اليهود وحركة النفاق رؤية
قرآنية (الصراع اليهودي الإسلامي)
النفاق انحراف خُلقي خطير في حياة الفرد، وفي حياة الأمم، وهو وجود حركي
مضاد في داخل المجتمع الإسلامي، فهو الخط الذي يكيد للإسلام وللحركات الإصلاحية في
المجتمع بسبب ازدواجية المظاهر وتلونها حسب ما تتحرك فيه مسيرة الإصلاح.
ولهذا يختلف كيد المنافق عن كيد الكافر، فإنّ الكافر لا يُسمح له أن
يتصرف ضد الإسلام بحرية؛ لأنّ الحاجز الديني الداخلي يدفع إلى الرفض السريع -اللاشعوري-
تبعًا للخط العام الذي يرفض الخط الكافر، على خلاف الذين يعلنون الإسلام ظاهرًا،
فإنّهم يملكون شرعية المسلم في حماية المجتمع له، فيندفعون في الساحة، ويتوجهون
للعمل من منطلق هذا الإيحاء، ومثلهم مثل من يمسك العصا من الوسط.
ومن هنا نُدرك خطورة النفاق على الأمة، بل أكثر أضرار الأمة نتيجة تحرك
هذا الخط المنحرف، وقد استعانت المخابرات الاستعمارية بطاقات المسلمين للتجسس على
مقدرات الشعوب الإسلامية.
يقول أمير المؤمنين (ع): >ولقد قال لي
رسول الله (ص): إنّي لا أخاف على أمتي مؤمنًا ولا مشركًا، أما المؤمن فيمنعه الله
بإيمانه، وأما المشرك فيقمعه الله بشركه، ولكني أخاف عليكم كل منافق الجنان، عالم
اللسان، يقول ما تعرفون، ويفعل ما تنكرون< (نهج البلاغة: الخطبة 266).
ولقد عرّى القرآن الكريم حقيقة المنافقين، وكشف أساليبهم وأوصافهم،
وشدّد على محاربتهم بالوسائل الناجحة، وقد ذكرهم في أكثر من ثلاث عشرة سورة، وفيما
يقرب من خمسين آية، صنّف فيها أكاذيبهم، ومساوئ أخلاقهم، وخداعهم، ودسائسهم،
والفتن التي افتعلوها ضد الإسلام، فلم ينل المشركون واليهود والنصارى من دين الله
ما نالوه، وكفى تخصيص القرآن لهم بأنّهم العدو الحقيقي {هُمُ
الْعدُوُّ فَأحْذَرْهُمْ} (المنافقون: 4).
ويشير القرآن الكريم إلى
واقع اليهود العملي المنحرف الذي كان يعيشونه في عصر دعوة النبي محمد (ص)؛ فقد
جعلوا من أنفسهم حماة الدين والشريعة، وقادة البشر إلى الخير، وذلك من خلال الدور
الذي فرضوه لأنفسهم، ولكنهم كانوا خائنين في ممارساتهم العملية، فكانوا بمنـزلة
الذين ينسون مسؤولية حساب أنفسهم، فلا يعيشون قلق المصير في الدنيا والآخرة، بينما
نراهم يثيرون القلق والتخويف والمسؤولية عند الناس في حياتهم العامة، وهذا ما جاء
في قوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النّاس بِالْبِرِّ
وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾
(البقرة: 44).
لقد كان اليهود عبئًا ثقيلًا على كل
مجتمع حلوا فيه، منذ عهد الأنبياء الأوائل كما حكى بذلك القرآن الكريم: {الَّذِينَ
قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى
يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}
(آل عمران: 183). وما قاله الإنجيل على
لسان السيد المسيح (ع): "يَا
أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ
الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا
تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا" (متى: 23 : 37).
ويقول مارتن لوثر (ت 18 فبراير 1546م): "من ذا الذي يمنع
اليهود من أن يعودوا إلى أرضهم في يهوذا؟ لا أحد. بل وإننا على أتم استعداد لأن
نزودهم بكل ما قد يحتاجونه في رحلتهم، لمجرد أن نتخلص منهم. فهم عبء ثقيل علينا
ومصيبة حلّت بنا"(المسيحية والتوراة: ص 11، عن >اليهود وأكاذيبهم<).
ويقول الرئيس الأمريكي جون آدمز (ت 4
يوليو 1826): "إنني أتمنى من كل قلبي أن يمكن اليهود من العودة إلى يهوذا
ليعيشوا فيها كأمة مستقلة وأعرب عن الأمل في أنهم متى باتت لهم دولتهم المستقلة
ورفع عنهم الاضطهاد، قد يتخلصون مما اتصفت به طبائعهم من حدة وشراسة وغير ذلك من
السمات الشاذة، بل وربما تحولوا مع الزمن إلى مسيحيين ليبراليين من دعاة توحيد
العبادات" (م . س: ص 133، عن [Grose, “Israel in
the Mind of America” , P . 8]).
