الجمعة، 11 ديسمبر 2020


 

ترنيمة محمد للشاعر الألماني غوته (حوار فاطمة وعلي)

 

قد يستغرب القارئ عندما يعلم بأنَّ فيلسوف ألمانيا العظيم وشاعرها (يوهان غوته) يتحدث عن الإسلام وعن أعلامه العظام مثل محمد وعلي وفاطمة، ويتطرق في كتابهِ (الشعر والحقيقة) إلى المؤمن الأول بالرسالة السماوية الى جانب السيدة خديجة ويصف غوته ذلك الإيمان المبدئي من الإمام علي بأنه الانحياز الكلي والمطلق إلى رسالة محمد.

 

والأهم من ذلك فإنَّ غوته والذي عاش بين 1749-1832م كتب مسرحية تفيض رقة وعذوبة تتناول شخصية الرسول العظيم ودور الإمام علي الإيماني الى جانب زوجته فاطمة الزهراء في محاولتها الصادقة والدؤوبة لجعل الدين الجديد ينتشر خارج حدود القبيلة والعشيرة.

 

تقول الأستاذة كاتارينا مومزن أستاذة اللغة والأدب الألماني في جامعة ستانفورد الأمريكية في كتابها (غوته والعالم العربي) وهي تعلق على المسرحية:

"ومن بين الشذرات المتبقية، عبرت، على وجه الخصوص، قصيدة المديح الشهيرة المسماة (نشيد محمد) عن مدى الولاء الذي كان الـشـاعـر الـشـاب يكنه لشخصية النبـي. وكان جوته قد نظمها في ربيع عـام 1773؛ أي بعد أن قام بدراسة كل ما في متناول يده من مؤلفات عـن الـرسـول. وتصور القصيدة النبي، بصفته هاديًا للبشر، في صورة نهر يبدأ بالتـدفـق رفيقًا هادئًا، ثم لا يلبث أن يجيش بشكل مطرد ويتحول في عنـفـوانـه إلـى سيل عارم. وهي تصور اتساع هذا النهر وتعاظم قوته الروحية في زحفها الظافر الرائع لتصبَّ أخيرًا في البحر المحيط، رمز الألوهية. وتقوم هذه الصورة التي رسمها الشاعر على فكرة مفادها أنَّ العبقري الرباني يرى الآخرين أخوة له يأخذ بأيديهم ويشدهم مـعـه، مـنـطـلـقًا بـهـم كالسيل العارم الذي يجرف كل ما يصادفه في طريقه من جداول وأنهار إلى البحر المحيط. وسوف نستشهد هنا بالصيـغـة الأولـى مـن قـصـيـدة المديح هذه، أعني صيغتها التي جاءت على شكل حوار يدور بين فاطمة ابنة النبي الحبيبة، وزوجها علي، الصحابـي الـشـجـاع" (غوته والعالم العربي، كاتارينا مومزن، ترجمة عدنان عباس علي: ص 159).

 

وأثبت هنا بعض ما جاء في المسرحية التي كتبها هذا الأديب العملاق الذي لا يزال تأثيره الفكري والأدبي واضحًا على الثقافة الألمانية والأوربية والعالمية، الذي درس القرآن الكريم وآمن بالكثير من نصوصه، وقد صاغ بعض ذلك شعرًا ونثرًا؛ كقوله: "لله المشرق والمغرب، وفي راحتيهِ الشمال والجنوب جميعًا، هو الحق، وما يشاء بعبادهِ فهو الحق سبحانهُ، لهُ الأسماء الحسنى، وتبارك أسمهُ الحق وتعالى علوًا كبيرًا" (مجلة الفيصل، العدد 92، عام 1984م، ص 60).

 

يقول الأديب الكبير عباس محمود العقاد عن غوته: "وقد كان جيتي ألمانيًا صميمًا في حب التوسع والاطلاع، فنهل من الآداب الشرقية مع الناهلين، وقرأ السيرة النبوية وهو في نحو الرابعة والعشرين، واطَّلع على القرآن وأمعن فيه إمعان الأديب وإمعان الباحث في الأديان، فاصطبغت كتاباته الدينية بصبغة قرآنية كما يرى القارئ في كلامه عن الله ودلائل وجوده، وخرج من هذه الدراسة ينوي أن يكتب رواية شعرية تمثيلية في سيرة النبي العربي، فنظم بعض قصائدها وقسمها إلى فصول: الفصل الأول يبدأ بالمناجاة والاعتكاف واستعراض العبادات الجاهلية وينتهي بالهداية إلى الوحدانية، والفصل الثاني يبدأ بالدعوة وينتهي بالهجرة، والفصل الثالث يبدأ بالنصر وينتهي بتطهير الكعبة من الأصنام، والفصل الرابع يبدأ بالفتوحات وينتهي بالسم! والفصل الأخير تتجلى فيه نفس محمد الربانية بعد أن عرك الدنيا وأخذ منها وأخذت منه، فاستوى على مثاله وارتفع إلى أوج كماله، وتم له حظ الأدبين أدب الأرض وأدب السماء" (تذكار جيتي، عباس محمود العقاد: ص 67).

 

ولنطلع الآن جزء من مسرحيته الخالدة (ترنيمة محمد)، في الجزء الحواري الذي دار بين علي وفاطمة (غوته والعالم العربي، كاتارينا مومزن، ترجمة عدنان عباس علي: ص 159-161):

 

علي: أنظروا الى السيل العارم القوي، قد انحدر من الجبل الشامخ العلي، أبلج متألقًا كأنه الكوكب الدري.

