الجمعة، 21 يناير 2022


 

**الزهراء العالمة المعلِّمة** 

 

لا نستطيع أن نتابع هذا المدى الواسع الذي تعيشه سيدتنا فاطمة الزهراء (ع)؛ فما تعيشه الزهراء (ع) مع الله لا يستطيع أحد أن يعبِّر عنه بحرف.

 

لقد احتضنت طفولتها المآسي منذ نعومة أظافرها؛ من خلال ما يلاقيه أبوها (ص) من مشركي قريش من أذى متلاحق، وكانت هي تتحسس آلام الرسول وآلام الرسالة.

 

وتصف (ع) دور أبيها (ص) في الدعوة إلى الله ببلاغة فائقة، كما روي عنها، فتقول: "فَبَلَّغَ (أي رسولُ الله) بالرِّسالة، صادِعًا بالنَّذارة (النذار: الأنذار)، مائلًا عَلى مَدْرَجَةِ (المدرج والمدرجة: المذهب والمسلك) المُشْركيْن، ضاربًا ثَبَجَهُمْ (الثبج: وسط الشيء ومنه الكاهل)، آخِذًا بأَكْظامِهمْ، داعِيًا إلى سَبِيْل رَبِّه بِالحِكْمَةِ وَالْمَوْعظَةِ الْحَسَنَةِ، يَكْسِرُ الأَصْنامَ، ويَنْكُتُ (ينكت: يلقيه ويطرحه) الهامَ (الهامة: الرأس)، حتّى انْهَزَمَ الجَمْعُ، وَوَلُّوا الدُّبُر، حَتى تَفَرّى (تفرى: تشقق) الليلُ عَنْ صُبْحِهِ، وَأَسْفَرَ الحَقُ عَنْ محْظِهِ (المحض: الخالص)، وَنَطَقَ زَعيمُ الدين، وَخَرستْ شَقاشقُ (الشقشقة: شيء يشبه الرئة يخرج من فم البعير أذا هاج. والمراد منه هنا تكلم الشياطين بملأ أفواههم بجرأة وشهامة) الشَّياطين، وأطاحَ وَشِيظُ (الوشيظ: الأتباع والخدم) النِّفاقِ، وانَّحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ والشِّقاقِ، وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الإخْلاص في نفَر مِنَ البيض الْخِماص، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَة مِنَ النّار مُذْقَةَ (المذقة: شربة من اللبن الممزوج بالماء) الشّارب، وَنُهْزَة (النهزة: الفرصة) الطامِع، وقَبْسَةِ العِجْلان (قبسة العجلان : الشعلة من النار الّتي يأخذها الرجل العاجل)، وَمَوطئَ الأَقْدامِ؛ تَشْرَبُونَ الطَرقَ (الطرق: الماء الذي خوّضته الابل وبوّلت فيه)، وَتَقْتاتُونَ القِدَّ (القد: قطعة جلد غير مدبوغ) وَالوَرق، أذِلَّةً خاسِئينَ، تَخافُونَ أَنْ يَتخَطَّفَكُم النّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ، فَأَنْقَذكُمُ الله تَعالى بِمُحَمَّدٍ بَعْدَ اللُّتَيّا وَالَّتي، بَعْدَ أن مُنِيَ بِبُهْم (البهمة: الشجاع الذي لا يهتدي من أن يؤتى) الرجال، وَذُؤبانِ الْعَرَب، وَمَرَدة أهْلِ الْكِتاب (المارد : العاتي)، كُلَّما أوْقَدُوا نارًا لِلْحَربِ أطْفأَها اللهُ، أوْ نجَمَ (نجم: طلع) قَرْنُ الشَّيْطانِ، أوْ فَغرَتْ (فَغرت: فتحت) فاغِرَةً مِنَ الْمُشركيْن...".

 

وفي حياة الزهراء (ع) نقطة مهمة جدًا، قد لا ينتبه إليها الكثيرون، وهي أنّ فاطمة الزهراء (ع) كانت أول مَن جمع كتابًا في الإسلام، ولم يُنقل أنّ رجلًا أو امرأةً جمع كتابًا في ذلك الوقت.