ومن
هنا ينطلق القرآن، ليكون هو الذي يفتح عيون الناس على الحقيقة؛ ويحدِّد ملامح
هؤلاء اليهود، وليكشف أساليبهم المتلونة، وليخلق وعيًا إسلاميًا في طرق المواجهة الواعية،
ولا يختلط عليها العدو مع الصديق، ولا يشتبه عليها أسلوب التعامل مع الأعداء
بأسلوب التعامل مع الأصدقاء {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ
وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا السَّبِيلَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً * مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن
مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ
وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن
لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}
(النساء: 44-46).
فكان ديدنهم في كلِّ حوار مع الرسول محمد (ص) بل مع
كل أنبيائهم استخدام أدوات التعجيز، حيث يصفهم القرآن بقوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ
الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ
فَقَدْ سَأَلُوا
مُوسَى أَكْبَرَ
مِن ذَلِكَ
فَقَالُوا أَرِنَا
اللَّهَ جَهْرَةً
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ
بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ
اتَّخَذُوا الْعِجْلَ
مِن بَعْدِ
مَا جَاءَتْهُمُ
الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا
مُوسَى سُلْطَانًا
مُّبِينًا} (النساء: 153).
وقد ثبت في تاريخ السيرة النبوية الشريفة، "أنَّ
النبي (ص) عامل اليهود بكل طوائفهم المقيمين حول المدينة أفضل معاملة، فقد أدخلهم
في المعاهدة العامة الّتي عقدها بين طوائف أهل المدينة، وربطهم بالواقع الاجتماعي
للمجتمع المسلم، وعاهدهم على الامتناع عن حربه ومساعدة أعدائه، ليحصلوا في مقابل
ذلك على الأمن على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وليتمتّعوا ـ في نطاق هذه المعاهدة ـ
بالحريات الكاملة. وقد جرت الحياة بينهم وبين المسلمين على هذا الخط، فلم يحدث
بينهم وبين المجتمع المسلم أيّ إشكال إلا ما يحدث في داخل أي مجتمع من السلبيات
الجزئية الطارئة بين أفراده، ولكنَّهم نقضوا ذلك كلّه، واتجهوا إلى خطِّ الخيانة،
واتفقوا مع قريش وحلفائها من العرب على حرب المسلمين".
ولهذا وصفهم القرآن بوصف دقيق في معرض
الحديث عن المنافقين حيث قال تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا
إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} (البقرة: 14). فقد قال المفسرون
أنّ المراد من الشياطين هم اليهود (مجمع البيان: ج 1 ص 107). والمراد من الشيطان هنا هو الرأس المدبر الذي يحيك المؤامرات
والدسائس.
وفي آية أخرى يوصف الله عزّ وجلّ
العلاقة بين اليهود والمنافقين بـ(الأخوة) {أَلَمْ
تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} (الحشر: 11)، وهذا التعبير يوضح لنا طبيعة العلاقة الحميمة جدًا بين
المنافقين وبين اليهود.
ولقد امتد أثر اليهود فعمدوا إلى:
1 - خلط الحق بالباطل وإخفاء الحقائق عن الناس مع علمهم بالحق.
يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ} (آل عمران: 71). فإنّ ما يقومون به من لبس الحق بالباطل لإخفائه وكتمانه
وتضييعه في غمار الباطل، على علم وعن عمد وفي قصد.. هو أمر مستنكر قبيح!.. هو
الأمر الذي درجوا عليه من وقتها حتى اللحظة الحاضرة.. فهذا طريقهم على مدار
التاريخ.
2 - حياكة الدسائس لضعف الدين الإسلامي ويصور لنا القرآن بعض
دسائسهم الماكرة، حيث يقول تعالى: {وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلَا
تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} (آل عمران: 72-73) فقد "تواطأ اثنا عشر حبرًا من
يهود خيبر وقرى عرينة، وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان
دون الاعتقاد، واكفروا به في آخر النهار وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا
علماءنا فوجدنا محمدًا ليس بذلك وظهر لنا كذبه وبطلان دينه، فإذا فعلتم ذلك شك
أصحابه في دينهم، وقالوا: إنهم أهل كتاب وهم أعلم به منا، فيرجعون عن دينهم إلى
دينكمم" (أسباب النزول: ص 102).
ولا شك أنّ اظهارهم الإسلام ثم الرجوع
عنه، يوقع بعض ضعاف النفوس والعقول وغير المتثبتين من حقيقة دينهم وطبيعته ..
يوقعهم في بلبلة واضطراب. وبخاصة العرب الأميين، الذين كانوا يظنون أنّ أهل الكتاب
أعرف منهم بطبيعة الديانات والكتب. فإن رأوهم يؤمنون ثم يرتدون، حسبوا أنهم إنما
ارتدوا بسبب اطلاعهم على خبيئة ونقص في هذا الدين. وتأرجحوا بين اتجاهين فلم يكن
لهم ثبات على حال.
