الخميس، 24 أكتوبر 2019


**التطير والتشاؤم وسلوك الناس**


{فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 130].

شاءت سنّة الله في خلقه، أن لا تكون أيّامنا على حال واحدة، وأن يُقلّبها بين اليُسر والعسر، والناس تجاه الحالين بين حامد وناقم: إنسان يحمد الله على السرّاء والضرّاء، فكلّما مال عليه حِملُ الأيام، وأغلقت أمامه الأبواب، انتظر الفرج، وظل يرى في نفق أزمته بصيص ضوء، وما فَقَدَ ثقته بالله، وحاله حال ذلك الشّاعر الّذي يقول:

ما بين غمْضة عينٍ وانتباهتها         يُغيّر الله من حالٍ إلى حالِ

ذلك هو المتفائل.. والتفاؤل الفعّال هو ذاك الذي لا يولد من فراغ، بل يُبنى على الثقة بالله، وإلا فإنَّ التعثر قد يدفع إلى اليأس والإحباط، والدخول في لعبة التشاؤم: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

والتشاؤم والتطير من الظواهر العالمية. فمن الناس من يتشاءم من أيامٍ معينةٍ في الشهر أو في الأسبوع، ومنهم من يتشاءم ويعتقد النحسَ وسوءَ الطالع في الأجير -مثلاً- فمنذ قدومه، والمصائب تتوالى والخسائر تزداد على صاحب عمله.

وبعضم يحجم عن السفر في يوم معين.

وبعضهم يحجم عن عقد النكاح في اليوم الفلاني، والشهر الفلاني.

وقد يصل الاعتقاد بشؤم المكان؛ فيقول أحدهم: هذه دار منحوسة، ما سكنها أحدٌ ووجد فيها خيراً.

فالتشاؤم والتطير عادةٌ قديمة في البشر، ولم تنجو منه حتى الأمم المتعلمة الراقية. وها نحن في القرن الحادي والعشرين وما زالت سوق المنجِّمين وأصحاب الفأل رائجةً! فهناك مشترون كُثُر للطالع والبخت...

والمراد بالتطير والتشأم: توهُّم أو توقُّع حصول المكروه مرئياً أو معلوماً أو مسموعاً.

فمثال المرئي: التطير برؤية أصحاب العاهات، والبومة، والغراب، وغير ذلك.

ومثال المعلوم: التشاؤم ببعض الأيام، أو بعض الشهور، أو بعض السنوات.

ومثال المسموع: التشاؤم بسماع كلمة نحو: يا خاسر، أو يا خائب، أو يا طايح الحظ.. ونحو ذلك من الألفاظ.

والسبب الرئيس للتشاؤم والتطير هو جهل الإنسان بحقائق الأشياء، وحدود تأثيرها.

التطير في النصوص الإسلامية:


(1) في القرآن الكريم:


نقرأ في القرآن الكريم كيف كان الناس يتشاءمون حين يلتقون بالدعاة إلى الله فيعتبرونهم مظهرَ شؤم؛ باعتبار أنهّم جاءوا من أجل كسر عقائدهم، وكأنهّم يرون أنّ هذا اللقاء سوف يُنذر بالسوء فيما يَستَقبِلون من الأيام.. {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}.

وكان جواب الدعاة: أنّهم لا يمثّلون التشاؤم والشر، وإنّما يمثلون الخير، ويعملون على فتح عقول وقلوب الناس على الله وعلى سعادة الدنيا والآخرة، ولكنّ الشؤم هو عند هؤلاء الذين يتهمونهم، فالشرك والضلال والانحراف يمثل أوضح مصاديق الشؤم؛ لأنّها تقود الإنسان إلى النار وتدفعه إلى التعرض لغضب الله سبحانه وتعالى.

(قصة من واقع السيرة): تطير يهود المدينة بالرسول (ص) فقالوا: >قَلَّتْ الْأَمْطَارُ، وَارْتَفَعَت الْأَسْعَارُ مِنْ شُؤْمِ مَجِيءِ هَذَا الرَّجُلِ<.

فقد كان اليهود سادةً في الجزيرة، وكانوا يسيطرون على حركة السوق التجارية، ويتعاملون في الربا وتجارة السلاح، وكان عندهم الحصون والأسلحة، وأراد الله أن يشغلهم بأخذ شيء من أسبابهم ويهد كيانهم ليلفتهم إلى أنّهم خرجوا عن المنهج، وجاء النبي الذي سيطبق ذلك المنهج.. فأنزل الله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ -أي خصب ورخاء- يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ -أي جدب وقحط- يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ -أي من الخصب والقحط- مِّنْ عِندِ اللهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء: 78].

(قصة من الأدب): ذكروا أنّ ملكاً كان يعتقد النحس والتشاؤم في الأشياء فخرج صبيحة يوم إلى  الصيد فكان أول من قابله وواجهه رجل فقير أعور، فتشاؤم الملك من التصبح به فأمر بسجنه وكان نهار الملك على عكس ما اعتقد وتطير كان نهاره سروراً كلَّه ونشاطاً وبهجة. فلما رجع في المساء. أمر بالإفراج عن الفقير الأعور من السجن، فامتنع الأعور عن الخروج من سجنه، إلا إذا سمح له الملك بلقائه فأدخل على الملك.

قال الأعور: لم سجنتني أيها الملك؟

فقال: تصبحت بأعور مشوه الخلق، فخشيت أن يتشوه جمال يومي وينقص سروره، فلما كان العكس خليت سبيلك.

