الأربعاء، 19 يوليو 2017

.. دور الإمام جعفر الصادق في تمتين العلاقات مع الآخر ..


أرسى الإسلام قواعد وأسساً للتعايش مع الآخر في جميع الأحوال والأزمان والأماكن، بما يضمن تفاعلهم مع الآخر وتواصلهم معه دون تفريط في الثوابت الإسلامية.

ويظل الرسول الأكرم (ص) الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة في كل شيء، مصداقاً لقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ}. وقد ترك رسول الله (ص) لنا نماذج عديدة للتعايش، وهي صالحة للمسلم في كل عصر بحسب مقتضيات الحال والمكان والزمان.

وقد برهنت -بحسب قول الشهيد محمد باقر الصدر- "عليها الأحداث بعد وفاه القائد الرسول (ص)، وتجلّت عبر نصف قرن أو أقل من خلال ممارسة جيل المهاجرين والأنصار".

وسار أهل البيت (ع) على هذا النهج، بل وتفوقوا فيه بشكل منقطع النظير، بحيث لا نجد له مثالاً عند أتباعهم في الوقت الحاضر.

ومن أعلاهم شأناً الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (ع)، الذي أعطى للإمامة امتدادهـا ورحابتها في الواقع الإسلامي كله، فكان يلتقي ويعلّم مَـن كان يؤمن بإمامته ومَن كان لا يؤمن بها، وقد التقى الجميع على أنه الـذي يحمل علم رسول الله (ص) وعلم أجداده من خلال كل هذا الينبوع الصافي الذي كان يغترف منه، وأنـه الصادق الذي لا يمكن لأحد أن يشك في صدقه، وأنـه الإنسان الذي انفتحت روحانيته المطلقة على الله تعالى، فكان الناس -على مختلف مشاربهم- يرون فيه روحاً تفيض عليهم بكل معاني الروحانية حتى يخشعوا أمامه.


مدرسة الإمام العلمية:

شمخت مدرسة الإمام جعفر الصادق (ع) بنفسها وسطع نورها حتى شغلت العيون والأفكار عما سواه فكأنك لا تكاد ترى شيئاً سواها آنذاك؛ بسبب أنَّ مؤسسها شخصية أجمعت العلماء على سعة علمه ومتانة دليله وشدة ورعه وتقواه وزهده.

وكانت تتصف بالشمولية، فهي لا تقتصر على دراسة الفقه والحديث كما هو المتعارف في سائر المدارس بل كان فيها الفقه والحديث والتفسير وعلوم القرآن وعلم الكلام وفنون العربية بل تجاوزت ذلك لتشمل بعض العلوم الإنسانية.

ولأهميتها توافد عليها طلاب العلم من أقطار العالم الإسلامي٫ ووصل عدد روادها إلى ما يقرب من ٤٠٠٠ تلميذ، هم أقرب بكتيبة جيش كما يصفها جوزيف هاشم.

وكان لهذا التنوع غايته في إرساء مبادئ التعايش بين الطوائف والأديان طيلة قرون طويلة.

وتعتبر هذه المدارس الفكرية مظهراً من مظاهر قبول الآخر والانفتاح عليه؛ حيث كان أتباع الأديان المختلفة يدرسون على أيدي أتباع أديان أخرى، فنحن نقرأ أن المسيحي يحيى بن عدي، الذي وصفه ابن أبي أصيبعة، بأنه كان مترجما وناسخا ومنطقيا، ومعه المسيحي متى بن يونس، الذي انتهت إليه رئاسة المناطقة في عصره، كما تذكر المصادر، يدرسان على يد الفيلسوف المسلم أبي نصر الفارابي، وكانت ليحيى بن عدي حلقة درس يحضرها التوحيدي وغيره.

وكتب الرجال والتراجم تشهد تقدم جملة وافرة من تلامذة الإمام (ع) في سوح المعرفة، من أمثال: مالك بن أنس، وأبو حنيفة، وزرارة، وممد بن مسلم، وبريد العجلي، وأبان بن تغلب، وهشام بن الحكم، ومحمد المعروف بمؤمن الطاق وغيرهم ممن أذعنت الساحة العلمية لهم وأشادت بفضلهم، وأصبحوا حججاً عند علماء المذاهب والأديان.