 

فـ(مصحف فاطمة) هو كتاب الزهراء (ع)، يعكس مدى اهتمامها بحديث رسول الله (ص) وبأحكام الإسلام، بحيث كانت تسجِّل ما تسمعه منه (ص). فجمعت هذا الكتاب الذي تناقله أئمة أهل البيت (ع)، حتى أنّ الصادق (ع) كان ينقل عنه بعض الأحكام الشرعية.

 

وربما انطلق بعض من لا علم دقيق لديه، أنّ للشيعة مصحفًا غير هذا المصحف، ولهم قرآن غير هذا القرآن، وهو مصحف الزهراء (ع)، ويقولون إنّ الصادق (ع) كان يتحدث فيقول: "مُصْحَفٌ فِيهِ مِثْلُ قُرْآنِكُمْ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَاللهِ مَا فِيهِ مِنْ قُرْآنِكُمْ حَرْفٌ وَاحِدٌ" فهمًا منهم أنه قرآن خاص غير القرآن المتداول.

 

والذي عرفناه عن الإمام الصادق (ع) مما ثبت بسند صحيح، أنّ هذا الكتاب يشتمل على مفردات الأحكام الشرعية والثقافة الإسلامية؛ حيث قال: "وَمُصْحَفُ فَاطِمَةَ، مَا أَزْعُمُ أَنَّ فِيهِ قُرْآنًا، وَفِيهِ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْنَا وَلَا نَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ، حَتَّى فِيهِ الْجَلْدَةُ وَنِصْفُ الْجَلْدَةِ، وَرُبُعُ الْجَلْدَةِ، وَأَرْشُ الْخَدْشِ".

 

ويشهد على ذلك ما رواه الكليني، بإسناده عن حبيب الخثعمي، قال: كَتَبَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ -وَكَانَ عَامِلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ- أَنْ يَسْأَلَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ عَنِ الْخَمْسَةِ فِي الزَّكَاةِ مِنَ الْمِائَتَيْنِ: كَيْفَ صَارَتْ وَزْنَ سَبْعَةٍ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ (ص)؟ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ فِيمَنْ يَسْأَلُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الْحَسَنِ وَجَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (ع).

قَالَ: فَسَأَلَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: أَدْرَكْنَا مَنْ كَانَ قَبْلَنَا عَلَى هَذَا، فَبَعَثَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَسَنِ وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (ع)، فَسَأَلَ عَبْدَ اللهِ بْنَ الْحَسَنِ، فَقَالَ كَمَا قَالَ الْمُسْتَفْتَوْنَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟

فَقَالَ: "إِنَّ رَسُولَ اللهِ (ص) جَعَلَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، أُوقِيَّةً، فَإِذَا حَسَبْتَ ذَلِكَ، كَانَ عَلَى وَزْنِ سَبْعَةٍ، وَقَدْ كَانَتْ وَزْنَ سِتَّةٍ، وَكَانَتِ الدَّرَاهِمُ خَمْسَةَ دَوَانِيقَ".

قَالَ حَبِيبٌ: فَحَسَبْنَاهُ، فَوَجَدْنَاهُ كَمَا قَالَ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَخَذْتَ هَذَا؟

قَالَ: ">قَرَأْتُ فِي كِتَابِ أُمِّكَ فَاطِمَةَ".

قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ: ابْعَثْ إِلَيَّ بِكِتَابِ فَاطِمَةَ (ع).

فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللهِ (ع): "إِنِّي إِنَّمَا أَخْبَرْتُكَ أَنِّي قَرَأْتُهُ، وَلَمْ أُخْبِرْكَ أَنَّهُ عِنْدِي".

قَالَ حَبِيبٌ: فَجَعَلَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ يَقُولُ لِي: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا قَطُّ (الكافي: ج 3 ص 507 ح 2).