فقال الأعور: أيها الملك أينا المنحوس أنا أم أنت؟

قال الملك مدهوشاً: وكيف ذلك؟!

قال: تصبحت بي فكان يومك سروراً وحبوراً، وتصبحت بك فكان يومي ضرباً وسجناً وشروراً.

(2) في الحديث الشريف:


روي عن النبي (ص) -بسند صحيح- ما يدل على أنّ التطير من طبيعة الإنسان، ولذلك ورد أنّه لا يؤاخذ عليه لعدم اختياره فيه؛ قال رسول الله (ص): "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعةٌ: الْخَطَأُ، وَالنِّسْيَانُ، وَمَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ، وَمَا لا يُطِيقُونَ، وَمَا لا يَعْلَمُونَ، ، وَمَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ، وَالْحَسَدُ، وَالطِّيَرَةُ، والتَّفَكُّرُ فِي الْوَسْوَسَةِ  فِي الْخَلْقِ، مَا لَمْ يَنْطِقْ بِشَفةٍ" [التوحيد: ص 352].

فكيف نفسر ذلك؟!!

المرفوع -ظاهراً- ليس هو المؤاخذة على الطيرة بما هو اعتقاد وموقف فكري؛ فإنّ هذا الاعتقاد بما أنه أمرٌ اختياري فهو اعتقادٌ باطلٌ ومرفوضٌ ولا يجوز تبنيه.

وإنما المرفوع هو حالة الانقباض النفسي التي تعتري الإنسان عندما يواجه بعض ما يوجب التشاؤم بحيث يدفعه إلى الانسياق عملاً مع هذه الحالة، فإنّ الانقباض المذكور يعبِّر عن حالة لا إرادية، فيرفع الله المؤاخذة على ما ليس إرادياً للإنسان.

ويفسره النبي (ص) بقوله: "ثَلَاثٌ لَمْ يَنْجُ مِنْهَا أَحَدٌ: الظَّنُّ، وَالطِّيَرَةُ، وَالْحَسَدُ. وسأُحَدِثُكُم بِالْمَخْرَجِ مِنْ ذَلِكَ: إِذَا ظَنَنْتَ فَلَا تُحَقِقْ، وَإِذَا تَطَيَّرْتَ فَامْضِ، وَإِذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ".

إذن: إذا تطيرتَ وتشاءمتً من شيء فلا توقف عملك وامضِ وتوكل على الله؛ لأنهما من عمل الإنسان، فهو بفعله يجعل اليوم سعداً أو نحساً، وإلاّ فاليوم هو اليوم، والشمس هي الشمس، والقمر هو القمر، يجريان بأمر الله سبحانه.

والإمام علي الهادي (ع) يخاطب أحد أصحابه الذي كان يقول: "كَفَانِيَ اللهُ شَرَّكَ مِنْ يَوْمٍ فَمَا أَيْشَمَكَ" بقوله: "تَرْمِي بِذَنْبِكَ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، مَا ذَنْبُ الْأَيَّامِ حَتَّى صِرْتُمْ تتشاءمون بِهَا إِذَا جُوزِيتُمْ بِأَعْمَالِكُمْ فِيهَا"، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ اللهَ هُوَ الْمُثِيبُ وَالْمُعَاقِبُ، وَالْمُجَازِي بِالْأَعْمَالِ عَاجِلًا وَآجِلًا، لَا تَعُدْ وَلَا تَجْعَلْ لِلْأَيَّامِ صُنْعاً فِي حُكْمِ اللهِ".

وورد كثيراً عن النبي (ص) في هذا الشأن: "الطِّيَرَةُ شِرْكٌ"، "مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حَاجَتِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ"، "مَنْ تَطَّيَرَ وَأَمْسَكَ عَنْ سَفَرِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ بِاللهِ الْعَظِيمِ"؛ من باب أنّ الإنسان عندما يواجه شيئاً يوحي أنّه يعتقد أنّ الشؤم هو نتيجة هذا الشيء الذي يكون سبباً لهذا الشؤم. في حين أنّ الله وحده هو صانع ما في الكون كلّه إمّا بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر فهو مسبّب الأسباب وكلّ شيء في الكون يصدر منه. [بحار: ج 55 ص 323].

كيف عالج الإسلام ظاهرة التطيّر والتشاؤم؟


النبي (ص) يريد للإنسان أن يتحرك في الاتجاه المعاكس حيث يقول (ص) -كما في الرواية المعتبرة-:  "كَفَّارَةُ الطِّيَرَةِ التَّوَكُّلُ" فعندما نتشاءم علينا أن نكسر هذا الطوق النفسي وهذه الخرافة بأن نتحرك ولا نتوقف ولا نجمد عند بعض الأشياء التي تصادفنا مما قد تسيء إلى حركتنا.

وفي برنامج الإمام علي (ع): "إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيهِ، فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَقِّيهِ أَعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْهُ". فهذا القلق الذي تعيشه أمام هذا الشيء ينتج وضعاً سلبياً على مستوى حركتك في الحياة أكثر من الشيء الذي تخاف أن تقع فيه.

وفي الصحيح عن جعفر الصادق (ع): "الطِّيَرَةُ عَلَى مَا تَجْعَلُهَا إِنْ هَوَّنْتَهَا تَهَوَّنَتْ، وإِنْ شَدَّدْتَهَا تَشَدَّدَتْ، وَإِنْ لَمْ تَجْعَلْهَا شَيْئاً لَمْ تَكُنْ شَيْئاً"؛ لأنّه لا واقع للطيرة، وليست شيئاً يُملك.. بل هي مجرد تهاويل ومخاوف تعيش في ذهنك إن هوّنتها تهونّت، وإن شدّدتها تشدّدت. فالمسألة من خلال حالتك النفسية لا غير.

