لقاء شبكة فجر الثقافية مع الشيخ حسين المصطفىحول الصوم وشهر رمضان
/ نسرين نجم*
ما هي إلا أيام قليلة تفصلنا عن موسم عظيم من مواسم العمل الصالح،
وفرصة سنوية للتزود بالإيمان والتقوى، فهو شهر الخيرات والبركات الذي خصه الخالق
عزّ وجلّ بالرحمات، حيث به تُقال العثرات، وتُحط الذنوب والسيئات...ولنغتنم هذه
اللحظات الثمينة والقيمة علينا أن نستعد لها استعدادًا يليق بخاصية شهر الله عز
وجل شهر رمضان الكريم، للحديث أكثر عن الاستعدادات لهذا الشهر الفضيل أجرينا هذا
الحوار مع سماحة الشيخ حسين المصطفى:
* شهر رمضان موسم التغيير:
شهر رمضان هو
موسم التغيير والتقدم نحو الأفضل وهو فرصة سنوية للاستغفار ولمراجعة الذات، لذا
للاستفادة منها يجب أن يكون هناك استعداد عمليّ وروحيّ لهذا الشهر الفضيل، عن هذا
الاستعداد يخبرنا سماحة الشيخ حسين المصطفى:
"لا ريب أنَّ الوقوف على أسرار الشريعة ومقاصدها يضيّق الفجوة
بين الشريعة وممارستنا الفعلية، ويختص (المقصود الشرعي) بكونه على وفق مقتضيات
الفطرة؛ ومعلوم أنَّ الفطرة عبارة عن الهيئة الخلقية والروحية التي انطوت عليها
نفس الإنسان والتي تُوصّله إلى معرفة عبوديته للخالق. ولا أدل على ذلك من كون
الشارع وضع هذه المقصودات من أجل تحصيل السلوك والأخلاق الإنساني السامي، كما يشهد
بذلك الكثير من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة في سياقات تبرز الغاية الأخلاقية
لتشريع الأحكام.
فعلى سبيل المثال، في الصوم يقول
تعالى: {يَا أيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلكُم تَتقُونَ}(البقرة: ١٨٣). وفي الصلاة: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ
الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ}(العنكبوت: ٤٥). وفي الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِـهِمْ
صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}(التوبة: ١٠٣).
فالاستعداد العملي والروحي للصوم
تحدده الآية القرآنية السابقة، عندما يتحدث الله سبحانه عن الصوم بأنّه وسيلة
التقوى، ومن الطبيعي أنّ التقوى تحتاج إلى إرادة، فعندما يغريك الشيطان بأن تحرك
فكرك في التخطيط للشر، لأنّ هناك منافع آنية ودنيوية في التخطيط للشر، تحتاج -
عندئذ - إلى إرادة إيمانية قوية تمنعك من ذلك.
وكذلك عندما يجذبك الشيطان من أجل أن
تتحرك في عاطفتك لتحب من أبغضه الله أو لتبغض من أحبه الله نتيجة بعض العوامل
والمصالح، فتحتاج إلى إرادة تضبط مشاعرك وأحاسيسك وتجعلها تتحرك في الخط المستقيم.
وهكذا بالنسبة إلى تقوى العمل عندما يتحرك الإنسان في الحياة، حيث إنّ
الصوم يحقق للإنسان الإرادة النابضة بالروح والمرتكزة على الانفتاح على الله،
فكأنّك تقول لربك في صومك: يا رب، إنني أصوم من أجل أن أحقق لنفسي في هذا الصوم
الصغير القوة على الصوم الكبير، لأنّ الله سبحانه وتعالى فرض علينا في شهر رمضان أن
نصوم عن بعض ما اعتدناه في النهار وهو الصوم الصغير، وفرض علينا في العمر كله أن
نصوم عن المحرمات كلّها، وهو الصوم الكبير، وهذا هو هدف الصلاة وغايتها، فإنها
تنهى عن الفحشاء والمنكر.
ولكي يستعد الإنسان لشهر رمضان، عليه أن يطبق جملة من الشرائط، ومن
هذه الشرائط:
1 . الورع
عن محارم الله: ففي خطبة الرسول الأكرم (ص) المشهورة في استقبال شهر رمضان، يسأله
أمير المؤمنين (ع): يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في
هذا الشهر؟ فقال (ص): يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم
الله (وسائل
الشيعة: ج 10 ص 314).
2 . عفة
اللسان وغض البصر: يقول الإمام الصادق (ع): إنّ
الصيام ليس من الطعام والشراب وحده، - ثم قال -: قالت
مريم: {إنِّي نَذَرْتُ لِلرحْمَنِ صَوْمَاً}
أي صمتاً، فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم، وغضّوا
أبصاركم، ولا تنازعوا، ولا تحاسدوا. قال: وسمع رسول الله (ص) إمرأة تسبّ جارية لها
وهي صائمة، فدعا رسول الله (ص) بطعام، فقال لها: كلي. فقالت: إنّي صائمة! فقال:
كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك، إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب فقط (وسائل الشيعة: ج 10 ص 162).
