الثلاثاء، 27 ديسمبر 2022


                          من روح وصايا سيدنا المسيح

       في وصف القرآن الكريم للسيد المسيح (ع) يقول: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُوَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} (مريم: 30-34).

هل سقطت الروح عن مركزها السامي الذي تربعت عليه على مدى التاريخ؟

فإذا كان الجواب بالنفي.. فما الذي أدّى إلى أن نتمسك بالخطط والتنظيمات التي لا تدعم الجوانب الروحية والخلقية.

هل عمي على إنسان اليوم مدى التناقض في إمكانات النمو المادي، بحيث لا يرى أي روح جديدة يتشبث بها؟

إذن من الذي يتحمل نتائج الانتكاسات في مجالات الحياة المختلفة؟

إننا بحاجة إلى قاعدة روحية أخلاقية..

هذه التساؤلات تطرح ونحن نعيش امتداد ذكرى ولادة سيدنا المسيح (ع)، الذي رفعه الله ليكون منهجًا يضيء سماء الروح في وجداننا، وليبقى الشاهد على أنَّ الله لم يخلق الإنسان ليكون ضئيلاً، ولكنَّ الإنسان أراد لنفسه أن يعيش كسولاً عن طلب المعرفة إلى حد بعيد.

ومع امتداد هذه الذكرى نستنشق رأفة المسيح ورحمته ومحبته لمن اتبعوه {وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}.

وفي حديث الإمام علي (ع) مع نوف البكالي، يقول: "طُوبَى لِلزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا، الرَّاغِبِينَ فِي الْآخِرَةِ، أُولَئِكَ قَوْمٌ اتَّخَذُوا الْأَرْضَ بِسَاطاً، وَتُرَابَهَا فِرَاشاً، وَمَاءَهَا طِيباً، وَالْقُرْآنَ شِعَاراً، وَالدُّعَاءَ دِثَاراً، ثُمَّ قَرَضُوا الدُّنْيَا قَرْضاً عَلَى مِنْهَاجِ الْمَسِيحِ".

ويتحدث الامام علي (ع) عن السيد المسيح (ع)، في خطبته البليغة التي يمتدح فيها الزهد ويذمّ جمع المال، ويصف زهد أنبياء الله الكرام موسى وداود والمسيح وخاتم الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. فقال (ع): "وإِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (ع)، فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ، ويَلْبَسُ الْخَشِنَ، ويَأْكُلُ الْجَشِبَ، وكَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ، وسِرَاجُهُ بِاللَّيْلِ الْقَمَرَ، وظِلَالُهُ فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الأَرْضِ ومَغَارِبَهَا، وفَاكِهَتُهُ ورَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ ولَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ، ولَا وَلَدٌ يَحْزُنُهُ، ولَا مَالٌ يَلْفِتُهُ، ولَا طَمَعٌ يُذِلُّهُ، دَابَّتُهُ رِجْلَاهُ، وخَادِمُهُ يَدَاهُ".

وما كانت تلك التعاليم إلا امتداد لمشوار من أتى قبله من التوراة والأنبياء. يقول السيد المسيح: "لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ" بل جاء (ع) ليكمل في تعاليمه التوراة وما جاء به الأنبياء.

ولنقرأ من وصايا السيد المسيح التي جاءت في العهد الجديد:

1. "قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلًا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا (فارغ أو باطل)، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ. وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ".

قال جعفر بن محمد الصادق: قال الحواريون لعيسى بن مريم: يا معلم الخير، علمنا أي الأشياء أشد؟ فقال: غضب الله عز وجل. قالوا: فبم يُتقى غضب الله؟ قال: بأن لا تغضبوا. قالوا: وما بدء الغضب؟ قال: الكبر والتجبر ومحقرة الناس.

2. "إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ".

3. "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ لاَ بِالسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللهِ".

قال الإمام الصادق: اجتمع الحواريون إلى عيسى، فقالوا: يا معلم الخير، أرشدنا. فقال لهم: إنَّ موسى كليم الله أمركم أن لا تحلفوا بالله تبارك وتعالى كاذبين، وأنا آمركم أن لا تحلفوا بالله كاذبين ولا صادقين.

قالوا: يا روح الله، زدنا.

فقال: إنَّ موسى نبي الله أمركم أن لا تزنوا، وأنا آمركم أن لا تحدثوا أنفسكم بالزنى، فضلاً عن أن تزنوا، فإنَّ من حدّث نفسه بالزنى كمن أوقد في بيت مزوق، فأفسد التزاويق الدخان وإن لم يحترق البيت.

4. "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا".

قال جعفر بن محمد الصادق (ع): قال عيسى بن مريم لبعض أصحابه: ما لا تحب أن يُفعل بك فلا تفعله بأحد، وإن لطم أحدٌ خدك الأيمن فأعط الأيسر"..

5. "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ".

يريدنا دين الحب أن نحمل الآخر على المراد بالأحسن، وهو بذلك لا يريدنا أن نبني شخصيتنا بناءً ساذجاً، تفقد معها فطنتك وكياستك، بل يهدف إلى إزالة عوامل التوتر الداخلي، وخلق مناخات الثقة بين البشر؛ لأنَّ سوء الظن إذا ما فتك بأي مجتمع؛ فإنه يفكك عرى الأخوة، ويضعف المناعة الداخلية بما يهدد بانهيار المجتمع برمته.

وقالها الإمام علي في حكمة بليغة: "احْصُدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ"..

فكما مسَّ المسيح بيديه المرض ليشفي الأبرص والأكمه، ويعيد الموتى إلى الحياة.. كذلك فعل الشيء نفسه حينما سار مع الناس يتفاعل معهم، وينشر رسالة محبة الله وسلامه بينهم؛ ليبعث من خلال ذلك الحياة في إنسان جديد ومجتمع جديد.

هذا هو المسيح بكل تجلياته ومحبته..

إنه رسول الله وكلمته..

إنه آية للناس في كل وجوده..

إنه العطاء المتجدد روحاً وأخلاقاً وتوحيداً..

إنه الدال على كل معاني المحبة والرحمة والعدالة..