وعن محمد بن أحمد الدقاق كتب إلى علي الهادي (ع) يَسْأَلُهُ: عَنِ الْخُرُوجِ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ لا يَدُورُ؟ -(أي الأربعاء الأخيرة من الشهر ومنها ما يفعله الناس في آخر أربعاء من شهر صفر واعتقادهم النحس فيه أو في صفر كله)-..

فكتب (ع): "مَنْ خَرَجَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ لا يَدُورُ خِلافاً عَلَى أَهْلِ الطِّيَرَةِ وُقِيَ مِنْ كُلِّ آفَةٍ، وَعُوفِيَ مِنْ كُلِّ عَاهَةٍ، وَقَضَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ حَاجَتَهُ". فالله يثيب من يفعل ذلك لتحدّيه لأهل التطير.

وعن الحسن بن مسعود قال: دخلت على أبي الحسن علي بن محمّد (ع)، وقد نَكَبَتْ إصبعي، وتلقّاني راكب فصدم كتفي، ودخلت في زحمة فخرقوا عليّ بعض ثيابي. فقلت: كفانا الله شرّك من يوم فما أشأمك!.

فقال (ع) لي: "يا حسن هذا وأنت تغشانا ترمي بذنبك من لا ذنب له!!!".

قال الحسن: فأناب إليّ عقلي، وتبيّنت خطأي، فقلت يا مولاي استغفر لي.

فقال: "يا حسن، ما ذنب الأيام حتى صرتم تتشاءمون منها إذا جوزيتم بأعمالكم".

قال الحسن: أنا أستغفر الله أبداً، وهي توبتي، يا ابن رسول الله.

قال (ع): "والله ما ينفعكم ولكنّ الله يعاقبكم بذمّها على ما لا ذمّ عليها فيه، أما علمت يا حسن أنّ الله هو المثيب والمعاقب والمجازي بالأعمال عاجلا وآجلا؟".

قلت: بلى يا مولاي.

قال (ع): "لا تعد ولا تجعل للأيام صنعاً في حكم الله".

قال الحسن: بلى يا ابن رسول الله.

إنّ هذا الحديث الهام يشير إلى أنّ التأثير الممكن حصوله في الأيام مردّه إلى أمر الله، وليس للأيام تأثير مستقل على حياة الإنسان، ولا بد من استشعار لطف الله دائماً، الذي لا غنى لنا عنه أبداً، وبذلك لا ينبغي أن نتصور الحوادث التي هي بمثابة كفّارة لأعمالنا وسيآتنا غالباً على أنّها مرتبطة بتأثير الأيام ونبرّئ أنفسنا منها.

فكل أدعية أهل البيت مملؤة بالثقة واليقين والتوكل على الله سبحانه والاستعادة به من الشيطان.

وقد رفض المرجع الكبير السيد حسين البروجردي مثل هذه الأمور، وذهب إلى أنّ: "الأصل الأول في أغلب الأخبار والروايات الواردة في مدح وذم البلدان وفي خواص الفاكهة وفضائل الأفراد والأيام، هو عدم الحجية؛ لأنّها موضوعة من جانب الشيعة والسنّة لما يحقق مصالحهم" [فلسفة الفقه: ص 59].

وذكر الميرزا العالم الكبير أبو الحسن الشعراني أنّ نحو خُمس الأحاديث مزورة وموضوعة، وأكد هذا الأمر في عدة مواضع من كتابه "المدخل إلى عذب المنهل" [فلسفة الفقه: ص 59].

إنَّ التفاؤل، وككلّ شيء، له قَدْر، لا تفريط ولا إفراط، فالمبالغة في التفاؤل قد تؤدي في نهاية المطاف إلى التشاؤم والإحباط، كالتاجر الذي يغالي في توقعات أرباحه، فقد يصل إلى حدود الخسارة عندما لا يبني حساباته على أرقام صحيحة، كذلك الحال بالنسبة إلى سياسي بالغ في حجم جماهيره، أو صناعي لم يدرس سوق منتجاته جيداً، فجاءت حسابات البيدر تختلف عن حسابات الحقل.

إنّ التفاؤل الذي لا يقوم على وعي وإدراك ومعرفة لن يثمر، وكلّما زاد نصيب التخطيط القائم على البصيرة، ضَمَن المتفائل فرصاً أكثر لنجاحه. فكم نحن بحاجةٍ اليوم إلى الثقة والتفاؤل بأعمق صوره وأصدقها.

نحتاج إلى ثقةٍ كثقة النبي موسى (ع)، عندما قدم فرعون بجنوده، وكادوا يصلون إليه ومن معه، فقال أصحابه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ}.

نحن بحاجةٍ اليوم إلى أن نعيش تفاؤل النبي يعقوب (ع) الذي رغم كلّ السنوات الطويلة من غياب ولده يوسف، يقول لأولاده: {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}.

نحن بحاجة إلى تفاؤل رسول الله (ص)، عندما صار المشركون على فم الغار الذي دخله يوم الهجرة، وكان يكفي أن ينظروا إلى موقع أقدامهم فيروا الرسول، يومها قال الرسول لصاحبه: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}.

