أبو بصير زمانه أستاذي الشيخ إبراهيم الغراش
لا يمكن
بأي حال من الأحوال أن تمر ذكريات حياتي دون أن يكون لشخصية سماحة أستاذنا الشيخ
إبراهيم الغراش رحمه الله حضورها القوي في مجريات حياتي العلمية المختلفة.
ففي صيف سنة 1981م، وقبل ذهابي للدراسة الدينية، كانت بداية معرفتي بهذا الشيخ الجليل، وفي عقر داره، ذهبت إليه بتشجيع من صديقي الأستاذ عبد الخالق الموسى، والذي كانت له صلة قوية مع الشيخ رحمه الله..
وبالرغم
من كونه كفيف البصر إلا أنَّ بصيرته كانت طاغية.. لقد استقبلنا بصوته الجهوري
الممزوج بالمرح والوداعة والمحبة والعاطفة، ولما استعلم من صديقي عني باغتني رحمه
الله بسؤال في النحو، فأجبت عليه، فابتسم واستحسن جوابي، ولم أنقطع عن مجلسه
كلما سنحت لي الفرصة لزيارته، فازداد قربي المعنوي من الشيخ شيئًا فشيئًا.. وهكذا
كانت معرفتي بأستاذي العلامة الشيخ إبراهيم الغراش قبل تسعة وثلاثين عامًا مضت.
لقد كان
الشيخ إبراهيم أول من تلمذت عليه مبادئ الفقه في الحوزة العلمية، وكنا نقرأ عليه
المسألة فيفرعها لنا ويشقق مطالبها بمستوى أذهاننا، وكان يستقبل أسئلة تلاميذه وإشكالاتهم
باهتمام كبير، وكان يطرب للسؤال أو الإشكال العميق، وكلما داهمه إشكال لا يعرف
الإجابة عليه طلب منهم المهلة لكي يراجع، وربما قصد أساتذته في اليوم الثاني من
أجل مناقشتهم في إشكال طرحه عليه تلميذ من تلامذته.
وكلما التقيت به وجلست في محضره
للاستفادة منه، استذكرت فيه مقولة سيدتنا الزهراء عليها السلام: "فجعل الله
الإيمان تطهيرًا لكم من الشرك". وكأنه يقول لي: أن ترى البصيرة داخل قلبك حتى
لو كنت أعمى البصر، فإنَّ هذا يمنحك الإحساس بوحدانية السر الذي يرتكز الكون كله
عليه. فطهِّر قلبك من النوايا الخبيثة، فلو غسَّل مَنْ في قلبه الحقد بكل مياه
الدنيا لم يطهر! بل بتوبة نصوح.
نعم،
هكذا تعلمت منه وأنا المراقب لأستاذه الكثير من مواهب هذه الشخصية الكبيرة:
أولاً:
الأدب والاحترام الجم للعلماء، وخاصة أساتذته الذين نهل منهم العلم.
ثانيًا:
حرية الفكر وعدم التقليد في القناعات الخاصة.
ثالثًا:
الوقوف على المبادئ بحزم وقوة.
رابعًا:
المجاملة بالصمت؛ لكي لا ينزلق بأخلاقه إلى النفاق.
خامسًا:
الاعتذار بكل رحابة صدر إذا اقتنع بخطئه، ولو كان الاعتذار لتلميذ من تلامذته.
سادسًا:
الممارسة الشديدة في التنقيب والبحث إلى حد الإرهاق، وخاصة إذا داهم عقله إشكال في
مسألة من المسائل العلمية استعصى عليه حله، وقد يسافر إلى منطقة أخرى للبحث فيها
عن إجابة شافية.
سابعًا:
الأريحية مع مريديه وزوار مجلسه، فكان رحمه الله لا يدير بالاً للبروتكولات أو
للمجاملات الزائفة.
ثامنًا:
ولعه الكبير باللغة العربية ودهاليزها، فكان يصحح لمرتادي مجلسه الكثير من الكلمات
التي قد يخطئون في نطقها.. ولي هنا موقف مهم في بدايات دراستي على يديه، حيث
سألته: شيخنا لماذا هذا الاهتمام بتصحيح النطق عند الآخرين؟ فأجابني بجواب علمي
عميق: "إذا لم تُحسن النطق فكيف تُحسن التفكير!!". لقد دفعتني عبارته
المقتضبة العميقة لكي أقرأ في البحوث المطولة والكثيرة عن علاقة اللغة بالتفكير،
وبالبناء المعرفي والحضاري.
تاسعًا:
كان رحمه الله يحب الوضوح في الأفكار، ولا يميل للكثير من الاستغراق في الفهم
الأصولي المعقد الذي يشوش على طالب العلم فهم اللغة وتراكيبها واستعمالاتها، فكان
يطرب للفقيه العميق الذي يمتلك مفاتيح فك الطلاسم بكل جلاء ووضوح، دون الركون إلى
مغالق أخرى. وبسبب هذا امتلك شيخنا ذائقة فقهية ولغوية قلَّ نظيرها في أوساط علماء
الخليج العربي.
ولا أدل
على ذلك أنني ما رأيت أستاذًا من أساتذته أو عالمًا جلس معه في نقاش إلا وأثنى على
ذكائه الحاد، وحافظته الكبيرة، وتفوقه على أقرانه، مع مبادئ استثنائية لا توجد عند
الكثير من أهل العلم.
رغم كل
هذه الصفات إلا أنه رحمه الله عاش غريبًا بين أقرانه، فلم يتحمله الكثير منهم،
وربما هجره الكثير بسبب آرائه المختلفة عنهم، ولما يملكه رحمه الله من صفات لا
تجتمع عادة في رجل واحد، ولا ريب أنَّ الحق مسلكه صعب وطويل وشاق، يتطلب إرادة وشجاعة وبصيرة وعملاً
ووعيًا وإيمانًا وإخلاصًا، وقناعة وموقفًا وحركة وشعارًا، فهو كما يقول الإمام علي
بن أبي طالب (ع): "والحق كله ثقيل، وقد يخفّفه الله على أقوامٍ طلبوا العاقبة
فصبَّروا أنفسهم، ووثقوا بصدق موعود الله لهم".
ولكن
رغم كل ذلك فقد عوَّضه الله سبحانه بالكثير من الشباب الذين حفظوا للشيخ أبوته
وعطفه ومحبته، كما عوَّضه الله بطلبة علوم برّوا له لسنوات طويلة، فكانوا يسهرون
معه وفي خدمته وطوع بنانه، وكان يعتبرهم الأبناء الذين ليسوا من صلبه، وأخص منهم:
الشيخ هيثم الجشي، والشيخ فاضل الجامد، والشيخ منير آل حمود.
أستاذي الجليل ..
سيان عندك
بين الموت والحياة
فإنهما يصحبانك من المهد إلى اللحد، ولكننا ما زلنا نقطف ما زرعته من ورود خلفك
ليقتطفه من يأتي بعدك. فإن كان الموت رحلة إلى الفناء،
فإنَّ هناك رجالاً يخلدون حتى بعد رحيلهم إلى عالم البقاء.
وكلنا سنذوق الموت كما
ذقته قبلنا، ولكن قليل منا من تذوَّق طعم الحياة مثلك؛ لأننا جزعنا من ابتلائها
وجراحها!! .. فلم تنشغل بموتك وفنائك بل انشغلت كيف هي طعم حياتك.
حسين
علي المصطفى
28 /
12 / 1441هـ
18 /
8 / 2020م