الأربعاء، 28 نوفمبر 2018


فقه التعايش في السيرة النبوية / 2 /


{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

الأصول المنهجية لفقه التعايش:


قبل أن ندخل في رحاب السيرة النبوية المباركة، نؤصل لأهم مرتكزات ثقافة التعايش، على هدي قوله سبحانه وتعالى: منها قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}. فهذه الآية الكريمة تؤكد عدة مسائل مهمة:

الأولى: أنّ الخصوصيات الإنسانية -قومية كانت أو عرقية أو جغرافية- لها واقع في الوجود الإنساني لا يمكن إلغاؤه، باعتبار أنّ تلك الخصوصيات تدخل في تكوين الإنسان، ولا تمثّل حالة هامشية في حياته.

الثانية: يحترم الإسلام خصوصيات كل أمة بوجهها الإيجابي، بشرط:

1.             أن لا تتحول تلك المشاركة إلى عقدة عصبية تأخذ ميلاً عدوانياً تجاه الآخرين، بحيث تبتعد عن الخط الذي وضعه الإسلام.
2.             وأن لا تصبح تلك الخصوصيات فاصلاً يفصل كل فئة من الناس.

وفي الحديث البليغ عن مولانا علي بن الحسين  زين العابدين (ع) قال: "الْعَصَبِيَّةُ الَّتِي يَأْثَمُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا أَنْ يَرَى الرَّجُلُ شِرَارَ قَوْمِهِ خَيْراً مِنْ خِيَارِ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَلَيْسَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبُّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ، وَلَكِنْ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُعِينَ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ" (الكافي: ج 3 ص 308، حديث 7).

الثالثة: يؤكد الإسلام على أنّ التنوع في الخصوصيات الإنسانية هو مظهر من مظاهر التنوع في الخبرات العلمية والعملية، ما يجعل من التعارف بين الشعوب إثراء لكل أمة.

تعايشه (ص) في مكة المكرمة قبل البعثة:


عاش رسول الله (ص) في بيئة يغلب على سكانها عبادة الأوثان، وممارسة الرذيلة وارتكاب الفواحش، وامتد ذلك إلى أنّ القوي كان يطغى على الضعيف ويأكل حقه، حتى إنّ السيد كان يقهر مَن تحت يده من عبيدٍ وإماءٍ ولا يحترم إنسانيتهم، وكان العربي يتعالى على العجمي، وكان الأبيض يفخر على الأسود.

ويصف حالهم جعفر بن أبي طالب (ع) حين خطب أمام النجاشي فقال: "أيّها الملك، كُنّا قوماً أهلَ جاهِليَّة، نعبدُ الأصنام، ونأكلُ الميتة، ونأتي الفواحِشَ، ونقطعُ الأرْحام، ونسيء الجوار، ويأكلُ القويُ مِنّا الضعيف، فكنّا على ذلك، حتّى بعث الله إلينا رسولاً منّا نعرف نسبَه وصدقَه وأمانَتَه وعفافَه، فدعانا إلى الله لنوحِّده ونعبده، ونخلعُ ما كنّا نعبدُ نحنُ وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرَنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحُسْنِ الجوار، والكفِّ عن المحارم والدّماء، ونَهانا عنِ الفَواحِش وقول الزُور، وأكل مالِ اليَتيمِ، وقذفِ المحصَناتِ، وأمَرنا أنْ نَعبُدَ الله وَحدَهُ لا نشركُ بِهِ شيئاً، وأمَرَنا بالصّلاةِ والزّكاةِ والصِيام ... وصدّقناهُ، وآمَنّا به واتَّبْعناهُ على ما جاء به من الله فعبدنا الله وحدَه فلم نشرك به شيئاً وحرَّمنا ما حرّمَ عَلَيْنا وأحللنا ما أحلَّ لنا، فَعدا علينا قومَنا فَعذَّبُونا وفتنونا عن ديننا ليردُّونا إلى عبادة الأَوثان مِنْ عِبادَة الله تعالى، وأنْ نَسْتَحِلَّ ما كنا نَستحِلَّ من الخَبائث" (السيرة النبوية: ج 1 ص 335-336، ومسند أحمد: ج 4 ص 286).

وقد وصفت مولاتنا السيدة فاطمة الزهراء (ع) العهدَ الجاهلي بمثلِ ذلك إذ قالت في خطبتها أمام المسلمين: "فَبَلَّغَ (أي رسولُ الله) بالرِّسالة، صادِعاً بالنَّذارة (النذار: الأنذار)، مائلاً عَلى مَدْرَجَةِ (المدرج والمدرجة: المذهب والمسلك) المُشْركيْن، ضارباً ثَبَجَهُمْ (الثبج: وسط الشيء ومنه الكاهل)، آخِذاً بأَكْظامِهمْ، داعِياً إلى سَبِيْل رَبِّه بِالحِكْمَةِ وَالْمَوْعظَةِ الْحَسَنَةِ، يَكْسِرُ الأَصْنامَ، ويَنْكُتُ (ينكت: يلقيه ويطرحه) الهامَ (الهامة: الرأس)، حتّى انْهَزَمَ الجَمْعُ، وَوَلُّوا الدُّبُر، حَتى تَفَرّى (تفرى: تشقق) الليلُ عَنْ صُبْحِهِ، وَأَسْفَرَ الحَقُ عَنْ محْظِهِ (المحض: الخالص)، وَنَطَقَ زَعيمُ الدين، وَخَرستْ شَقاشقُ (الشقشقة: شيء يشبه الرئة يخرج من فم البعير أذا هاج. والمراد منه هنا تكلم الشياطين بملأ أفواههم بجرأة وشهامة) الشَّياطين، وأطاحَ وَشِيظُ (الوشيظ: الأتباع والخدم) النِّفاقِ، وانَّحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ والشِّقاقِ، وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الإخْلاص في نفَر مِنَ البيض الْخِماص، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَة مِنَ النّار مُذْقَةَ (المذقة: شربة من اللبن الممزوج بالماء) الشّارب، وَنُهْزَة (النهزة: الفرصة) الطامِع، وقَبْسَةِ العِجْلان (قبسة العجلان : الشعلة من النار الّتي يأخذها الرجل العاجل)، وَمَوطئَ الأَقْدامِ؛ تَشْرَبُونَ الطَرقَ (الطرق: الماء الذي خوّضته الابل وبوّلت فيه)، وَتَقْتاتُونَ القِدَّ (القد: قطعة جلد غير مدبوغ) وَالوَرق، أذِلَّةً خاسِئينَ، تَخافُونَ أَنْ يَتخَطَّفَكُم النّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ، فَأَنْقَذكُمُ الله تَعالى بِمُحَمَّدٍ بَعْدَ اللُّتَيّا وَالَّتي، بَعْدَ أن مُنِيَ بِبُهْم (البهمة: الشجاع الذي لا يهتدي من أن يؤتى) الرجال، وَذُؤبانِ الْعَرَب، وَمَرَدة أهْلِ الْكِتاب (المارد : العاتي)، كُلَّما أوْقَدُوا ناراً لِلْحَربِ أطْفأَها اللهُ، أوْ نجَمَ (نجم: طلع) قَرْنُ الشَّيْطانِ، أوْ فَغرَتْ (فَغرت: فتحت) فاغِرَةً مِنَ الْمُشركيْن..." (نثر الدر للآبي: ج ٤ ص ٨، وأمالي الطوسي: ج ١ ص ٣٣٨ الحديث 55، وبلاغات النساء لأحمد بن أبي طاهر ابن طيفور: ، ومنال المطالب لابن الأثير: ص ٥٨٨، وجواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب، لابن الدمشقي: ج ١ ص 155).

