الثلاثاء، 2 يونيو 2020


تقريظ معجم معالم فقه المناسك

 

الأستاذ الفقيه الدكتور عبد الهادي الفضلي

 

كان العرب قبل الإسلام ينزعون إلى البداوة أكثر منهم إلى الحضارة، فلم يكن فيهم آنذاك من يحسن القراءة والكتابة إلاّ القلة من الناس، كما لم يكن فيهم من يلم باللغات الأخرى المعاصرة وقتذاك كالعبرانية والسريانية والفارسية والرومية إلاّ النزر النادر.

 

ولهذا لم يؤثر عنهم تدوين شيء من الكتب تأليفًا أو ترجمة، وأول كتاب كان باللغة العربية هو القرآن الكريم، وبنزوله من الله تعالى على نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) فجّر الطاقات الذهنية العربية، فكان الإسلام ومن حين بدايات نزول القرآن الكريم النقلة الثقافية الشاملة لكل معالم الواقع الاجتماعي العربي، فقد ذهب المسلمون العرب وغير العرب، وبكل جد وإخلاص، يتعاضدون في بناء صرح حضارة القرآن الكريم، ومن ثم بناء الحضارة الإسلامية بعامة، فكتبوا في تفسير القرآن الكريم وعلومه، وفي شرح الحديث الشريف وعلومه.

 

ولأنّ القرآن والحديث عربيا اللسان انطلق العلماء المسلمون -عربًا ومستعربين- إلى دراسة اللغة العربية بوضع علومها وتدوين آدابها في الشعر والنثر والبحث فيها من مختلف جوانبها، وقد كانت بدايات هذا في النصف الأول من القرن الأول الهجري حيث وضع أبو الأسود الدؤلي بإرشاد وتعليم الإمام أمير المؤمنين (ع) علم النحو، وهو أهم علم يستعان به في فهم معاني نصوص الكتاب والسنة، فقد انصبّت قواعده على دراسة وظيفة الكلمة في الجملة، ووظيفة الجملة في سياق الكلام، عن طريق وسيلة الإعراب الوظيفي(1).

 

ولأنّ اللغة العربية من اللغات الموفورة في ألفاظها ومفرداتها، وفيها الحقيقة والمجاز، والمترادف والمشترك، والمشتق والجامد، والمأنوس الاستعمال والنادر الاستخدام.. وهذا وأمثاله موجود في القرآن الكريم والحديث الشريف والشعر والخطب والأمثال وسواها، كانت الحاجة - حضاريًا - تدعو إلى وضع المعجم اللغوي العربي، ومنذ البدء، وقد انبرى لذلك عبقري اللغة العربية الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175هـ) فوضع كتابه الموسوم بـ(العين) الذي كشف في إعداده وتدوينه عن ذهنية رياضية قليلة النظير في عالمنا العربي وعن موسوعية شمولية في معرفة الألفاظ العربية - مستعملة ومهملة - بما لا يماثله في وقته عالم عربي آخر.

 

وكان معجم العين الرائد الصادق الذي فتح الباب ومهد الطريق لتتواتر وتتوافر المعاجم العربية اللغوية وغير اللغوية، فقد سايرت - ومنذ القرنين الثالث والرابع الهجريين - المعاجم العربية اللغوية معجماتٌ كثر في العلوم الشرعية، لا سيما في علوم الحديث من رواية ورجال، وهذا من مثل ما ذكره حاجي خليفة في كتابة (كشف الظنون: مادة معجم)، ومنه:

 

- معجم الشيوخ، لأبي الحسين عبد الباقي بن قانع (ت 351هـ).

- معجم الشيوخ، لأبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي (ت 371هـ).

- معجم الشيوخ، لابن شاهين عمر بن عثمان البغدادي (ت 385هـ).

- معجم الصحابة، لابن لال أحمد بن علي الهمداني الشافعي (ت 398هـ).

- المعجم الكبير والصغير والأوسط في الحديث، لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (ت 360هـ).

- المعجم الكبير والصغير والأوسط في قراءات القرآن وأسمائه، لأبي بكر محمد بن الحسن المعروف بالنقاش الموصلي (ت 351هـ).

 

ومن تسمية هذه الكتب المذكورة في أعلاه بالمعجم انتقل الاسم إلى كتب متون اللغة العربية، فلم يعهد في كتب الرواد الأوائل كالفراهيدي وابن دريد والأزهري والجوهري أن سميت باسم المعجم.