فلنخلق روحًا، لنخلق محبة، ولنغير قانون الموت: (البقاء للأقوى)، إلى قانون الحياة: (البقاء للأكثر محبة).

الأحد، 2 أكتوبر 2022


 

مواقف فكرية في حياة الإمام الحسن العسكري

في هذا اللقاء نريد أن نطلَّ على مواقف فكرية من حياة الإمام العسكري (ع)، والذي انتقل إلى جوار ربّه في يوم الجمعة لثمان ليالٍ خلون من شهر ربيع الأول سنة ستين ومائتين، وكان من أصغر الأئمة (ع) عمراً، فقد كان عمره ثمانية وعشرين سنة يوم وافاه الأجل.

يقول الجاحظ: "ومن الذين يعدُّ من قريش أو من غيرهم ما بعد الطالبيين في نسق واحد كل واحد منهم عالم زاهد، ناسك، شجاع، جواد، طاهر، ذاكر، فمنهم خلفاء ومنهم مرشحون: ابن، ابن، ابن، ابن، ... هكذا إلى عشرة، وهم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، وهذا لم يتفق لبيت من بيوت العرب ولا العجم" (آثار الجاحظ: ص 235).

* كلماته في التوحيد:

نحاول -هنا- إثارة بعض الكلمات التي وردت عن الإمام الحسن العسكري (ع) في شؤون العقيدة والتفسير والأخلاق؛ لأنَّ علاقتنا بالأئمة (ع) كما ذكرنا في أكثر من مناسبة، هي علاقة السير على منهاجهم والانفتاح على علمهم، والتحرك بمسؤولية في الواقع.

ففي باب التوحيد، هناك عدة أحاديث في جانب العقيدة بالله سبحانه وتعالى، حيث كان الجدل يدور في المراحل التي عاش فيها الأئمة من أهل البيت (ع) منذ عهد الإمام الباقر (ع) حتى عهد الإمام العسكري (ع) في صفات الله، فكان بعضهم يتحدّث عن أنَّ الله جسم، والبعض يتحدث عنه على أنه صورة وما إلى ذلك، وكان الأئمة (ع) يتبعون في توجيه الناس منهجاً يعتمد لغة القرآن بأسلوبه ومفرداته في العقيدة، ليوجّهوا الناس إلى الأخذ في عناوينهم الكبرى في العقيدة من خلال القرآن الكريم؛ لأنَّ التعقيدات الفلسفية قد تردّ الشبهات، ولكنها لا تستطيع أن تبني العقيدة.

عن يعقوب بن إسحاق، قال: كتبت إلى أبي محمد (ع) أسأله: كيف يعبد العبد ربّه وهو لا يراه؟

فكتب (ع): "يا أبا يوسف، جلَّ سيدي ومولاي والمنعم عليَّ وعلى آبائي أن يُرى {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} {ليس كمثله شيء}-".

قال: وسألته: هل رأى رسول الله (ص) ربه؟

فكتب (ع): "إنَّ الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحبّ" (الكافي: ج 1 ص 95).

فلقد رأى رسول الله (ص) ربّه، ولكنّه لم يره بالعين الباصرة، بل بعين قلبه؛ لأنّ القلوب تبصر من الحقائق ما لا تستطيع العيون أن تبصره {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. فمشكلة بعض الناس أنهم يملكون العيون المفتوحة والقلوب العمياء، والخطورة كلُّ الخطورة أن يكون القلب أعمى.

وعن الكليني عن سهل، قال: كتبت إلى أبي محمد (ع) سنة خمس وخمسين ومائتين: قد اختلف يا سيدي أصحابنا في التوحيد -(وهذا يدلّ على أن الجدل الكلامي في التوحيد كان يدور حتى في أوساط أتباع أهل البيت (ع))-، فمنهم من يقول هو جسم، ومنهم من يقول: هو صورة، فإن رأيت يا سيدي أن تعلِّمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه؟

فكتب بخطّه (ع): "سألت عن التوحيد، وهذا منكم معزول، الله واحد أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، خالق وليس بمخلوق، يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام وغير ذلك وليس بجسم، ويصوِّر ما يشاء وليس بصورة، جلّ ثناؤه وتقدست أسماؤه أن يكون له شبه، هو لا غيره وليس كمثله شيء وهو السميع البصير" (الكافي: ج 1 ص 103).

لقد أراد الإمام العسكري (ع) أن لا يستغرق السائل في الجدل الكلامي والتعقيدات الفلسفية فيما يتعلق بالحديث عن الله سبحانه وتعالى، ولهذا أرشده إلى كتاب الله فيما أنزله من آيات، فهو أعرف بنفسه من مخلوقاته كلها؛ لأنَّ المخلوق لا يستطيع أن يعرف من ربّه إلا ما عرَّفه ربه، يقول جدّه زين العابدين في دعائه: "بِكَ عَرَفْتُكَ وَاَنْتَ دَلَلْتَني عَلَيْكَ، وَدَعَوْتَني إِلَيْكَ، وَلَوْلا اَنْتَ لَمْ أَدْرِ ما أَنْتَ".

وقد جاء عن المسعودي في (إثبات الوصية) بإسناده عن أبي هاشم الجعفري، قال: سأل محمد بن صالح الأرمني أبا -محمد الحسن العسكر- (ع) عن قول الله تعالى: {يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}.

فقال (ع): "هل يمحو إلا ما كان، وهل يثبت إلا ما لم يكن"..

فقلت: هذا خلاف ما يقول هشام القوطي إنّه لا يعلم الشيء حتى يكون. (فالله سبحانه وتعالى -حسب هذا القول- إنما يعلم الأشياء بعد أن تتكون، والإمام (ع) يقول إنَّ الله يعلم بالأشياء قبل وجودها).

فنظر إليّ (أي الإمام العسكري) شزراً، فقال: "تعالى الجبّار العالم بالشيء قبل كونه، الخالق إذ لا مخلوق، والربّ إذ لا مربوب، والقادر قبل المقدور عليه<.

فقلت: أشهد أنّك وليّ الله وحجّته والقائم بقسطه وأنك على منهاج أمير المؤمنين. (إثبات الوصية: ص 341).