وقد خرجت توصيات منه (ع) تشدد على أهمية احترام الآخر، مهما كان انتماؤه.. يقول الإمام الصاد (ع): "مَا أَيْسَرَ مَا رَضِيَ بِهِ النَّاسُ عَنْكُمْ كُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ عَنْهُمْ".. وكأنّه يقول: لا تسبّوا ولا تلعنوا، حتى تستطيعوا أن تنفتحوا على واقعكم الاجتماعي من خلال هذا الخط المستقيم فيكم.

وفي الصحيح عن حَنَان بن سَدِير، قال: قَالَ أَبُو الصَّبَّاحِ الْكِنَانِيُّ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (ع): مَا نَلْقَى مِنَ النَّاسِ فِيكَ!!
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (ع): "وَمَا الَّذِي تَلْقَى مِنَ النَّاسِ فِيَّ؟!".
فَقَالَ: لَا يَزَالُ يَكُونُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرَّجُلِ الْكَلَامُ، فَيَقُولُ: جَعْفَرِيٌّ خَبِيثٌ!!
فَقَالَ (ع): "يُعَيِّرُكُمُ النَّاسُ بِي؟!".
فَقَالَ لَهُ أَبُو الصَّبَّاحِ: نَعَمْ.
فَقَالَ (ع): "مَا أَقَلَّ وَاللهِ مَنْ يَتَّبِعُ جَعْفَراً مِنْكُمْ! إِنَّمَا أَصْحَابِي مَنِ اشْتَدَّ وَرَعُهُ، وَعَمِلَ لِخَالِقِهِ، وَرَجَا ثَوَابَهُ؛ فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابِي".

وحقيقة الحال إنّ عملية التسامح ليس فعلاً بإرادة الفرد، إنّما هو تراكم لنشأة القيم في المجتمعات لأنها منظومة متكاملة، فلكل جماعة بشرية منظومتها الفكرية والعقدية الخاصة عن التسامح، مما يجعل الأمر جزءاً من معاناة الأمم نفسها، لذلك يبدو التسامح قيمة نسبية ومطلقة في آن واحد، فهي قيمة نسبية لأنها تختلف من أمة لأخرى ومن دين لآخر، وهي مُطلقة داخل المنظومة الثقافية الواحدة.

يقول عمرو بن نعمان الْجُعْفِيِّ: كَانَ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) صَدِيقٌ لَا يَكَادُ يُفَارِقُهُ إِذَا ذَهَبَ مَكَاناً، فَبَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي مَعَهُ فِي الْحَذَّاءِينَ، وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ سِنْدِيٌّ يَمْشِي خَلْفَهُمَا، إِذَا الْتَفَتَ الرَّجُلُ يُرِيدُ غُلَامَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمْ يَرَهُ، فَلَمَّا نَظَرَ فِي الرَّابِعَةِ قَالَ: يَا ابْنَ الْفَاعِلَةِ! أَيْنَ كُنْتَ؟!!
فَرَفَعَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (ع) يَدَهُ فَصَكَّ بِهَا جَبْهَةَ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: "سُبْحَانَ اللهِ!! تَقْذِفُ أُمَّهُ، قَدْ كُنْتُ أَرَى أَنَّ لَكَ وَرَعاً، فَإِذَا لَيْسَ لَكَ وَرَعٌ!".
فَقَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّ أُمَّهُ سِنْدِيَّةٌ مُشْرِكَةٌ.
فَقَالَ (ع): "أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ نِكَاحاً تَنَحَّ عَنِّي".. فَمَا رَأَيْتُهُ يَمْشِي مَعَهُ حَتَّى فَرَّقَ الْمَوْتُ بَيْنَهُمَا.