وما تزال هذه الخدعة تتخذ حتى اليوم. في
شتى الصور التي تناسب تطور الملابسات والناس في كل جيل .. ولقد يئس أعداء المسلمين
أن تنطلي اليوم هذه الخدعة، فلجأت القوى المناهضة للإسلام في العالم إلى طرق شتى،
كلها تقوم على تلك الخدعة القديمة.
إنّ لهذه القوى اليوم في أنحاء العالم
الإسلامي جيشًا جرارًا من العملاء في صورة أساتذة وفلاسفة ودكاترة وباحثين -وأحيانًا
كتاب وشعراء وفنانين وصحفيين- يحملون أسماء المسلمين، لأنهم انحدروا من سلالة
مسلمة! وبعضهم من علماء المسلمين!
هذا الجيش من العملاء موجه لخلخلة
العقيدة في النفوس بشتى الأساليب، في صورة بحث وعلم وأدب وفن وصحافة. وتوهين
قواعدها من الأساس. والتهوين من شأن العقيدة والشريعة سواء.
وأخطر أدوات النفاق هو استلاب الألفاظ
من معانيها الصحيحة إلى معنى مغاير ككلمة (الاستعمار) الذي له مدلول جيد في
الاستعمال وهو طلب العمران، ثم أستعمل مرادفًا للغزو. والذي ينطبق اليوم على رقعة
كبيرة من العالم الثالث، والتي يستغل ثرواتها المستعمر الأجنبي.
فقد كان احتلال الدول العظمى للدول
الإسلامية غزوًا للعقول أيضًا عن طريق الإرساليات التنصيرية لدعم وجود الإدارة
الاستعمارية. وقد كانت الإدارة الاستعمارية تحارب الإسلام في أرضه حربًا مباشرًا
باستخدام حيل وأساليب مقنعة.
ففي مصر لم يتورع الإنجليز عن هدم أربعة
عشر (14) مسجدًا في مدينة القاهرة بحجة تجميل المدينة (كفاح دين، للشيخ محمد
الغزالي: ص 168).
وارتكز العمل التنصيري على ثلاث أدوات
أساسية: المدرسة (التعليم) - الكتاب - العمل الإنساني. وكان النشاط التعليمي
التنصيري مركزًا على الأطفال خاصة للنأي بهم عن منابع الإسلام وإبعادهم عن الفطرة
التي ولدوا عليها (يقول المبشّر جون موت: >إنّ الأثر المفسد للإسلام يبدأ باكرًا جدًا
… ومن أجل ذلك يجب حمل الأطفال الصغار إلى المسيح قبل بلوغ سن الرشد وقبل أن تأخذ
طبائعهم أشكالها الإسلامية<. (الغزو الفكري / عبد الستار فتح الله سعيد: ص 69)).
وها هو فلاح كيني يلخص لنا حصاد حركة
التنصير في ظل الاستعمار، فقد توجه إلى أحد رجال الدين البيض المستوطنين قائلًا: >إني أذكر جيدًا حينما
جئتم إلى هذه الأرض. كنا نحن نملكها، ونزرعها وترعى عليها حيواناتنا. كانت الأرض
في يدنا وكنتم تبنون كنائس صغيرة، وفي يدكم الكتاب المقدس (الإنجيل) تعرضون به
علينا الهداية.. وها هي ذي الأيام تمضي، والموقف كما ترى ونرى الآن: انقلبت
الأوضاع، فأصبحت الأرض في يدكم وأصبح الكتاب المقدس في يدنا، ولا نريد أكثر من أن
يأخذ كل واحد حقه ويسترجع ماله!" (العرب وأفريقيا، محيي الدين صابر: ص 49).
القرآن وأسلوب العمل مع
المنافقين:
ليس يوجد تناغم بين المؤمن والمنافق، بل
بينهما حواجز في السمات الشخصية نفسية كانت أو سلوكية. وهذه الحواجز قد أقرها
الكتاب الكريم في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ
مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ
بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ
قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى
وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ} (الحديد: 13-14).
(النظر) إذا تعدى بـ(إلى) كان بمعنى
إلقاء البصر نحو الشيء.
وإذا تعدى بـ(في) كان بمعنى التأمل
والتدبر.
وإذا تعدى بنفسه - أي بدون حرف جر -
أفاد معنى التأخير والانتظار (مفردات القرآن: ص 518 - 519).
والسياق في الآية يفيد أنّ المنفقين
أحاطتهم ظلمة في يوم القيامة، وقد طلب منهم ومن المؤمنين التقدم إلى دار قرارهم،
ولكن يقع التغاير في النتيجة، فبينما نرى المؤمنين يسيرون بنورهم الذي يسعى بين
أيديهم وبأيمانهم فيبصرون طريقهم ويهتدون إلى محل إقامتهم، نرى المنافقين يتخبطون
في تيه الظلام المغشي حولهم لا يهتدون سبيلهم فيتأخرون عن اللحوق بالمؤمنين، فيسأل
المنافقون المؤمنين الانتظار حتى يلحقوا بهم ويأخذوا جذوة من نورهم ليستضيئوا به
في طريقهم.