حلف الفضول:


في هذه البيئة غير السوِّية عاش رسول الله (ص) مع قومه متآلفاً معهم، يقوم بدور اجتماعي فعَّال، ويتعاون في أمور البر والخير.

ولعل أكثر الشواهد وضوحاً وجلاء في إفادة اهتمام الإسلام بصياغة مجتمع المواطنة ما يروى من أنّ النبي (ص) قد استحسن حلفاً شهده في صباه وهو حلف عقدته قريش قبل الإسلام سمي (حلف الفضول)؛ فقد لاحظ بعض زعماء قريش أنّ منهم من أصبح يجور ويظلم الناس مستنداً إلى مكانته الاجتماعية ، ومن ذلك أنّ العاص بن وائل اشترى بضاعة من أحد التجار الغرباء الوافدين على مكة. ورفض أن يسلمه الثمن، فتداعت قريش إلى دار عبد الله بن جذعان وتعاهد الحاضرون على أن يكونوا يداً واحدة مع كل مظلوم على الظالم فردّوا للبائع الغريب حقه، وتأصل في تقاليدهم مقتضى هذا الحلف.  (شفاء الغرام: ج 2 ص 163 - 164، وإتحاف الورى: ج 1 ص 120، وتاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 17، ومروج الذهب: ج 2 ص 271، والطبقات الكبرى: ج 1 ص 129، والبداية والنهاية: ج 2 ص 292، والسيرة الحلبية: ج 1 ص 132، والكامل في التاريخ: ج 1 ص 473).

وقد تمسك النبي (ص) بهذا الحلف، وعمل بمقتضاه حتى بعدما عادته قريش وضيّقت عليه هو وأصحابه.

ولذا نرى أنّ مجموعة من علماء الإسلام قد اعترفوا بهذا الحلف وبشرعيته (أنظر: المجموع للنووي: ج 19 ص 384، وتهذيب الأسماء: ج 3  ص 181، وسنن البيهقي: ج 6 ص 367، وفتح الباري: ج 4 ص 387).

وفي السيرة النبوية يُروى أنّ أبا جهل بن هشام ابتاع من شخص جمالاً، فماطله بأثمانها.

فوقف الرجل على نادي قريش وقال: يا معشر قريش مَن رجلٌ يعينني على أبي الحكم بن هشام، فإني غريب وابن سبيل، وقد غلبني على حقي؟!

فدلته قريش على النبي (ص) لينصفه من أبي جهل؛ استهزاء برسول الله (ص)، لعلمهم بأنه لا قدرة له على أبي جهل، وقالوا له: أترى ذلك الرجل -يعنون رسول الله- اذهب إليه فهو يعينك عليه.

فجاء الرجل إلى رسول الله (ص) فذكر له حاله مع أبي جهل، فخرج مع الرجل إلى أبي جهل وضرب عليه بابه، فقال: من هذا؟! قال: محمد.

فخرج إليه وقد انتقع لونه (أي تغير من الرهبة) فقال له: أعطِ هذا حقَّه. قال: نعم، لا تبرح حتى أعطيه الذي له.

فدفعه إليه، ثم إنّ الرجل أقبل حتى وقف على ذلك المجلس فقال: جزاه الله خيراً، فقد والله أخذ لي بحقي (السيرة الحلبية: ج 1 ص507).

أيها الأحبة..

بتلك الأمثلة وغيرها ينبغي على المسلمين أن يقتدوا في تعاملهم مع الآخر، حيث يضعون نصب أعينهم هدي الرسول (ص) في التعامل مع غير المسلمين وحرصه على التمسك بالأخلاق والمبادئ الإسلامية القويمة التي تحث على الوفاء والصدق والأمانة، فقد كان (ص) يعرف في مكة قبل البعثة بأنه الصادق الأمين؛ ولم يعرف عنه أبداً أنه خان أمانة أو نقض عهداً أو كذب يوماً.

إنَّ نموذج التعايش في مكة مع الآخر قبل البعثة -وكان المقام فيه (مقام التعايش والوفاء والتعاون على البر والخير)- يدفع المسلمين الذين يعيشون في مثل تلك الظروف -في أي زمان أو مكان- إلى التمسك بعقيدتهم وعدم التفريط في ثوابت وأصول الإسلام مع الالتزام بمكارم الأخلاق التي تؤسس وترسخ تلك العلاقة مع الآخر بما يضمن السلم والاستقرار الاجتماعي، ويكشف عن حقيقة الإسلام وسماحته أمام العالمين.

وثمّة مبدأ في العلاقات الدولية أكده الإسلام ألا وهو (التحالف)، واحترام المواثيق والعهود في العلاقات بين الأفراد والجماعات والدول، ولكن على أساس أن ينطلق هذا التحالف من أساسٍ متين في احترام حقوق الإنسان والدفاع عن المظلومين.

حتى أنّ النبي (ص) أشاد بحلف الفضول، وأثنى عليه، وقال في تأييده: "لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ" (السيرة النبوية لابن هشام: ج 1 ص 133).

لقد كان حلف الفضول معاهدة مجتمعية مبكرة واتفاقاً على مناهضة الظلم وإيقاف الظالمين أمام سلطة المجتمع، وإن لم يكن للدولة حضور أو وجود.. وقد مثل المتحالفون حقيقة المجتمع المدني الحي اليقظ، الحامي لقيم العدل والمناهض للظلم والعدوان.

ولهذا فكل المواثيق الدولية التي تحترم الإنسان وتدافع عن حقوقه يقرّها الإسلام حتى لو جاءت من غيره أو وضعها الآخرون.

بيد أنّ الإسلام لا يقرّ الأحلاف التي تتمّ على حساب شعوب وجماعات أخرى أو التي تظلم فيها هذه الجهة أو تلك، فموازين القوى ليست هي التي تمنح العقود والمواثيق شرعيتها، وإنما الذي يعطيها الشرعية هو ما تملكه من عناصر الحق ونصرة المظلوم. ولذلك فإن الظلم مهما أعطي من عناوين دولية برّاقة كعنوان الديمقراطية الذي يمثّل الإدارة الأمريكية الحالية، فإنّ ذلك لا يغيّر من الحقيقة شيئاً، ولأنّ العناوين لا تبدّل حقائق الأمور وطبيعتها.