ما هو السبيل لتحصين مجتمعاتنا من روح الكراهية؟

١. تأكيد القيم الأخلاقية التي تنفتح على الإنسان من أجل استثارة عناصر إنسانيته بالرحمة، ثم الإيحاء له بالمحبة للعناصر الإيجابية في شخصيته بحيث يتوجه الإحساس إلى الجانب المضيء من الصورة بدلاً من الاستغراق في الجانب المظلم منها.

٢ . تثقيف الأمة بتلك القيم الأخلاقية الإسلامية، وخصوصاً التقوى والأمانة عند اختيار نوعية الكلمات والأساليب، والأخذ بأسباب التأمل بما يسمع أو يقرأ قبل اتخاذ الموقف السلبي أو الإيجابي، لأنّ المشكلة التي يواجهها المجتمع الإسلامي، تتمثل في غلبة العاطفة والانفعال على كيانه، والتي يستغلها البعض من أجل إثارة الأجواء ضد المفكِّرين والمصلحين.

٣ . الوعي بأنّ دين ومذهب كلِّ إنسان يجب أن يفترك لقناعة وضمير كل إنسان، وأنه حق كل إنسان أن يمارسه، كما يمليه عليه ضمير هذا الحق، هو في طبيعته حق لا يمكن التصرف به، وهو حق غير قابل للتصرف.

وهناك الكثير من الشواهد التي نحاول أن نستدل بها على وجود علاقة طبيعية بين أتباع المذاهب والأديان المختلفة في قرون خلت.. وقبل عرض هذه الأمثلة من المفيد أن نقول إنه على الرغم من تنوع مكونات المجتمع العربي وأديانه، فإن أتباع الأديان، لم يفضلوا العيش في أماكن معزولة، بل كانوا يعيشون بحرية وانفتاح على الآخرين.. وفي أجواء غير منغلقة على سكانها، ولا ممنوعة على الذين يعيشون خارجها. ولذلك أصبح التفاعل مع الآخر، والألفة بينه هي السمة السائدة بين الناس.


مثال ١: لقد كان عبد الله بن يزيد الفزاري من متكلمي الإباضية المشهورين في القرن الثاني الهجري. وأصله من مدينة الكوفة في العراق، وأول شيء تذكره مصادر التاريخ عنه أنه كان شريكاً لهشام بن الحكم المتكلم الشيعي في تجارة الخزّ، فكان لهما حانوت بالكوفة حيث اجتمع أصحاب عبد الله الإباضيون إليه ليسمعوا دروسه بينما اجتمع أصحاب هشام بن الحكم من الشيعة لسماع دروس هشام كذلك. وقد استظرف الجاحظ وغيره هذه الشراكة والصحبة بين عالم إباضي وعالم شيعي.

مثال ٢ : كان طلحة بن مصرف وزبيد اليامي متواخيين، وكان طلحة عثمانياً وكان زبيد علوياً، وكان طلحة يحرِّم النبيذَ وكان زيد يشرب، ومات طلحة فأوصى إلى زبيد.

مثال ٣: كان عبد الله بن إدريس الأودي وعبثر بن القاسم أبو زبيد الزبيدي متواخيين؛ وكان عبد الله بن إدريس عثمانياً وكان عبثر علوياً، وكان ابن إدريس يحرِّم النبيذ وكان عبثر يشربه، ومات عبثر فقام ابن إدريس يسعى في دَينٍ عليه حتى قضاه.

مثال ٤: عُرف عن إسحاق الصابي بصداقته الوطيدة، مع اثنين من شخصيات المسلمين المعروفة، كما يذكر ياقوت الحموي في معجم الأدباء، فكان بين الصابي وبين الصاحب إسماعيل بن عباد الوزير، مراسلات ومواصلات، وكذلك بينه وبين الشريف الرضي مودة ومكاتبات. ثم يضيف ياقوت: "وكان هذا مع اختلاف الملل وتباين النحل". وكان الرضي قد رثا أبا اسحق بقصيدة عصماء عندما توفي، كان مطلعها:
أعلمت من حملوا على الأعواد      أرأيت كيف خبا ضياءُ النادي
وكان من أبياتها المهمة:
إن لم تكن من أسرتي وعشيرتي        فلأنت أعلقهم يداً بودادي


