**الإنسان بين حجة ظاهرة وأخرى باطنة**
(حركة العقل والنص عند المسلم)
// سأل أحد
أئمة اللغة، وهو يعقوب بن إسحاق بن السكيت (ت 244هـ)،
الإمام علي بن محمد الهادي (ع) حفيد النبي (ص): لِمَاذَا بَعَثَ اللهُ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ (ع) بِالْعَصَا وَيَدِهِ الْبَيْضَاءِ وَآلَةِ السِّحْرِ،
وَبَعَثَ عِيسَى (ع) بِآلَةِ الطِّبِّ، وَبَعَثَ مُحَمَّدًا (ص) بِالْكَلَامِ وَالْخُطَبِ؟
فأجابه الإمام الهادي (ع) قائلًا: "إِنَّ اللهَ لَمَّا بَعَثَ مُوسَى (ع) كَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِ السِّحْرَ، فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِمْ مِثْلُهُ، وَمَا أَبْطَلَ بِهِ سِحْرَهُمْ، وَأَثْبَتَ بِهِ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ؛ وَإِنَّ اللهَ بَعَثَ عِيسَى (ع) فِي وَقْتٍ قَدْ ظَهَرَتْ فِيهِ الزَّمَانَاتُ (الأمراض)، وَاحْتَاجَ النَّاسُ إِلَى الطِّبِّ، فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِثْلُهُ، وَبِمَا أَحْيَا لَهُمُ الْمَوْتَى وَأَبْرَأَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِ اللهِ، وَأَثْبَتَ بِهِ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ؛ وَإِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا (ص) فِي وَقْتٍ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِ الْخُطَبَ وَالْكَلَامَ -وَأَظُنُّهُ قَالَ: الشِّعْرَ- فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ مِنْ مَوَاعِظِهِ وَحِكَمِهِ مَا أَبْطَلَ بِهِ قَوْلَـهُمْ، وَأَثْبَتَ بِهِ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ".
فسأله ابن السِّكِّيت: فَمَا الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ الْيَوْمَ؟!
فأجابه (ع): "الْعَقْلُ؛ يُعْرَفُ بِهِ الصَّادِقَ عَلَى اللهِ فَيُصَدِّقُهُ، وَالْكَاذِبَ عَلَى اللهِ فَيُكَذِّبُهُ".
وفي
حديث العقل للإمام موسى الكاظم (ع) قال: "إِنَّ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ: حُجَّةً
ظَاهِرَةً، وَحُجَّةً بَاطِنَةً، فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ
وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْأَئِمَّةُ، وَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَالْعُقُولُ".
فالعقل هو حجةٌ مِن الله على الناس.
وهو شعار القرآن وشعار الأنبياء، وشعار أتباعهم، ويجب علينا -كأتباع لهذه الديانات- أن
لا
نتحرك في حياتنا في خطِّ غرائزنا وعواطفنا، بل نتحرك من خلال عقولنا، فـ"لَا يَغُشُّ الْعَقْلُ مَنِ اسْتَنْصَحَهُ".
واعتبر الشريف المرتضى
(ت 436 هـ / 1044 م) أنَّ دليل العقل ليس فيه (احتمال ومجاز وتأويل)، خلافًا للنص،
ومن
ثم لا بدَّ من صرف كلِّ ظاهر للنص بما يوافق دليل العقل
(أمالي الشريف المرتضى: ج 2 ص 125 - 126). وأضاف قائلًا: "رددنا كلَّ مشتبه من آيات وغيرها إلى أدلة العقول لأنها أصل"
(رسائل الشريف المرتضى: ج 2 ص 56).
فقد جاء على لسانه قوله وهو بصدد
تأويل الآية في قصة النبي يوسف (ع): {وَلَقَدْ
هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ
لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُخْلَصِينَ} (يوسف:
24): "إنه إذا
ثبت بأدلة العقول التي لا يدخلها الاحتمال والمجاز ووجوه التأويلات أن المعاصي لا
تجوز على الأنبياء (ع)، صرفنا كل ما ورد ظاهره بخلاف ذلك من كتاب أو سنة إلى ما
يطابق الأدلة ويوافقها كما يُفعل مثل ذلك في ما يرد بظاهره مخالفًا تدل عليه
العقول من صفاته تعالى وما يجوز عليه أو لا يجوز" (رسائل الشريف المرتضى،
ج1، ص121).
وقال -أيضًا- وهو بصدد البحث عن عصمة
الأنبياء: "اعلم أنَّ الأدلة العقلية إذا كانت دالة على أنَّ الأنبياء عليهم
السلام لا يجوز أن يواقعوا شيئًا من الذنوب صغيرًا وكبيرًا، فالواجب القطع على
ذلك، ولا يرجع عنه بظواهر الكتاب، لأنها إما أن تكون محتملة مشتركة، أو تكون ظاهرًا
خالصًا، لما دلت العقول على خلافه، لأنها إذا كانت محتملة حملناها على الوجه
المطابق للحق الذي هو أحد محتملاتها، وإن كانت غير محتملة عدلنا عن ظواهرها وقطعنا
على أنه تعالى أراد غير ما يقتضيه الظاهر مما يوافق الحق" (رسائل الشريف المرتضى: ج 2 ص 56).