إنّ مجتمعاتنا بحاجة إلى التفاؤل، إلى أن يؤمن أفرادها ويقولوا دوماً: >إنّ الله معنا<، أن لا تسقطه من حساباتها وبرامجها وتوجهاتها، وخصوصاً في التنمية والتعليم ورعاية الشباب والاقتصاد.

والأمم التي لا يشيع التفاؤل بين شبابها، قد تفقد وهج تطلّعها إلى المستقبل، تماماً كالأمم التي تستسلم لليأس والضعف والتخلّف، فلا هي تردّ عدواناً، ولا تقاوم معتدياً أو محتلاً.

وعلى امتداد مسيرة الإنسانية، كان النجاح صناعة أشخاص خبروا سرّ هذه الصناعة، ووحدهم المتفائلون الذين يصنعون النجاح، الذين يصنعون من الفشل فرصةً ثانيةً للنهوض، ومن كل صعوبة مناسبة جديدة لمعاودة الانطلاق.

فليس الناجح هو الذي تكون حياته نجاحاً لا يتوقّف، بل هو الذي ينهض وينهض على عكازة الأمل والثقة بالله وبنفسه كلّما تعثّر، يعقد رهانه على الله، ويمنع اليأس من التسلّل إلى نفسه.

وسلاحه دعاؤه كلما رأى ما يكره: "اللَّهُمَّ لَا يُؤْتِي الْخَيْرَ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتُ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ".

ولذا نحن نؤمن بذلك الرجل الذي وقف بثبات عندما سمع كلام أبيه مسترجعاً {إنا للهِ وإنّا إليهِ راجِعون}.

فقال: يا أبتاه، لا أراك الله سوءاً أبداً، ألسنا على الحق؟!

فقال الحسين (ع): بلى، والذي يرجع إليه العباد.

فقال: يا أبت، إذاً لا نبالي أن نموت محقين.

ذاك هو علي بن الحسين الأكبر.

أُمُّهُ آمِنَةُ بِنتُ أبي مُرَّةَ بنِ عُروَةَ بنِ مَسعودٍ الثَّقَفِيِّ، وأُمُّها بِنتُ أبي سُفيانَ بنِ حَربٍ. فَقالَ رَجُلٌ مِن أهلِ الشّامِ: إنَّ لَكَ بِأَميرِ المُؤمِنينَ قَرابَةً ورَحِماً، فَإِن شِئتَ آمَنّاكَ، وَامضِ حَيثُما أحبَبتَ!

فَقالَ: أما وَاللهِ لَقَرابَةُ رَسولِ اللهِ (ص) أولى أن تُرعى مِن قَرابَةِ أبي سُفيانَ.

وأرجز شعراً:

أنَا  عَلِيُّ بنُ  حُسَينِ  بنِ  عَلِيّ
نَحنُ وبَيتِ   اللّهِ أولى بِالنَّبِيِّ
مِن شَمِرٍ وعُمَرٍ وَابنِ الدَّعِيّ

وفي أمالي الصدوق بإسناده عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع)، قال:

>لَمّا بَرَزَ عَلِيُّ بنُ الحُسَينِ إلَيهِم دَمَعَت عَينُ الحُسَينِ (ع)، فَقالَ: اللّهُمَّ كُن أنتَ الشَّهيدَ عَلَيهِم، فَقَد بَرَزَ إلَيهِمُ ابنُ رَسولِكَ، وأشبَهُ النّاسِ وَجهاً وسَمتاً بِهِ، فَجَعَلَ يَرتَجِزُ وهُوَ يَقولُ:
أنَا عَلِيُّ بنُ الحُسَينِ بنِ عَلِيّ         نَحنُ وبَيتِ اللهِ أولى بِالنَّبِي
أما تَرَونَ كَيفَ أحمي عَن أبي

فَقَتَلَ مِنهُم عَشَرَةً ثُمَّ رَجَعَ إلى أبيهِ، فَقالَ: يا أبَه العَطَشُ.

فَقالَ الحُسَينُ (ع): "صَبراً يا بُنَيَّ، يَسقيكَ جَدُّكَ بِالكَأسِ الأَوفى، فَرَجَعَ فَقاتَلَ حَتى قَتَلَ مِنهُم أربَعَةً وأربَعينَ رَجُلاً".

فَبَصُرَ بِهِ مُرَّةُ بنُ مُنقِذِ العَبدِيُّ، فَقالَ: عَلَيَّ آثامُ العَرَبِ، إن مَرَّ بي يَفعَلُ مِثلَ ما كانَ يَفعَلُ إن لَم اُثكِلهُ أباهُ، فَمَرَّ يَشُدُّ عَلَى النّاسِ بِسَيفِهِ، فَاعتَرَضَهُ مُرَّةُ بنُ مُنقِذٍ فَطَعَنَهُ فَصُرِعَ، وَاحتَوَلَهُ النّاسُ فَقَطَّعوهُ بِأَسيافِهِم.

قالَ حُمَيدُ بنُ مُسلِمٍ الأَزدِيِّ: سَماعُ اُذني يَومَئِذٍ مِنَ الحُسَينِ (ع) يَقولُ: قَتَلَ اللهُ قَوماً قَتَلوكَ يا بُنَيَّ! ما أجرَأَهُم عَلَى الرَّحمنِ، وعَلَى انتِهاكِ حُرمَةِ الرَّسولِ! عَلَى الدُّنيا بَعدَكَ العَفاءُ.