وعلى هذا الأساس، كنّا نحذِّر من الانتقائية في تطبيق المواثيق والعهود، وأن لا يُفسح المجال للقوة الغاشمة بأن تفرض نفسها على ساحة هذه المواثيق على المستوى الدولي انطلاقاً من قدرتها على الضغط هنا وهناك وعلى تزييف الحقائق، وهو الأمر الذي تجيده الإدارة الأمريكية، حيث تنطلق من موقع عدوانها ومخاصمتها لأسس القانون الدولية لتدّعي أن ما تقوم به إنما هو لتطبيق هذا القانون غير آبهة بكل التفسيرات والتحذيرات لها من مخاطر هذا الفهم لمسألة القانون الدولي، والذي ينطلق من نزوة العدوان وحبّ السيطرة والاستيلاء.

ومن منطلق حلف الفضول:

فإننا ننظر إلى أي توافق يتمّ على الساحة الإسلامية وإلى أي تقارب، وخصوصاً بين السنة والشيعة، نظرةً إيجابية عموماً، وندعو إلى التعامل مع هذا التقارب بروح إيجابية حتى لا تبقى اللقاءات مجرد كلمات كتبت أو مواقف صدرت، بل ترقى إلى مستويات التعاون العملي الذي تتم ترجمته على مستوى الواقع في حركة تواصل وتنسيق يحترم فيها كل فريق الفريق الآخر ولا يسيء إليه أو إلى مقدساته ورموزه وخصوصياته.

ونحن في الوقت نفسه، ندعو كل العاملين للإسلام إلى رصد هذا التقارب وما يحمله من إيجابيات في محاولة لتعميمه في الساحة الإسلامية كلها، وحتى في الساحة الوطنية، وملاحقة ما فيها من سلبيات للعمل على معالجتها بالطريقة التي تحفظ توازن الساحة الإسلامية والوطنية على السواء، لأن أي تقارب يُفضي إلى التعهد بعدم الاعتداء ويجمع صفوف المسلمين ولا يفرقها يمثّل حماية للدين الحنيف وللمجموعات الإسلامية وللمجتمع المدني كله، وقد شهد النبي (ص) حلف الفضول الذي يمنع بموجبه أي فريق من الاعتداء على فريق آخر ويجعل القبائل تقف مع المظلوم ضد الظالم، وقال لو دعيت إلى مثله في الإسلام لفعلت... فكيف إذا كانت المسألة تتصل بحفظ المسلمين ورصّ صفوفهم ومنع الفتنة التي يروج لها المستكبرون من أن تأكل الأخضر واليابس في واقعهم.
لقد كنّا نقول دائماً، إن الأساس الذي يجمع المسلمين هو الوثيقة الإلهية المتمثلة في القرآن الكريم وفي سنّة النبي (ص). قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ}، ومن الأهمية بمكان أن تنزل هذه الآية إلى الواقع العملي، بحيث نخرج من حالة الشعار والعناوين العامة إلى ساحة التلاقي حول النقاط المشتركة -وهي كثيرة- للعمل في سبيل تجسيد العزة الإسلامية في صعيد الواقع.

ولذلك، فإننا نؤكد ضرورة أن يستتبع أي تقارب على المستوى السياسي والاجتماعي العام محاولات مسؤولية لتأكيد الوحدة انطلاقاً من الخطوط الثقافية والفكرية والعقائدية التي أكّدها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، لأن ذلك هو الذي يحمي أية حركة للتقارب والتعاون، ويؤصّل انطلاقاتها ويفتح الآفاق الرحبة لتحقيق أهدافها وغاياتها.

وإننا نرحّب بأي سعي جدي لمواجهة الجماعات والحركات والتوجهات التكفيرية وصنّاع الأساطير والخرافات، ومنتجي الغلو والتطرّف داخل الساحة الإسلامية الشيعية والسنية، لأننا نرى في هؤلاء الخطر الداهم على الإسلام والمسلمين وعلى الأمة كلها والدين كله، وقد عانينا من هؤلاء كثيراً في محاولاتهم المستمرة لتضليل وتفسيق وتكفير من يختلف معهم في الرأي، ونريد لأي توجّه يسعى لمواجهة هؤلاء أن ينطلق من قاعدة إسلامية أصيلة يتوحّد فيها السنة والشيعة، وينزل فيها الدعاة والعاملون إلى الميدان ليواجهوا كل أساليب السبّ والشتم واللعن والتكفير بحملة ثقافية إسلامية مدروسة تستهدي كلام الإمام علي (ع): "احْصُدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ".

الإمام الحسين على خطى جده المصطفى:


أحيا الإمام الحسين (ع) حلف الفضول في ظلامتين تعرض لهما:

الحادثة الأولى: كان من سياسة معاوية بن أبي سفيان إفقار بني هاشم، فأراد والي المدينة ابن أخيه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان السيطرة على بستان كبير كان أمير المؤمنين (ع) قد استنبط ماءه، وأنشأه في وادي القرى.

فقال له الحسين (ع): احلف بالله لتنصفنّي من حقّي أو لآخذنّ سيفي، ثم لأقومن في مسجد رسول الله، ثم لأدعونّ بحلف الفضول.

وكان عبد الله بن الزبير عند الوليد فقال: وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذنّ سيفي ثم لأقومنّ معه حتى يُنصف من حقه أو نموت جميعاً.

وبلغ هذا المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك.

وبلغ ذلك إلى عبد الرحمن بن عثمان التيمي فقال مثل ذلك.

فلمّا بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي (ع) (السيرة النبوية: ج 1 ص 43، وأنساب الأشراف: ج 2 ص 14، والكامل في التاريخ: ج 1 ص 474، والبداية والنهاية: ج 2 ص 293، والسيرة الحلبية: ج 1 ص 132).

وقد روى أبو هلال العسكري الخبر الذي رواه ابن إسحاق عن تحامل الوليد على حق الإمام الحسين (ع) في أرض له بذي المروة، على غير ما رواه ابن إسحاق، فقال: "كان بين الحسين (ع) وبين معاوية كلام في أرض للحسين، فقال الحسين لابن الزبير: "خيّره في ثلاثة والرابعة الصيلم -أي الصدام المـسلح-: أن يجعلك أو ابن عمر بيني وبينه, أو يشتريه مني, أو يقر بحقي ثم يسألني أن أهبه له, فإن أبى فوالذي نفسي بيده لاهتفن بحلف الفضول" وفي نهاية المطاف استسلم معاوية إلى مطالب الإمام الحسين (ع)، وقال: لا حاجة لنا بهذه... (الأوائل: ج 1 ص 73-74، وتاريخ دمشق: ج 59 ص 180).

إنّ دعوة الحسين (ع) بحلف الفضول، انما كانت منه (ع) لأنه كان يعلم من خلال دراسته للأوضاع وللنفسيات أنّ هذه الدعوة سوف لن تنتهي إلى حد الخطر الأقصى. وقد كان يهدف منها إلى تعريف الناس على واقع وحقيقة بني أمية، وأنهم ظالمون عتاة، ولا يهتمون بالحفاظ على العهود والمواثيق التي تهدف إلى نصرة المظلوم، والدفاع عن الحق.. وقد خاف معاوية من هذا الامر بالذات، فاستسلم للحسين (ع)، وأرجع الحق إلى أصحابه.