3 . الامتناع
عن الغيبة: قال رسول الله (ص): ومن اغتاب أخاه المسلم
بطل صومه وانتقض وضوؤه، فإن مات وهو كذلك مات وهو مستحل لما حرّم الله (وسائل الشيعة: ج 10 ص 34).
4 . حفظ
الجوارح عن القبائح: يقول الإمام الصادق (ع): إذا
أصبحت صائمًا فليصم سمعك وبصرك من الحرام، وجارحتك وجميع أعضائك من القبيح، ودع
عنك الهذي وأذى الخادم، وليكن عليك وقار الصائم، والزم ما استطعت من الصمت والسكوت
إلاّ عن ذكر الله، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك (وسائل الشيعة: ج 10 ص 165).
5 . كراهة
القُبلة والملامسة بشهوة: عن الأصبغ بن نباتة قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين (ع)
فقال: يا أمير المؤمنين، أقبّل وأنا صائم؟ فقال له: عفّ
صومك، فإنّ بدو القتال اللطام (وسائل الشيعة: ج 10 ص 100).
ومن خلال قراءتنا لخطبة الرسول الأكرم (ص) في استقبال شهر رمضان،
وتعتبر من أهم النصوص النبوية في سمو الصوم، نجد أنّ الصوم مرتبط بعدة أمور نذكر
أهم ما تناولته هذه الخطبة:
·
الصوم مرتبط بالتوبة والرجوع إلى الله وطلب رحمته.. يقول: وَتُوبُوا إِلَى اللهِ مِنْ ذُنُوبِكم.
·
الصوم مرتبط بطلب رحمة الله بكل عزيمة ولجاجة.. يقول الرسول: وَارْفَعُوا إِلَيْهِ أَيْدِيَكُمْ بِالدُّعَاءِ فِي
أَوْقَاتِ صَلَاتِكُم، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ السَّاعَاتِ، يَنْظُرُ اللهُ عَزَّ
وَجَلَّ فِيهَا بِالرَّحْمَةِ إِلَى عِبَادِهِ، يُجِيبُهُمْ إِذَا نَاجَوْهُ،
وَيُلَبِّيهِمْ إِذَا نَادَوْهُ، وَيُعْطِيهِمْ إِذَا سَأَلُوهُ، وَيَسْتَجِيبُ
لَهُمْ إِذَا دَعَوْهُ.
·
الصوم مرتبط بالتذلل لطلب القوة الروحية للانتصار على قوة الشر: يقول
الرسول الأكرم: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَنْفُسَكُمْ
مَرْهُونَةٌ بِأَعْمَالِكُمْ فَفُكُّوهَا بِاسْتِغْفَارِكُمْ، وَظُهُورَكُمْ
ثَقِيلَةٌ مِنْ أَوْزَارِكُمْ فَخَفِّفُوا عَنْهَا بِطُولِ سُجُودِكُمْ.
·
الصوم مرتبط بالخدمة والمهام الجليلة التي يكلفنا بها الله عز وجل:
يقول الرسول الأكرم: وَتَحَنَّنُوا عَلَى أَيْتَامِ
النَّاسِ يُتَحَنَّنْ عَلَى أَيْتَامِكُمْ... أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ فَطَّرَ
مِنْكُمْ صَائِماً مُؤْمِناً فِي هَذَا الشَّهْرِ كَانَ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ
اللَّهِ عِتْقُ نَسَمَةٍ وَ مَغْفِرَةٌ لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ.
·
الصوم مرتبط بنشر مكارم الأخلاق بين الناس يقول الرسول الأكرم : أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ حَسَّنَ مِنْكُمْ فِي هَذَا
الشَّهْرِ خُلُقَهُ كَانَ لَهُ جَوَازاً عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ
الْأَقْدَامُ، وَمَنْ خَفَّفَ فِي هَذَا الشَّهْرِ عَمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ
خَفَّفَ اللهُ عَلَيْهِ حِسَابَهُ، وَمَنْ كَفَّ فِيهِ شَرَّهُ كَفَّ اللهُ عَنْهُ
غَضَبَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَمَنْ أَكْرَمَ فِيهِ يَتِيماً أَكْرَمَهُ اللهُ
يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَمَنْ وَصَلَ فِيهِ رَحِمَهُ وَصَلَهُ اللهُ بِرَحْمَتِهِ
يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَمَنْ قَطَعَ فِيهِ رَحِمَهُ قَطَعَ اللهُ عَنْهُ رَحْمَتَهُ
يَوْمَ يَلْقَاهُ.
·
وهكذا نرى دائمًا بركات التذلل أمام الله والسلوك بالتواضع أمامه،
يقول الرسول: وَمَنْ تَطَوَّعَ فِيهِ بِصَلَاةٍ
كَتَبَ اللهُ لَهُ بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرْضاً كَانَ
لَهُ ثَوَابُ مَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الشُّهُورِ،
وَمَنْ أَكْثَرَ فِيهِ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيَّ ثَقَّلَ اللهُ مِيزَانَهُ يَوْمَ
تَخِفُّ الْمَوَازِينُ، وَمَنْ تَلَا فِيهِ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ كَانَ لَهُ
مِثْلُ أَجْرِ مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ.
