحس فيه أو في صفر كله)-..
فكتب (ع): "مَنْ خَرَجَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ لا يَدُورُ خِلافاً عَلَى أَهْلِ
الطِّيَرَةِ وُقِيَ مِنْ كُلِّ آفَةٍ، وَعُوفِيَ مِنْ كُلِّ عَاهَةٍ، وَقَضَى
اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ حَاجَتَهُ". فالله يثيب من يفعل ذلك لتحدّيه لأهل
التطير.
وعن الحسن بن مسعود قال: دخلت على
أبي الحسن علي بن محمّد (ع)، وقد نَكَبَتْ إصبعي، وتلقّاني راكب فصدم كتفي، ودخلت
في زحمة فخرقوا عليّ بعض ثيابي. فقلت: كفانا الله شرّك من يوم فما أشأمك!.
فقال (ع) لي: "يا حسن هذا وأنت تغشانا ترمي بذنبك من لا ذنب له!!!".
قال الحسن: فأناب إليّ عقلي،
وتبيّنت خطأي، فقلت يا مولاي استغفر لي.
فقال: "يا
حسن، ما ذنب الأيام حتى صرتم تتشاءمون منها إذا جوزيتم بأعمالكم".
قال الحسن: أنا أستغفر الله أبداً،
وهي توبتي، يا ابن رسول الله.
قال (ع): "والله
ما ينفعكم ولكنّ الله يعاقبكم بذمّها على ما لا ذمّ عليها فيه، أما علمت يا حسن
أنّ الله هو المثيب والمعاقب والمجازي بالأعمال عاجلا وآجلا؟".
قلت: بلى يا مولاي.
قال (ع): "لا
تعد ولا تجعل للأيام صنعاً في حكم الله".
قال الحسن: بلى يا ابن رسول الله.
إنّ هذا الحديث الهام يشير إلى أنّ
التأثير الممكن حصوله في الأيام مردّه إلى أمر الله، وليس للأيام تأثير مستقل على
حياة الإنسان، ولا بد من استشعار لطف الله دائماً، الذي لا غنى لنا عنه أبداً،
وبذلك لا ينبغي أن نتصور الحوادث التي هي بمثابة كفّارة لأعمالنا وسيآتنا غالباً
على أنّها مرتبطة بتأثير الأيام ونبرّئ أنفسنا منها.
فكل أدعية أهل البيت مملؤة بالثقة
واليقين والتوكل على الله سبحانه والاستعادة به من الشيطان.
وقد رفض المرجع الكبير السيد حسين البروجردي
مثل هذه الأمور، وذهب إلى أنّ: "الأصل الأول في أغلب الأخبار والروايات الواردة في مدح وذم
البلدان وفي خواص الفاكهة وفضائل الأفراد والأيام، هو عدم الحجية؛ لأنّها موضوعة
من جانب الشيعة والسنّة لما يحقق مصالحهم" [فلسفة الفقه: ص 59].
وذكر الميرزا العالم الكبير أبو
الحسن الشعراني أنّ نحو خُمس الأحاديث مزورة وموضوعة، وأكد هذا الأمر في عدة مواضع
من كتابه "المدخل إلى عذب المنهل" [فلسفة الفقه: ص 59].
إنَّ التفاؤل، وككلّ شيء، له
قَدْر، لا تفريط ولا إفراط، فالمبالغة في التفاؤل قد تؤدي في نهاية المطاف إلى
التشاؤم والإحباط، كالتاجر الذي يغالي في توقعات أرباحه، فقد يصل إلى حدود الخسارة
عندما لا يبني حساباته على أرقام صحيحة، كذلك الحال بالنسبة إلى سياسي بالغ في حجم
جماهيره، أو صناعي لم يدرس سوق منتجاته جيداً، فجاءت حسابات البيدر تختلف عن
حسابات الحقل.