لقد أكَّد له الإمام العسكري (ع) أنَّ المخلوقين يحتاجون إلى معرفة الأشياء في صورتها الوجودية، أما الله سبحانه فهو الذي يخلق الوجود؛ فهو يعرف ما يريد أن يخلقه قبل أن يخلقه.

* ملاحقة الأفكار المنحرفة:

هناك قصة ينقلها ابن شهرآشوب في كتابه (المناقب): عن أبي القاسم الكوفي في كتاب (التبديل) تدلّ على أنّ الإمام العسكري (ع) كان يلاحق التطور الثقافي في مواجهة الفكر الإسلامي، بحيث كان يلاحق المفكرين في زمانه وخصوصاً الذين يعملون على تهديم الأسس العقدية والثقافية للإسلام، وكان منهم فيلسوف العرب (يعقوب ابن إسحاق الكندي)..

يروي ابن شهرآشوب عن الكندي أنه: أخذ في تأليف تناقض القرآن وشغل نفسه بذلك، وتفرّد به في منـزله، وإنَّ بعض تلامذته دخل يوماً على الحسن العسكري، فقال له أبو محمد (ع): "أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟".

فقال التلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟!

فقال له أبو محمد (ع): "أتؤدي إليه ما ألقيه إليك؟".

قال: نعم.

قال: "فصر إليه، وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت الأنسة في ذلك، فقل: قد حضرني مسألة أسألك عنها، فإنه يستدعي ذلك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلّم بالقرآن (أي الذي يوحي لك بهذه الأفكار)، هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم به غير المعاني التي قد ظننت أنّك قد ذهبت إليها؟ فإنّه سيقول: إنه من الجائز، لأنّه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك، لعلّه قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه فيكون واضعاً لغير معانيه".

هنا علم الإمام (ع) التلميذ كيف يناقش أستاذه الكندي: أن يدخل أولاً قلبه ليستطيع أن يدخل عقله، وهذا أسلوب من أساليب الحوار في القرآن، وهو أنك إذا أردت أن تدخل في حوار فكري مع شخص آخر تختلف معه لتقنعه بما أنت فيه، أو لتناقشه فيما هو فيه، فعليك أولاً أن تفتح قلبه بالكلمة الحلوة والإطلالة الحلوة والأسلوب الحلو، لا أن تكفّره وتزندقه وتجهّله: {وجادلهم بالتي هي أحسن} {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

فصار التلميذ إلى أستاذه الكندي، وتلطّف إلى أن ألقى إليه هذه المسألة، فقال له الكندي: أعد عليّ، فأعاد عليه، فتفكّر في نفسه ورأى أنّ ذلك محتملٌ في اللغة وسائغٌ في النظر .. (فاللغة العربية مرنة متحرّكة، فقد يفهم بعض الناس الكلام على أنه الحقيقة وهو من المجاز، وقد يفهم أن المراد هو المعنى اللغوي والمقصود هو المعنى الكنائي).

فقال الكندي: أقسمت عليك إلا أخبرتني من أين لك؟

فقال: إنه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك.

فقال: كلاّ ما مثلك من اهتدى إلى هذا، ولا من بلغ هذه المنـزلة، فعرّفني من أين لك هذا؟

فقال: أمرني به أبو محمد (ع).

فقال الكندي: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا الأمر إلا من ذلك البيت ـ الذي زقّ أهله العلم زقاً، والذين يعيشون صفاء الحقيقة واستقامة التفكير والجدل من أجل الوصول إلى الحقيقة ـ ثم إنه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألّفه" (المناقب: ج 3 ص 459).

وهناك حديث آخر أيضاً يحاول الإمام (ع) أن يردّ فيه بعض الشبهات.

عن الشيخ الكليني بإسناده عن إسحاق بن محمد النخعي، قال: سأل الفهفكي أبا محمد (ع) السؤال المطروح دائماً {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}. فلماذا جعل الله المرأة الطرف الضعيف وأنقص من حقها وجعل الرجل الطرف القوي وجعل له الحظّ الأوفر؟!

قال: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهماً واحداً ويأخذ الرجل سهمين؟!

فقال أبو محمد (ع): "إنّ المرأة ليس عليها جهاد، ولا نفقة للمرأة، ولا عليها معقلة" (الكافي: ج 7 ص 114).

إذن أساس المسألة كما في إجابة الإمام (ع):

أولاً: المرأة ليس عليها جهاد، بينما الرجل عليه جهاد، وكان الرجل في الجهاد يأخذ سلاحه، فلم تكن الدولة تعطي المقاتل سلاحاً بل يشتريه ويحمل معه مؤونته وراحلته.

ثانياً: لا يجب على المرأة أن تنفق على الرجل ولا على أولادها، بل الرجل هو الذي ينفق عليها.

ثالثاً: إذا قتل شخص إنساناً خطأ فإنَّ الدية تتحملها العاقلة وهي الرجال من الأقرباء، أما النساء فلا يدفعن الدية، فالله عندما أعطى الرجل أعطاه بمقدار ما أخذ منه، فقد حمّله مسؤولية الجهاد ونفقة العائلة ونفقة الزوجة، وجعله مشاركاً في الدية التي تكون على العائلة، أما المرأة فإنه لم يلزمها بذلك، ومعنى ذلك أنّ حصة المرأة أصبحت أكثر من حصة الرجل.

وكأنّ الإمام (ع) يريد أن يقول له: ليست المسألة هي أنه كم أعطاك، لكن كم أخذ منك، فمن الرابح في الطرفين في المحصّلة؟ إنّ المرأة إذا تزوجت تأخذ مهراً وتأخذ النفقة، فلا تنفق من مالها، ثم إنَّ نفقة الأولاد على الرجل أيضاً، فمالها يبقى ثابتاً لا يتحرّك.

* موقف الشيعة من الأئمة (ع):

هناك مشكلة، وهي أنَّ بعض الأحاديث الواردة تدل على أنّ بعض الناس كان يشكك بالإمام (ع)، كما كان يحدث في حياة أكثر من إمام، حيث كانوا يقفون على بعض الأئمة ولا يتعدونهم إلى غيرهم، وقد سمّوا بـ(الواقفة).. وقد كتب إليه الشيعة في ذلك.