فعلى ذوي البصائر أن يقفوا على هذه الشرائط - وغيرها - وقفة تأمل، حيث
لا وصول إلى الغايات السامية في العبادة إلا بتلمس حقائقها، وبدون ذلك لا يرتقي
الإنسان إلى روح العبادة الصحيحة، ويكون حظه كمن يقول في حقه أمير المؤمنين (ع): كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ (نهج البلاغة: ق 145).
السؤال الثاني:
انطلاقًا من هذا الكلام نسأل عن خصائص هذا الشهر الفضيل، ولماذا
ميزه الله عزّ وجلّ عن غيره من الأشهر يقول سماحة الشيخ حسين المصطفى:
خصوصية الزمان له انفتاح حركي خاص في وعي ونفس الصائم، مما يضفي جوًّا
من التحولات النفسية والخارجية بصورة واضحة وجلية على الفرد والمجتمع، فكان شهر
رمضان زمانًا مباركًا يحمل من الخصائص المعنوية ما لا تحتمله عقول البشر. يقول
الإمام زين العابدين (ع): اللهم وأنت جعلت من صفايا تلك
الوظائف وخصائص تلك الفروض شهرَ رمضان الذي اختصصته من سائر الشهور، وتخيرته من
جميع الأزمنة والدهور، وآثرته على كل أوقات السنة بما أنزلت فيه من القرآن والنور،
وضاعفت فيه من الإيمان، وفرضت فيه من الصيام...، ثم آثرتنا به على سائر الأمم،
واصطفيتنا بفضله دون أهل الملل فصمنا بأمرك نهاره، وقمنا بعونك ليله (الصحيفة السجادية: دعاء وداع شهر
رمضان).
وفي شهر رمضان تتعانق الرحمات والألطاف الإلهية، وتغلّ مردة الشياطين
عن أن يستجاب لها.
يقول الإمام الباقر (ع): كان رسول الله (ص) يقبل بوجهه إلى الناس، فيقول: يا معشر
الناس إذا طلع هلال شهر رمضان غلّت مردة الشياطين، وفتحت أبواب السماء، وأبواب
الجنان، وأبواب الرحمة، وغلّقت أبواب النار، واستجيب الدعاء، وكان لله فيه عند كل
فطر عتقاء يعتقهم الله من النار، وينادي مناد كلّ ليلة: هل من سائل؟ هل من مستغفر؟
اللهم أعط كلّ منفق خلفًا، وأعط كلّ ممسك تلفًا حتى إذا طلع هلال شوال نُودي
المؤمنون أن اغدوا إلى جوائزكم فهو يوم الجائزة(الكافي: ج 4 ص 70). وهو تصديق للحديث القدسي: الصوم لي
وأنا أجزي عليه(الكافي:
ج 4 ص 66).
يقول الشيخ محمد تقي المجلسي: وأما قوله: وأنا أجزي به بالمعلوم كما
هو المشهور، لبيان كثرة الجزاء لأنّه تعالى إذا أخبر بأنّه يتولى بنفسه جزاءه
فبالحري أن يكون جزاؤه لا يتناهى، وتقديم الضمير للتخصيص كما هو الظاهر، أي أجازيه
به ولا أكِلُهُ إلى ملائكتي(روضة
المتقين: ج 3 ص 226).
السؤال الثالث:
شهر رمضان المبارك هو شهر القرآن الكريم، وهنا يطرح السؤال كيف يمكن
لكتاب الله عز وجل أن يغير المنظومة المجتمعية والإنسانية؟ أو بالأحرى أي نور قدمه
للإنسان؟ يجيب سماحته:
لا ريب أنَّ القرآن الكريم نور، ولا يستشعره إلا من كان عقله
قرآنيًّا، ولذا نلاحظ أنَّ اختيار الخطاب القرآني للعقل هو غايةٌ ووسيلةٌ في آنٍ
واحد، ينبع من طبيعته -كفكر إلهي-، يبدأ من الحدود التي تقف -عندها- المعرفة
الطبيعية البشرية عاجزةً.. فبينما اعتمدت معجزات الرسل على (إعجاز) الحس والعقل،
بخرق القوانين الطبيعية، فإنَّ إعجاز القرآن اعتمد على إيقاظ العقل والنهوض به.
فالطابع الحسي لمعجزات الرسالات السابقة
دمغ هذه الرسالات بطابع حسي، يتناسب مع لغة (اللاعقل) التي كانت سائدة، والتي
استطاعت المعجزة الحسية اختراقها والتفاهم معها، لكنَّ الرسالة الخاتمة يجب أن
تتميز عن ذلك، بتقديم لغة حية تصلح مقدماتها ونتائجها لكل العصور، لا تصلح فقط
لكلِّ العصور، بل تُصلِح كل العصور.. {وَإِن كُنتُمْ
فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن
مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(البقرة: 23).