قالَ: وكَأَنّي أنظُرُ إلَى امرَأَةٍ خَرَجَت مُسرِعَةً كَأَنَّهَا الشَّمسُ الطّالِعَةُ تُنادي: يا اُخَيّاه! ويَابنَ اُخَيّاه! قالَ: فَسَأَلتُ عَلَيها، فَقيلَ: هذِهِ زَينَبُ ابنَةُ فاطِمَةَ ابنَةِ رَسولِ اللهِ (ص)، فَجاءَت حَتّى أكَبَّت عَلَيهِ، فَجاءَهَا الحُسَينُ (ع) فَأَخَذَ بِيَدِها فَرَدَّها إلَى الفُسطاطِ.

وأقبَلَ الحُسَينُ (ع) إلَى ابنِهِ، وأقبَلَ فِتيانُهُ إلَيهِ، فَقالَ: اِحمِلوا أخاكُم، فَحَمَلوهُ مِن مَصرَعِهِ حَتّى وَضَعوهُ بَينَ يَدَيِ الفُسطاطِ الَّذي كانوا يُقاتِلونَ أمامَهُ.

إنَّ التفاؤل يصنع الأمجاد والبطولات ..

الجمعة، 4 أكتوبر 2019


**من وصايا ومواعظ الإمام الحسن (ع)**


ليس الإيمان سلعة هشّة يسهل كسرها، ولا ينتظر الإيمان حراساً ليحموه من ويلات وهجمات المعتدين .. فالإيمان قناعة داخلية يضمنها الاقتناع ويقويها الحوار مع الآخرين.

فهل قوي الإسلام يوماً مثلما قوي بالحوار مع المختلفين؟

وهل يضر المرء وعيه بالآخر واختلافه في ساحة الفكر؟

أليس بالحوار تزول الحدود الحقيقية والوهمية؟

من الذي يتصور نفسه يعيش في غرفة معزولة؟

ومن ذا الذي يستطيع أن يسيطر عليه اعتقاد واحد في واقع مليء بالمتغيرات؟

هل يمكن للإنسان أن يواجه الآخر بالحوار من دون صراع؟

وما يضرّ الغالب والمغلوب أن لا ينغلقا على نفسيهما؟

فلا حدود للإيمان .. وليس لبشرٍ (قاصرين) أن يحكموا على نوايا بشر آخرين (قاصرين)!!.

وهذا ما أشار له الإمام الخميني، إذ يقول في شأن الكفار: "إنَّ أكثرهم -إلا ما قلَّ وندر- جهَّال قاصرون لا مقصرون. أمّا عوامهم فظاهر لعدم انقداح خلاف ما هم عليه من المذاهب في أذهانهم، بل هل قاطعون بصحة مذهبهم وبطلان ساير المذاهب، نظير عوام المسلمين، فكما أنَّ عوامنا عالمون بصحة مذهبهم وبطلان ساير المذاهب من غير انقداح خلافٍ في أذهانهم لأجل التلقين والنشوء في محيط الإسلام، كذلك عوامهم من غير فرقٍ بينهما من هذه الجهة، والقاطع معذور في متابعة قطعه ولا يكون عاصياً أو آثماً ولا تصح عقوبته في متابعته (أي في متابعته لقطعه). وأمّا غير عوامهم فالغالب فيهم أنهم بواسطة التلقينات من أوّل الطفولة، والنشوء في محيط الكفر: صاروا جازمين ومعتقدين بمذاهبهم الباطلة بحيث كل ما ورد على خلافها ردّوها بعقولهم المجبولة على خلاف الحق من بدء نشؤهم، فالعالم اليهودي والنصراني كالعالم المسلم لا يرى حجة الغير صحيحة وصار بطلانها كالضروري له؛ لكون صحة مذهبه ضرورية لديه لا يحتمل خلافه. نعم، فيهم مَن يكون مقصراً لو احتمل خلاف مذهبه... وبالجملة: إنَّ الكفار كجهّال المسلمين منهم قاصر وهم الغالب، ومنهم مقصِّر... والكفار معاقبون على الأصول والفروع لكن مع قيام الحجة عليهم لا مطلقاً، فكما أنَّ كون المسلمين معاقبين على الفروع ليس معناه أنهم معاقبون عليها سواء كانوا قاصرين أم مقصِّرين، كذلك الكفار طابق النعل بالنعل بحكم العقل وأصول العدلية" (المكاسب المحرمة: ج 1 ص 133-134).

وقد اختار بعض أعلامنا هذا الرأي ومنهم الشيخ البهائي العاملي (ت 1033هـ)، حيث يقول: "إنَّ المكلَّف إذا بذل جهده في تحصيل الدليل فليس عليه شيء وإن كان مخطئاً في اعتقاده، ولا يخلد في النار وإن كان بخلاف أهل الحق" (طرائف المقال للسيد علي البروجردي: ج 2 ص 393، وفلاسفة الشيعة للشيخ عبد الله نعمة: ص 406).

وقد تبنى هذا الرأي الفقيه الشيخ محمد جواد مغنية، والمرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله.