الحادثة الثانية: عندما منعوه (ع) أن يزور بجنازة أخيه الحسن (ع) قبر النبي (ص).

ومعنى ندائه (ع) بحلف الفضول أنه وقف وشهر سيفه ونادى: يا لحلف الفضول. فهذه عادة العرب في الدعوة بالحلف.

جاء في (تاريخ دمشق: ج 13 ص 291):
وصاح مروان في بني أمية ولفُّها وتلبسوا السلاح وقال مروان: لا كان هذا أبداً!
فقال له الحسين: يا ابن الزرقاء ما لك ولهذا أوالٍ أنت؟!
قال: لا كان هذا ولا يخلص إليه وأنا حي.
فصاح الحسين بحلف الفضول فاجتمعت بنو هاشم، وتيم، وزهرة، وأسد، وبنو جعونة بن شعوب من بني ليث قد تلبسوا السلاح.
وعقد مروان لواء، وعقد الحسين بن علي لواء، فقال الهاشميون: يدفن مع النبي (ص) حتى كانت بينهم المراماة بالنبل! وابن جعونة بن شعوب يومئذ شاهر سيفه! فقام في ذلك رجال من قريش: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والمسور بن مخرمة بن نوفل، وجعل عبد الله بن جعفر يُلحُّ على الحسين وهو يقول: يا ابن عم ألم تسمع إلى عهد أخيك إن خفت أن يهراق فيَّ محجمة من دم فادفني بالبقيع مع أمي أذكرك الله أن تسفك الدماء! وحسين يأبى دفنه إلا مع النبي (ص) وهو يقول ويعرض مروان لي ماله ولهذا؟!

قال: فقال المسور بن مخرمة: يا أبا عبد الله اسمع مني قد دعوتنا بحلف الفضول وأجبناك، تعلم أني سمعت أخاك يقول قبل أن يموت بيوم: يا ابن مخرمة إني قد عهدت إلى أخي أن يدفنني مع رسول الله (ص) إن وجد إلى ذلك سبيلاً، فإن خاف أن يهراق في ذلك محجم من دم فليدفني مع أمي بالبقيع، وتعلم أني أذكرك الله في هذه الدماء! ألا ترى ما هاهنا من السلاح والرجال، والناس سراع إلى الفتنة.

قال: وجعل الحسين يأبى وجعلت بنو هاشم والحلفاء يلغطون ويقولون لا يدفن إلا مع رسول الله (ص)!

قال الحسن بن محمد: سمعت أبي يقول لقد رأيتني يومئذ وإني لأريد أن أضرب عنق مروان، ما حال بيني وبين ذلك أن لا أكون أراه مستوجباً لذلك، إلا أني سمعت أخي يقول إن خفتم أن يهراق فيَّ محجم من دم فادفنوني بالبقيع! فقلت لأخي: يا أبا عبد الله وكنت أرفقهم به: إنا لا ندع قتال هؤلاء جبناً عنهم ولكنا إنما نتبع وصية أبي محمد، إنه لو قال والله أدفنوني مع النبي (ص) لمتنا من آخرنا أو ندفنه مع النبي، ولكنه خاف ما قد ترى! فقال: إن خفتم أن يهراق فيَّ محجم من دم فادفنوني مع أمي، فإنما نتبع عهده وننفذ أمره. (ورواه ابن سعد في القسم غير المطبوع من الطبقات، في ترجمة الإمام الحسن C وقد طبعه السيد عبد العزيز الطباطبائي: ص 86).

وقد حقق الإمام الحسين (ع) هدفه من استنفار حلف الفضول، فأكد بذلك شرعيته واستمراره، وبعث برسالة إلى معاوية والسلطة، واختبر مع علمه استجابة هذه القبائل عملياً لنداء حلف الفضول.

الأحد، 25 نوفمبر 2018


فقه التعايش في السيرة النبوية / 1 /


{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

بعث الله تعالى نبيه وحبيبه محمداً (ص) لإشاعة الرحمة بين البشرية، وأراد سبحانه للرحمة أن تتحول إلى نظامٍ عمليٍّ شاملٍ لحياة الإنسان في كل ما يصلحُها ويبتعد بها عن الفساد، لا أن تكون مجرّد عاطفة وإشفاق.

والأسف أنّ كثيراً من المسلمين يفهم من كلمة الرحمة، الحالة العاطفية التي ينبض بها القلب! ولكن الرحمة في الإسلام وفي التشريع تمثل نظاماً عملياً في الحياة، لذا قال الله سبحانه وتعالى عن النبي (ص): {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.

وفي عصرنا الحاضر قد نجد -في واقعنا- بعض الناس الذين يستسلمون لبعض الفئات التي تتزيّى باسم الدين، والتي ينفتح الناس عليها على أساس أنّها الرحمة التي تقربهم إلى الله. وربما ينطلق البعض من هؤلاء ليقدموا أنفسهم على أنهم يملكون مفاتيح رحمة الله ومواقع القرب منه، ولكنهم في الواقع يخدِّرون الناس من خلال ربطهم بالدين عن طريق الخرافة والمغيِّبات، على أساس ادّعائهم أنهم يملكون بعض الغيب في ذلك، ويحدِّثونهم عنه في بعض ما يعانونه، ذريعة لاستغلاهم مادياً وفكرياً.

فهل هذه هي الرحمة المنشودة؟!!

فالنبي (ص) لم يكن كذلك، بل كان رحمة للعالمين، رحمةً في رسالته، ورحمةً في شرعه، ورحمةً في أخلاقه، ورحمةً في منهجه في كل مجالات الحياة، لا مجرد عاطفة وإشفاق.

وهكذا تمثّلت الرحمة في الحياة، في ظل نظامٍ قائمٍ على أساس احترام العقل والنفس، ليعيش الإنسان في المجتمع الإسلامي الأمن والطمأنينة في ذلك كله.

التعايش السلمي في السيرة النبوية:

يؤسس النص القرآني صيغة للتعارف والتعايش في الاجتماع البشري، مبنية على الأمن والتسامح والسلم الأهلي، في آيات متعددة، منها قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

ويهدف الإسلام إلى إقامة علاقة سليمة مع كل الشعوب، تؤخذ فيها بنظر الاعتبار حقوق الجميع وتعزيز التعايش السلمي بينهم، وتساعد على استمرار السلم والصداقة، وتستند على قاعدة قرآنية متينة وهي {لا تظْلِمونَ ولا تُظْلَمونَ}، ومن هنا أرسى الإسلام قواعد وأسساً للتعايش مع الآخر في جميع الأحوال والأزمان والأماكن، بما يضمن تفاعلهم مع الآخر وتواصلهم معه من دون تفريط في الثوابت الإسلامية.

ويظل الرسول الأكرم (ص) الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة في كل شيء، مصداقاً لقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ}. وقد ترك رسول الله (ص) لنا نماذج عديدة للتعايش مع الآخر داخل المجتمع الإسلامي وخارجه، وهي صالحة للمسلم في كل عصر بحسب مقتضيات الحال والمكان والزمان.