وقد ورد عن علي (ع): ذَلِكَ الْقُرْآنُ
فَاسْتَنْطِقُوهُ، وَلَنْ يَنْطِقَ! وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ: أَلا إِنَّ
فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتِي، وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي، وَدَوَاءَ دَائِكُمْ،
وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ. وكأنَّ أمير المؤمنين يوجهنا إلى القراءة الصحيحة
للخطاب القرآني بأن نتوجه إليه بمشكلة عقدية أو فكرية أو اجتماعية أو نفسية أو
اقتصادية... ونجري معه استنطاقًا نتساءل معه وعبره حول العلاج القرآني لهذه
المشكلة بعد أن نبذل الجهد في طرح أفكار إنسانية في علاج هذه المشكلة، وعبر هذه
التساؤلات مع هذه الخبرات الإنسانية يتبين رأي القرآن بروعته وعمقه وآفاقه. إنّ
المهم كما يقول علي (ع): ذَلِكَ الْقُرْآنُ
فَاسْتَنْطِقُوهُ... إنه دعوة دائمة للتساؤل والنظر والبحث وتفعيل العقل..
فأنت عندما تقرأ سورة الواقعة ستلاحظ زلزلة من التساؤلات: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ
الْخَالِقُونَ}(الواقعة:
58-59)، هنا يجد
الإنسان نفسه في زاوية حرجة من خلال هذا الخطاب.
هكذا يكون القرآن نورًا في ليالي
رمضان من خلال التدبر والاستنطاق والتساؤل المعرفي.
السؤال الرابع:
شهر رمضان المبارك هو أيضًا شهر الدعاء. فلماذا الدعاء؟ وأي سر رباني
فيه؟ وما هي شروطه؟ يجيبنا سماحته بالقول:
الصوم من أعمق العبادات أثرًا .. والعبادة تحتوي على تمظهرات ثلاث:
(سلوكية، ومعرفية، وجمالية)، فلا بدَّ أن تنعكس هذه التمظهرات على الصائم.
فأول شيء في الصوم أنه قفزة نوعية في
(سلوك الصائم)، وتبدأ بحفظ جوارحه، بحفظ الرأس والبطن وما حواهما، عن طريق حفظ
البصر، واللسان، والحركات، والعلاقات، ولا بدَّ -هنا- أن تنعكس على الصائم في
سلوكه، بحيث يلاحظه الناس من حوله.. فتبنى علاقاته على التسامح والإنصاف والرحمة
والبذل والسخاء. يقول الإمام الصادق (ع): إنّ الصيام
ليس من الطعام والشراب وحده، - ثم قال -: قالت
مريم: {إنِّي نَذَرْتُ لِلرحْمَنِ صَوْمَاً} أي صمتًا، فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم،
وغضّوا أبصاركم، ولا تنازعوا، ولا تحاسدوا. قال: وسمع رسول الله (ص) امرأ ة تسبّ
جارية لها وهي صائمة، فدعا رسول الله (ص) بطعام، فقال لها: كلي. فقالت: إنّي
صائمة! فقال: كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك، إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب
فقط (وسائل
الشيعة: ج 10 ص 162).
ولا شك أنَّ هذا الانضباط في (السلوك) أساسه قائم على (المعرفة)، أي معرفة الصائم
بالله سبحانه، وأزمتنا هي أزمة علم، يقول سبحانه: {لَوْ
كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(الملك: 10).
والجمال في شهر رمضان أنَّ العبادة طاعة اختيارية، ممزوجة بالمحبة،
وأساسها المعرفة التي تفضي إلى سعادتنا بمن حولنا؛ من خلال اتصالنا بالله، ومن ضمن
آيات الصيام يقول تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي
وَلْيُؤْمِنُوا بِي} (البقرة:
186). والذي يقرأ
القرآن قد يتوهم أنَّ هناك آية مقحمة في آيات الصيام: {وَإِذَا
سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا
دَعَانِ} (البقرة:
186). ولكنَّ
الحقيقة أنَّ هذه الآية ليست مقحمة، بل إنها الثمرة الأولى للصائم ذلك هي الثمرة
الأولى على طريق التقوى.. {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ
رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} (الفرقان: 77). إذاً يعبأ الله بنا إذا دعوناه، ولا يعبأ بنا إذا دعونا سواه!! فأنت
بالدعاء أقوى إنسان، ويكفي أنك في قبضة الله... لذلك يقول الرسول (ص) في خطبة
استقبال شهر رمضان: وَارْفَعُوا إِلَيْهِ
أَيْدِيَكُمْ بِالدُّعَاءِ فِي أَوْقَاتِ صَلَاتِكُم؛ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ
السَّاعَاتِ، يَنْظُرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا بِالرَّحْمَةِ إِلَى عِبَادِهِ،
يُجِيبُهُمْ إِذَا نَاجَوْهُ، وَيُلَبِّيهِمْ إِذَا نَادَوْهُ، وَيُعْطِيهِمْ إِذَا
سَأَلُوهُ، وَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ إِذَا دَعَوْهُ.