أيها الأحبة..
إن كنت تفتخر بانتمائك لمذهب الإمام جعفر الصادق (ع)، فعلينا أن تعي أنَّ التشيع ليس كلمة، وليس عاطفة، ولكن التشيع هو ما قاله الإمام (ع):

"فَوَ اللهِ مَا شِيعَتُنَا إِلا مَنِ اتَّقَى اللهَ وَأَطَاعَهُ، وَمَا كَانُوا يُعْرَفُونَ يَا جَابِرُ إِلا بِالتَّوَاضُعِ وَالتَّخَشُّعِ وَالأَمَانَةِ وَكَثْرَةِ ذِكْرِ اللَّـهِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلاةِ وَالْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ وَالتَّعَاهُدِ لِلْجِيرَانِ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَأَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَالْغَارِمِينَ وَالأَيْتَامِ وَصِدْقِ الْحَدِيثِ وَتِلاوَةِ الْقُرْآنِ وَكَفِّ الأَلْسُنِ عَنِ النَّاسِ إِلا مِنْ خَيْرٍ وَكَانُوا أُمَنَاءَ عَشَائِرِهِمْ فِي الأَشْيَاءِ".

الاثنين، 17 يوليو 2017

.. أهمية نقد متن الحديث ..


يعتقد الكثير أنَّ العلاقة بين صحة الرواية وعدم صحتها هو صحة السند فقط. والصحيح أنَّ نقد متن الحديث لا يقل أهمية عن نقد سنده.

ونقد متن الحديث هو أن تفحص فيما نُسب إلى النبي (ص) من قول أو فعل أو تقرير على ضوء والأسس التي التزمها علماء الحديث في قبول الحديث النبوي، وعدم قبوله.

وأهم المباني المشتركة في نقد متن الحديث هي: عرض الحديث على القرآن - عرض الحديث على السنّة المقطوع بها - عرض الحديث على التاريخ - عرض الحديث على العقل - عرض الحديث على العلم القطعي.

ولنعطي مثالاً على ذلك:

(مثال : ١): من الروايات المنتشرة على منابر الخطباء النص الذي يرويه الكليني (ت ٣٢٩ﻫ) بسنده إلى الإمام جعفر الصادق (ع).. أَنَّ عَبْدَ اللهِ الدَّيَصَانِيَّ سَأَلَ هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَكَ رَبٌّ؟!
فَقَالَ: بَلَى.
قَالَ: أَقَادِرٌ هُوَ؟
قَالَ: نَعَمْ، قَادِرٌ قَاهِرٌ.
قَالَ: يَقْدِرُ أَنْ يُدْخِلَ الدُّنْيَا كُلَّهَا الْبَيْضَةَ، لَا تَكْبُرُ الْبَيْضَةُ وَلَا تَصْغُرُ الدُّنْيَا؟
قَالَ هِشَامٌ: النَّظِرَةَ.
فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَنْظَرْتُكَ حَوْلًا..
ثُمَّ خَرَجَ عَنْهُ، فَرَكِبَ هِشَامٌ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع)، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، أَتَانِي عَبْدُ اللهِ الدَّيَصَانِيُّ بِمَسْأَلَةٍ...
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (ع): يَا هِشَامُ، كَمْ حَوَاسُّكَ؟
قَالَ: خَمْسٌ.
قَالَ: أَيُّهَا أَصْغَرُ؟
قَالَ: النَّاظِرُ.
قَالَ: وَكَمْ قَدْرُ النَّاظِرِ؟
قَالَ: مِثْلُ الْعَدَسَةِ أَوْ أَقَلُّ مِنْهَا.
فَقَالَ لَهُ: يَا هِشَامُ، فَانْظُرْ أَمَامَكَ وَفَوْقَكَ وَأَخْبِرْنِي بِمَا تَرَى؟
فَقَالَ: أَرَى سَمَاءً وَأَرْضاً وَدُوراً وَقُصُوراً وَبَرَارِيَ وَجِبِالًا وَأَنْهَاراً.
فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ (ع): إِنَّ الَّذِي قَدَرَ أَنْ يُدْخِلَ الَّذِي تَرَاهُ الْعَدَسَةَ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا قَادِرٌ أَنْ يُدْخِلَ الدُّنْيَا كُلَّهَا الْبَيْضَةَ لَا تَصْغَرُ الدُّنْيَا وَلَا تَكْبُرُ الْبَيْضَةُ...الخ.