وهذا التعبير من باب إثارة الفكرة التي
تضع الأشياء وجهًا لوجه أمام الحقيقة الصارخة .. فليس هناك نور في الواجهة التي
يواجهونها بل لا بدّ أن يبحثوا وراءهم ليلتمسوا النور هناك في دار الدنيا - وهو
تعبير على سبيل الاستهزاء - فيأتي الخطاب: ارجعوا إلى دار الدنيا التي تركتموها
وراء ظهوركم وعملتم فيها ما عملتم من النفاق والتمسوا من أعمالكم تلك النور.
ولكن أنّا يفيد صرخاتكم وقد ضرب الله
بينكم وبين المؤمنين بابًا، وهو يشبه حال المنافقين في الدنيا فقد كانوا فيها بين
المؤمنين لهم اتصال بهم وارتباط، وهم مع ذلك محجوبون عنهم بحجاب فكما كانوا في
الدنيا صيرهم الله عزّ وجلّ في الآخرة.
فإنّ هذه الآية الكريمة ترسم البون
الشاسع بين خط المؤمن وخط المنافق وأنّ الله عزّ وجلّ وضع آيات تصلح أن تكون
عناوين بارزة لسلوكنا مع هذه الفئة المنحرفة:
الآية الأولى: قال تعال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي
قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ
لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ
الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ
بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (البقرة: 104-106).
هذه الآيات تعكس بصراحة صورة المنافق في
كل زمان ومكان، الذي يبيع نفسه لخط الشيطان، ونستفيد من أجوائها عدة أمور:
أ - الحرص على إعطاء الآخرين الثقة والتأييد والدعم من خلال
المواقف لا من خلال الكلمات والمظاهر.
ب - أن نلاحق هذين النموذجين في حركة الواقع من أجل أن نتابع خط
النفاق بالرفض والمواجهة من أجل إزاحته من واجهة الصورة لتخليص الناس من فساده..
بينما نتابع الخط الأول بالتأييد والدعم.
ج - أن نتمثل في وعينا المبادئ السلبية من الإفساد في الأرض وإهلاك
الحرث والنسل .. لنجعل منها أساسًا للتعامل السلبي مع كل البرامج السياسية
والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية.
د - عدم تركيز العاطفة في معنى الحب أو عدم الحب بل هما ركيزتان
للخط الإيجابي والسلبي من العمل.
الآية الثانية: قال تعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ
يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى
الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ
السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} (النساء: 91).
هذه الآية الكريمة جاءت عقيب آية تذكر
الكفار جاء في مقطع منها: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ
فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ
لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} (النساء: 90) ..
والسؤال: لماذا عبر القرآن الكريم بقوله {فَإِنِ
اعْتَزَلُوكُمْ} في الكفار، وبقوله: {فَإِنْ
لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ} في المنافقين؟!
والجواب في شقين:
أحدهما: إشارة إلى أنّ المنافقين غير مأمونين في مواعدتهم وموادعتهم
بدليل أنه تعالى قال في آية الكفار: {فَإِنِ
اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ}،
ولم يقل ذلك في آية المنافقين.
وثانيهما: أنّه عبر بالشرط المنفي {فَإِنْ
لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ} الذي يفيد تنبيه المؤمنين على أن يكونوا على حذر
منهم.
ونستوحي من هذه الآية عدة دروس:
1 - أن يتعمق العاملون في دراسة النماذج البشرية الموجودة في
الساحة من الفئات المنافقة، فلا يستسلموا للأجواء الحميمة وتقديم التنازلات لمجرد
أنّ هناك هدفًا في هداية الناس ينبغي للمسلم أن يستهدفه .. بل لا بدّ من دراسة
تاريخ هؤلاء في سلوكهم العملي والتعرف على حركتهم في الحاضر.
2 - أن يخرج العمل الإسلامي من منطق السذاجة المنطلقة من حالة
الطهارة الروحية البريئة التي يعيشها العاملون، فيتحركون في الفراغ ويبذلون الجهد
الضائع.
3 - على المؤمنين أخذ الحذر والحيطة في علاقتهم بالفئات التي تحمل
هذا التفكير وتعمل لهذا الهدف، سوأ كان ذلك على مستوى أحزاب الكفر والضلال، أو على
مستوى الأفراد والجماعات المنافقة، فلا يتخذوا منهم أولياء .. {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ
سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} (النساء: 89).
فعلى العاملين أن يعاملوهم معاملة الأعداء
من حيث الحذر في الموقف والعلاقة والمعاملة.. ليأمنوا شرهم ويحفظوا الناس من
الوقوع في حبائلهم.
4 - أن ندرس حالة الحياديين فنميز بين الذين يحملون الحياد كموقف
ينطلق من قناعاتهم النفسية فنحترم حيادهم تبعًا لمصلحة الإسلام والمسلمين وحالة
الصراع بيننا وبين الفئات المعادية .. وبين الذين يلعبون بالحياد كورقة يحصلون
فيها على امتيازاته من حيث الأمن الذي يمنحهم حرية الحركة في اللعب على أكثر من
جهة.