فكتب (ع): "إنما خاطب الله العاقل، والناس فيَّ على طبقات:

الطبقة الأولى: المستبصر على سبيل نجاة، متمسّك بالحق متعلّق بفرع الأصل غير شاكّ ولا مرتاب لا يجد عني ملجأ.. (أي هناك من يعيش البصيرة في عقله وقلبه وروحه من أجل أن ينجو عندما يقف بين يدي الله، ويحاول أن ينطلق على أساس الحجة والبرهان وهو يبحث عنهما، فإذا التقى بهما في عمق بصيرته انفتح على نتائج الحقيقة. وعندما تطبق عليه الدروب فإنه يلجأ إليَّ؛ لأنه يعرف أنَّ الحقيقة عندي، وأن الهدى هنا).

الطبقة الثانية: لم تأخذ الحق من أهله.. (يعني أنها أخذت العلم ممّن لا يملك العلم أو ممن لا يملك مسؤوليته، وهذا هو حال الكثير من الناس ممن قد تجده يتزيّى بزيِّ العلماء ولكنّه لا يملك تقوى العلم، ولا يملك عمقه، ولا يملك الطريقة والموقع الذي ينفتح فيه على العلم).

الطبقة الثالثة: لم تأخذ الحقّ من أهله فهم كراكب البحر يموج عند موجه ويسكن عند السكون. فهؤلاء هم الضائعون.

الطبقة الرابعة: استحوذ عليهم الشيطان، شأنهم الرد على أهل الحق، ودفع الحق بالباطل حسداً من عند أنفسهم، فدع من ذهب يميناً وشمالاً، فإنّ الراعي إذا أراد أن يجمع غنمه جمعها بأهون سعي، وإياك والإذاعة، وطلب الرياسة، فإنهما يدعوان إلى الهلكة" (تحف العقول: ص 361).

وخرج في بعض توقيعاته عند اختلاف قوم من شيعته في أمره ـ وانظروا كيف كان الإمام (ع) يعيش المرارة من الذين يحيطون به أو ممن يحسبون من أتباع أهل البيت (ع): "ما مُني أحدٌ من آبائي بمثل ما مُنيت به من شكّ هذه العصابة فيَّ، فإن كان هذا الأمر أمراً اعتقدتموه ودنتم به إلى وقت ثم ينقطع فللشك موضع، وإن كان متصلاً ما اتصلت أمور الله فما معنى هذا الشك" (تحف العقول: ص 362)؛ لأنه شك لا ينطلق من قاعدة علمية.

وقال لشيعته وهو يوصيهم: "وأوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برّ أو فاجر، وطول السجود وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد(ص)، صلّوا في عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق في حديثه، وأدّى الأمانة، وحسّن خلقه مع الناس، قيل هذا شيعي فيسرّني ذلك. اتقوا الله وكونوا زيناً، ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كلّ مودة، وادفعوا عنا كلّ قبيح، فإنه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله، وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك، لنا حق في كتاب الله، وقرابة من رسول الله، وتطهير من الله لا يدعيه أحد غيرنا إلاّ كذّاب".

إنَّ هذه الوصية الثمينة، تمثل الخط الإسلامي في عالم العبادة وفي عالم السلوك الاجتماعي الذي يجعل الإنسان في مجتمعه خيراً لكلِّ مجتمعه، سواء مع الناس الذين يلتقي معهم في المذهب والفكر، أو مع الذين يختلف معهم.

وهكذا أن يكون الإنسان زيناً لمن ينتمي إليهم ولا يكون شيناً على من ينتمي إليهم، وذلك هو نهج رسول الله (ص) {وإنّك لعلى خلق عظيم}. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}.

ثم يقول (ع): "أكثروا ذكر الله، وتلاوة القرآن، والصلاة على النبي، فإنَّ الصلاة على رسول الله عشر حسنات. احفظوا ما وصّيتكم به، وأستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام" (تحف العقول: ص 362).

ونحن بدورنا نقول لك: وعليك السلام أيها الإمام البرّ التقي.

وقال في نهاية المطاف عن الذين يستهينون ببعض الذنوب: "من الذنوب التي لا تغفر: قول الرجل ليتني لا أؤاخذ إلا بهذا".

وقال (ع): "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنها تجتمع حتى تكون كباراً".

ثم قال (ع): "الإشراك في الناس أخفى من دبيب النمل على المسح الأسود في الليلة المظلمة" لأنّ الكثير من الناس قد يشركون بالله وهم لا يشعرون، عندما ينفتحون على رضا الناس عليهم بعيداً عن رضا الله عنهم، ولذلك فهم يقصدون الناس بالعمل ليرفعوا درجتهم عندهم ولا يقصدون الله ليتقربوا به إليه.

وقد جاء في سيرة الإمام (ع) أنه عندما مرض أرسلت إليه السلطة الكثير من الأطباء لمعالجته والبقاء إلى جانبه، حتى إذا قبضه الله إلى جواره أرسل الخليفة إلى العلماء والقضاة لينظروا إليه وليشهدوا أنه مات حتف أنفه حتى لا تتهم الخلافة بقتله.

ويذكر المؤرخون أنه عندما أعلنت وفاته ضجّت سامراء ضجة واحدة، وانطلق كلّ الناس في تشييعه، وأرسل الخليفة إلى بيته من يفحص هل له ولد، ويفحص جواريه هل أنّ إحداهن حامل، لأنهم كانوا يريدون أن يطمئنوا لانقطاع الإمامة، ولكنّ الله عز وجل أخفى وليّه بالطريقة التي حفظ بها هذا الولي الذي ينتظره العالم كلّه ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وصلى الله على الإمام الحسن العسكري (ع) وعلى آبائه (ع) وعلى ولده (ع) حجة الله في الأرض، سائلين الله أن ينفعنا ببركته وبركة آبائه، وأن يرزقنا شفاعتهم ( يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون* إلا من أتى الله بقلبٍ سليم ) [الشعراء:88ـ89].