إنَّ هذ النص غير معقول؛ لأنَّ قدرة الله لا تتعلق بالمحالات العقليّة، وهذا ليس نقصاً في قدرته تعالى، ولكن هناك قصور في القابل، وامتناعه الذاتي.

وقد اعتبر الشريف المرتضى هذا الخبر من الموضوعات، قال: "وهذا الخبر المذكور بظاهره، يقتضي تجويز المحال المعلوم بالضرورات فساده، وإن رواه الكليني (ره). فكم روى هذا الرجل، وغيره من أصحابنا (رحمهم الله تعالى) في كتبهم ما له ظواهر مستحيلة أو باطلة. والأغلب الأرجح أن يكون هذا خبراً موضوعاً مدسوساً"(رسائل السيد المرتضى: ج ١ ص ٤١٠).

فقد سمعنا على ألسنة الخطباء هذه الرواية كثيراً، وطننوا بها، في حين هجروا الرواية النقية؛ فقد سؤل أمير المؤمنين (ع) عن هذا السؤال نفسه، فأجاب: "إنّ الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون"(التوحيد: ص ٢٢٢).

(مثال: ٢): روى الكليني، بسند حسن، عن بريد بن معاوية قال: سمعت أبا جعفر (ع) يقول: "إنّ يزيد بن معاوية دخل المدينة وهو يريد الحج فبعث إلى رجل من قريش فأتاه فقال له يزيد أتقر لي أنك عبد لي، إن شئت بعتك وإن شئت استرقيتك، فقال له الرجل: والله يا يزيد ما أنت بأكرم مني في قريش حسباً، ولا كان أبوك أفضل من أبي في الجاهلية والإسلام، وما أنت بأفضل مني في الدين ولا بخير مني فكيف أقر لك بما سألت؟ فقال له يزيد: إن لم تقر لي والله قتلتك، فقال له الرجل: ليس إياي بأعظم من قتلك الحسين بن علي (ع) ابن رسول الله (ص) فأمر به فقتل.
ثم أرسل إلى علي بن الحسين (ع) فقال له مثل مقالته للقرشي، فقال له علي بن الحسي (ع): أرأيت إن لم أقر لك أليس تقتلني كما قتلت الرجل بالأمس؟ فقال له يزيد لعنه الله: بلى، فقال له علي بن الحسين (ع): قد أقررت لك بما سألت، أنا عبد مكره، فإن شئت فامسك وإن شئت فبع، فقال له يزيد لعنه الله: أولى لك حقنت دمك ولم ينقصك ذلك من شرفك.

وهذه الرواية، وإن رواها الكليني بسند حسن، فلا يمكن قبولها، والسبب في ذلك أنَّ يزيد بن معاوية بعد البيعة له بالخلافة لم يأتِ المدينة بل لم يخرج من الشام، حتى مات(أنظر: مرآة العقول، للمجلسي: ج ٢٥ ص ١٧٨).

(مثال : ٣): رفض المرجع الكبير السيد حسين البروجردي (ت ١٣٨٠ﻫ) الأخبار الواردة في مدح البلدان والفاكهة والأيام وغيرها.. وقال: "الأصل الأول في أغلب الأخبار والروايات الواردة في مدح وذم البلدان وفي خواص الفاكهة وفضائل الأفراد والأيام، هو عد الحجية؛ لأنّها موضوعة من جانب الشيعة والسنّة لما يحقق مصالحهم" (فلسفة الفقه: ص ٥٩).