النفاق في المدينة:
لم يكن النفاق قد برز كمعسكر عند دخول
الرسول الأكرم (ص) إلى المدينة المنورة وتكوين السلطة الدينية، كما لم يكن بارزًا
أثناء معركة بدر الكبرى، فلقد كان معسكر الشرك واضحًا في واضحًا بزعامة عبد الله
بن أبي بن أبي سلول وحلفائه من اليهود.
نعم، ظهرت بعض أفراد من اليهود قامت
بمهمة التجسس لصالح حلفائهم فأظهروا الإسلام وبطنوا الكفر، وقد ذكرهم القرآن
الكريم بقوله: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ
وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (آل عمران: 72).
ولقد برز النفاق كمعسكر بعد معركة بدر
الكبرى وانتصار المسلمين الساحق فيها. أي: بعد أن استحكم الإسلام، وأصبح أعداؤه من
الضعف بحيث يصعب عليهم التجاهر في عدائهم، لهذا اختاروا أن يواصلوا خططهم من خلال
إظهار الإسلام واستبطان الكفر، فانخرطوا ظاهرًا في صفوف المسلمين، بينما ظلوا
محافظين على كفرهم في باطنهم.
لقد كان لبدر الأثر الكبير في إظهار
حالة النفاق، حيث قال عبد الله بن أبي -بعد انتصار المسلمين-: >هذا أمر قد توجه<،
أي استقر فلا مطمع في إزالته، ولا طريق إلى زعزعة المسلمين إلا عن طريق النفاق.
فمن بين من عرف بالنفاق من المدينة: عبد
الله بن أبي بن أبي سلول - جلاس بن سويد - الحارث بن سويد - زوى بن الحارث - بنتل
بن الحارث - مربع بن قيظي - أوس بن قيظي - حاطب بن أمية بن رافع - بشير بن أبيرق
أبو طعمة – قزمان...
ومن بين من عرف بالنفاق من أحبار يهود المدينة: زيد بن اللصيت - رافع بن
حريملة - رفاعة بن زيد بن التابوت - سويد بن الحارث - سعد بن حنيف - نعمان بن أوفى
بن عمرو - عثمان بن أوفى - سلسلة بن يرهام - كنانة بن صوريا (السيرة النبوية: ج 1 ص 519 - 528).
المنافقون في غزوة بني قينقاع:
قال الواقدي: لما قدم رسول الله (ص)
المدينة، وادعته يهود كلها، وكتب بينه وبينها كتابًا، وألحق رسول الله (ص) كل قوم
بحلفائهم، وجعل بينه وبينهم أمانًا، وشرط عليهم شروطًا، فكان فيما شرط إلا يظاهروا
عليه عدوًا. فلما أصاب رسول الله (ص) أصحاب بدر، وقدم المدينةّ.
بغت يهود، وقطعت ما كان بينها وبين رسول
الله (ص) من العهد، فأرسل رسول الله (ص) إليهم فجمعهم، ثم قال: "يا معشر يهود أسلموا فوالله إنكم لتعلمون أني رسول الله
قبل أن يوقع الله بكم مثل وقعة قريش".
فقالوا: يا محمد لا يغرّنك من لقيت، إنك
قهرت قومًا أغمارًا، وإنا والله أصحاب الحرب، ولئن قاتلنا لتعلمن أنك لم تقاتل
مثلنا.
فبينا هم على ما هم عليه من إظهار
العداوة ونبذ العهد جاءت امرأة نزيعة (المرأة التي تزوج في غير قومها فتنقل) من العرب تحت رجل من الأنصار إلى سوق بني قينقاع، فجلست عند
صائغ في حلى لها، فجاء رجل من يهود بني قينقاع من ورائها ولا تشعر فخلّ (خلّ: جمع بين طرفي
الشيء) درعها إلى ظهرها بشوكة، فلما قامت
المرأة بدت عورتها، فضحكوا منها. فقام إليه رجل من المسلمين فأتبعه فقتله، فاجتمعت
بنو قينقاع وتحايشوا (جاؤوه من حواليه) فقتلوا الرجل، ونبذوا العهد إلى النبي (ص) وحاربوا وتحصنوا في
حصنهم، فسار إليهم رسول الله (ص)، فكانوا أول من سار إليه رسول الله (ص)، وأجلى
يهود قينقاع، وكانوا أول يهود حاربت (المغازي: ج 1 ص 176 - 178).
كما أنّ هناك أسباب غير مباشرة، وهو:
تجسس اليهود على المسلمين لصالح المشركين، ونقلهم المعلومات عن نيات المسلمين
وحركاتهم إلى قريش، وإظهار عداوتهم بوضوح للمسلمين.
وفي نص الواقدي تلوح أمور:
أ - إنّ العمل البطولي الذي قام به المسلمون في بدر رفعت من
معنوياتهم وبرزت عزة المؤمنين.
ب - إنّ يهود بني قينقاع أظهروا حسدهم وبغضهم لنصر المسلمين
الساحق، مما جعل هذا الحسد يتحول إلى تحد سافر من قبلهم. وقد ظهر هذا واضحًا في
مقولتهم: "إنك قهرت قومًا أغمارًا … ولئن قاتلنا لتعلمن أنك لم تقاتل
مثلنا".