وتمثل تلك النماذج منهجاً ونبراساً للمسلمين في علاقتهم مع الآخر، ليكونوا في مقدمة الأمم في الدعوة إلى السلام والتعايش السلمي مع مختلف الأمم والطوائف، وذلك بالتزامهم بثوابت الإسلام ومبادئه التي تدعو إلى الخير والبر والتعاون في إطار من الاحترام المتبادل.

وهي نماذج قائمة لا يعتريها إبطال أو تعطيل، وواقع وحال الأفراد أو الجماعات هو الذي يحدِّد للمسلم في هدي أي نموذج يمكن أن يتواصل ويتعاون ويحقق السلام الاجتماعي والتعايش مع الآخر.

مفهوم التعايش:

التعايش في اللغة: الاشتراك في الحياة على الألفة والمودة. وهي على وزن (تفاعل) الذي يفيد وجود العلاقة المتبادلة بين الطرفين. وهذا اللفظ استعمل في سبعة مواضع من القرآن الكريم بتصاريف متعددة: (الحاقة: 21، النبأ: 11، طه: 124، القصص: 58، الزخرف: 32، الأعراف: 10).

وسيراً على المعنى اللغوي تكون كلمة (السلمي) وصفاً مؤكداً لطبيعة التعايش.
ويسود مصطلح التعايش السلمي في الأوساط البدائية في المجال الاجتماعي، كالتعايش بين الأفراد أو المجموعات الأثنية أو القبلية، وانتقل المصطلح من المجال الاجتماعي إلى المجال السياسي في ظل الدولة الحديثة القائمة على أساس التنوع الديني أو الأثني، وما ينتج عنه من صراعات ونزاعات، ثم صار الآن مطلباً دولياً في ظل الصراعات العالمية والدولية.

ومصطلح التعايش السلمي -كشعار سياسي- يعني البديل عن العلاقة العدائية بين الدول ذات النظم الاجتماعية المختلفة، ومع هذا لا مانع من التوسع في استخدامه في ساحة العلاقات الاجتماعية بين أتباع الديانات المختلفة وبخاصة المقيمين في دولة واحدة.

وإذا كان المفهوم يتجه إلى التعايش بين الاتجاهات المتباينة دينياً أو سياسياً فالحاجة ماسة -أيضاً- لبلورة رؤية مستوعبة حتى لأهل الملة الواحدة المتفقة دينياً والمتباينة من بعض الوجوه التي تؤدي إلى الاحتراب في كثير من البلدان.

وإذا كان الأمر كذلك فإنّ التعايش السلمي يمكن أن يشمل الآتي:
-          التعايش بين أهل الملة الواحدة.
-          التعايش بين أهل الملل المختلفة.
-          التعايش بين الدول المختلفة سياسياً.
-          التعايش بين القوى الاجتماعية المختلفة.

الأصول المنهجية لفقه التعايش:

نحن قبل أن ندخل في رحاب السيرة النبوية المباركة، نؤصل لأهم مرتكزات ثقافة التعايش، على هدي قوله سبحانه وتعالى: منها قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}.

فهذه الآية الكريمة تؤكد عدة مسائل مهمة:

الأولى: الخصوصيات الإنسانية القومية والعرقية والجغرافية لها واقع في الوجود الإنساني لا يمكن إلغاؤه، باعتبار أنّ تلك الخصوصيات تدخل في تكوين الإنسان ولا تمثّل حالة هامشية.

الثانية: يحترم الإسلام خصوصيات كل أمة بوجهها الإيجابي، بشرط:
1.             أن لا تتحول تلك المشاركة إلى عقدة عصبية تأخذ ميلاً عدوانياً تجاه الآخرين، بحيث تبتعد عن الخط الذي وضعه الإسلام.
2.             ألا تصبح تلك الخصوصيات فاصلاً يفصل كل فئة من الناس.

وفي الحديث البليغ عن الإمام زين العابدين (ع) قال: "الْعَصَبِيَّةُ الَّتِي يَأْثَمُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا أَنْ يَرَى الرَّجُلُ شِرَارَ قَوْمِهِ خَيْراً مِنْ خِيَارِ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَلَيْسَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبُّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ، وَلَكِنْ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُعِينَ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ" (الكافي: ج 3 ص 308، حديث 7).

الثالثة: يؤكد الإسلام على أنّ التنوع في الخصوصيات الإنسانية مظهر من مظاهر التنوع في الخبرات العلمية والعملية، ما يجعل من التعارف بين الشعوب إثراء لكل أمة.

وسيكون لنا -انشاء الله- حديث مفصل في التعايش في السيرة النبوية المباركة.

في ذكرى المولد الشريف:

وفي هذا اليوم نؤكد على ما عاش من أجله رسول الله (ص) من أنّ العلاقة بين الله وبين عباده هي بالعمل لا بالقرابة والمال والامتيازات.

وقد أكد (ص)، أنّ العمل هو الذي يمثل القيمة عند الله، بقوله: "مَعَاشِرَ النَّاسِ، لَيْسَ بَيْنَ اللهِ وَ بَيْنَ أَحَدٍ شَيْءٌ يُعْطِيهِ بِهِ خَيْراً أَوْ يَصْرِفُ عَنْهُ شَرّاً إِلَّا الْعَمَلُ. أَيُّهَا النَّاسُ، لا يَتَمَنَّ متمنٍ وَ لَا يَدَّعِ مُدَّعٍ (على طريقة من يقول: إني أستطيع أن أفعل كل شيء وأهل البيت G يدبّرون لنا الأمر يوم القيامة)، أَمَّا إِنَّهُ لَا يُنْجِي إِلَّا عَمَلٌ مَعَ رَحْمَةٍ، وَلَوْ عَصَيْتُ لهويتُ" ..

وفي هذه الكلمة، وكأنه (ص) يستدعي إلى أذهاننا آيتين في كتاب الله:

الأولى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً}، أي: لا تقولوا نحن مسلمون ولا يدخل النار مسلم مهما عمل، أو أن يقول أهل الكتاب: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، فالعلاقة بين الله وبين الناس هي علاقة العمل، والذي يعصي الله ليس له أيّ امتياز، ولا يمكن لأحد أن ينصره من الله..

والثانية: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، حيث يحذر النبي (ص) الناسَ من معصية الله، وهذا هو الخط الإسلامي الذي يلغي كل الامتيازات والعناوين والأنساب، وهذا ما لا بد لنا أن نقف عنده لنتدبر أمورنا، ولنعرف كيف نطيع الله تعالى من دون أي امتيازات. صحيح أنّ هناك الشفاعة، ولكن الشفاعة مشروطة بالعمل، وهذا ما عبّر عنه رسول الله 2: "لا ينجي إلا عمل مع رحمة".

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.

السبت، 6 أكتوبر 2018


** إرادتنا بين الترقي والانحطاط **

 // يقول الله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} (الإسراء: 18-19).

لو أنَّ الله أراد إجبار عباده على شيء ما لما أجبرهم إلا على الهدى؛ {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (السجدة: 13). أي لو شئنا أن نلغي اختياركم، وأن نبدل هويتكم، وأن نلغي التكليف، ولو شئنا أن نلغي حمل الأمانة، وأن تكونوا كبقية المخلوقات مسيرين لما أجبرناكم إلا على الهدى.