(مثال: ٤): وردت روايات عن أهل البيت بأنَّ الأكراد قومٌ من الجن، منها: عن الإمام جعفر الصاد (ع)، قال: "إِنَّ الْأَكْرَادَ حَيٌّ مِنْ أَحْيَاءِ الْجِنِّ كَشَفَ اللهُ عَنْهُمُ الْغِطَاءَ، فَلَا تُخَالِطُوهُمْ"... وغيرها.
وهذه الروايات مخالفة للعقل ومخالفة لمضامين ومحتوى القرآن الكريم.
يقول السيد محمَّد باقر الصدر: "لو وردت رواية في ذمّ طائفة من الناس، وبيان خستهم في الخلق، أو أنّهم قسم من الجن، قلنا: إنَّ هذا مخالف مع الكتاب، الصريح في وحدة البشرية جنساً وحسباً، ومساواتهم في الإنسانيّة ومسؤولياتها، مهما اختلفت أصنافهم وألوانهم".(بحوث في علم الأصول: ج ٧ ص ٣٣٤).

ومع أهمية نقد متن الحديث عند أهل الاختصاص، إلا أنه قد تختلف فيه وجهات النظر لا سيما وهو مسلك وعر، يحتاج عند استعماله إلى علم واسع ويقظة تامة، بخلاف الكلام في الرجال ونقد الأسانيد، وإن كان في بعض حالات الأسانيد من ذلك الأمر كالعلل الخفية.

وفي الوقت الحالي أصبح إعمال (نقد المتون) ضرورة ملحّة لا يمكن الاستغناء عنها والاكتفاء بـ(نقد الأسانيد) وحده، سواء أكان الإسناد عالياً أو نازلاً، صحيحاً أو مشهوراً، حسناً أو دون ذلك.. نظراً لتفشي ظاهرة المرويات في الفضاء المرئي، والتي يشم في كثير منها واقع الخرافة والأسطورة.

الأربعاء، 12 يوليو 2017

ندوة / التعاون والطريق المشترك ..

.. جريدة النهار - تقرير / عبد الله جاسم ..

http://www.annaharkw.com/annahar/Article.aspx?id=730448&date=14032017

المصطفى: تقبل «الاختلاف» أساس لمجتمع مثالي

أكد العلامة الشيخ حسين المصطفى أن الاسلام حث على نشر الصفات الفطرية الطيبة والتعامل البناء من خلال التعاون والتراحم ونبذ جميع اشكال التفرقة والحقد والعدوانية بين افراد المجتمع المسلم، لافتا الى ان التعاليم الاسلامية لم تكتف بتقنين المعاملات بين المسلمين فقط بل تجاوزت ذلك الى تعامله مع المجتمعات والديانات المختلفة.
 
وأوضح المصطفى خلال ندوة اقامها ملتقى المحبة والسلام بعنوان التعاون والطريق المشترك مساء أمس الاول في ديوان عيسى العطار في منطقة حطين، أن تعاليم الدين الاسلامي حرصت على بناء الشخصية الاسلامية البناءة والنموذجية المتسلحة بالعلم والمعرفة والمتوجة بالاخلاق والسلوك السوي، مشيرا الى ضرورة ان يبادر المسلم بالتغلب على الموروثات والعادات المتخلفة التي توارثها المجتمع من الأعراف والتقاليد المفككة للمجتمع.

وأضاف: أن العلم والمعرفة ادوات بناء المجتمع وتطوره ولكن لابد ان تقترن المعرفة بالاخلاق الحسنة والنية الصافية تجاه الآخرين والتواضع كما هي سيرة الانبياء والصالحين والأئمة الطاهرين حتى لا يصل بصاحبه الى حالة من الزهو والتكبر والذي يعتبر آفة العلم، لافتا الى ضرورة أن يقيد العلم بأداة مهمة وهي النقد الذاتي وتحجيم النفس لكي لاتصل بسبب الزعامة المنصبية او الفكرية او العلمية او المجتمعية الى حالة من الانتفاخ الذي يكون حاجزا فيما بينه وبين أقرانه ومن حواليه من أفراد المجتمع وحتى تسود حالة المحبة والسلام مع الآخرين.

وقال المصطفى: ان على الانسان الذي يسعى الى تطوير ذاته ونيل مكانه مرموقة في المجتمع أن يحاسب نفسه وينقد ذاته في كل خطوة يخطوها حتى يتغلب على الشيطان ويبعد عن طريقه ويكون سببا في صلاح المجتمع.
 
