من روح وصايا سيدنا المسيح
في وصف القرآن الكريم للسيد المسيح (ع) يقول: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} (مريم: 30-34).
هل سقطت الروح عن مركزها السامي الذي تربعت عليه على مدى
التاريخ؟
فإذا كان الجواب بالنفي.. فما الذي أدّى إلى أن نتمسك بالخطط
والتنظيمات التي لا تدعم الجوانب الروحية والخلقية.
هل عمي على إنسان اليوم مدى التناقض في إمكانات النمو المادي،
بحيث لا يرى أي روح جديدة يتشبث بها؟
إذن من الذي يتحمل نتائج الانتكاسات في مجالات الحياة المختلفة؟
إننا بحاجة إلى قاعدة روحية أخلاقية..
هذه التساؤلات تطرح ونحن نعيش امتداد ذكرى ولادة سيدنا المسيح (ع)،
الذي رفعه الله ليكون منهجًا يضيء سماء الروح في وجداننا، وليبقى الشاهد على أنَّ الله
لم يخلق الإنسان ليكون ضئيلاً، ولكنَّ الإنسان أراد لنفسه أن يعيش كسولاً عن طلب
المعرفة إلى حد بعيد.
ومع امتداد هذه الذكرى نستنشق رأفة المسيح ورحمته ومحبته لمن اتبعوه
{وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}.
وفي حديث الإمام علي (ع) مع نوف البكالي، يقول: "طُوبَى لِلزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا، الرَّاغِبِينَ
فِي الْآخِرَةِ، أُولَئِكَ قَوْمٌ اتَّخَذُوا الْأَرْضَ بِسَاطاً، وَتُرَابَهَا فِرَاشاً،
وَمَاءَهَا طِيباً، وَالْقُرْآنَ شِعَاراً، وَالدُّعَاءَ دِثَاراً، ثُمَّ قَرَضُوا
الدُّنْيَا قَرْضاً عَلَى مِنْهَاجِ الْمَسِيحِ".
ويتحدث الامام علي (ع) عن السيد المسيح (ع)، في خطبته البليغة التي
يمتدح فيها الزهد ويذمّ جمع المال، ويصف زهد أنبياء الله الكرام موسى وداود والمسيح
وخاتم الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. فقال (ع): "وإِنْ
شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (ع)، فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ
الْحَجَرَ، ويَلْبَسُ الْخَشِنَ، ويَأْكُلُ الْجَشِبَ، وكَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ،
وسِرَاجُهُ بِاللَّيْلِ الْقَمَرَ، وظِلَالُهُ فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الأَرْضِ
ومَغَارِبَهَا، وفَاكِهَتُهُ ورَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ
ولَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ، ولَا وَلَدٌ يَحْزُنُهُ، ولَا مَالٌ
يَلْفِتُهُ، ولَا طَمَعٌ يُذِلُّهُ، دَابَّتُهُ رِجْلَاهُ، وخَادِمُهُ يَدَاهُ".
وما كانت تلك التعاليم إلا امتداد لمشوار من أتى قبله من التوراة
والأنبياء. يقول السيد المسيح: "لاَ تَظُنُّوا
أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ
بَلْ لأُكَمِّلَ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ
السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ
النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ" بل جاء (ع) ليكمل في تعاليمه التوراة
وما جاء به الأنبياء.
ولنقرأ من وصايا السيد المسيح التي جاءت في العهد
الجديد:
1. "قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ
لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ
يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلًا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ
لأَخِيهِ: رَقَا (فارغ
أو باطل)،
يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ. وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ
مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ".
قال جعفر بن محمد الصادق: قال الحواريون لعيسى بن مريم: يا معلم
الخير، علمنا أي الأشياء أشد؟ فقال: غضب الله عز وجل. قالوا: فبم يُتقى غضب الله؟ قال:
بأن لا تغضبوا. قالوا: وما بدء الغضب؟ قال: الكبر والتجبر ومحقرة الناس.
2. "إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى
امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ".
3. "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ
لَكُمْ: لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ لاَ بِالسَّمَاءِ لأَنَّهَا
كُرْسِيُّ اللهِ".
قال الإمام الصادق: اجتمع الحواريون إلى عيسى، فقالوا: يا معلم الخير،
أرشدنا. فقال لهم: إنَّ موسى كليم الله أمركم أن لا تحلفوا بالله تبارك وتعالى كاذبين،
وأنا آمركم أن لا تحلفوا بالله كاذبين ولا صادقين.
قالوا: يا روح الله، زدنا.
فقال: إنَّ موسى نبي الله أمركم أن لا تزنوا، وأنا آمركم أن لا تحدثوا
أنفسكم بالزنى، فضلاً عن أن تزنوا، فإنَّ من حدّث نفسه بالزنى كمن أوقد في بيت مزوق،
فأفسد التزاويق الدخان وإن لم يحترق البيت.
4. "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ
لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ
فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا".
قال جعفر بن محمد الصادق (ع):
قال عيسى بن مريم لبعض أصحابه: ما لا تحب أن يُفعل بك فلا تفعله بأحد، وإن لطم أحدٌ
خدك الأيمن فأعط الأيسر"..
5. "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا
لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ
يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ".
يريدنا دين الحب أن نحمل الآخر على المراد بالأحسن، وهو بذلك لا
يريدنا أن نبني شخصيتنا بناءً ساذجاً، تفقد معها فطنتك وكياستك، بل يهدف إلى إزالة
عوامل التوتر الداخلي، وخلق مناخات الثقة بين البشر؛ لأنَّ سوء الظن إذا ما فتك
بأي مجتمع؛ فإنه يفكك عرى الأخوة، ويضعف المناعة الداخلية بما يهدد بانهيار
المجتمع برمته.
وقالها الإمام علي في حكمة بليغة: "احْصُدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ
غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ"..
فكما مسَّ المسيح بيديه المرض ليشفي الأبرص والأكمه، ويعيد
الموتى إلى الحياة.. كذلك فعل الشيء نفسه حينما سار مع الناس يتفاعل معهم، وينشر
رسالة محبة الله وسلامه بينهم؛ ليبعث من خلال ذلك الحياة في إنسان جديد ومجتمع
جديد.
هذا هو المسيح بكل تجلياته ومحبته..
إنه رسول الله وكلمته..
إنه آية للناس في كل وجوده..
إنه العطاء المتجدد روحاً وأخلاقاً وتوحيداً..
إنه الدال على كل معاني المحبة والرحمة والعدالة..