 

وربما يرشدنا إلى جزء من هذا المجموع ما رواه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، قال: جاء رَجلٌ إلى فَاطمَةَ، فقال: يا بنت رسول اللهِ هل ترَكَ رسول اللهِ (ص) عنْدَكَ شيئا تطْرِفِينِيهِ، فقالت: "يا جاريه، هَاتي تلْكَ الجريدة"، فطَلَبَتْهَا، فلم تَجدْهَا، فقالت: "ويْحَكِ اطْلُبيهَا، فَإنَّهَا تَعْدلُ عنْدِي حسَنًا وحُسَيْنًا" فطَلَبَتْهَا، فإذا هيَ قد قمَّتْهَا في قُمَامَتِهَا، فإذا فيها: قال مُحمَّدٌ (ص): "ليس منَ الْمُؤْمنِينَ من لم يأْمَنْ جارُهُ بَوَائقَهُ؛ من كان يُؤْمنُ باللهِ والْيَوْمِ الآخرِ فَلْيُكْرمْ ضيْفَهُ، ومَنْ كان يُؤمنُ باللهِ والْيَوْمِ الآخرِ فلا يُؤذِ جارَهُ، ومن كان يُؤْمنُ باللهِ والْيَوْمِ الآخرِ فَليَقُلْ خَيرًا أو لِيَسكُتْ؛ إنَّ اللهَ يُحِبُّ الحَيِيَّ الحَلِيمَ العَفِيفَ المُتَعَفِّفَ، وَيُبغِضُ الفَاحِشَ البذيء السُّؤالِ المُلْحِفَ، إنَّ الحَيَاءَ مِنَ الإِيمانِ، والإِيمَانَ في الجَنَّةِ، وَالفُحْشَ منَ البَذَاءِ، وَالبَذَاءَ في النّارِ" (المعجم الكبير: ج 10 ص 196؛ مجمع الزوائد: ج 8 ص 169).

 

فلو جال علماء المسلمين من أهل السنّة على كل مواقع الشيعة في العالم، وعلى كل بيوتات الشيعة في العالم، فإنهم لا يجدون إلا هذا القرآن الذي لا يختلف بكلمة، ولا بحرف، ولا بشيء، عن القرآن الذي بين أيدي المسلمين.

 

يقول العالم المصري الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- في ردّه على من يتهم الشيعة بأنّ لهم قرآنًا غير هذا القرآن: "لماذا لم يطلّع الإنس والجن على نسخة من هذا القرآن خلال هذا الزمن الطويل؟!! ولماذا هذا الافتراء؟! ولحساب مَن تفتعل هذه الاشاعات وتلقى بين الأعزاء ليسوء ظنهم بإخوانهم وقد يسوء ظنهم بكتابهم" (دفاع عن العقيدة والشريعة: ص 264).

 

ويقول أيضاً: "والحق أنّ هناك أناسًا يشتغلون بالدعوة الإسلامية، وفي قلوبهم غلٌّ على العباد، ورغبة في تكفيرهم أو إشاعة السوء عنهم، غلٌّ لا يكون إلا في قلوب الجبابرة والسفّاحين.. وإن زعموا بألسنتهم أنهم اصحاب دين" (هموم داعية: ص 164).

 

ولم تكتفِ الزهراء (ع) -كما ينقل لنا تاريخها- أن تكتب ما تسمعه من حديث، بل كانت تلقي بذلك على نساء المهاجرين والأنصار، وكان دارها مجمعًا للنساء، تلقي عليهنّ ما تعلّمته من رسول الله (ص).

 

يروى عن حفيدها الإمام الحسن العسكري (ع) قال: حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء (ع) فقالت : إنّ لي والدة ضعيفة، وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألك، فأجابتها فاطمة (ع) عن ذلك، فثنّت فأجابت، ثم ثلّثت إلى أن عشّرت فأجابت، ثم خجلت من الكثرة، فقالت: لا أشقّ عليك يا ابنة رسول الله.

فقالت (ع): "هاتي وسلي عمّا بدا لك.. إنّي سمعت أبي يقول: إنّ علماء أُمّتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدّهم في إرشاد عباد الله، حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلّة من نور..".

 

ويروى عنه (ع) -أيضًا-: "قالت فاطمة (ع) وقد اختصمت إليها امرأتان، فتنازعتا في شيء من أمر الدين، إحداهما معاندة، والأخرى مؤمنة، ففتحت على المؤمنة حجتها، فاستظهرت على المعاندة، ففرحت فرحًا شديدًا، فقالت فاطمة (ع): "إنّ فرح الملائكة باستظهارك عليها أشدّ من فرحك، وإنّ حزن الشيطان ومردته أشدّ من حزنها".