قواعد النجاح


وتطرق المصطفى الى عدة امور تعتبر من القواعد الأساسية للنجاح في شتى المجالات الشخصية والعلمية حيث ذكر ان من اهمها التغلب على الخوف الذاتي من حب الخير للآخرين والخوف من الفشل والأنانية في الوصول الى النجاح دون الآخرين، مشيرا الى ضرورة الاقتداء بالقدوة الصالحة واتباع سيرة الانبياء والمرسلين والائمة، مضيفا انه يجب ايضا على من سعى الى النجاح ان يحدد اهدافه المستقبلية وألا يكون عمله عشوائيا ومتخبطا وان يميز الاولويات فيبدأ بالاهم ثم المهم في كل شيء لافتا الى أن المجتمع يحتاج الى العمل المشترك والجماعي ونبذ الأنانية وان المنافسة لاتعني ان يفكر الانسان بنجاحه وفوزه بأي منافسة منفردا بل بقبول نجاح الآخرين ايضا والسعي الى مساعدتهم بالوصول الى اهدافهم كي يعم الخير على المجتمع كافة.

وأشار الى أهمية الانصات وتفهم الآخرين وأن نتعايش مع همومهم وأفكارهم ومستوياتهم الفكرية والا ننصب من انفسنا رقيبا عليهم ونظهر بدور المقيم والناقد القاسي عليهم، وتفهم عامل الاختلاف فيما بين الأجيال والمستويات الفكرية والعلمية خصوصا مع الابناء، موضحا ان الناس يبالون بقدر ما تفهمه عنهم وليس بقدر ما تعرف.

الطريق المشترك:


وقال المصطفى: إن التعاون معادلة بسيطة ولها اهميتها وسلوك الطريق المشترك ضروري لانجاز الأمور العظيمة والوصول الى مجتمع راقٍ ومثالي ومتطور وتحقيق انجازات مبهرة بسهولة من خلال العمل الجماعي المشترك لافتا الى ان الاستمتاع بالانجاز والتعاون وفرحة الوصول الى النجاح حق لجميع من يقدم على الانجاز من خلال الشراكة المجتمعية.

وأوضح أن العمل التعاوني والاشتراك في انجاز المهمات وبناء المجتمع يضعنا أمام خيارات جيدة مختلفة عن العمل الفردي بحيث يبحث دائما عن الخيارات الجيدة والنتائج المميزة، وعدم التزاحم ورفض الحلول الوسطى وعدم الرضا بأقل من الافضل دائما، منوها بأهمية احترام التنوع والاختلاف والتمايز بين افراد المجتمع والحاجة الى ممارسات فعلية على ارض الواقع تجسد هذا المبدأ، لافتا الى ان من جميل خلق الله تعالى انه لم يجعل البشر مستنسخين على شاكلة واحدة وجعلهم مختلفين بالشكل والتفكير والتصرفات والاعراق وجعل المودة والرحمة والمقاييس الاخلاقية هي منهج التعامل فيما بيننا.

إشكالية التنوع


وتطرق المصطفى في محاضرته الى الاشكاليات والعوائق التي تواجه مبدأ التنوع في المجتمع قائلا: ان المجتمع الاسلامي وخصوصا الخليجي مخترق من ثقافات متنوعة ومتعددة واغلبها دخيلة كونه مجتمعا جاذبا لجميع الجنسيات والديانات وهذا الامر جعلنا عرضة للتأثر بتلك الأمور، ما جعلنا امام اشكالية بين أمرين اما انا نتجنب أي نوع من التنوع والاختلاف والتقوقع على الذات والانانية في التعامل وعدم تقبل الآخرين وهو فئة لا يستهان بها في المجتمع، وإما أن نتقبل تلك الاختلافات ونتعايش مع التنوع وتستمر عجلة الحياة.