 

والمعجم في ثقافتنا العربية يعني ما يراد به في الثقافات الأخرى، وهو ما يقابل dictionary في اللغة الإنجليزية و dictionnaire في اللغة الفرنسية وفرهنـگ في اللغة الفارسية و worterbuch في اللغة الألمانية.

 

وهو ما يقوم بتوضيح معاني المفردات اللغوية والمصطلحات العلمية والمواضع الجغرافية والخ.

 

ومع التعمق في التمدن، وبسبب التفاعل الحضاري بين حضارتنا العربية والحضارات الأخرى وبخاصة الغربية منها توسعنا في مساحة المعجم إلى ما يعرف بدوائر المعارف والموسوعات العامة.

 

وهذه: المعجم dictionary ودائرة المعارف أو الموسوعات العامة encyclopedia تمثل الوجه الحضاري المشرق للأمم المتحضرة.

 

وبمقدار ما فيها من الأصالة والشمولية يقاس مستوى رقي الأمة مدنيًا وعراقتها حضاريًا.

 

وقد قطع العرب شوطًا موفقًا في هذا منذ القرن الثاني الهجري حتى يومنا هذا فأثروا المكتبة العربية بالنتاج المعجمي، وبمختلف أنماطه وألوانه إلاّ ما قد يؤخذ عليهم من عدم وجود المعجم التأثيلي والمعجم التطوري الدلالي، والسير ببطء في إعداد دوائر المعارف.

 

ومما هو جديد في أوساطنا الحوزوية غير قليل من هذا، أمثال:

 

- معجم رجال الحديث، السيد أبو القاسم الخوئي.

- معجم فقه الجواهر، مؤسسة معارف الفقه الإسلامي طبقًا لمذهب أهل البيت (ع).

- الموسوعة الفقهية الميسرة، الشيخ محمد علي الأنصاري.

- مصطلحات الفقه، الشيخ المشكيني.

- معجم ألفاظ الفقه الجعفري، الدكتور أحمد فتح الله.

وغيرها مما لا تحضرني أسماؤها الآن.

 

ومنها هذا المعجم الذي بين يدينا، وهو تأليف أخينا العزيز العلامة المحقق الشيخ حسين المصطفى.

 

ولأنّ النصوص العربية الإسلامية كالكتاب والسنة والنصوص العربية الأخرى كالشعر والأمثال والخطب، والنصوص والنقوش التاريخية العربية تحتوي أسماء أماكن ومواضع جغرافية، لا غنى عن معرفتها، لأنّ سياق ورودها فيما أشرت إليه من نصوص يتطلب ذلك، كان من العلماء العرب من قام بالكتابة في ذلك، ومن أقدم ما وصل إلينا منه كتاب أبي عبيد البكري (ت 487هـ) المسمى (معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع)، وهي تمثل الريادة في التأليف في الأماكن والمواضع.

 

وفي عصرنا هذا كتب غير واحد في هذا الحقل، ومن أشهر ما ألف عن المواضع في جزيرة العرب:

 

- المعجم الجغرافي، الشيخ حمد الجاسر.

- معجم معالم الحجاز، المقدم عاتق بن غيث البلادي.

 

وعندما قمت بتحقيق كتاب (هداية الناسكين من الحجاج والمعتمرين) للفقيه الإمامي الشيخ محمد حسن النجفي اكتشفت أننا بحاجة ماسة من ناحية علمية لوضع معجم جغرافي - فقهي لأسماء المواضع التي وردت في الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت (ع)، وفي مدونات وكتب فقهاء مدرستهم، ليسد فراغًا كبيرًا يعاني منه من يريد البحث عن تعريف موضع جاء ذكر اسمه في متن رواية أو نص فقهي في أحد كتب الفقه، وقد يُعثر على تعريف له في أحد المعاجم الموجودة، إلاّ أنه لم يعزز بدراسة علمية تكشف وبشكل واضح عن علاقته بمؤدى السياق الذي ورد فيه، وعن مستوى وثاقة النص الذي جاء فيه، وعما يرتبط به من شؤون أخرى ذات مساس بموضوع البحث.

 

وهذه المواضع غير قليلة، وبخاصة في مناسك الحج ومعالم الزيارة في ديار ومنازل الحرمين الشريفين في أرض الحجاز.