ج - لقد كان هذا التحول إيذانًا بظهور أثار الخيانة من قبل بني
قينقاع - وهم أصحاب القوة والعدد من بين يهود والتي لا يستهان بها -.
د - كانت المواجهة والجلاء هو الحل الوحيد ليكون درسًا قاسيًا حتى
يتعظ به قبائل يهود الأخرى -بنو النضير وبنو قريظة- ولكي تتحطم العنجهية اليهودية
أمام صلابة المسلمين. ونزلت الآية الكريمة {قُلْ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ
الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ
الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} (آل عمران: 12-13)، كرسالة شديدة اللهجة موجهة إلى يهود ومواليهم في أن يلزموا
حدودهم وينكفئوا على أعقابهم.
فحاصرهم المسلمون في قلاعهم خمسة عشر
يومًا، حتى اضطروهم على التسليم على أنّ لهم أموالهم، وأنّ لهم النساء والذرية،
فأمر بهم فكتفوا.
ثم كلمه فيهم حليفهم عبد الله بن أبي،
وألح في ذلك قائلًا: أربعمائة حاسر وثلاثمائة ذارع منعوني من الأحمر والأسود
وتحصدوهم في غداة واحدة؟
فقال رسول الله: "هم لك".
وأمر بهم أن يجلوا عن المدينة. وتولى
أمر ذلك عبادة بن الصامت، فلحقوا بأذرعات، وتولى قبض أموالهم محمد بن مسلمة، فقسمت
بين الصحابة بعد إخراج الخمس للرسول (ص) (المغازي: ج 1 ص 177-178، والطبقات الكبرى: ج 2 ص 92). وبهذا تخلص المسلمون من هذا (الرتل
الخامس) الذي كان يعيش بين ظهرانيهم فينقل أخبارهم ويكشف أسرارهم.
وكان عبادة بن الصامت قد تبرأ من حلفهم
عندما حاربوا الرسول (ص)، وفيه وفي عب-د الله بن أبي نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (المائدة: 51).
ولا شك أنّ عمل الرسول الأكرم (ص) مع
عبد الله بن أبي تنطوي على حكمة بالغة، وهي أن تظل العدالة بين الناس في مأمن من
التلاعب، لكي لا يتخذ الحاكم الأدلة الوجدانية أو الاستنتاجية وحدها ذريعة إلى
الإضرار ببعض الناس بدون وجه حق (فقه السيرة، للبوطي: ص 82 - 83).
المنافقون في معركة أحد:
أرادت قريش أن تثأر لنفسها مما فعله
المسلمون بها في معركة بدر وأن تسترد كرامتها وشرفها أمام العرب، فخرجت برجالها
ومواليها وأحابيشها، فكانوا ألفين وتسعمائة. منهم: سبعمائة ذارع، ومعهم مائتا فرس
وثلاثة آلاف بعير، وقد استصحب أكثر زعماء قريش معهم نساءهم للتشجيع ورفع
المعنويات، وكان عدد النساء من قريش خمس عشرة امرأة (الطبقات الكبرى: ج 2
ص 37). بينما قوات المسلمين تسعمائة وخمسون
رجلًا، وخمسون فارسًا فقط.
وكان رأي النبي (ص) وجمع من أصحابه عدم
الخروج من المدينة ومحاربة قريش داخلها (السيرة النبوية: ج 2 ص 63، وتاريخ الخميس: ج 1 ص 421 - 422، وتاريخ
الطبري: ج 2 ص 188 - 190، والسيرة
الحلبية: ج 2 ص 218 - 219، والكامل في التاريخ: ج 2 ص 150، والبداية والنهاية: ج 4
ص 12 - 13، والمغازي: ج 1 ص 25 - 26)، وهكذا أشار عليه عبد الله بن أبي أيضًا
قائلًا: "يا رسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها
إلى عدو لنا قطّ إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول لله،
فإن أقاموا أقاموا بشرّ محبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجههم، ورماهم النساء
والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا" (السيرة النبوية: ج 2
ص 63).
ولم يكن في رأي ابن أبي - هذا - خدعة
لصالح المشركين، فقد كان أبو سفيان يخشى أن يلزم أهل يثرب صياصيهم، ولا يخرجوا
منها (المغازي: ج 1 ص 205).
وكان رأي أكثر المسلمين الرغبة في
الخروج وملاقاة قريش خارج المدينة، ونزل النبي على رغبتهم (المغازي: ج 1 ص 205).
ونحن لا نستغرب من أمر عبد الله بن أبي
حيث أنّه وافق رأي الرسول (ص) بل وأصر على البقاء في المدينة حيث لم يكن باستطاعته
الخوض مع المسلمين في هذه الحرب ومقابلة هذا العدد الكبير من جيش قريش، وإنّ خوضه
الحرب معناه: أن يقتل من قومه أعداد كبيرة، وما كان التخلي عنهم سهلًا ميسورًا،
وهم عدته وقوته أمام المسلمين.