وهذه هي بعض آثار الإمام العسكري(ع) التي نريد أن ننفتح عليها لنـزداد علماً من علمه، ووعياً مما يعطينا من عناصر الوعي، وقد كنت ولا أزال أقول لكم لا تقتصروا في علاقاتكم بالأئمة من أهل البيت (ع) على جانب المأساة، ولكن انطلقوا إلى جانب العلم الذي علّموه والهدي الذي أراد لنا الاهتداء به، والنهج الذي نسير عليه "أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا". أن نتعلّم علومهم وأن ننهج نهجهم، وأن نطلق سيرتهم كلها للعالم كله، ولا سيما العالم المعاصر، ليعرف من هم أهل البيت(ع)، لأنّ الكثيرين حتى ممن ينتمي إلى أهل البيت(ع) لا يعرفون من هم أهل البيت(ع) علماً وروحانية وحركة ومنهجاً.

 

الأحد، 18 سبتمبر 2022


 

الرسول القدوة (ص) في كلام الإمام علي

من خطبة لأمير المؤمنين يصف فيها النبي (ص) قال: "طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ، وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ، يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ؛ مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ، وَآذَانٍ صُمٍّ، وَأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ، مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ، وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ الْحِكْمَةِ، وَلَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ الْعُلُومِ الثَّاقِبَةِ، فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْأَنْعَامِ السَّائِمَةِ وَالصُّخُورِ الْقَاسِيَةِ".

في ذكرى وفاة رسول الله (ص) نريد أن نستنطق تلميذه علياً (ع)؛ لنقف على ملامح الاقتداء والتأسي في شخصية نموذج المعلم الأكبر للمسلمين رسول الله (ص)؛ ولأنه النموذج المتأسى بها فلا يسعنا إلا أن نحلِّق في كلمات ألصق الناس به، وأكثرهم محبة له، وأشدهم التزاماً بتعليماته، وأفضلهم في حمل علمه ووعيه، والذي نال شرف أن وصفه الله بأنه نفس الرسول في عقله وقلبه وروحه.

نحاول أن نستمع إلى أمير المؤمنين (ع)، وهو يحدثنا عن المحطات المهمة التي من خلالها نقف على ما يقربنا من الرسول المعلم والقائد والنبي والرسول المرشد:

@ خصائص الدعوة النبوية (الحركة الدائبة):

ما هي شخصية الرسول القائد؟ هل هو إنسان غيبي في شخصه وفي إمكاناته؟ هل من المفروض في الرسول الذي يرتبط بالله من خلال الوحي أن يكون في طبيعته شخصاً غير عادي، كما هو حال الوحي شيء غير عادي في جوهره؟ ... فما زال البعض -منا- لا يستطيع أن يتعامل مع النبوة من منطق أنه بشر فيه كل مكونات الجسد المادي.

يصوِّر لنا الإمام علي (ع) كيف كان رسول الله (ص) يتحرك بين الناس، فلم يكن يجمد في بيته بحيث ينتظر الناس ليأتوا إليه، كما يفعل الكثيرون من الذين لا يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن التحرك مع الناس، فهم المقصودون لا القاصدون في تصورهم؛ فإذا سألوهم أجابوا، وإذا لم يسألوهم رأوا أنفسهم في حلٍّ.

فالرسول (ص) على عكس ذلك تماماً؛ فهو يمسك بمفارق الطرق لكيلا ينتشر الوباء ويتفشّى بين الأمة؛ "طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ"؛ يداوي جرحى العقول والقلوب، وجرحى الأخلاق والآداب، وجرحى القيم والمثل، وجرحى الجهل والتخلف.

"وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ" والميسم هو المكواة، باعتبار أنَّ (آخر الدواء الكي)، فقد لا ينفع المرهم الذي يمثل دواءً عادة، فلا يكون أمام الطبيب سوى الكيّ.

"يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ" يضع الدواء لعلاج مرض هنا، وقد يكوي مرضاً هناك.

"مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ، وَآذَانٍ صُمٍّ" يعالجها حتى تبصر، ويعالجها حتى تستمع بعد صمم وصدود.

"وَأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ" ويداويها حتى تنطق بعد صمت رهيب..

"مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ، وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ" فهو (ص) يتحرك مع الناس الغافلين، الذين لم ينفتحوا على الوعي الحقيقي، فكانوا في ظلمة الغفلة يتقلبون؛ ليعيدهم (ص) إلى وعيهم ورشدهم، فهو كما الطبيب يحاول أن يدرس كلّ مظاهر المرض، وكلّ أوضاع المرضى.

"لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ الْحِكْمَةِ، وَلَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ الْعُلُومِ الثَّاقِبَةِ" ومعنى أن يقدح الزناد أن يخرج النور من خلاله، وكأن ّ الإنسان عندما ينفتح على العلم فإنّه يضيء له النور الذي يبدّد ظلام الجهل. "فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْأَنْعَامِ السَّائِمَةِ وَالصُّخُورِ الْقَاسِيَةِ"..

وهنا ينبغي أن نتساءل: ما العلاقة بين الطبيب والداعية؟

للأطباء منهجان في معالجة المرض: أحدهما إيجابي، والآخر سلبي:

ففي المنهج الإيجابي، نرى الطبيب يقول للمريض: احتقن بهذه الإبرة، استعمل هذا الكبسول، اشرب من هذا الشراب ملعقة واحدة كل ثمان ساعات. وفي الجانب السلبي يقول للمريض: لا تستعمل الأكلات الدسمة لا تأكل الحلويات..

فالمنهج الديني يشبه المنهج الطبي تماماً، فيقول للمسلم من جهة: أقم الصلاة، أدِّ الزكاة، ليكن كسبك حلالاً، ... ويقول له من جهة أخرى: لا تكذب، لا تفحش، لا تغتب... فالجانب الايجابي في الدين يسمى بالواجبات، بينما يطلق اسم المحرمات على الجانب السلبي.

وإذا ألقينا نظرةً فاحصةً على المنهج الطبي، لوجدنا موضوع الوقاية من العدوى، وترك القيام ببعض الأمور (الحمية) مهماً إلى درجة أنّ المريض لو لم يواظب على التوصيات اللازمة فالمعالجات الايجابية لا تنفعه أصلاً.