وهو نفس ما قرَّره تلميذه الشيخ أبو جعفر الطوسي (ت 460هـ/ 1050م)، إذ أكدَّ هذا المعنى وهو أنَّ ظواهر النصوص
تُبنى
على أدلة العقول لا العكس، وبالتالي لا بدَّ من تأويل هذه الظواهر عند معارضتها
للعقل (الاقتصاد في الاعتقاد: ص 162؛ الرسائل العشر: ص 325).
من هذا
المنطلق نقول: إنَّ المهمة الأهم والأخطر للعقل، وللتفكير العقلي،
أنه يشكِّل مصفاة للنص ومعيارًا في قبوله أو رفضه، إن لم يكن النص ذا مستند قطعي،
أو تأويله إن كان كذلك؛ لأنَّ العقل عندما تتوفر شروط فعاليته بأن يكون قطعيًا وبعيدًا
عن الهوى والمؤثرات، فإنه يعتبر وحيًا داخليًا؛ كما جاء في الحديث بأنَّ العقل حجة
باطنة، بحيث إنَّ الله سبحانه وتعالى يحتجُّ على الإنسان بما يدركه
عقله، فالعقل هو الرسول الداخلي، مما يجعل من العقل أساس حجية النص والوحي، ولا
يمكن بناء أو تشكيل معرفة دينية إلا على أساس العقل.
فالعلاقة الوثيقة بين العقل والوحي
لبيان أنَّ الهدف الأساس لانبعاث الرسل تكميل عقول الناس، يقول الإمام موسى الكاظم
(ع): "يَا هِشَامُ، مَا بَعَثَ اللهُ
أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ إِلَى عِبَادِهِ إِلَّا لِيَعْقِلُوا عَنِ اللهِ،
فَأَحْسَنُهُمُ اسْتِجَابَةً أَحْسَنُهُمْ مَعْرِفَةً، وَأَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ
اللهِ أَحْسَنُهُمْ عَقْلًا، وَأَكْمَلُهُمْ عَقْلًا أَرْفَعُهُمْ دَرَجَةً فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ".
فإذا أردت أن تؤكد مرجعية (نص) من النصوص فعليك أن تدرسه دراسة تعقل؛ لأنك لا
تستطيع
أن ترتبط بأيِّ نص من دون وعي!!
ويذهب
المرجع السيد محمد حسين فضل الله (رحمه الله) إلى أنَّ هذا التمايز (أي بين النص
والعقل) لا يصل إلى مستوى القطيعة أو التضاد والتناقض المنطقي بين المنهجين، بل إنَّ
افتراض هذا التنافر أو التضاد بين المنهجين -كما يبدو من بعض المثقَّفين- ليس بريئًا،
ولا هو مجرد اشتباه، بل هو متعمَّد، يهدف إلى الإيحاء بأنَّ إتباع النص الديني هو
عمل غير عقلائي، ولا يملك مشروعية في نظر العقل. ووجه الخلل أو المغالطة في افتراض
التضاد بين المنهجين المشار إليهما، كأنما هما خطان متوازيان لا يلتقيان، واضحٌ لا
يكاد يخفى؛ فإنَّ العقل هو الذي يقود إلى الإيمان بالوحي، وهو الذي أرسى أساس حجية
النص، فكيف ينافيه أو يضاده؟! وهل ينافي أو ينفي الشيء ذاته؟! وفي المقابل فإنَّ
الوحي يلعب دورًا مهمًا في مؤازرة العقل وترشيده وإعادته إلى صفائه الفطري عندما
تعلوه التراكمات وتغزوه المؤثرات فتشوش رؤيته وتعرقل فاعليته وتمنعه من بلوغ
غاياته في اكتشاف الحقائق. وقد كان أمير المؤمنين (ع) واضحًا عندما أكّد على أنَّ
واحدة من مهام الأنبياء والرسل أنهم ينفضون، الغبار ويزيلون الركام عن العقل، قال
(ع) في أول خطبة من خطب نهج البلاغة، وهو بصدد بيان مهام الأنبياء ووظائفهم: "ويثيروا لهم -أي للناس- دفائن العقول" .. وقد نبهت العديد من
الروايات إلى ضرورة التفريق بين (العقل) و(الشيطنة)، وعدم الخلط بينهما، في إشارة
واضحة إلى إمكانية انحراف العقل أو تشابه الأمور بين مقتضيات العقل والوساوس
الشيطانية. ففي الحديث عن الإمام الصادق (ع)، وقد سئل عن العقل؟ قال: "ما عبد به الرحمن، واكتسب به الجنان". وهنا
سأله الراوي عمّا كان لدى معاوية، وهو المعروف بدهائه، فقال (ع): "تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست
بالعقل" (راجع: العقل والنص، علاقة تكامل لا
تقابل).