قال ابن هشام: "... دخل رسول الله (ص)
بيته، فلبس لامته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ... فخرج رسول الله (ص) في
ألف من أصحابه ... حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة وأحد، انخزل عنه عبد الله بن
أبي بن سلول بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني، ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا
أيها الناس. فرجع بمن اتّبعه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن
عمرو بن حرام، أخو بني سلمة، يقول: يا قوم، أذكركم الله إلا تخذلوا قومكم ونبيكم
عندما حضر من عدوهم، لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنّه يكون
قتال ..." (المغازي: ج 1 ص 205).
وكادت بنو سلمة - من الخزرج - وبنو
حارثة - من الأوس - أن تنخذل مع المنافقين لولا أنّ الله ثبتهم مع المؤمنين (فتح الباري: ج 5 ص 233 ح 4051، وصحيح
مسلم: ج 4 ص 1948 ح 2505، وتفسير الطبري: ج 7 ص 166).
ولقد كان لهذا الانفصال أثره في تصدع
الصف الداخلي -والذي هو مقدم على حرب عنيفة- فقد كانت هذه الخيانة أحد الأسباب
الرئيسية لتهيؤ بعض المسلمين نفسيًا للزيمة في المعركة.
ثم إنّ الرسول (ص) منع أن يشاركه اليهود
في حربه، فقد رأى (ص) "كتيبة خشناء (حسنة التسليح).
فقال: "من هؤلاء؟".
قالوا: هذا عبد الله بن أبي بن سلول في
ستمائة من مواليه من اليهود من أهل قينقاع، وهم رهط عبد الله بن سلام.
فقال (ص): "وقد أسلموا".
قالوا: لا يا رسول الله.
فقال: "قولوا لهم فليرجعوا فإنا لا
نستعين بالمشركين على المشركين" (المغازي: ج 1 ص 215 - 216).
لقد كان موقف النبي (ص) حاسمًا وواضحًا،
ولقد ردّ حلفاء عبد الله بن أبي، فلا يمكن أن يقف مع الصف الإسلامي تكتل محاذ لم
يعلنوا انضمامهم للصف الإسلامي - رغم حاجة الرسول (ص) إلى العدد حيث يواجه ثلاثة
آلاف بألف مقاتل - والأخطر من ذلك أنهم حلفاء عبد الله بن أبي..
وقد أشار الله عزّ وجلّ إلى الأثر السيء
من مواقف المنافقين في العديد من الآيات:
{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ
مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ
الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (التوبة: 47).
{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ
أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}
(هود: 113).
وهذا يبين لنا أنّ قمة تجمع وخطر
المنافقين برز يوم أحد، ولكنّ المسلمين استفادوا استفادة عظيمة، وهي: افتضاح أمر
هذا المعسكر حيث برز بأشخاصهم وأعيانهم.
وأعلن القرآن رأيه الواضح فيهم:
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ
نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ
ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ
يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ
فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا
لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ
أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
(آل عمران: 167-168).
{إِنَّ
الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ
نَصِيرًا * إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ
وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء: 145-146).
وبذلك تمت المفاصلة بين المنافقين وبين
المؤمنين، وغدت الجماعة المؤمنة تنظر إليهم بعين الحذر والتربص.
المنافقون في غزوة بني النضير:
مهما اختلفت الروايات في شأن تفصيل
أحداث هذه الغزوة إلا أنّ المحدثين اتفقوا على أنّ السبب الرئيس هو اقدام يهود بني
النضير على قتل الرسول الأكرم (ص) (المصنف: ج 5 ص 359 - 360، ومستدرك الحاكم: ج 2 ص 483، ودلائل البيهقي: ج 3 ص 180 - 181، وسنن
أبي داود: ج 3 ص 404 - 406 ح 3004،
وفتح الباري: ج 15 ص 203).
وتسبب ذلك في قرار لوحد حد لممارساتهم
الإجرامية، فكان القرار طردهم من المدينة خلال عشرة أيام، فمن رأوه بعد ذلك ضربت
عنقه (المصنف: ج 5 ص 359 -
360، ومستدرك الحاكم: ج 2 ص 483، ودلائل البيهقي: ج 3 ص 180 - 181، وسنن
أبي داود: ج 3 ص 404 - 406 ح 3004،
وفتح الباري: ج 15 ص 203).
وعندما استعدوا للخروج حرضهم عبد الله
بن أبي بن سلول على عدم الخضوع ومناهم بالوقوف إلى جانبهم، فأعلنوا العصيان،
فحاصرهم المسلمون.
ويحدثنا القرآن الكريم عن هذه الحادثة: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ
لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ
لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ
لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا
لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ
نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} (الحشر: 11 - 12).
"استطاع
المنافقون أن يثبّتوا الموقف اليهودي الذي كان يرى ضرورة المواجهة للنبي، وعدم
الخضوع لقرار الجلاء، في مقابل الموقف اليهودي الآخر الذي يرى ضرورة الانسجام مع
القرار، لأنّ شروطه في البداية قد تكون أخفّ من شروطه في المرحلة الثانية، ولأنّهم
لا يستطيعون الانتصار في المواجهة ما داموا وحدهم في القتال، لأن اليهود الآخرين
لم يكونوا معهم".