ونُسب هذا الرأي -أيضاً- إلى الجاحظ (ت 255هـ)؛ قال الدكتور علي الوردي: "ومما يجدر ذكره أنَّ الجاحظ كان قد جاء بما يشبه هذه النظرية التي جاء بها البهائي، ولكنها حوربت ثم ضاعت، ولم يبقَ منها إلا مقتطفات جزئية مما رواه المنتقدون لها. كان من رأي الجاحظ أنَّ الشخص الأمي الذي يعيش في قرية نائية، أو محيط اجتماعي منعزل، نراه لا يعرف من العقائد غير العقيدة التي نشأ عليها، وهو إذاً لا يستطيع أن يفكر إلا في نطاق تلك العقيدة، أنه غير ملوم في ذلك ولا يعاقبه الله عليه، فالله لا يكلف نفساً إلا وسعها، ويستخلص الجاحظ من هذا أنَّ الله لا يعاقب من الكفار إلا أولئك المعاندين الذين يدركون الحق ويحيدون عنه حرصاً على جاه أو رئاسة أو نحو ذلك من الأسباب، أما الباقون منهم -وهم الذين يمثلون سواد الناس وأكثريتهم- فإنّ من الظلم عقابهم لأنهم لا يفهمون الحق إلا من خلال العادات والعقائد التي نشأوا عليها؛ والله ليس بظلام للعبيد" (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث: ج 1 ص 85).

ويعزو الدكتور الوردي هذا الرأي إلى أنَّ "كلَّ مفكر صادق النظر إذا اطلع على العقائد المختلفة يستطيع أن يكتشف فيها حقيقة واضحة، هي أنَّ كل ذي عقيدة يؤمن بصحة عقيدته إيماناً قاطعاً لا شك فيه، وأنه مهما تأمل وفكر فلا يقدر أن يخرج بتفكيره عن الأدلة والقوالب المنطقية الملائمة لعقيدته، ومعنى هذا أنَّ الإنسان لا يلام على أية عقيدة اكتسبها من محيطه الاجتماعي فنشأ عليها، إذ إنَّ تلك العقيدة صحيحة في نظره كمثل ما تكون عقيدتنا صحيحة في نظرنا، فلو أننا نشأنا في محيطه لاعتقدنا بمثل عقيدته، وكذلك لو نشأ هو في محيطنا لاعتقد بمثل عقيدتنا"(لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث: ج 1 ص 85).

إنَّ هذا الشخص معذور ولا يستحق العقاب، فهو بحكم القاصر، وذلك لقبح إدانة مَن لم تقم عليه الحجة أو مَن كان قاطعاً بصحة معتقده ولا يخطر في باله صحة الدين الجديد، شريطة أن لا يجحد ما لم يقتنع به؛ لأنَّ عدم الاقتناع بشيء لا يبرر نفيه، كما أنَّ عدم الوجدان لا يدخل على عدم الوجود، فلا مبرر منطقياً وعقلياً لمن لم يقتنع بإمامة أهل البيت (عليهم السلام) أن يجحدها وينفيها، وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): "لَوْ أَنَّ الْعِبَادَ إِذَا جَهِلُوا وَقَفُوا وَلَمْ يَجْحَدُوا لَمْ يَكْفُرُوا" (وسائل الشيعة: الباب 2 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 8).

ألم يكن هدي الإمام علي (عليه السلام) ساطعاً كالشمس، ومع ذلك عميت عنه أبصار الخوارج الذين لم يكونوا -أو بعضهم على الأقل- من ذوي النوايا السيئة بقدر ما كانوا مضلَّلين، كما تُنبئ بذلك كلمة الإمام علي (عليه السلام) الخالدة في شأنهم: "لَا تُقَاتِلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ" (نهج البلاغة: الخطبة 61، وعلل الشرائع: ص 18). فأمير المؤمنين (عليه السلام) كان يحكم بإسلام الخوارج رغم إنكارهم لإمامته وخروجهم عليه بعد وقعة التحكيم.

ويؤكده الحديث عن إسماعيل الْجُعْفِي، قال: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنِ الدِّينِ الَّذِي لَا يَسَعُ الْعِبَادَ جَهْلُهُ، فَقَالَ: "الدِّينُ وَاسِعٌ، وَلَكِنَّ الْخَوَارِجَ ضَيَّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ جَهْلِهِمْ". قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَأُحَدِّثُكَ بِدِينِيَ الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: "بَلَى". قُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَالْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَأَتَوَلَّاكُمْ، وَأَبْرَأُ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَمَنْ رَكِبَ رِقَابَكُمْ وَتَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ، وَظَلَمَكُمْ حَقَّكُمْ، فَقَالَ: "مَا جَهِلْتَ شَيْئاً، هُوَ -وَاللهِ- الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ". قُلْتُ: فَهَلْ سَلِمَ أَحَدٌ لَا يَعْرِفُ هَذَا الْأَمْرَ؟ فَقَالَ: "لَا، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ"، قُلْتُ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: "نِسَاؤُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ"، ثُمَّ قَالَ: «أَرَأَيْتَ أُمَّ أَيْمَنَ؟ فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَا كَانَتْ تَعْرِفُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ"(الكافي: ج 2 ص 405 الحديث 6).

وقوله (عليه السلام): "الدِّينُ وَاسِعٌ" يراد به أنّه لا يتحقق الخروج من دين الإسلام بقليل من العقائد والأعمال كما هو مذهب الخوارج، حيث حكموا بكفر مرتكب المعاصي وخاضوا في المسائل الدقيقة فجعلوها من أجزاء الإيمان.

واستثناء المستضعفين في كلام الإمام الباقر (عليه السلام) ناظر إلى قوله تعالى: {... فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا}(النساء: 97-99).