ولو تأملت قوله سبحانه وتعالى {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ}، فالكلام هنا عن تأكيد ارتباط مصير الإنسان بإرادته، ثم يقول سبحانه: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ} فمصيرنا جميعاً في هذا الوجود ارتبط إذاً بما نريد؛ أحوالنا ومآلاتنا، سعادتنا وشقاوتنا، رضانا وغضبنا، فلاحنا وخيبتنا،... كلّها تتصل بما يريده الواحد منا في هذه الحياة..بحيث يحدد الله له النتائج السلبية أو الإيجابية في الدنيا والآخرة.

وقسمت الآيتان الناس إلى قسمين: مريد العاجلة، وهي الدنيا، بمعنى أنه ليس له هدف سواها، ومصيره ما ذكرت الآية: جهنم. ومريد الآخرة، الذي جعلها هدفه، وسعى لها سعيها، فمصيره ما ذكرت الآية.

فالجزاء إذن مرتب على (الإرادة) و (المراد).

إذاً، أخبرني ما هو مرادك وقصدك، أخبرك ما مصيرك وجزاؤك ..

وهذا المعنى تكرر في القرآن: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} (الشورى: 20).

وهذا التقسيم الذي جعله الله -عز وجل- فارقاً بين السعادة والشقاوة، وبين الجنة والنار، بين الرضا والغضب، ارتبط بما يريده كلٌ منّا من حياته، وجعل الله سبحانه وتعالى مجرد إرادة الدنيا سبباً في حصول الخسران وحصول العذاب والغضب (مجرد إرادة الدنيا) ثم جعل إرادة الآخرة مقرونة بالسعي الذي يترتب على هذه الإرادة..

ماهي الدنيا وأين هي الآخرة منها ؟


منذ زمن ونحن نسمع الحديث عن (إرادة الدنيا) .. (أهل الدنيا) .. فهل هذه مذمومة؟ وما المقصود بالدنيا التي نتحدّث عنها؟!

هل هي الطعام والشراب اللباس؟

هل هي المركب أو المنزل أو الأثاث أو المال الذي يحصله؟

هل حصول هذه الأشياء يجعل أحدنا مريداً للدنيا فيكون بذلك متعرضاً للغضب؟

ثم ما المقصود من إرادة الآخرة؟

هل المقصود من إرادة الآخرة أن لا يكون لنا نصيباً بالدنيا أو صلة قط؟

هذه معان يترتب عليها منهج حياة نعيشه، ويترتب عليها شيء يسمى السير إلى الله سبحانه وتعالى.

وكل مَنْ في هذا الوجود مريدٌ؛ إمّا أن يكون مريداً للدنيا منقطعاً لها، وإمّا أن يكون مريداً لله ورضوانه.

فكيف نصل إلى الله عز وجل؟ وكيف ننال رضوانه؟

دعونا نفهم أو نتفهم المقصود من ضد ذلك؛ من الشيء الذي نهانا الله عنه إرادة الدنيا.

فما المقصود من إرادة الدنيا التي وصل التحذير منها إلى الحدّ الذي ينذر الله عز وجل العبد فيه أنّه بمجرد أن يريد الدنيا فهو مذموم؟

يقول العلماء: الدنيا هي كل ما وجد على هذه الأرض في هذا العالم مما تتناوله يد الإنسان.

وما دام الأمر يتعلق بما يريده الإنسان مما يتعلق بحياته في هذه الأرض فأين وجه الذّم؟! أن يتعلّق قلبك بأنّك تريد أن تلبس؟ وأن تأكل؟ وأن تشرب؟ وأن تنال سيّارة تركبها؟ هذه الأمور نالها أئمتنا والصحابة والتابعون والصالحون! فأين وجه الذنب؟!

المذموم من إرادة الدنيا:


اعلم أنّ الخطر في إرادة الدنيا أمران:

1. تعلق القلب.
2. انشغال الجسد بما تعلق به القلب.

بمعنى أن يعيش الإنسان في هذه الحياة وليس له مقصود أو هدف إلا أن يتمتع فقط بهذه الدنيا، وأن يعيش لها، ثم يترتب على هذا أنّ وقته وجهده وفكره وماله وجسده موظف لهذا المقصد، هنا تأتي الإشكالية ماذا يحتاج الإنسان من هذه الدنيا.

فعلاقة الدنيا والآخرة هي علاقة الطالب والمطلوب؛ ففي صحيحة هشام بن سالم، عن الصادق (ع) قال: "الدُّنْيَا طَالِبَةٌ وَمَطْلُوبَةٌ، فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَهُ الموتُ حتَّى يُخْرجَهُ منها، وَمَنْ طَلَبَ الآخِرَةَ طَلَبَتْه الدُّنْيَا حَتَّى تُوْفِيه رِزْقَه" (الفقيه: ج 4 ص 293). أي: الدنيا طالبة للمرء لأن يوصل إليه ما عندها من الرزق المقدر، ومطلوبة يطلبها الحريص طلبا للزيادة.

وفي معتبرة ابن بُكَيْر، عن أبي عبد الله (ع)، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ (ص): "إِنَّ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا إِضْرَاراً بِالآخِرَةِ، وفِي طَلَبِ الآخِرَةِ إِضْرَاراً بِالدُّنْيَا، فَأَضِرُّوا بِالدُّنْيَا فَإِنَّهَا أَوْلَى بِالإِضْرَارِ" (الكافي: ج 2 ص 131). ويومي إلى أنَّ المذموم من الدنيا ما يضر بأمر الآخرة فأما ما لا يضر به كقدر الحاجة في البقاء والتعيش فليس بمذموم.

حقيقة ما يحتاجه الإنسان في حياته:


ما هو الأمر الذي يجعل الإنسان يشغل وقته؟ ويشغل فكره؟ ويشغل جهده في هذه الحياة التي يعيشها؟

حقيقة ما يحتاجه الإنسان: طعام يقوِّي به بدنه على الحياة، ولباس يستر عورته ويكنّه من البرد، ومسكن يأوي إليه هو ومن معه؛ فهذه حقيقة ما يحتاجه كلُّ إنسان في هذه الدّنيا.

لما كانت هذه هي الأساسيات لكل ما يحتاجه الإنسان من الدنيا، ترتب على هذه الأساسيات أنّ عقل الإنسان وفكر الإنسان منذ زمن قديم انشغل بما يترتب عن هذه الثلاثة أشياء: (الطعام: فجعله يفكر في الزراعة والصيد ورعاية الماشية. اللباس: فجعله يفكِّر في غَزْل النسيج والخياطة. السكن: فجعله يحتاج إلى صناعة، وإلى عمالة).

هذه المتطلبات توسعت قليلاً، وجعلت الإنسان يحتاج إلى علاقة بينه وبين الآخر ليحصّل هذه الأشياء التي يريدها في الحياة. جعلته يفكِّر: أنا أحتاج أن أتعامل مع المزارع إن لم أكن مزارعاً.. أحتاج أن أتعامل مع الخيِّاط إذا لم أخط بنفسي .. أحتاج أن أتعامل مع البنَّاء ..

