من هو المثقف وما هو دوره
ينبغي أن نعي
أنَّ وصف المثقف يطلق اليوم على:
1. منتجي
الأفكار ومستهلكيها وناشريها.
2. وعلى
العلماء والفنانين والأدباء.
3. وعلى حملة
الشهادات الجامعية والسياسيين والإعلاميين.
4. ومع تحول
عدد كبير من المتعلمين، والذين أصيبوا بالصدمة الحضارية، إلى وكالات ناطقة باسم
الآخر ومروّجة له.
مع هذا التحول
أصبح المثقف -وللأسف- هو الذي يلوك بلسانه معظم أسماء الأعلام الغربيين وآخر
المذاهب في علوم اللسانيات والاجتماع ووو الخ.
لكنه على ضوء
تحديدنا لمفهوم الثقافة، نرى أنّ المثقف ذلك الإنسان أو المجتمع المنشد في حركة
تكاملية إلى مثله الأعلى الواقعي انشداداً واعياً ومراداً.
(وبمعنى آخر):
هو ذاك العامل المفجِّر لكل طاقاته واستعداداته في سبيل صيرورة حقيقته الغائية
واقعاً ماثلاً. فحقيقة الإنسان والمجتمع تتحقق بفعل إرادي واع عبر تاريخه ومدة
عمره.
وكما أشار الشيخ
مرتضى المطهري (الإنسان الكامل: ص 108)
إلى
أنَّ الإنسان في الأصل مشروع إنسان وإنسانيته أمامه وفي المستقبل، فأما أن يحققها
أو يبقى في مصاف الحيوانات. والإنسان وحده من بين موجودات العالم ينبغي عليه أن
يعمل ليحقق إنسانيته، فجزء الإنسان المادي أو صفاته البيولوجية لا تصلح وحدها، ولا
تكفي لإطلاق اسم الإنسان عليه، فإنسانيته شيء آخر ووجود مكتسب.
وقد شهد
التاريخ نماذج لمثقفين طابقوا بين تصورهم الواقعي لحقيقة الإنسان وبين وجودهم
فاستحقوا بجدارة أن يكونوا مثلاً علياً تصبوا الضمائر الحية لتمثلها كالرسول محمد (ص)
وأهل بيته وأصحابه الكرام، إلا أنَّ التاريخ لم يشهد حالة مجتمعية نموذجية طابقت
بين رؤيتها للاجتماع ووجودها الاجتماعي العام، بما في ذلك مجتمع الرسول (ص)،
لماذا؟
لأنّ تلك
الفترة كان لها دور في بلورة الرؤى والتصورات الكونية المحتاج إليها الحياة
الإنسانية والاجتماعية، وهي وإن شهدت بناءً كمالياً لمجموعة من الأشخاص إلا أنها
من الناحية المجتمعية لم تتجاوز مرحلة التأسيس لأسباب فرضتها طبيعة الأحداث
المترافقة مع حركة الدعوة، وزمن وجود النبي القصير جداً نسبة إلى حركة إعادة بناء
اجتماعي تتطلب أجيالاً.
ومن هنا فإنَّ
رسالة المثقف هي إيصال المجتمع وإنسانه إلى كماله الممكن له، وهذه الرسالة أمانة
مثقف العصر، وأمانة كل المثقفين الذين عرفهم التاريخ الإنساني من أنبياء ورسل
وأوصياء ومصلحين ومفكرين ملتزمين بثقافة التوحيد، وهل كانت حركات الأنبياء والرسل
إلا لتحقيق هذا الهدف؟ وأهم هذه النقاط:
1. التوعية: وهو أن يعمل
المثقف على نشر أطروحته ورؤيته الكونية بين مختلف فئات الناس في المجتمع الواحد،..
وعلى المثقف أن ينقل وعيه بالواقع وتناقضاته ومشكلاته، إيجابياته وسلبياته إلى وعي
الناس، فبدون وعي الواقع ووعي تناقضاته وسلبياته، وبدون وعي إيجابيات وملاءمة ما
ينبغي أن يكون، وبدون المقارنة بين هذين الوعيين تبقى الهمم جامدة والرغبات ميتة
وحافز الحركة وباعث التغيير مفقوداً ومعدوماً.
والإمام علي (ع)
يقول في أقسام الناس من حيث قيامها بثقافة التوحيد: "الناسُ ثلاثةٌ: فعالِمٌ ربَّانيٌّ،
ومتعلِّمٌ على سبيل نجاةٍ، وهمَجٌ رعاعٌ أتباعُ كلِّ ناعقٍ، يميلون مع كلِّ ريحٍ،
لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركنٍ وثيقٍ" (نهج البلاغة: قصار الحكم
147).
فمهمة المثقف
وفق هذا التصنيف هو إيصال العلم إلى الفئة الثالثة لتستضيء بنوره وتهتدي إلى دورها
الفاعل في الحياة لا تتدافعها رياح الأفكار الضالة والحركات والدعوات المضلة أو
تشدها أهواؤها إلى الأرض فتخلد إليها.
وهنا ينبغي أن
ننبه على أنّ جرأة المثقف على إعلان أفكاره وآرائه، أي أن يقول بصراحة ما يفكر به
بالضبط حتى ولو كان غير سائد ولا مأنوس لعامة الناس، إنَّ هذه الجرأة لا تتنافى
وكون المثقف عضواً من أعضاء هذا المجتمع. وذلك أنَّ من أكبر الأخطار هو تجريد
المثقف من وسط المجتمع، كما حصل ذلك في عصر الانحطاط السائد في العصر السلجوقي
والغزنوي لأمثال ابن سينا والغزالي، وما يحصل الآن عند بعض الفئات التي ما فتئت
تلقي ظلال فتاوى التكفير والتفسيق في وجه كل من يخالف منهجها الاجتهادي بذريعة
مخالفتها لضرورات الدين.