ولهذا فإننا نلاحظ في خطاب القرآن
الكريم للعقل، له أطوار ثلاثة يمر بها كل عقل سليم:
1.
الفكر والتأمل وإطالة النظر، وإلى
هذه المرحلة يخاطب القرآن الكريم الناس بنحو قوله: {قُلِ
انظُرُوا}، وقوله: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا}، وقوله: {أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا}.
2.
فإذا انتهى العقل من تأمله وبحثه،
ووصل إلى الحقيقة خاطبه بلفظ العقل كما قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، وقوله تعالى: {ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ} أي لا يستطيعون أن
يدركوا الحقائق بعد البحث والروية.
3.
وبعد أن يستخلص العقل النتيجة،
خاطبه باللب كما قال تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}، وقوله تعالى: {إِنَّ فِي
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ
لِّأُولِي الْأَلْبَابِ}.
ومع أهمية العقل من خلال البحث
والتأمل والوصول إلى نتيجة الأشياء، نلاحظ -أيضًا- أنَّ القرآن الكريم حرص على أن
يذكِّر الإنسان بأنَّ ثمة موانع تحول بينه وبين ما يريده الله تعالى له من سبر الأغوار
والوصول إلى اليقين، وهذه الموانع هي:
1.
تقليد الآباء
والعشيرة:
فإنَّ حبهم قد يُنسي الأبناء التفكير في كثير من القضايا، فيندفعون مقلدين لمن يحبون
بغير تفكر وروية، وقد حكى القرآن الكريم عن قوم قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا
آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: 22)، تلك هي المشاعر
النفسية التي يتكون منها المزاج وفيها يستقر الماضي، وكأنَّ الآية الكريمة تعبِّر
عن دقة ما انتهى إليه علماء النفس من أنَّ الانسان ابن أبويه وابن شعبه أيضًا، قال
تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا
أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا
يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170).
2.
تقليد الوجهاء: فكثير منا ينقاد وراء الوجيه
في قومه؛ ظنًا منه أنه المثل والقدوة التي ينبغي أن يحتذي به، ويأخذ كلَّ شيء منه
على أنه الصواب، دون تفكير وتعمق، وهذا خطأ بلا شك؛ لأنه بشر يصيب ويخطئ، فعلى
المكلَّف أن يستخدم عقله ليميز بين الخطأ والصواب، وألا يكون مفتونًا بالآخر، وقد نبهنا
القرآن الكريم إلى هذه النقطة المهمة: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا
فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} (الأحزاب: 76).
3.
الاستبداد الفكري: متى ما شعر العقل بالملاحقة
والمؤاخذة على تفكيره، أحجم عن التفاعل واحتفظ برأيه في داخله، وربما مع مرور
الأيام تعطَّل عن التفكير، نتيجة هذا الإرهاب المتسلط عليه، وقد ضرب لنا الله سبحانه
هذا في قصة فرعون الذي أعلنها قائلاً: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا
أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} (غافر: 29).. إنَّ آفة العقل وضرره
يأتي نتيجة تعطيله وجموده على حالة واحدة، فيمتنع عندئذ العقل أن يبعث حياة.
وهكذا نقف أيضًا على قاعدة عامة في الحياة: إذا أردت أن تؤكد مرجعية (شخص) فكريًا
وثقافيًا ودينيًا، فإنَّ عليك أن تدرسه
وتتبصَّره بشكل موضوعي وبعيدًا عن الشخصانية المقيتة؛ لأنَّك لا تستطيع أن ترتبط بأيِّ إنسان باسم الله، إلا
بعد
أن تدرس كل عناصر شخصيته،
ولا تستطيع أن تحكم على شخص بحيادية ما لم تتجرد من شخصانيتك تجاهه ..
إنَّ
الباحث العلمي هو الذي يأخذ بيد قارئه أو محاوره، ويضعه على الأبواب الصحيحة
المبوبة، الذي لا ارتباك فيها ولا غموض ولا فوضى، فهو إنسان منظم، يضع آراءه
بطريقة مفروزة ومنتظمة، غير متطرفة ولا حادة، أو قطعية؛ لأنه شخص بارد معتدل، صبور
ومتأني، فلا يحق له أن يأخذ جانب عواطفه وحماسته على حساب الاعتدال.
وللأسف إنَّ مجتمعاتنا ضائعة في مسألة من
يقود فكرها، لأننا لا زلنا نعيش التفكير على الطريقة القبلية والعشائرية
والعصبوية، فهي التي تحدد موقفنا من الأشخاص سلبًا أو إيجابًا.
وقد أوصى الإمام علي بن أبي طالب (ع) تلميذه عبد الله بن عباس فقال: "فَلا يَكُنْ أَفْضَلَ مَا نِلْتَ فِي نَفْسِكَ مِنْ دُنْيَاكَ بُلُوغُ لَذَّةٍ أَوْ شِفَاءُ غَيْظٍ وَلَكِنْ إِطْفَاءُ بَاطِلٍ وَإِحْيَاءُ حَقٍّ".