كذلك هو المنهج الديني؛ يرشدك إلى جملة من التوصيات الأخلاقية والإرشادية لتكون في وقاية من أمرك.

إذن لم يقتصر دور الرسول (ص) النبوي على الجانب الفقهي في بيان ما هو حلال وبيان ما هو حرام فقط، وإنما عمل (ص) إلى جانب ذلك، وسعى جاهداً لتربية المجتمع على المبادئ والقيم الأخلاقية، وتثقيفه بالفكر الإسلامي، ومن أجل هذا انطلق، في واقع المجتمع، وانتقل فيه من موقع إلى موقع، يلتقي بالناس ليحاورهم وليعلمهم وليرشدهم.

وقد أدّى (ص) هذا الدور بكل رحابة صدر، فلم يعكِّر جبينه، ولم يعقِّد حاجبيه، بل قابل السيئة بالحسنة، وبالحسنة بأحسن منها، سلاحه الإقناع، وأسلوبه الموعظة الحسنة.

وكان منهجه (ص) هو قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}، فالمبادرة والمسارعة إلى الخيرات أمر دعا إليه القرآن، وحث عليه الإسلام قال تعالى: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ}. {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}.. وفي ذلك حثٌ واستعجال على جميع الطاعات.

قال (ص): "بادروا بالأعمال"، "والتؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة".

فما هي حالُنا مع المبادرة؟

وما هي حالُ أسلافنا؟

لماذا يعترينا الضعفٌ أحياناً في المبادرة؟

وما هي الأمور المعينة على المبادرة؟

ألم يحثنا أهل البيت (ع) على المبادرة بأقرب الناس إلينا: "بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة".

ويختصر لنا تلميذه الإمام علي (ع) هذا المنهج فقال: "لأنسُبَنَّ الإسلامَ نسبةً لم ينسبها أحد قبلي: الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل".

وعليه فإنّ الدعوة إليه، وتعريف الناس به، وإقناعهم بالإقبال عليه، والتجاوب مع قيمه ومبادئه وتوجيهاته، وإبعادهم عن التناقض معه، والتصادم به... يصبح أمراً محتوماً لا بديل لاستقامة حياة الإنسان، وتناغم سعيه في العمارة مع سنن الله في الآفاق والنفس والكتاب.

وهو ما أكدته النصوص الكثيرة في القرآن، وارتقت به إلى قمة الأعمال الجليلة عند الله تعالى، لما يترتب عليه من الخير العظيم للناس الذين يعرفون الحق ويقبلون على الالتزام به كما قال تعالى: {وَمـَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.

@ كيف تصنع القيادة (التأسي بالرسول):

كان أمير المؤمنين (ع) يتحدث عن صفات رسول الله (ص) في حياته الخاصة، يقول (ع) وهو يخاطب بعض الناس: "فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَرِ (ص)؛ فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى، وَعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى، وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ، وَالْمُقْتَصُّ لِأَثَرِهِ" الذي يمشي وراءه.

-        قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً: لم يأكلها ليشبع منها.

-       وَلَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً: لم يلتفت إليها ليحدق فيها بكل عينيه وينبهر.

-       أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً، وَأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً: كان الضعيف وكان خميص البطن.

-       عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ، وَحَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ وَصَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ: كان يبغض ما يبغضه الله مهما كان الناس يتنازعون فيه، وكان يحقّر ما حقّره الله حتى لو كان الناس يعظّمونه.

-       وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا (وهذه هي مشكلتنا) إِلَّا حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَتَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ اللهُ وَرَسُولُهُ لَكَفَى بِهِ شِقَاقاً لِلهِ، وَمُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللهِ: فمن أحب من أبغضه الله وما أبغضه، ومن كبّر ما صغّره الله ومن صغّره، فإنه يكون ممن شاقّ الله وحادّه.

-       وَلَقَدْ كَانَ (ص) يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ، وَيَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ، وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ (من دون سرج) وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ (يُجلس شخصاً وراءه)، وَيَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ فَيَقُولُ: يَا فُلَانَةُ -لِإِحْدَى أَزْوَاجِهِ- غَيِّبِيهِ عَنِّي، فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا وَزَخَارِفَهَا، فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وَأَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ".

فالنبي الأكرم (ص) لم يرفض الدنيا لأنها حرام، بل إنّ الله تعالى قال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، ولكنه (ص) أراد أن يعيش للرسالة كلها، وأن لا يُشغل نفسه بالدنيا كما يُشغل الآخرون أنفسهم بها، فتكون أكبر همهم، فيبتعدون عن رسالتهم ومسؤولياتهم وطاعتهم لله طلباً للدنيا.

وقد أشار الإمام علي (ع) إلى قضية مهمة، وهي التأسي بالنبي الكريم (ص) "فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَرِ (ص)؛ فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى"؛ لأنّ الله أمرنا الأخذ بسنّة رسول الله (ص): {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطَاعَ اللهُ}.

وفي ضوء ذلك، نواجه موقف الذين يقولون "حسبنا كتاب الله" و "أننا نأخذ بما جاء في القرآن ونترك غيره"؛ على اعتبار أنّ القرآن هو المصدر المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ونترك كل الأحاديث المروية عن النبي (ص)، والتي قد تكون محل تأملٍ أو محل شكٍ وما إلى ذلك.

ونردّ على هؤلاء: أنّ الأخذ بكتاب الله يقتضي الأخذ بسنّة رسوله؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى أمـرنا في كتابه أن نتبع الرسول، وأن نطيعه في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه؛ حتى إنّ الله جعل سيرة الرسول (ص) شريعةً للناس ليأخذوا بها: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً}، ونحن نعرف أنّ النبي (ص) كان يمثّل القرآن الناطق ويجسّده، بحيث كان الناس يسمعون الآية من لسانه ويجدونها مجسّدة في سلوكه.