2. التخطيط: فأي عمل ناجح
مهما صغر شأنه لا يمكن أن يصدر إلا عن رؤية وبعد تعقل وتبصر في كل الملابسات
المحيطة به ليتفتق العقل بعدها عن رسم الخطة الأسلم للوصول إلى الهدف وتحقيقه بأقل
الجهود الممكنة. فالعالم اليوم قائم على التخطيط ليس فقط لتطوير وضعه بل هو يخطط
أيضاً للمنافسة من أجل السيطرة.
3. تفجير الطاقات الإنسانية الكامنة: فخاصية الإبداع والاجتهاد الإنسانيين فيما يعرض
للفرد والجماعة من أمور هي أصل، وأساس في حركة وتطور ونماء الاجتماع الإنساني،
وعلى المثقف أن يثير العقول والإمكانات الإنسانية لتستخرج قدراتها ولتسبر أغوار
الكون والطبيعة وتستكشف خيراتها الدفينة وتسخرها لتكاملها وتطورها ورقيها.
وللإمام علي C إشارة واضحة
إلى عمليات النقل والإتصال الثقافي مع ملاحظة ما تتضمن هذه العمليات من توجيه
وإشراف هادفين لكفالة نمو المثقف، يقول: "أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وَإِنْ
لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي
أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى
عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ،
قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذلِكَ مِنْ
كَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ
نَخِيلَتَهُ، تَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ، وَصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ، ..."
(نهج البلاغة: الكتاب
31).
ما هي عوامل الجمود في الثقافة؟
أهم عوامل الجمود اللاحقة بالعقل الإنساني:
1. كبت الحريات: فسلب الحرية
يعني سلب المسؤولية وبالتالي الالتزام بحيث يتحول الإنسان إلى مجرد آلة يحركها
الغير ومن بيده السلطة والقوة.
2. التقليد الأعمى:
وهو
أمر مذموم في الأديان السماوية لأنه يوقع الإنسان في رؤية الأشياء من دون تبصر
وإجالة فكر ونظر.
3. تقديس الأشخاص:
وخاصة
في القضايا العلمية التي قد تؤدي إلى تعطيل حركة الإبداع والخوف من الوقوع في مخالفتهم.
4. احتكار حق التفكير:
أي
حصره في جهات محددة، وعدم إشراك الأمة فيما تستطيع الخوض فيه، وتحول مجموعة من
المثقفين والمتعلمين إلى طبقة تفكر عن الأمة وتقرر عنها وتفرض عليها أوامرها
ونواهيها، دون أن تعني نفسها بمشاركتها الأمر في حدوده الدنيا، أعني إيصال حقها
بالوعي إليها.. وهو تعطيل لمبدأ الشورى الذي كان يتعايشه الرسول في مجتمع المدينة.
5. المواجهة الحضارية:
إنّ
كل ثقافة تطمح إلى استمرارها وانتشارها وسيادتها، لا يمكن أن تتحرك دون أن تلحظ
وجود ثقافات أخرى منافسة وتخطط لكيفية التعاطي معها إيجاباً أو سلباً، استيعاباً
أو تلاحقاً، هجوماً أو دفاعاً، ولا سيما وأننا نعيش عصراً حوّل كوكبنا الكبير إلى
قرية صغيرة مع أهم ثورات عرفها الإنسان، ثورة المواصلات والاتصالات التي وضعت
الإنسان أمام مفهوم جديد للزمان والمكان، وقربت الشعوب من بعضها.
هل هناك علاقة بين المثقف وعملية التغيير؟
المثقف على
امتداد التاريخ هو الذي يحوِّل وعيه الخاص إلى وعي عام وحركة مجتمع، شخص التزم
قضايا الإنسان والمجتمع وانخرط في غمارها، ولقد أعطى الإسلام الإنسان مكانة مركزية
في الوجود، بحيث خلق الكون كله لأجله وزود بالخصائص المهمة التي يقوم عليها عملية
التغيير وهي: الوعي، والحرية، والإبداع... وأمر بأن يتخلق بأخلاق الله، أي أن يتخذ
من الله مثلاً أعلى، بينما قلصت المادية وجود الإنسان وحبسته في إطار التكامل
المحدود في كينونة المادة.
والناس من
عملية التغيير على قسمين:
1. إما أن يقف من
التغيير موقفاً سلبياً يرفض التفاعل معها وتلبية حاجاتها وهي التي تسمى بالثقافة
الجامدة.
2. أو يندمج معها
ويتفاعل وإياها تبعاً لمقتضيات الضرورات الحياتية والمطالب الاجتماعية وهي ما تدعى
بالثقافة الحركية.
ونحن نلاحظ أنّ
نص الإمام علي السابق: "فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذلِكَ مِنْ كَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مِنْ
ضَرَرِهِ، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ نَخِيلَتَهُ، تَوَخَّيْتُ لَكَ
جَمِيلَهُ، وَصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ، ...". - كل ذلك من
خلال وعي علي (ع) للقرآن الكريم - إنما أراد بذلك منح ولده الحسن (ع) قوة للدفع في
مجال التغيير الاجتماعي الذي كان يتوخى استمراره ونموه.
ولهذا ما تزال
كلمة الإمام الحسين (ع) مدوية في التاريخ لمن أراد أن يسير في هذا الدرب الإصلاحي:
"إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا ظالماً، ولا
مفسداً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن
المنكر".