إنّ التفاؤل الذي لا يقوم على وعي
وإدراك ومعرفة لن يثمر، وكلّما زاد نصيب التخطيط القائم على البصيرة، ضَمَن
المتفائل فرصاً أكثر لنجاحه. فكم نحن بحاجةٍ اليوم إلى الثقة والتفاؤل بأعمق صوره
وأصدقها.
نحتاج إلى ثقةٍ كثقة النبي موسى (ع)،
عندما قدم فرعون بجنوده، وكادوا يصلون إليه ومن معه، فقال أصحابه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبّي
سَيَهْدِينِ}.
نحن بحاجةٍ اليوم إلى أن نعيش
تفاؤل النبي يعقوب (ع) الذي رغم كلّ السنوات الطويلة من غياب ولده يوسف، يقول
لأولاده: {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ
وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ
اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}.
نحن بحاجة إلى تفاؤل رسول الله (ص)،
عندما صار المشركون على فم الغار الذي دخله يوم الهجرة، وكان يكفي أن ينظروا إلى
موقع أقدامهم فيروا الرسول، يومها قال الرسول لصاحبه: {لَا
تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}.
إنّ مجتمعاتنا بحاجة إلى التفاؤل،
إلى أن يؤمن أفرادها ويقولوا دوماً: >إنّ الله معنا<، أن لا تسقطه من
حساباتها وبرامجها وتوجهاتها، وخصوصاً في التنمية والتعليم ورعاية الشباب
والاقتصاد.
والأمم التي لا يشيع التفاؤل بين
شبابها، قد تفقد وهج تطلّعها إلى المستقبل، تماماً كالأمم التي تستسلم لليأس
والضعف والتخلّف، فلا هي تردّ عدواناً، ولا تقاوم معتدياً أو محتلاً.
وعلى امتداد مسيرة الإنسانية، كان
النجاح صناعة أشخاص خبروا سرّ هذه الصناعة، ووحدهم المتفائلون الذين يصنعون
النجاح، الذين يصنعون من الفشل فرصةً ثانيةً للنهوض، ومن كل صعوبة مناسبة جديدة
لمعاودة الانطلاق.
فليس الناجح هو الذي تكون حياته
نجاحاً لا يتوقّف، بل هو الذي ينهض وينهض على عكازة الأمل والثقة بالله وبنفسه كلّما
تعثّر، يعقد رهانه على الله، ويمنع اليأس من التسلّل إلى نفسه.
وسلاحه دعاؤه كلما رأى ما يكره: "اللَّهُمَّ لَا يُؤْتِي الْخَيْرَ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا
يَدْفَعُ السَّيِّئَاتُ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ".
ولذا نحن نؤمن بذلك الرجل الذي وقف
بثبات عندما سمع كلام أبيه مسترجعاً {إنا للهِ وإنّا
إليهِ راجِعون}.
فقال: يا أبتاه، لا أراك الله
سوءاً أبداً، ألسنا على الحق؟!
فقال الحسين (ع): بلى، والذي يرجع
إليه العباد.
فقال: يا أبت، إذاً لا نبالي أن
نموت محقين.
ذاك هو علي بن الحسين الأكبر.
أُمُّهُ آمِنَةُ بِنتُ أبي مُرَّةَ
بنِ عُروَةَ بنِ مَسعودٍ الثَّقَفِيِّ، وأُمُّها بِنتُ أبي سُفيانَ بنِ حَربٍ.
فَقالَ رَجُلٌ مِن أهلِ الشّامِ: إنَّ لَكَ بِأَميرِ المُؤمِنينَ قَرابَةً
ورَحِماً، فَإِن شِئتَ آمَنّاكَ، وَامضِ حَيثُما أحبَبتَ!
فَقالَ: أما وَاللهِ لَقَرابَةُ
رَسولِ اللهِ (ص) أولى أن تُرعى مِن قَرابَةِ أبي سُفيانَ.