 

ولمكانتها العلمية روى عنها (ع) وجوه الصحابة، ومنهم: علي بن أبي طالب (ع)، الحسين بن علي (ع)، عبد الله بن مسعود، عبد الله بن العباس، أنس بن مالك، أم سلمة، عائشة، أسماء بنت عميس، زينب بنت أبي رافع .. (المعجم الكبير: ج 22 ص 413-424).

 

(أم أبيها) ورسالة عيد الأم:

في مناسبة عيد الأم، تقام الاحتفالات بهذه المناسبة تكريمًا للأمّ، ولا مانع من تكريم الأم، وإظهار الاهتمام بالاحتفال بها، ويؤجر الإنسان إن قصد إدخال السّرور عليها بذلك.

 

وقد أعطى الإسلام للأم مكانة تتميز عن مكانة الأب في معنى البرّ والعاطفة والإحسان؛ لأنّ الأم هي التي تبذل في صناعة الحياة للولد كلَّ الجهد، وتتحمل كل الثقل والتعب وكل الرعاية، فهي التي تحمل الولد وتغذيه من كل جسدها، وهي التي تواجه الخطر على حياتها عند الوضع، ومن ثم يأتي دور الرضاعة والحضانة، حيث يقيد الطفل حرية الأم في الحركة ويضيّق عليها الكثير من المساحة التي تتحرك فيها.

 

ولا يتطلب تكريم الأمّ ورجحان ذلك، ورود نص خاص يبيح الأمر، بل هو يتوافق مع المفهوم الإسلامي في برّ الوالدين والإحسان إليهما والتواضع لهما ورعاية حقوقهما وتقدير جهودهما وحفظهما، ووقوع ذلك في اليوم الذي اعتبر عند الناس عيدًا لها لا يضر ولا يتنافى مع الشرع، فما يتنافى معه، هو أن نشرّع عيدًا جديدًا له أحكام العيد، وهذا غير حاصل. وبعبارة أخرى، هناك عيد بالمعنى الشرعي الإسلامي، وهناك عيد بالمعنى العام، أي المناسبة التي تعتبر لتكريم شخص أو وطن أو عنوان أو نحو ذلك.

 

ومن الجيد الاهتمام بالأم والعمل على تكريمها في يوم معيّن، هو يوم عيدها الذي تعارف عليه الناس رغم عدم وروده في شرعنا.

 

ويرى فقهاء أهل السنّة، أنّ الاحتفال بيوم الأم ضمن الأطر الشرعية، أمر جائز شرعًا، لا مانع منه ولا حرج فيه، والبرّ مطلوب كل الأيام، والإحسان مفروض في كل وقت.

 

ويرى البعض الآخر أنّ الاحتفال بعيد الأم هو من جملة البدع والمحدثات، وأنّه تقليد غربي.. وأنّه لا يجوز إحداث عيد يحتفل به المسلمون غير عيدي الأضحى والفطر، لأنّ الأعياد من جملة إحياء المناسك والعبادات، قال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} (الحج: 67).

 

ويجيب البعض الآخر بأنّه ليس في الشرع ما يمنع من أن تكون هناك مناسبة يعبِّر فيها الأبناء عن برّهم بأمهاتهم، فإنّ هذا أمر لا حرج فيه، ولا صلة له بمسألة البدعة، لأنّ البدعة المردودة هي ما أحدثه الإنسان على خلاف الشّرع.

 