* فلسفة الصوم:
كثيرٌ منا يتساءل لماذا نصوم؟ ولماذا نمتنع عن الطعام والشراب وهو
متوفر لدينا؟ وبإمكاننا أن نساعد الفقراء والمحتاجين بمبلغ من المال ليأتوا
بالطعام بدلًا من أن نصوم ونعاني مشقات هذا الأمر؟ وبالتالي أي فلسفة تحملها هذه
الفريضة؟ يجيب سماحته بالقول:
لكي تتضح الإجابة بشكل عملي نجيب على هذا التساؤل: كيف يتصور الناس
الصوم.. وبطبيعة الحال تتباين آراء الناس بخصوص غرض الصوم.
1 . هناك مجموعات تقول إنّ الله عز وجل فرض علينا الصوم لكي نشعر
بالفقراء وما يعانونه من جوع وحرمان!! ونسي هؤلاء أنّ العطف على الفقراء والمساكين
لا يتولد من الإحساس بالجوع بل من الخُلق الكريم. والدليل على ذلك: أنّ كثيرين ممن
اعتادوا الصوم لا يبالون في صومهم بهؤلاء أو أولئك وإن تصدقوا عليهم أحيانًا أثناء
الصوم قلما يبالون بهم بعد انتهائه. فضلًا عن أنّه لو كان الغرض من الصوم هو
الإحساس بالجوع لما كان للفقراء أن يصوموا أبدًا لأنّهم يحسون به في كل يوم، فالله
سبحانه وتعالى فرض الصوم على الأغنياء كما فرضه على الفقراء الذين لا حاجة لهم أن
يشعروا بأنفسهم.
2 . بعض
الناس يقولون إننا نصوم حفاظًا على مظاهرنا الدينية لدى أصدقائنا الصائمين. ونسي
هؤلاء أنّ الصوم لهذا الغرض لا يُعتبر فضلًا في نظر الله بل هو رياء وتظاهر بغير
الحقيقة.
3 . ويقول
فريق آخر إنّ الله سبحانه وتعالى فرض علينا الصيام ليغفر لنا ما تقدم من ذنوبنا
ولكنّ هذا الرأي غير صحيح لأنّه لو كان الله سبحانه يغفر ذنوب الإنسان بسبب صيامه
أو حسناته لأصبح الغفران استحقاقًا مفروضًا على الله وليس رحمة وتكرمًا منه.
4 . وفريق
من الناس يقول إننا ننتهز فرصة الصيام فلا نسرق ولا نغش ولا نكذب. ويظن أصحاب هذا
الرأي أنّهم بهذا ذوو فضيلة، ونسي هؤلاء أنّ الله سبحانه لا يرضى بالذنب والشر في
كل شهور السنة وليس في وقت الصيام فقط.
5- وهناك من يقولون
إننا نصوم لنقضي على أهوائنا وشهواتنا. وهؤلاء الناس وإن كانوا أفضل كثيرًا ممن
جاء ذكرهم سابقًا إلا أنّهم نسوا أنّ الميل إلى الخطيئة ليس كامنًا في الجسد حتى
يتمكن الارتقاء فوق هذا الميل بالصوم، بل إنّ الميل إلى الخطيئة يقبع داخل النفس
بدليل أنّ يد السارق الذي يصوم كثيرًا لا تختلف في تركيبها الجسماني عن يد الأمين
الذي لا يصوم على الإطلاق. إنّما الفرق بينهما هو أنّ نفس الثاني أمينة ومن ثم
توحي إليه بمراعاة الأمانة، ونفس الثاني شريرة ومن ثم توحي إليه بالسرقة. هذا
فضلًا عن أنّ كثيرًا من الصائمين وإن كانوا لا يفعلون في الظاهر الخطايا التي
اعتادوا عليها. إلا أنّهم في أثناء صومهم قد يشتهونها ويفكرون فيها ويتحدثون عنها.
وبناء على كل هذا فليس كل صوم مقبولًا عند الله فهناك أصوام باطلة لا
تعتبر بالحقيقة أصوامًا، وهي مرفوضة تمامًا من الله. فكيف يقبل الله عز وجل صومًا
سيهدف الصائم من ورائه كسب مديح الناس وإطرائهم؟!
·
يقول الرسول (ص): أفضل الأعمال في هذا
الشهر الورع عن محارم الله.
·
ويقول علي (ع): صيام القلب عن الفكر في
الآثام أفضل من صيام البطن عن الطعام.
·
وقال (ع): صوم النفس عن لذات الدنيا أنفع
الصيام.
·
وقال الصادق (ص): سمع رسول الله (ص)
امرأة تسب جارية لها وهي صائمة، فدعا رسول الله (ص) بطعام، فقال لها: كلي. فقالت:
إنّي صائمة. فقال: كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك، إنّ الصوم ليس من الطعام
والشراب فقط.