تطور العلاقات بين البشر وحاجاتهم:


هذه الحاجة بين الإنسان والآخر ترتّب عليها علاقات بين البشر.. وبطبيعة الإنسان البشرية، حصلت بسببها اختلافات في وجهات النظر، وتوافقات في وجهات أخرى.

بل تطورت هذه الاختلافات بين البشر، وتحولت أحياناً إلى نزاعات فيما بينهم وإلى خصومات أيضاً. وتحولت بعد ذلك إلى قتال.. فبعض القبائل يتقاتل مع الأخرى من أجل قطعة أرض فيها زراعة تصلح لمواشيهم.

وتطوّر الخصام والقتال اليوم وأصبح البشر يتكلّمون عن أزمة المياه، وعن أزمة الغذاء، وعن أزمة الطاقة.

وبطبيعة الحال فإنّ هذا النّزاع بين البشر وتصاعد الاختلافات بينهم ترتّب عليه حاجة جديدة متعلّقة بالدنيا وهي حل هذه النزاعات، أو تسويتها.

وترتّب على ذلك قوانين قضاء، وحكومات، ونظم يعيشها البشر مع بعضهم البعض.

هذه التطورات أثّرت في نفس كل إنسان؛ في نفسي أنا وفي نفسك أنت. وترتّب عنها أنَّ القلب والعقل صارا ينشغلان بالتفكير والتّدبير.. كيف أنال هذا وأحصل على ذاك؟ كيف التاجر الفلاني لا يغشّني في البضاعة؟ والتاجر كيف أنتزع المال أكثر؟ فصار الإنسان تمرّ عليه أوقاته وقلبه معلّق بشؤون الحياة ومعاشه. لإذن الخلافات بين البشر... على ماذا؟ على هذه الدنيا.

نشأ من جرّاء ذلك شيء في القلوب اسمه الكراهية بين الناس. وتطورت الكراهية فنشأ بسببها شيء اسمه الحسد فصار هذا يحسد الآخر: لماذا عنده كذا وليس عندي؟ ولماذا استطاع أن ينتزع مني كذا وكذا؟

ثم رافق الحسد أشكال أخر وهو (الكبر): وهو شعور يصاحب الذي يتقن تجاه الذي لا يتقن.. فالذي عنده حصيلة كبيرة من المال صار يشعر أنه أقوى وأقدر وأعظم وأجلّ من الذي ليس عنده هذا لمال. والذي استطاع أن يجنّد مجموعة من البشر حواليه صار يشعر أنّ له الفضل على غيره.. فصار يتكبر على الآخر.

فصار يحصل في نفس الإنسان شيء اسمه (العجب)، وهو الشعور بذاتي، وبتفكيري، وبعقلي، وبتدبيري، فبدأت الأمور تترتّب في نفوس البشر بناء على صلتهم بهذه الدنيا.

ومن ثَمَّ تطورت المسألة ولم تعد المسألة متعلقة بـ: كيف أجد طعاماً لأستمر في الحياة، ولباساً ليسترني ويقيني من البرد، وبيتاً يؤويني أنا وأهل بيتي. بل أصبح الإنسان يميل بتشهّيه؛ يريد هذا النوع من الطعام، وأصبح يشتهي ما عند غيره.

وكذلك الثياب.. تطوّرت من شيء يستر العورة ويكنّ من البرد إلى نوع من النظر إلى ما عند الآخرين.. فهذه الأنواع من الملابس صارت بسببها العقول والقلوب تنشغل بتمتع بهيئة من اللباس أكثر.

وصارت بسبب ذلك الأوهام تفكر في القيمة والابهار والألوان والأنواع وعدم التكرار..

أنظروا معي: كان الإنسان محتاجاً إلى مسكن يؤويه، ثم بدأ يفكر أكثر في تعداد الحجرات، ومكان للضيوف، وحديقة للتنزّه، وبركة للسباحة... إذن بدأت المسألة تتوسّع في شكل البيت ومنظر البيت، والديكور وأنواع الكاشي..

أيها الأحبة..

الإشكال ليس في الرخام، وليس في نوع البيت، سواء كان من الطين أو من الحجر أو من الرخام أو من الاسمنت.. والإشكال ليس في الثياب -لونها أخضر أو أحمر أو من قماش من صوف كذا أو قطن كذا أو من شركة كذا.. والإشكال ليس في الطعام، هذا ألذّ أو ذاك ألذّ..

كل الإشكال هو في تفاعلي أنا مع هذا..

تعالوا بنا نتأمّل: أكبر مشاكل العصر التي يعيشها الناس اليوم انبنت على ماذا؟ أكبر الحروب التي أريقت فيها الدماء اليوم في الأرض ما أصلها؟

إذا فتشنا ورجعنا إلى الوراء قليلاً: النزاعات الشديدة بين الناس اليوم، النزاعات بين الدول، بين الشعب الواحد في الدولة الواحدة، بين المجتمع أصحاب الحيّ الواحد، بين الأقارب والأرحام وقطيعة الرحم وما يترتب عليها، بين العاملين في المجال الواحد، تعالوا في البيت الواحد في الأسرة الواحدة، مشاكل الأزواج والزوجات، مشاكل نسبة الطلاق التي يتكلمون عنها اليوم مشاكل تشتت الأسر ضياع الأبناء...

هذه الإشكالات الكبيرة، لو بدأنا بهدوء نتأمّلها، فإننا سنرجع في نهاية اليوم إلى أنَّ الإشكالات الضخمة والكبيرة والعالمية والمحلية والاجتماعية والاقتصادية والأسرية ومشكلة كل واحد منكم لو فكر سنجد أنَّ المشاكل هذه ترجع إلى: نفس الإنسان (السعادة والشقاوة، الفلاح والخيبة، الرضا والغضب، الحزن والفرح، الراحة والطمأنينة، الانزعاج والبؤس) مرجع ذلك كله إلى نفس الإنسان.

ولهذا لما أقسم الله بمظاهر الوجود الشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض جعل منتهى الأقسام كلها القَسَم بالإنسان {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} ما الذي ترتب عن هذا القَسَم؟ ما جواب القَسَم هنا {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}. تتكلمون عن السعادة؟ عن فلاح الدنيا والآخرة؟ تتكلمون عن الخيبة؟ تتكلمون عن ماذا؟ المسألة فينا في أنفسنا لهذا نحن بحاجة إلى أن نجلس مع بعضنا البعض نتأمل ونتفكر في سيرنا إلى الله..

ففي حسنة جميل بن دَرَّاج، عن أبي عبد الله (ع) قال: مَرَّ رَسُولُ اللَّه ص بِجَدْيٍ أَسَكَّ (ولد المعز مقطوع الأذنين) مُلْقًى عَلَى مَزْبَلَةٍ مَيْتاً، فَقَالَ لأَصْحَابِه: >كَمْ يُسَاوِي هَذَا؟" فَقَالُوا: لَعَلَّه لَوْ كَانَ حَيّاً لَمْ يُسَاوِ دِرْهَماً. فَقَالَ النَّبِيُّ (ص): "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِه، لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا الْجَدْيِ عَلَى أَهْلِه" (الكافي: ج 2 ص 129؛ صحيح مسلم: ج 4 ص 2272 حديث 2957).