يقول الإمام زين العابدين في رسالة الحقوق: "فَحَقُّ أُمِّكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا حَمَلَتْكَ، حَيْثُ لَا يَحْمِلُ أَحَدٌ أَحَدًا، وَأَطْعَمَتْكَ مِنْ ثَمَرَةِ قَلْبِهَا مَا لَا يُطْعِمُ أَحَدٌ أَحَدًا، وَأَنَّهَا وَقَتْكَ بِسَمْعِهَا وَبَصَرِهَا، وَيَدِهَا وَرِجْلِهَا وَشَعْرِهَا وَبَشَرِهَا، وَجَمِيعِ جَوَارِحِهَا، مُسْتَبْشِرَةً بِذَلِكَ، فَرِحَةً مُوَبِّلَةً (أي مواظبة ومستمرة) مُحْتَمِلَةً لِمَا فِيهِ مَكْرُوهُهَا، وَأَلَمُهَا، وَثِقْلُهَا وَغَمُّهَا حَتَّى دَفَعَتْهَا عَنْكَ يَدُ الْقُدْرَةِ، وَأَخْرَجَتْكَ إِلَى الْأَرْضِ، فَرَضِيَتْ أَنْ تَشْبَعَ وَتَجُوعَ هِيَ، وَتَكْسُوَكَ وَتَعْرى، وَتُرْوِيَكَ وَتَظْمَأَ وَتُضَحِّي وَتُنَعِّمَكَ بِبُؤْسِهَا، وَتُلَذِّذَكَ بِالنَّوْمِ بِأَرَقِهَا، وَكَانَ بَطْنُهَا لَكَ وِعَاءً، وَحِجْرَهَا لَكَ حِوَاءً (ما يحتوي الشيء ويحيط به)، وَثَدْيُهَا لَكَ سِقَاءً، وَنَفْسُهَا لَكَ وِقَاءً، تُبَاشِرُ حَرَّ الدُّنْيَا وَبَرْدَهَا لَكَ، وَدُونَكَ، فَتَشْكُرُهَا عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِعَوْنِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ".

 

أيها الأحبة ..

علينا أن نستذكر كلمات سيدتنا الزهراء (ع) ومن كلماتها العظيمة قولها: "والعدل تنسيقًا للقلوب". فالعدل - كما هو معروف - من المسائل التي تتصل بالواقع الخارجي للحياة الاجتماعية للأمة، لأنّه بالعدل يصل كل إنسان إلى حقه، وبذلك يعمّ الخير في الناس وتقل الصراعات والمعارك .

 

إنّ العدل في حركيته الإنسانية وفي واقع العلاقات بين الناس، ودوره في وصول كل إنسان إلى حقه، يهيئ الرخاء والسلام والتوازن في الواقع الاجتماعي، وهذا أمر بيِّن لا يكاد يخفى على أحد، ولذا لم تركّز عليه الزهراء (ع)، وإنّما ركّزت على مسألة أخرى، وهي: تأثير العدل في علاقات الناس مع بعضهم البعض، فيما ينفتح فيه قلب على قلب، لأنّ الظلم ينتج الكثير من التعقيدات النفسية والكثير من الأحقاد الذاتية، ذلك لأنّ أي إنسان يُضطهد في حقه، فمن الطبيعي أن يحمل لمضطَهده مشاعر الحقد والعداوة والبغضاء، ما يجعل من الظلم مشكلة للعلاقات الإنسانية في دائرة المشاعر، كما هو مشكلة لواقع الإنسان في دائرة العلاقات الاجتماعية القائمة على أساس الحقوق.

 

لذلك أرادت الزهراء (ع) أن تؤكد قيمة العدل في جمع القلوب وتنسيقها، لأنّ المجتمع إذا كان قائمًا على إعطاء كل ذي حق حقه، فإنّ من الطبيعي أن يبعد ذلك الكثير من المشاعر السلبية في علاقة الناس مع بعضهم البعض، وهذا هو الذي يهيئ لحركة السلام الاجتماعي أن تسود، لأنّ غالب المؤثرات في إيجاد الحروب أو في إبعاد حركة السلام عن الواقع هي العقد النفسية التي يحملها بعض الناس.

 

وكما يجب العدل يحرم الظلم، وهو يشتمل: ظلم النفس -روحًا وجسمًا- وظلم العائلة، وظلم المجتمع، وظلم الحكومة، أي: ظلم الحكومة للناس أو ظلم الناس للحكومة، وظلم الحيوان والنبات والطبيعة، وظلم الأجيال القادمة أيضًا، والظلم الاقتصادي والاجتماعي وغيرها. قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل: 118).

 

ولهذا فقد جعل الإسلام العدل من قواعده الأساسية، قال سبحانه: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ}، {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}.

 

إنّ مرحلتنا الإسلامية التي نخوض فيها حربًا من أشرس الحروب في مواجهة الطائفية، تطلّب منّا نساء ورجالًا أن نعطي كل طاقتنا للإسلام، وأن نتعلم الإسلام كأفضل ما يكون العلم والتعلم.

محرم 1447 في الصحافة الكويتية