فكيف يقبل الله سبحانه صومًا يكون
غرضه التباهي والافتخار؟ أو كيف يقبل الله صومًا غير مقترن بالتوبة عن الذنوب؟!
إنّ الله (قدوس) يريد القلب النقي أكثر مما يريد المعدة الخاوية والجسد الجائع!!
فالإنسان الذي يصوم فمه عن الطعام، ولا يصوم قلبه عن الخطايا والشرور، ولا يصوم
لسانه عن الأباطيل... فإنّ صومه باطل. إنّ منع النفس عن الطعام لا بد أن يمتد إلى
أن يصير منعًا عامًّا عن كل ما يغضب الله. إنّ الصوم هو علاقة عبادية روحية بين
الإنسان وربه، وهذه العبادة يجب أن لا تمارس تحت ضغوط ونظم معينة، بل يجب أن تكون
بإرادة القلب وشوق الروح، فالصوم عامل هام من عوامل تعميق الشركة الروحية مع الله
ففيه يتجه الإنسان نحو الله فيقلل من الروابط التي تربطه بالأرض ويضبط عناصر
طبيعته نحو السماء فيأخذ نعمة تساعده على التقدم في الطريق الروحي. إنّ الصوم هو
فترة حب لله سبحانه والتصاق به، وبسبب هذا الحب يرتفع الصائم عن مستوى الجسد ليسمو
بالروح ويرتفع عن الأرضيات ليرقى إلى السمائيات.
ومتى كان الصوم بهذا الشكل تصير فيه علاقة الإنسان بخالقه علاقة عميقة
وحميمة إن كان هذا الصوم مقبولًا عند الله .. إنّ الصوم هو الذي تشعر فيه بأنّ
الله موجود في حياتك ووجوده ظاهر في تصرفاتك وكلماتك، ويوم الصوم الذي لا تفكر في
الله يجب أن تشطبه من أيام صومك.
ولكي يكون الصوم مقبولًا لدى الله على الصائم ألا يفتخر بصومه أو
يتحدث للناس عنه بل أن يغسل وجهه ويمشط شعره حتى لا يظهر للناس صائمًا بل الله
الذي في السماوات والذي سيكافئه.
والصوم المقبول عند الله هو الصوم
المقترن بالتوبة، فالأشرار الذين يكتفون من الصوم بالامتناع عن الطعام والشراب
يخاطبهم الله سبحانه - كما جاء على لسان حبيبه (ص) -: لو
صليتم حتى تكونوا كالحنايا، وصمتم حتى تكونوا كالأوتار، لم يقبل الله منكم إلاّ
بورع.
أليس الصوم الذي أختاره يكون في فَكِّ
قيود الشر وحلِّ عقد نير الذل والاستعباد وإطلاق سراح المتضايقين وتحطيم كل نير؟
ألا يكون في مشاطرة زادك مع الجائع وإيواء الفقير المتشرد وكسوة العريان الذي
تلتقي وعدم التغاضي عن قريبك البائس؟
إنّ الله سبحانه يهمه بالدرجة الأولى
محاربة الفساد وترسيخ قيم الحب والعدل ومساعدة الفقراء المحتاجين وما أروع أن يكون
الصوم صومًا للسان عن التفوه بالأكاذيب وكلام السفاهة، وصومًا للسيد عن أخذ الرشوة
أو السرقة من مال وممتلكات الغير، وصومًا للعين عن النظرات الشريرة الشهوانية،
وصومًا عن الأنانية وحب الذات.. هذا الصوم بما فيه من ضبط وكبح لجماح شهوات الجسد
وبما فيه من توبة قلبية حقيقية يكون مقبولًا عند الله.
وكما قال علي (ع) -مناظرًا بين
صوم الجسد وصوم النفس -: صوم الجسد الإمساك عن
الأغذية بإرادة واختيار خوفًا من العقاب ورغبة في الثواب والأجر، وصوم النفس إمساك
الحواس الخمس من سائر المآثم وخلو القلب من أسباب الشر.
ويقول حفيده زين العابدين (ع) في دعاء دخول شهر رمضان: وأعنا على صيامه بكفّ الجوارح عن معاصيك واستعمالها فيه بما
يرضيك.
السؤال السادس:
وعن التأثير الديني والاجتماعي والأخلاقي لهذا الشهر على الفرد نفسه
وعلى المجتمع ككل يقول الشيخ حسين المصطفى:
من خلال الأجوبة السابقة نحاول أن نسلط الضوء على أثرين مهمين للصوم؛
الأثر التربوي، والأثر الاجتماعي، وهي كالتالي:
الأثر التربوي للصوم:
أولًا: شكر المنعم: فالصوم وسيلة إلى شكر النعمة؛ إذ هو كف النفس عن الأكل
والشرب والجماع، وإنها من أجلّ النعم وأعلاها، والامتناع عنها زمانًا معتبرًا يعرف
قدرها، إذ النعم مجهولة، فإذا فقدت عرفت، فيحمله ذلك على قضاء حقها بالشكر، وشكر
النعم فرض عقلًا وشرعًا.