ورب قائل يقول: بأنّ دائرة المستضعف -كما يستفاد من الآية والروايات- أضيق مما ذكر بكثير، فهو لا يشمل إلا ذوي القدرات العقلية المتواضعة من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً كما جاء في الآية المتقدمة، وفي الحديث الصحيح عن زُرَارَة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: "الْمُسْتَضْعَفُونَ: الَّذِينَ {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}" قَالَ: "لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَا يَكْفُرُونَ؛ الصِّبْيَانُ وَأَشْبَاهُ عُقُولِ الصِّبْيَانِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ"(الكافي: ج 2 ص 404 الحديث 2).

وأما مَن كان ذا قدرة على التمييز ولديه معرفة باختلاف الأديان وتعددها فلا يكون مستضعفاً ولا يتناوله حكمه، وقد ورد في الحديث الصحيح عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): "مَنْ عَرَفَ اخْتِلَافَ النَّاسِ فَلَيْسَ بِمُسْتَضْعَفٍ" (الكافي: ج 2 ص 405 الحديث 7).

ولنا أن نعلق على ذلك: بأنَّ هذه الروايات ناظرة إلى الآية الشريفة، ولو سلمنا أنَّ هذه الروايات تفسيرية وليست مصداقية، لكن يبقى: أنَّ الآية كالروايات لا مفهوم لها يدل على نفي العفو عن غير المستضعف، وحيث إنَّ الدليل قائم على عدم مؤاخذة الجاهل القاصر فيكون مشمولاً لحكم الآية وإن لم يكن داخلاً في موضوعها ومنطوقها.

إنَّ أكثر الناس ممن لا يؤمنون بالحقائق الدينية جاهلون قاصرون لا مقصرون إلا في معرفة الله سبحانه، فإنَّ الجاهل بوجوده تعالى أو وحدانيته مقصر لا قاصر -غالباً- لأنَّ معرفته تعالى وكذا توحيده -على نحو الإجمال دون تفاصيل التوحيد- من الأمور الفطرية، كما أنَّ التأمل في السماوات والأرض وما فيهما من أسرار ونظم تهدي إلى الإيمان به تعالى والإقرار بوحدانيته، أما فيما عدا ذلك من العقائد كالنبوة والإمامة والمعاد فإنَّ وجود الجاهل القاصر بشأنها كثير.. وهذا ما أشار له الإمام الخميني سابقاً.

فمن الظلم -إذن- الحكم على تجارب الآخرين، وهي تستنير بالعلم والحجة والبرهان كما تبحث أنت، وتبحث عن حلول للواقع كما تبحث أنت .. أن ترمى بالكفر!!.

فما الإله إن لم يكن ذروة القيم المتجسّدة في الإنسانيّة خيراً وجمالاً ومحبّة.. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}.

ورغم العداء المستحكم من معاوية وجيشه للإمام علي (ع) إلا أنه لم لم يصف موقفهم واختلافهم اختلافاً في عقيدة أو دين، بل هو محض اختلاف سياسي في دم الخليفة عثمان بن عفان، فكتب (ع) إلى أهل الأمصار يقصُّ فيه ما جرى بينه و بين أهل صفين: "وَكَانَ بَدْءُ أَمْرِنَا أَنَّا الْتَقَيْنَا وَالْقَوْمُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَبَّنَا وَاحِدٌ، وَنَبِيَّنَا وَاحِدٌ، وَدَعْوَتَنَا فِي الْإِسْلَامِ وَاحِدَةٌ، وَلَا نَسْتَزِيدُهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالتَّصْدِيقِ بِرَسُولِهِ، وَلَا يَسْتَزِيدُونَنَا، الْأَمْرُ وَاحِدٌ إِلَّا مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ وَنَحْنُ مِنْهُ بَرَاءٌ" (نهج البلاغة: كتاب 58).

وهذا الإمام الحسن (ع)، سر أبيه، والذي قال فيه جده (ص): "أما الحسن فله هيبتي وسؤددي" (مجمع الزوائد للهيثمي ج 9 ص 158، والخصال للصدوق: ص 77) .. في يوم الجمل، يُؤخذ مروان بن الحكم أسيراً، فيستشفع فيه الحسن والحسين (ع) إلى أمير المؤمنين (ع) "فَكَلَّمَاهُ فِيهِ فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَقَالا: لَهُ يُبَايِعُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فقَالَ (ع): أَوَلَمْ يُبَايِعْنِي بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ! لا حَاجَةَ لِي فِي بَيْعَتِهِ؛ إِنَّهَا كَفٌّ يَهُودِيَّةٌ، لَوْ بَايَعَنِي بِكَفِّهِ لَغَدَرَ بِسَبَّتِهِ، أَمَا إِنَّ لَهُ إِمْرَةً كَلَعْقَةِ الْكَلْبِ أَنْفَهُ، وَهُوَ أَبُو الأَكْبُشِ الأَرْبَعَةِ، وَسَتَلْقَى الأُمَّةُ مِنْهُ وَمِنْ وَلَدِهِ يَوْماً أَحْمَرَ" (نهج البلاغة: الخطبة 73).

لقد كانت نظرة الإمام الحسن (ع) تخضع للمبادئ العليا، ولا يحيد عنها جانباً.. وقد سأله شخص عن رأيه في السياسة؛ فقال: >هي أن ترعى حقوق الله، وحقوق الأحياء، وحقوق الأموات، فأما حقوق الله: فأداء ما طلب، والاجتناب عما نهى. وأما حقوق الأحياء: فهي أن تقوم بواجبك نحو إخوانك، ولا تتأخر عن خدمة أمتك وأن تخلص لولي الأمر ما أخلص لأمته، وأن ترفع عقيرتك في وجهه إذا ما حاد عن الطريق السوي. أما حقوق الأموات: فهي أن تذكر خيراتهم وتتغاضى عن مساوئهم، فإنّ لهم رباً يحاسبهم<.