وأرجز شعراً:
أنَا عَلِيُّ بنُ حُسَينِ بنِ عَلِيّ
نَحنُ وبَيتِ اللّهِ
أولى بِالنَّبِيِّ
مِن شَمِرٍ وعُمَرٍ
وَابنِ الدَّعِيّ
وفي أمالي الصدوق بإسناده عن
الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع)، قال:
>لَمّا بَرَزَ عَلِيُّ بنُ
الحُسَينِ إلَيهِم دَمَعَت عَينُ الحُسَينِ (ع)، فَقالَ: اللّهُمَّ كُن أنتَ
الشَّهيدَ عَلَيهِم، فَقَد بَرَزَ إلَيهِمُ ابنُ رَسولِكَ، وأشبَهُ النّاسِ وَجهاً
وسَمتاً بِهِ، فَجَعَلَ يَرتَجِزُ وهُوَ يَقولُ:
أنَا عَلِيُّ بنُ
الحُسَينِ بنِ عَلِيّ نَحنُ
وبَيتِ اللهِ أولى بِالنَّبِي
أما تَرَونَ كَيفَ أحمي
عَن أبي
فَقَتَلَ مِنهُم عَشَرَةً ثُمَّ
رَجَعَ إلى أبيهِ، فَقالَ: يا أبَه العَطَشُ.
فَقالَ الحُسَينُ (ع): "صَبراً يا
بُنَيَّ، يَسقيكَ جَدُّكَ بِالكَأسِ الأَوفى، فَرَجَعَ فَقاتَلَ حَتى قَتَلَ
مِنهُم أربَعَةً وأربَعينَ رَجُلاً".
فَبَصُرَ بِهِ مُرَّةُ بنُ مُنقِذِ
العَبدِيُّ، فَقالَ: عَلَيَّ آثامُ العَرَبِ، إن مَرَّ بي يَفعَلُ مِثلَ ما كانَ
يَفعَلُ إن لَم اُثكِلهُ أباهُ، فَمَرَّ يَشُدُّ عَلَى النّاسِ بِسَيفِهِ، فَاعتَرَضَهُ
مُرَّةُ بنُ مُنقِذٍ فَطَعَنَهُ فَصُرِعَ، وَاحتَوَلَهُ النّاسُ فَقَطَّعوهُ
بِأَسيافِهِم.
قالَ حُمَيدُ بنُ مُسلِمٍ
الأَزدِيِّ: سَماعُ اُذني يَومَئِذٍ مِنَ الحُسَينِ (ع) يَقولُ: قَتَلَ اللهُ
قَوماً قَتَلوكَ يا بُنَيَّ! ما أجرَأَهُم عَلَى الرَّحمنِ، وعَلَى انتِهاكِ حُرمَةِ
الرَّسولِ! عَلَى الدُّنيا بَعدَكَ العَفاءُ.
قالَ: وكَأَنّي أنظُرُ إلَى
امرَأَةٍ خَرَجَت مُسرِعَةً كَأَنَّهَا الشَّمسُ الطّالِعَةُ تُنادي: يا اُخَيّاه!
ويَابنَ اُخَيّاه! قالَ: فَسَأَلتُ عَلَيها، فَقيلَ: هذِهِ زَينَبُ ابنَةُ
فاطِمَةَ ابنَةِ رَسولِ اللهِ (ص)، فَجاءَت حَتّى أكَبَّت عَلَيهِ، فَجاءَهَا
الحُسَينُ (ع) فَأَخَذَ بِيَدِها فَرَدَّها إلَى الفُسطاطِ.
وأقبَلَ الحُسَينُ (ع) إلَى
ابنِهِ، وأقبَلَ فِتيانُهُ إلَيهِ، فَقالَ: اِحمِلوا أخاكُم، فَحَمَلوهُ مِن
مَصرَعِهِ حَتّى وَضَعوهُ بَينَ يَدَيِ الفُسطاطِ الَّذي كانوا يُقاتِلونَ أمامَهُ.
إنَّ التفاؤل يصنع الأمجاد
والبطولات ..