ثانيًا: تقوية الإرادة: فالإنسان الذي يعيش دائمًا إلى جوار الأطعمة والأشربة
واللذائذ لا يكاد يحسّ بجوع ولا عطش، فهذا الشخص كمثل الشجرة المنزلية التي تعيش
إلى جوار جدول ماء وفير، ما إن ينقطع عنها الماء يومًا حتى تشعر بذبولها
واصفرارها. وأما الأشجار التي تنبت في الصحراء أو بين الصخور، والتي تتعرض إلى
مناخات مختلفة، فإنّها أشجار قوية تقاوم الحياة. يقول أمير المؤمنين (ع): ألا وإنّ الشجرة البرية أصلب عودًا، والرواتع الخضرة أرق
جلوداً (نهج
البلاغة: كتاب 45) ..
ويقول أيضًا (ع): والصيامَ ابتلاء لإخلاص الحق
(نهج البلاغة: ق
252).
إنّ استمرار هذا التدريب على ضبط الشهوات والسيطرة عليها مدة شهر كل عام،
لا شك سيؤدي إلى تعليم الإنسان قوة الإرادة، وصلابة العزيمة، والسيطرة على الدوافع
والانفعالات، لا في التحكم في شهواته والترفع على لذاته فقط، وإنما في سلوكه العام
في الحياة. وقد وضع العالم الألماني جيهاردت كتابًا في تقوية الإرادة جعل أساسه
الصوم، وذهب فيه إلى أنّ الصوم هو الوسيلة الفعّالة لتحقيق سلطان الروح على الجسد،
فيعيش الإنسان مالكًا زمام نفسه لا أسير ميوله المادية.
ثالثَا: تربية الضمير في النفس: يربي في النفس الخشية من الله تعالى في السر
والعلن، إذ لا رقيب على الصائم إلا ربه، فإذا شعر بالجوع أو العطش، أو شمّ رائحة
الأطعمة الشهية، أو ترقرق أمام ناظريه برودة الماء وعذوبته، وأحجم عن تناول المفطر
بدافع من إيمانه، وخشية ربه، حقّق معنى الخوف من الله. وإذا ازينت الشهوات ترفّع
عنها خوفًا من انتهاك حرمة الصوم فقد استحيا من الله.. وإذا استبدت الأهواء بالنفس
كان سريع التذكر قريب الرجوع بالتوبة {إنّ الذِينَ
اتقَوا إذَا مَسهُم طَائِف مِنَ الشيطَانِ تَذَكرُوا فَإذَا هُم مُبصِرُونَ}(الأعراف: 201). وفي كل ذلك أيضًا تربية لضمير الإنسان، فيصبح الإنسان ملتزمًا
دائماً بالسلوك الإسلامي بوازع من ضميره من غير حاجة إلى رقابة أحد عليه.
رابعًا: تربية التنظيم النفسي: فالصوم يعوّد على تنظيم الشخصية من خلال تنظيم
المعيشة مما يحقق الوفر والاقتصاد إذا التزم الصائم بآداب الصيام، يقول الإمام
الصادق: ليس بدّ لابن آدم من أكلة يقيم بها صلبه، فيجعل ثلث بطنه للطعام، وثلث
بطنه للشراب، وثلث بطنه للنَفَس.
الأثر الاجتماعي:
أولًا: إنّ ظاهرة الانسحاب ليست ظاهرة جديدة في الساحة الإسلامية، بل يحدثنا
التاريخ عن حركة الرهبنة الذين اعتزلوا حركة الحياة لكي يتفرغوا إلى العبادة
بمعناها الحرفي. وقد تُطرح بعض أخطائهم تحت شعارات محببة لدى الشارع المقدس كعنوان
الزهد في الدنيا، أو مجاهدة النفس ومحاسبتها، وغير ذلك مما تجعل من الشخصية
المسلمة إنسانًا مشلولًا في حركته الواقعية في الحياة، ولهذا يذم الله عـز وجـل
هـذا الطـريق بقـوله: {وَرَهبَانِيةً ابتَدَعُوهَا
مَـا كَتَبنَاهَا عَليهِم} (الحديد: 27).
ثانيًا: التشريع الإسلامي صاغ الجانب الاجتماعي بطريقة يفهم منها أنّ علاقة
الإنسان بأخيه الإنسان تعتبر في حدّ ذاتها محورًا عباديًّا. وإنّ حركة الصوم تجعل
من هموم الفقراء والبؤساء تجربة حيّة يعانيها الأغنياء بأنفسهم لتتحرك المأساة في
إحساسهم وضمائرهم، ولأهل البيت (ع) خطّان في مسألة الجوع:
أ - خط تحريك عملية المأساة: لا شك أن الصوم يمنح هذا الأمر المهم لونًا حسيًا نظرًا لأهمية موقعه
في الأمة، يقول الإمام الصادق (ع): إنّما فرض الله
الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك أنّ الغني لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم
الفقير، لأنّ الغني كلما أراد شيئًا قدر عليه، فأراد الله تعالى أن يسوّي بين
خلقه، وأن يذيق الغني مسّ الجوع والألم ليرقّ على الضعيف ويرحم الجائع (وسائل الشيعة: ج 10 ص 71).