وقال له معاوية يوماً: ما يجب لنا في سلطاننا؟
فقال (ع): "ما قال سليمان بن داود".
قال معاوية: وما قال سليمان بن داود؟!
قال: "إنه قال لبعض أصحابه، أتدري ما يجب على الملك في ملكه، وما لا يضره إذا أدى الذي عليه منه: إذا خاف الله في السر والعلانية، وعدل في الغضب والرضا، وقصد في الفقر والغنى، ولم يأخذ الأموال غصباً، ولم يأكلها إسرافاً وتبذيراً، لم يضره ما تمتع به من دنياه إذا كان ذلك من خلته".

وكل ذلك تماشياً مع الروح القرآنية التي أصَّلت دور العمل الصالح في حياة الفرد والأمة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ}، وإشارة أخرى واضحة صريحة، موجهة إلى المؤمنين أنفسهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ}.

لقد كان الإمام الحسن (ع) عقلاً يتجسد بالحكمة، وحلماً يتجسد بالأمل.. إنه يتحدث عن العقل، فيقول: "لا أدب لمن لا عقل له"؛ لأنَّ الأدب هو أسلوب حركة الإنسان في الحياة، ولا ينظمه إلا بالعقل.
فإذا أردت أن تعرف عقل إنسان ما، فاعرف كيف يعاشر النّاس، يقول (ع): "رأس العقل معاشرة الناس بالجميل"، فهل تعاشر الناس بالجميل من أخلاقك وكلماتك ومزاجك، أو تعاشرهم بالقبيح؟! إنَّ من يعاشر الناس بالقبيح فإنه يعزل نفسه عنهم، ويعزلهم عنه، فلا يفيد ولا يستفيد، بينما إذا عاشر الناس بالجميل، فتحوا له عقولهم، كما فتحوا له قلوبهم وحياتهم، في نفس الوقت الذي ففتحت لهم قلبك وعقلك وحياتك.

ولهذا كان (ع) يكره استبداد الآخرين لعقول الناس، وكان شعاره في هذا أهمية المشاورة بين الناس، لأنَّ به رشاد أمرهم؛ يقول (ع): "ما تشاور قومٌ إلا هدوا إلى رشدهم"، فهو يلفت الانتباه إلى أنّ الشورى هو أن تضمَّ عقل الآخرين إلى عقلك، وخبرتهم إلى خبرتك، وتفتح بذلك الباب الذي قد تظنه مغلقاً.

وها هو الإمام الحسن (ع) مسجّى على فراش الموت، والسم يدبّ في مفاصله كلها، فيأتيه أحد أصحابه، فيقول: عظني يا ابن رسول الله.

ولا يبخل الإمام (ع)، وفي هذه الشدة، فيقدم لهذا السائل ما يريده من موعظة بليغة، فيقول (ع):

1- "استعدّ لسفرك".
2- "وحصّل زادك قبل حلول أجلك".
3- "واعلم أنك تطلب الدنيا والموت يطلبك ..".
4- "ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه ..".. أي: فكّر في همّ هذا اليوم قبل أن يأتي اليوم الآخر، لأنّ لليوم الآخر هماً تتكفّل لحظات الزمن في معالجته.
5 - "واعلم أنك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلا كنت فيه خازناً لغيرك ..".. أي: لا تتحرّك من دون ضوابط في مصيرك لتترك المال من بعدك وقد خلطت حلاله بحرامه، وابتعدت عن مسؤولياتك من أجل أن تخزنه للآخرين.
6- "واعلم أنّ الدنيا في حلالها حساب".
7- "وفي حرامها عقاب".
8- "وفي الشبهات عتاب".
9- "فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة فخذ منها ما يكفيك، فإن كان حلالاً كنت قد زهدت فيه، وإن كان حراماً لم يكن في وزر فأخذت منه، وإن كان العتاب فالعتاب يسير".
10- "واعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً
11- "وإذا أردت عزاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فاخرج من ذل معصية الله إلى عزّ طاعته".
12- "وإذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أردت معونة أعانك، وإن قلت صدّق قولك، وإن صلت شدّ صولك، وإن مددت يدك بفضل مدّها، وإن بدت منك ثلمة سدّها، وإن رأى منك حسنة عدّها، وإن سألته أعطاك، وإن سكتّ عنه ابتداك، وإن نزلت بك إحدى الملمّات واساك من لا تأتيك منه البوائق ولا تختلف عليك منه الطرائف ولا يخذلك عند الحقائق، وإن تنازعتما منقسماً آثرك".

نعم، "من أراد عزاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان، فلينتقل من ذل معصية الله إلى عز طاعته"، فكن العزيز بطاعتك لربك والتزامك خط ربك، وكن العزيز بأن تستمد العزة من ربك.

وقد أخذ هذه الفكرة الإمام زين العابدين (ع) في دعائه: "واعصمني من أن أظن بذي عدم خساسة، أو أظن بصاحب ثروة فضلاً، فإن الشريف من شرّفته طاعتك، والعزيز من أعزته عبادتك".

فالسلام على الإمام الحسن (ع) يوم وُلد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.

محرم 1447 في الصحافة الكويتية