 

ولأنّ السابقين الذين كتبوا في الحج وكتبوا في الزيارة، وحققوا في بعض المواضع، لم يأتِ ما كتبوه مستوفيًا للموضوع ولا مستوعبًا لجميع أطرافه يجعل الحاجة العلمية لمثل ذلك لا تزال قائمة، وتتطلب من يقوم بالمهمة.

 

والحمد لله أن تحقق هذا على يد أخينا العزيز الشيخ المصطفى.

 

ومن خلال قراءتي لبعض مواد معجمه رأيته بمستوى المهمة لما يملك من خلفية ثقافية موسوعية، ولتوافر مكتبته الخاصة على مهمات مصادر موضوعه، ولشخصيته العلمية التي لديها القدرة على التحليل والتعليل، والموازنة فالاختيار أو الابتكار.

 

وقد أبان عن خطوات منهجه في مقدمة الكتاب، وبإلقاء نظرة عليه يُقدر له سلامة ونضج المنهج، وابتكاره في خطواته، فهو ينطلق من دراسة المادة المعجمية من النص ثم ينتقل إلى البيانات فالاستدلال للوصول إلى المطلوب.

 

وهو بهذا يختلف عن دراسات الفقهاء في كتبهم الفقهية حيث يأتي اسم الموضع أثناء الموضوع، وذلك لأن وضعية البحث تفرض على الفقيه ذلك.

 

وأيضًا يختلف عن المعجمات اللغوية والمعجمات الجغرافية التي تكتفي بتحديد موقع الموضع وذكر النصوص التي ذكر فيها من شعر وخلافه.

 

فهو - أعني هذا المعجم - يجمع بين الدراسة اللغوية والأخرى الجغرافية والثالثة الفقهية، والدراسة الفقهية هي المقصودة له بالدرجة الأولى، فهو - في الحقيقة - معجم جغرافي - فقهي.

 

ومن غير شك أنه سيكون المصدر المهم في مجاله، وفق الله المؤلف إلى المزيد من هذه الأعمال الجليلة، انه تعالى ولي التوفيق وهو الغاية.

 

الهوامش:

(1) قسمتُ الإعراب العربي في كتابي (دراسات في الإعراب) إلى ثلاثة أقسام هي:

1.     الإعراب الشكلي: وهو النطق بالكلمة في سياق الكلام كما نطق بها العرب الفصحاء من حيث إخراج الحروف من مخارجها وتشكيل كل حرف من حروف الكلمة بشكلية من ضمة أو فتحة أو كسرة أو سكون أو شدّة أو مدّة وكما كان يشكلها العرب الفصحاء.

2.     وهو المقصود في الأحاديث الشريفة الآمرة بإعراب القرآن.

3.     الإعراب الوظيفي: وهو الإعراب الذي يبيّن وظيفة الكلمة في الجملة فيتدخل تدخلًا مباشرًا وأساسيًا في فهم النص.

4.     الإعراب التطبيقي: وهو الإعراب المعروف الذي يستخدم في تدريب الطلاب على فهم قواعد اللغة وحفظها.

**   طبع هذا المعجم في خمسة مجلدات سنة 2010 .. وأفادت وكالة الأنباء القرآنية العالمية (ايقنا): أنَّ الكتاب في 5 مجلدات من الحجم الكبير، وهو عمل إنتاجي رائع له دلالاته ورموزه المعرفية في عموميته أو تخصصه لإثراءه المعارف الإنسانية ورافد مهم لإغناء الثقافة والفكر. ويدور هذا العمل المعجمي والموسوعي حول موضوع معرفي هام مستلٍ من القرآن الكريم ومعارف الشريعة الآلهية وله تشعباته وارتباطاته المختلفة في موضوعاته وهو مرتبط بشكل أساسي ببقعة جغرافية هامة وموضوع له جذره وعمقه في التراث المعرفي للبشرية والمقدس في دياناتها والضارب في عمق التاريخ وبدء تكليف البشرية من لدن آدم عليه السلام ومرورا بالأنبياء عليهم السلام حتى خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام وإلى يومنا هذا. وقد ازدانت هذه الطبعة بمقدمة رائعة لسماحة آية الله الشيخ "عبد الهادي الفضلي" ويجمع هذا المعجم بين الدراسة اللغوية والأخرى الجغرافية والثالثة الفقهية، والدراسة الفقهية هي المقصودة له بالدرجة الأولى، فهو معجم جغرافي فقهي ومن غير شك أنه سيكون المصدر المهم في مجاله.

محرم 1447 في الصحافة الكويتية