ب - خط التضامن: وهذا ما جسّده أمير المؤمنين (ع) في قوله: ولكن
هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من
لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطانًا وحولي بطون غرثى وأكباد
حرّى (نهج
البلاغة: كتاب 45).
إنَّ فلسفة الإمساك لم تُحد بحدود الطعام والفرج، إذ الصوم سلاح
الإيمان لقتل شيطان النفس، وتهذيب الروح، وهي عبادة تورث الوقاية، وتعمّق محاسبة
الإنسان لذاته من منطلق مسؤوليتها أمام الله عز وجل. إنّه صيام الحاكم عن الظلم
والطغيان، وصيام العالم عن التحريف والتشويه، وصيام الجاهل عن الانحراف، وصيام
المجاهد عن الإحباط...
السؤال السابع:
نشهد منذ فترة توجه البعض من جيل
الشباب وحتى ممن تخطو هذه المرحلة يهربون من الصيام بحجة ارتفاع الحرارة:
"أعطي الفقير مالاً وأعوض به عن ما لم أصمه". يعلق سماحة الشيخ حسين
المصطفى على هذا الكلام بالقول:
إنَّ دورة التكليف خاضعة للمكلَّف نفسه، وتدور حركة التكليف في خط
جملة من القواعد، وربما أشهر هذه القواعد قاعدة العسر والحرج، فالصوم والإفطار
يخضعان لتحمل المكلَّف نفسه، قال عز وجل: {وَمَا
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 77). وقال الله تعالى قال في آية الصوم: {يُرِيدُ
اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.
أما الهروب من الصوم في رمضان،
وقضاؤها في وقت آخر، بحجج ارتفاع درجات الحرارة، فقد حرم من خيرات هذا الشهر
الفضيل ومن جوائزه العظيمة.. يقول الإمام الباقر (ع): كان رسول الله (ص) يقبل بوجهه إلى الناس، فيقول: يا معشر
الناس إذا طلع هلال شهر رمضان غلّت مردة الشياطين، وفتحت أبواب السماء، وأبواب
الجنان، وأبواب الرحمة، وغلّقت أبواب النار، واستجيب الدعاء، وكان لله فيه عند كل
فطر عتقاء يعتقهم الله من النار، وينادي مناد كلّ ليلة: هل من سائل؟ هل من مستغفر؟
اللهم أعط كلّ منفق خلفاً، وأعط كلّ ممسك تلفاً حتى إذا طلع هلال شوال نُودي
المؤمنون أن اغدوا إلى جوائزكم فهو يوم الجائزة (الكافي: ج 4 ص 70).
السؤال الثامن:
ولكي يكون شهر رمضان ثورة قيم وانتفاضة روح، وتستمر إلى ما بعد هذا
الشهر، أي على امتداد أشهر السنة يرى سماحته بأنه:
لا أستطيع أن أصف شهر رمضان بأنه ثورة جارفة، بل أعتقد أنه موجة عالية
تمر على الإنسان في أيام سنته، لتجعله يتوازن بين الحاجات والمصالح العليا. فقيمة
الإسلام أنه جاء في تشريعاته ومفاهيمه من أجل أن يعمق إنسانية الإنسان، وأن يحقق
له التوازن بين حاجاته ومصالحه؛ فلا تطغى حاجاته ولا تسقط مصالحه. إنّ الإسلام
يفتح لنا أبواب الحياة فليس هناك أفق مغلق على الإنسان بحيث لا يمكن أن يقتحمه..
ففي (العلم): ليس هناك علم محرم.
وفي (التجربة): أمرنا أن ننطلق لنكتشف
الحقيقة من خلال التجربة؛ لأنّ بعض الحقائق لا نستطيع أن نكتشفها بالتأمل.
وفي (السلوك): أرادنا الله أن نعيش مع
الإنسان الآخر بسلام، فالحرب إنما تنطلق ضد الذين يفرضون الحرب على الإنسان
ويريدون أن يصنعوا له المأساة.
وفي (الأخلاق): أراد الله لنا أن
نتحرك في خط السلوك لتكون لنا خصائصنا الفردية التي تحمي شخصيتنا فيما نعيشه من
عناصر ذاتية، كما تحفظ لنا خصائصنا الاجتماعية فيما يراد لها أن تحمي نفسها من
خلال ذلك.
ولا بد للإنسان المسلم إذا أراد أن يعيش الإسلام -كما أراد الله له
ذلك-، أن يجمع في شخصيته العناصر التي ترتكز عليها العقيدة، والعناصر التي يرتكز
عليها المفاهيم (التصور)، والعناصر التي يرتكز عليها السلوك (الحركة)...