ولقد أكدّ الله عزّ وجلّ كذب المنافقين
بصورة ديناميكية:
{لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا
يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ}.
{وَلَئِنْ
قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ}.
{وَلَئِنْ
نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ}.
{ثُمَّ
لَا يُنْصَرُونَ}.
إنّ هذه الصورة تختلف عما كانت عليه في
الغزوات السابقة، فلئن كان التحدي سافرًا في أحد، فلقد تواروا وراحوا يعملون في
الخفاء، إذ لم يعد يملكون القوة على المواجهة والتحدي...
فأسقط القرآن بهذه الآيات أقنعتهم
المزيفة مما جعلهم يعيشون الرعب والهلع، إذ لم يبق لهم إلا خيطًا رفيعًا واهيًا من
التظاهر بالإسلام. ولن يفيدهم إلا التوبة النصوح لله سبحانه وتعالى.
وكان نتيجة هذه الأماني المزيفة اندحار
يهود بني النضير واجلاءهم عن المدينة المنورة.
المنافقون يوم الأحزاب:
أرادت قريش هذه المرة أن تحسم الصراع مع
المسلمين لصالحها، فحشدت له أكبر قوة ممكنة حيث لجأت إلى التحالف مع كل من له
مصلحة في القضاء على المسلمين.
ووجدوا أكبر ضالة لهم في يهود بني
النضير الدين أجلوا عن المدينة، ووجد اليهود ضالتهم في قريش، فقد التقت أهدافهما
في القضاء على المسلمين.
وخرجت مع قريش وبني النضير: بنو وائل، وغطفان، وبنو أسد، وبنو سليم،
وبنو كنانة، وبنو فزارة، وأشجع، وبنو مرة... وذكر أنّ عددهم عشرة آلاف بينما
المسلمون ثلاثة آلاف (المغازي: ج 2 ص 443).
وكان للمنافقين في يوم الأحزاب دور بارز
أيضًا، فقد كان الحديث عنهم في القرآن الكريم طويلًا، يتناسب وحجم دورهم ويمكن أن
نصنّف هذا الدور إلى ثلاثة أصناف:
الأول: المنافقون:
حيث يقول تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (الأحزاب: 12) ، إنّ هذا القول لا
يخرج إلا في أجواء مخنوقة إلا نّ القرآن الكريم سجل مؤامرتهم بدقة.
الثاني: المخوفون:
حيث يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ
لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ
يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ
إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا
الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ
كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ
عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ
مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ
اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ
لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (الأحزاب: 13-17).
لقد كان ثمة حالة من الترقب والخوف الذين هيمنت على الأجواء ولقد لعبت
إثارات المنافقين وشائعاتهم في إثارة مشاعر الخوف، الأمر الذي بث روح الانهزام في
قلوب ضعاف النفوس (المغازي: ج 2 ص 468، وتاريخ الخميس: ج 1 ص 485، ومناقب آل أبي طالب:
ج 1 ص 198).
قال علي بن إبراهيم القمي: "لما
طال على أصحاب رسول الله (ص) الأمر، واشتد عليهم الحصار. وكانوا في وقت برد شديد،
وأصابتهم مجاعة، وخافوا من اليهود خوفًا شديدًا، وتكلم المنافقون بما حكى الله
عنهم، ولم يبق أحد من أصحاب رسول الله (ص) إلا نافق إلا القليل.
وقد كان رسول الله (ص) أخبر أصحابه: أنّ
العرب تتحزب ويجيئون من فوق. وتغذر اليهود ونخافهم من أسفل، وإنّه ليصيبهم جهد
شديد، ولكن تكون العاقبة عليهم.
فلما جاءت قريش، وغدرت اليهود قال
المنافقون: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا.. وكان قوم لهم دور في أطراف المدينة.
فقالوا: يا رسول الله، تأذن لنا أن نرجع إلى دورنا، فإنها في أطراف المدينة، وهي
عورة، ونخاف اليهود أن يغيروا عليها.
وقال قوم: هلموا فلنهرب، ونصير في البادية، ونستجير بالأعراب، فإنّ الذي
كان يعدنا محمد كان باطلًا كله" (تفسير القمي: ج 2 ص 186).
ومن يقرأ كتاب الله العزيز يقف كيف فضح اليهود وكشف
الأساليب المتبعة من قبلهم، من قبيل الخديعة وكتمان الحق، والابتعاد عن البر
والفضيلة وإشاعة الرذيلة والتآمر على الأنبياء وقتلهم وما إلى ذلك من أساليب
الخداع والتزوير ومخالفتهم المتكررة للعهود والمواثيق، وهذا ما يتكرر اليوم أيضًا
أمام مسمع من العالم الإسلامي والعربي.
المملكة العربية السعودية
القطيف : عام 2001