وقال: ان الاشخاص المتجنبون للتنوع يجتنبون الاختلاط بأنواعه من اغلب الفئات ولا ينسجم معهم، وهم يخشون كل فكرة جديدة او شيء جديد من خلال التعايش او التنوع ويسخر كل امكاناته في محاربة ذلك فهو يرفض اي فكر او ديانة او مذهب او طبقة غير التي ينتمي اليها، مضيفا: اما الفئة الأخرى فهم من يتقبل أو يحتمل التنوع، وهذا النمط يؤمن بالاختلاف ومقتنع بالتنوع لكنهم لا يتجنبونه ولا يتبنونه فهم لا يفعلون ولا يمنعون الآخرين من فعل ذلك. وذكر المصطفى ان الفئة الثالثة هي من يحترمون التنوع ويقدرون الاختلاف ويعتقدون بأنه ميزة واضافة للمجتمع وليس عقبة كما يعتقد الآخرون وهم دائما يسعون الى تنفيذ تلك الافكار، مشيرا الى أن اغلب الأمم التي تتبنى تلك الافكار وتحترم التنوع في كل شيء يظهر الابداع والتطور في المجتمع بشكل لا يستطيع أحد نكرانه.

الاختلاف الاجتماعي


وأوضح المصطفى ان احترام الاختلاف يشكل صراعا نفسياً كبيراً يعاني منه بعض أفراد المجتمع بشكل كبير وهذا ما يتجلى عند اغلب الناس في مسائل النسب والزواج، والتدقيق في مسائل الحسب والنسب والطبقة الاجتماعية والمالية وغيرها ما يشكل عامل صدمة كبيرة بحيث تصطدم المبادئ بالواقع المرير، مشيرا الى ان الله خلق البشر سواسية في المعاملة دون التمييز بينهم بلون أو شكل او عرق، وانه سبحانه ميز البشر عن باقي المخلوقات بالعقل وبتعدد طرق التعلم المختلفة وقال سبحانه (لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم)، لافتا الى ان بعض المجتمعات الاسلامية وغيرها مازالت تتعامل مع المرأة وخصوصا الزوجة بمبدأ القمع احيانا وأحيانا الاستغلال، بينما الاسلام أوضح أن المقياس هو أن المرأة والرجل بعضهم أولياء بعض ومهما تميز الرجل عن المرأة فلها ايضا ما يميزها من خبرات وميزات تجعلها مكملة له وجزءاً مهماً في مبدأ الشراكة.

احترام الاختلاف


وبين المصطفى ان مبدأ الاختلاف والتنوع والتعاون المشترك تواجهه بعض العقبات من اهمها الجهل والتمحور والتحامل، موضحا ان الجهل بما يعتقده الآخرون وما يفكرون فيه وعدم استخدام الذكاء الاجتماعي وتفهم الآخرين يجعلنا نقف حجر عثرة امام تقبل الآخر وعائقا امام تطبيق نظرية الاختلاف، مشيرا الى ان العائق الآخر وهو التمحور او التقوقع على الذات واغلاق الباب في وجه اي فكر متنور، فهذا النوع لم يخطئ في عدم انتمائه الى اي توجه لكنه كان عائقا عندما حصر نفسه بدائرة معينة ومحدودة ولم ينفتح على الاخرين وحجم نفسه في اطار معين وخالف سيرة واخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم واهل بيته الطاهرين والذين كانوا يتقبلون كل المذاهب ويدرسون كل الفئات من مختلف الاعتقادات ولم يبخلوا على احد بحرف.

وقال المصطفى ان العائق الثالث وهو التحامل الذي يتصف به بعض الناس الذين يتعاملون مع الآخرين يتمايز بحسب اللون او الشكل او المذهب او الدين وهو امر مخالف للفطرة الانسانية وينتقل منا الى ابنائنا سواء قصدنا ام لم نقصد، وهو طبع يمنع تقبل اي اختلاف من الاخرين حتى لو كان صوابا.

وختم بالقول ان الاختلاف يصنع التحديات التي تصنع النجاح وترقى بالمجتمع وتمجد الامم فعالمنا الجميل مليء بالتنوع والاختلاف ومليء بالقلوب الدافئة والمتعايشة بسلام. 

محرم 1447 في الصحافة الكويتية