لا سيما في عهد الرسالة الأول؛ باعتبار أنّ الوحي كان ينطلق من الفكرة العامة على مستوى النظرية، ومن حركة التجربة الواقعية على مستوى التطبيق، فكان الناس يرون النبي (ص) في مضمون الآيات، ويحدّقون به في حركة الواقع، فيجدون وحدة الخطّ الفكري مع التجسيد الإنساني الواقعي وفي سلوكه العملي مع الناس؛ لأنّه ليس من الطبيعي أن تكون الصورة النبوية في الوجدان الإسلامي في تلك المرحلة -التي تؤسس للمراحل القادمة- بعيدة عن الصورة الواقعية.

وكذلك الحال علينا أن نتأمل تجربة الإمام علي (ع) من حيث النص والواقع.. لأنه الإنسان الذي شرى نفسه وباعها لله، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}. وكان سر علي (ع) أنه لم يفكر في نفسه قط، بل كلُّ فكره لله سبحانه، ويقول: "ليس أمري وأمركم واحداً، إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم".. فكانت علاقته بالناس من خلال علاقتهم بالله تعالى.

هذا هو عنوان التأسي بالنبي (ص) عند علي (ع).. وهو القائل: "ألا وأن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد".

@ الخصائص النفسية والسلوكية للنبي (تغلغله (ص) في وجدان كل الناس):

إنّ أصدق كلمة يقولها إنسان عندما يقف على جسد شخص مسجى يبثه لواعجه ومكنونه، وقد كان لعلي (ع) قولٌ، يدلل على مدى فداحة الخسارة التي أُصيب بها المسلمون بانتقال رسول الله (ص) إلى الرفيق الأعلى يقول: "بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالإِنْبَاءِ وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ.."..

أعظم فداحة على الأمة هو انقطاع الأمة عن النبوة؛ بحيث كان كل نبي عندما يموت يخلفه نبيّ آخر في كل مسيرة الأنبياء.. ولكن بموت رسول الله (ص) انقطع الوحي من السماء، لقد كانت السماء تُنزل علينا ما يسدد خطانا ويفتح آفاقنا وينير عقولنا وينظم حياتنا، وتعطينا من خلال النبي (ص) الكثير من الأنباء والأخبار التي تتصل بالحياة من حولنا.. إنَّ رحيل النبي (ص) عن هذه الدنيا يمثل الوفاة التي انقطع بها خبر السماء عن الأرض وانتهت بذلك مرحلة النبوة والأنبياء.

ثم يصف الإمام (ع) النبي (ص) في خصوصيته، بما أعطاه الله من المميزات، وبما انفتح به على الواقع من حوله، بحيث استطاع أن يكون السلوى عمن سواه؛ لأنه (ص) ملأ الساحة كلها بما أعطاه الله سبحانه وتعالى من خصائصه التي لم يعطها لسواه:

أ- "خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ" بحيث كان كل إنسان يجد فيك السلوى عن أي نبي أو قريب إلى الله.

ب- "وَعَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً" لقد عاش (ص) الشمولية للناس، فهي شخصية امتدت في وجدان الناس حتى صار الناس فيك سواء، وانطلق هؤلاء ليشعر كل واحد منهم بامتداد رسول الله (ص) الذي لا يختص به أحد دون أحد.

"وَلَوْلا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ وَنَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ (أردت لنا أن نصبر حتى على أشد المصائب التي تواجهنا في الحياة، لأنّ الله أراد للناس أن يصبروا لأنّ الصبر من عزم الأمور) لأنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّؤونِ (كل ما في عيوننا من الدمع) وَلَكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلاً (لكان المرض مستمراً) وَالْكَمَدُ مُحَالِفاً (والكمد هو التعبير عن حالة الحزن الشديد) وَقَلا لَكَ (فمهما بلغت حالة الكمد والداء والبكاء فإنّ كل ذلك يبقى قليلاً) وَلَكِنَّهُ مَا لا يُمْلَكُ رَدُّهُ، وَلا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ".

وهو أن يسأل رسول الله (ص) لأمتّه التوفيق لهم بالخير والصلاح. بمقدار ما تكون أنت مع النبي (ص) فقد ذكرك النبي (ص) في ذلك العالم {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون}.

وفي كلمة أخرى عندما وقف (ع) على قبر رسول الله (ص) بعد أن دفنه، والقوم مشغولون بما كان يمكن أن يُشغلوا به بعد ذلك، فقال على قبره (ص): "إِنَّ الصَّبْرَ لَجَمِيلٌ إِلا عَنْكَ، وَإِنَّ الْجَزَعَ لَقَبِيحٌ إِلا عَلَيْكَ، وَإِنَّ الْمُصَابَ بِكَ لَجَلِيلٌ، وَإِنَّهُ قَبْلَكَ وَبَعْدَكَ لَجَلَلٌ".

@ الاستفادة من خصائص النبي:

وهنا نتساءل: كيف استفاد أمير المؤمنين (ع) من قدوته لرسول الله؟

الأولى: إخماد الفتن:

روى الإمام الصادق (ع) عن آبائه (ع)، عن علي (ع) قال: قال رسول الله (ص): "أربعة لا تزال في أمتي إلى يوم القيامة: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة". ويرويها مسلم أيضاً عن الرسول.

لما قُبض رسول الله (ص)، وخاطبه العباس وأبو سفيان في أن يبايعاه بالخلافة، فقال:

"أَيُّهَا النَّاسُ شُقُّوا أَمْوَاجَ الْفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ -وما أكثر الفتن عندنا في الواقع-، وَعَرِّجُوا عَنْ طَرِيقِ الْمُنَافَرَةِ -لا تتنافروا-، وَضَعُوا تِيجَانَ الْمُفَاخَرَةِ أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاحٍ -الذي استطاع أن ينأى بنفسه عن كل هذا الواقع-، أَوِ اسْتَسْلَمَ فَأَرَاحَ، هَذَا مَاءٌ آجِنٌ، وَلُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا، وَمُجْتَنِي الثَّمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا كَالزَّارِعِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ. فَإِنْ أَقُلْ -طالبت بحقي- يَقُولُوا: حَرَصَ عَلَى الْمُلْكِ، وَإِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا: جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ، هَيْهَاتَ بَعْدَ اللَّتَيَّا وَالَّتِي! وَاللهِ لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ، بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لَاضْطَرَبْتُمْ اضْطِرَابَ الْأَرْشِيَةِ فِي الطَّوِيِّ الْبَعِيدَةِ".