فاطمة: لقد أرضعتهُ من وراء السحاب ملائكة الخير في مهدهِ بين الصخور والأدغال.

علي: وإنه لينهمر من السحاب، مندفعًا في عنفوان الشباب، ولا يزال في انحدارهِ على جلاميد الصخر، يتنزى فائرًا، متوثبًا نحو السماء، مهللاً تهليل الفرح.

فاطمة: جارفًا في طريقهِ الحصى المجزع، والغثاء الأحوى.

علي: وكالقائد المقدام، الجريء الجنان، الثابت الخطى، يجر في أثره جداول الربى والنجاد.

فاطمة: ويبلغ الوادي، فتنفتح الأزهار تحت أقدامه، وتحيا المروج من أنفاسهِ.

علي: لا شيء يستوقفهُ، لا الوادي الوارف الظليل، ولا الأزهار تلتف حول قدميه، وتطوق رجليه، وترمقه بلحاظها الوامقة، بل هو مندفع عجلان صامد الى الوهاد.

فاطمة: وهذه أنهار الوهاد تسعى إليه في سماح ومحبة ومستسلمة له ومندمجة فيه وهذا هو يجري في الوهاد، فخورًا بعبابه السلسال الفضي.

علي: الوهاد والنجاد كلها فخورة به.

فاطمة: وأنهار الوهاد وجداول النجاد، تهلل جميعًا من الفرح متصايحة.

علي وفاطمة (بصوت واحد): خذنا معك، خذنا معك.

فاطمة: خذنا معك إلى البحر المحيط الأزلي، الذي ينتظرنا باسطًا ذراعيه، لقد طال ما بسطهما ليضم أبناء المشتاقين إليه.

علي: وما كان هذا الفيض كله ليبقى مقصورًا على الصحراء الجرداء، ما كان هذا الفيض ليفيض في رمال الرمضاء، وتمتصه الشمس الصالبة في كبد السماء، ويصده الكثيب عن الكثبان، فيلبث عنده غديرًا راكدًا من الغدران، أيها السيل خذ معك أنهار الوهاد.

فاطمة: وجداول النجاد.

علي وفاطمة (في صوت واحد): خذنا معك، خذنا معك.

علي: هلّم جميعًا، هوذا العباب يطمُّ ويزخر، ويزداد عظمة على عظمة، هوذا شعب بأسره وعلى رأسه زعيمه الأكبر، مرتفعًا الى أوج العلا، وهو في زحفهِ الظافر يجوب الآفاق ويخلع أسماء على الأقطار، وتنشأ عند قدميهِ المدائن والأمصار.

فاطمة: ولكنه ماضٍ قُدمًا لا يلوي على شيء، لا على المدائن الزاهرة، ولا على الأبراج المشيّدة، أو القباب المتوهجة الذرى، ولا على صروح المرمر، وكلها من آثار فضلهِ.

علي: وعلى متن عبابه الجبار تجري منشآت السفن كالأعلام، شارعة أشرعتها الخافقة إلى السماء، شاهدة على قوته وعظمته، وهكذا يمضي السيل العظيم الى الأمام بأبنائه.

فاطمة: ويمضي الى الأمام ببنانه.

علي وفاطمة (في صوت واحد): إلى أبيهم، ذلك البحر العظيم، الذي ينتظرهم ليضمهم إلى صدره، وهو يهلل ويكبر زاخرًا بالفرح العميم.

 

لقد جاء غوته الأوروبي ليتذوق نكهة الشرقي الإسلامي والعربي بعطره ورونقه، على عكس الكثير من الأدباء والشعراء الذين نظروا إلى الإسلام نظرة منغلقة، جاء الشاعر العملاق غوته ليمزج شعره بنور القرآن وروحه، ولينهل من سيرة النبي محمد درسًا مهمًا في التسامح والمحبة..

 

فلم يكن غوته حبيس ثقافة واحدة، وإنما اضطلع على ثقافات متعددة كاليونانية والصينية والفرنسية والفارسية والعربية، وغيرها من الثقافات.. فهو يصف اللغة العربية مثلاً بقوله: و"ربما لم يحدث في أي لغة هذا القدر من الانسجام بين الروح والكلمة والخط مثلما حدث في اللغة العربية".

 

وعلى عكس أدباء وفلاسفة نظروا إلى الإسلام نظرة سلبية، كدين منغلق وغير منفتح على الحوار مع الشعوب الأخرى. حيث يشرح الدكتور عبد الرحمن طنكول العميد السابق لكلية الآداب في جامعة فاس والناقد المغربي الذي يرى أنَّ هذا الدفء امتد إلى الشعر الأوروبي ككل، وعن ذلك يقول: "لقد قام غوته بقطيعة مع ما يسيء للمنطقة العربية والإسلامية، فقدم قراءة خاصة للمشرق ككيان جغرافي وروحي بما يتميز من خيال وروحانيات وإشراقات مضيئة تتعارض مع النظرة التشاؤمية"، و"غوته هو من الشعراء الألمان والأوروبيين القلائل الذين استطاعوا أن يعلوا بالمدرسة الشعرية الألمانية والأوروبية بفضل التأثير المشرقي" (صحيفة العرب الإلكترونية: السبت 9 / 5 / 2020).

 

 

محرم 1447 في الصحافة الكويتية