من أين تختلف نظرتنا للدنيا؟


فرق كبير بين مَنْ يأخذ اللقمة وهو يريد من هذه اللقمة أن يحافظ على أمانة الجسد الذي ائتمنه الله عز وجل عليه للحفاظ على هذه الأمانة وبين من يريد التشهّي والتمتّع، بمعنى أنك تريد عند أكلك لهذه اللقمة الطيبة التي ساقها الله لك أن تستخرج معنى الحمد من قلبك..

ويذكرون أنّ بعض العرفاء لما سئل: أتشرب الماء المبرد أم غير المبرد؟! -وكان بعض المتزهدين في عصره يتجنبون شرب الماء المبرد- فقال: بل أشرب المبرد، فسئل: لمَ؟! فأجاب: لأنه يستخرج الحمد من صميم القلب..

فأنت في شدّة الحرّ، أو تكون صائماً، وجاء وقت الإفطار، فعندما يأتي الماء وفيه شيء من البرودة مع شدة القيظ والحرارة وتشرب الماء المبرد كيف تشكر الله؟ تخرج الحمد من صميم القلب.. إذن المسألة ترجع لإرادتك..

ما الإشكال في أنَّ الإنسان يريد أن يتمتع من هذه الحياة فقط؟


ليس الإشكال بأن يتمتع، بل الإشكال أن يعيش الإنسان ويفرِّط في أمانة الهدف الذي خُلق من أجله، وأصبح ليس له هدف من هذه الحياة إلا أن يتمتع بالدنيا وهذا هو الضرر..

فالخراب الذي يعيشه العالم من إهدار لمقدرات الأرض التي نعيشها، ومن تباغض، ومن تحاسد، ومن حرب... مرجعه وسببه وأساسه أنَّ الذين تناولوا الدنيا تناولوها فقط من أجل أنفسهم..

والخطير في النفس البشرية أنَّ الإنسان إذا تعامل مع متع النفس ومطالبها فقط لأنه يستجيب لما تريده النفس يقع في مشكلتين كبيرتين:

المشكلة الأولى: أنَّ مرادات النفس لا تنتهي عند استجابة واحدة، ولن تكتفي بالاستجابة الثانية، بل هذ في طلب مستمر، ثم تصل إلى مستوى تفقد فيه التمتع في الشيء الذي كانت تتلذذ به، فتطلب شيئاً خارج إطار المعقول والمقدور..

ما الذي يجعل بعض النّاس يقوم بالتّدليس أو الغشّ أو الربا؟

وما الذي يجعلهم يسيئون إلى الآخرين أو يظلمون الناس؟ من أجل أن يحصّل على المال والشهرة و...

فما الذي يجعله يفعل ذلك؟ استجابة إلى أنّ نفسه اشتهت الزيادة، فهو يستجيب إلى زيادة شهوة نفسه (التكاثر)؛ والله سبحانه يقول: {ألهاكم التّكاثر} أي الرغبة في الزيادة، إذن المشكلة أنك مهما حاولت أن ترضي النفس فإنها لا ترضى، ومهما حاولت أن تمتعها فإنها تطلب المزيد..

المشكلة الثانية: كلما أردت أن ترضي نفسك، سعدت سعادة مؤقتة، ثم بعد ذلك تضمحل هذه السعادة مباشرة وتنتهي في الدنيا قبل الآخرة؛ لأنها تعلقت بسعادة أخرى. دائماً السعادة في النفس سرابٌ لا منتهى لها ولا تصل إلى حقيقة، بينما الذي ينتقل من مراد الدنيا إلى أن يكون مريداً إلى الآخرة ومريداً لله عز وجل، فإنه يتمتّع: يأكل أنواعاً من الطعام، ويلبس من أحسن ما يلبسه الناس إن تيسر أن يلبس، ويركب المركوب الحسن، ويسكن المسكن الحسن..

فما الفرق بين الاثنين؟

1 . أنّ هذا الفرد اقترنت متعه -في الدنيا- بالحمد، فوصل أنسه وفرحه ومتعته بالله، وفي الآخرة سيرى ثمرة الحمد عند وقوفه بين يدي الله: حمدتني وشكرتني وذكرتني فهذا هو ثوابك {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}.
2 . أنه سيكون مالكاً لزمام نفسه، ولن يكون مملوكاً لنفسه.

فلو بدأت النفس تزيغ، وتطلب شيئاً ليس له، وبدأت تزيِّن له ذلك، حينئذ قد تسرق وتغش وتخدع، فالمالك لنفسه لا يرتكب الذليل ويدع الجليل.

فكيف نحصّل هذه الهمة والرغبة في السير إلى الله، كيف نحافظ عليها، كيف تقوى عندنا، كيف نستجيب لها.

وإذا أقبلنا بهمة للسير إلى الله سنجد أنَّ أول مشكلة تقابلنا ذنوبنا معاصينا السابقة، أخطاؤنا مع الله ومع الخلق، وسنحتاج إلى التوبة.

ثم إذا تاب الإنسان، وأقبل على الله، سيجد أنَّ أهم شيء عنده هو قلبه، وسيجد أنَّ القلب قد أصيب بسبب المعاصي الماضية والأحوال الماضية بالأمراض، وهذه الأمراض تحتاج إلى تطهير..

ثم إذا رغب أحدنا في تطهير قلبه سيفاجأ بأنَّ أعماله الّتي يكتسبها -الجوارح البصر السمع النطق- تلوث القلب، فسنجد أننا بحاجة إلى ضبط جوارحنا أعمالنا حركاتنا سكناتنا، وكيف نستقيم على الطاعة في ذلك كله.

ثم اذا استقامت الأعضاء على الطاعة، وتخلصنا من أمهات المعاصي شعرنا بحاجتنا إلى الحفاظ على هذه الطهارة ظاهرة وباطنة.

وهنا يأتي حاجتنا إلى تصحيح الفرائض على أحسن حال واستقامة، وكيف يكون حضور قلوبنا مع الله، ونصيبنا من الذكر.

وإذا ما صححت الفرائض تأتي علينا أثناء الطريق جملة من خواطر ووسوسة الشيطان، ولن يتركنا نسير إلى الله دون إشكالات.

وهنا يأتي أهمية إعمال الفكر فيما يقرب إلى الله عز وجل.
ويجرنا ذلك إلى حاجتنا إلى مجالسة الصالحين الذين يعينوننا ويأخذوا بأيدينا ليدلونا إلى الله عز وجل.

(اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ ، وَ اجْعَلْ سَلَامَةَ قُلُوبِنَا فِي ذِكْرِ عَظَمَتِكَ ، وَ فَرَاغَ أَبْدَانِنَا فِي شُكْرِ نِعْمَتِكَ ، وَ انْطِلَاقَ أَلْسِنَتِنَا فِي وَصْفِ مِنَّتِكَ) برحمتك يا أرحم الراحمين.

محرم 1447 في الصحافة الكويتية