والثانية: نصرة الإسلام:

يحدثنا عليّ (ع) عن المشكلة التي واجهها بعد رسول الله (ص)، فقد بعث إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاّه إمارتها، فمن جملة ما قال:

"فَوَاللهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي وَلا يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ (ص) عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ -لأنهم هم الذين يملكون الحق في القيادة-، وَلا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ -وقد عرفوا موقعي من رسول الله وموقعي من الإسلام وقدرتي على قيادة المسلمين-، فَمَا رَاعَنِي إِلا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلانٍ يُبَايِعُونَهُ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي -لأنني لا أريد أن أخلق فتنة بين المسلمين وأنا أمين على الإسلام خارج الخلافة كما أنا أمين عليه داخلها- حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ (ص)، فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ.. فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ -ونصحت وساعدت وعاونت- حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَتَنَهْنَهَ".

@ الإسلام مسؤولية الجميع:

قال سبحانه وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ}. حيث نزلت في معركة أُحد، عندما ضُرب رسول الله (ص) وشُجّت جبهته وسقطت رباعية أسنانه ونزف منه الدم، فصاح صائح: "لقد قُتل محمد"، وحصل هناك اهتزاز بين المسلمين فقال بعضهم: "فلنذهب إلى أبي سفيان ليعطينا الأمان"، وقال البعض الآخر وهم المخلصون منهم: "إن كان محمد قد مات فإنّ ربّ محمد لم يمت فتعالوا نقاتل على ما قاتل عليه ونموت على ما مات عليه"، فنـزلت هذه الآية...

إنّ هذه الآية المباركة تريد أن تقول للمسلمين: إنّ محمداً رسول الله كأيّ رسول من الرسل، والرسول لا يُخلّد، فقد يموت أو يُقتل، ولكن إذا مات الرسول فلن تموت الرسالة بل تبقى ليحملها من بعده أوصياؤه، وليتبعها الناس الذين آمنوا بها ليسيروا عليها، فلا يجوز للذين اتبعوا الرسول أن ينقلبوا على أعقابهم بعد أن يموت الرسول؛ لأنّ الإنسان الذي يؤمن بالرسول هو الذي يؤمن بأنّ رسالته هي من الله تعالى، وأنّ دوره هو أن يبلّغ الرسالة وأنّ دور الناس هو أن يؤمنوا بها، ولذلك فإنّ الرسالة لا ترتبط في امتدادها بحياة الرسول، بل يموت الرسول كما يموت الناس من قبله ومن بعده، ولكن تبقى الرسالة وعلى الناس أن يلتزموها، {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً}؛ لأنّ الله تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يتضرر بكفر الكافرين {وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ}، الذين يتجسّد شكرهم في التزامهم بخط الإيمان والعمل.

ومن هذه الآية نستوحي أنّ علينا أن لا نتجمد في أية مرحلة من المراحل عند وفاة عالِم أو قائد، بل علينا أن نعرف أنّ العلماء والمصلحين والقادة هم مراحل في حياة الأمم، وأنهم يبلّغون الرسالة وعلى الأمة أن تتابع الرسالة من بعدهم، وأن تحمل رسالتهم التي تؤمن بها.

ونقف -بعد ذلك- على الأبعاد الكبرى لمشروع الخلافة النبوية في كلمات علي:

أ- الترقي المعرفي: قال علي (ع): "فما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة".

ب- الترقي الروحي: من خلال الوقوف على سنن الله في الخليقة، والاهتداء إلى نواميس التسخير، وكشف الإنسان نفسه في الآفاق والأنفس..

ج- الترقي الأخلاقي: ويعتبر هذا البعد انعكاساً طبيعياً مباشراً لمدى استيعاب الإنسان للبعدين السابقين.. وهي أخلاقية الالتزام، وأخلاقية المفهوم المقترن بالموقف، والموقف المتجسد بالعمل، والفعل الممثّل للفكرة .. كما يقول علي (ع): "أأقنع من نفسي بأن يقال لي أمير المؤمنين: ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش" .. وقوله (ع): "إنّي لأرفع نفسي عن أن أنهى الناس عمّا لست أنتهي عنه، أو أأمرهم بما لا أسبقهم إليه بعملي، وأرضى منهم بما لا يرضى ربي".

د- الترقي العمراني: وهو التأثر الإيجابي المتصاعد، الذي يحدثه الجهد الإنساني في الطبيعة المحيطة به، بواسطة إعمال قوانين التسخير فيها، بغية ترقية حياته المادية بشكل فعّال يتيح له الفرصة للاستمتاع بما أودعه الله تعالى في الكون من أسرار ونِعَم لا حصر لها. ولا يخفى فإنّ عمارة الأرض هي الساحة التي تلتقي فيها كلّ أبعاد المشروع الاستخلافي في كتلة متكاملة.

أيها المؤمنون..

في ذكرى وفاة النبي الأكرم (ص)، علينا أن نتحسس مسؤوليتنا عن الإسلام كله، لأنّ المسلمين بأجمعهم معنيون في بيوتهم وأسواقهم ونواديهم وساحاتهم أن يعملوا في سبيل أن يكون الإسلام قوياً في كل ساحات الحياة، وأن نعمل جميعاً -كما عمل رسول الله (ص) وهو صاحب الرسالة- من أجل أن لا نرى ثلماً في الإسلام ولا هدماً، أن نعمل على أساس الوحدة بين المسلمين، ولا أقصد من الوحدة أن يترك هذا مذهبه وذاك مذهبه، ولكن الوحدة أن نلتقي على ما اتفقنا عليه وأن نتحاور فيما اختلفنا فيه، وأن نكون صفاً كالبنيان المرصوص في مواجهة كل التحديات والأوضاع الصعبة.


محرم 1447 في الصحافة الكويتية