الاثنين، 17 يوليو 2017

.. أهمية نقد متن الحديث ..


يعتقد الكثير أنَّ العلاقة بين صحة الرواية وعدم صحتها هو صحة السند فقط. والصحيح أنَّ نقد متن الحديث لا يقل أهمية عن نقد سنده.

ونقد متن الحديث هو أن تفحص فيما نُسب إلى النبي (ص) من قول أو فعل أو تقرير على ضوء والأسس التي التزمها علماء الحديث في قبول الحديث النبوي، وعدم قبوله.

وأهم المباني المشتركة في نقد متن الحديث هي: عرض الحديث على القرآن - عرض الحديث على السنّة المقطوع بها - عرض الحديث على التاريخ - عرض الحديث على العقل - عرض الحديث على العلم القطعي.

ولنعطي مثالاً على ذلك:

(مثال : ١): من الروايات المنتشرة على منابر الخطباء النص الذي يرويه الكليني (ت ٣٢٩ﻫ) بسنده إلى الإمام جعفر الصادق (ع).. أَنَّ عَبْدَ اللهِ الدَّيَصَانِيَّ سَأَلَ هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَكَ رَبٌّ؟!
فَقَالَ: بَلَى.
قَالَ: أَقَادِرٌ هُوَ؟
قَالَ: نَعَمْ، قَادِرٌ قَاهِرٌ.
قَالَ: يَقْدِرُ أَنْ يُدْخِلَ الدُّنْيَا كُلَّهَا الْبَيْضَةَ، لَا تَكْبُرُ الْبَيْضَةُ وَلَا تَصْغُرُ الدُّنْيَا؟
قَالَ هِشَامٌ: النَّظِرَةَ.
فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَنْظَرْتُكَ حَوْلًا..
ثُمَّ خَرَجَ عَنْهُ، فَرَكِبَ هِشَامٌ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع)، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، أَتَانِي عَبْدُ اللهِ الدَّيَصَانِيُّ بِمَسْأَلَةٍ...
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (ع): يَا هِشَامُ، كَمْ حَوَاسُّكَ؟
قَالَ: خَمْسٌ.
قَالَ: أَيُّهَا أَصْغَرُ؟
قَالَ: النَّاظِرُ.
قَالَ: وَكَمْ قَدْرُ النَّاظِرِ؟
قَالَ: مِثْلُ الْعَدَسَةِ أَوْ أَقَلُّ مِنْهَا.
فَقَالَ لَهُ: يَا هِشَامُ، فَانْظُرْ أَمَامَكَ وَفَوْقَكَ وَأَخْبِرْنِي بِمَا تَرَى؟
فَقَالَ: أَرَى سَمَاءً وَأَرْضاً وَدُوراً وَقُصُوراً وَبَرَارِيَ وَجِبِالًا وَأَنْهَاراً.
فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ (ع): إِنَّ الَّذِي قَدَرَ أَنْ يُدْخِلَ الَّذِي تَرَاهُ الْعَدَسَةَ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا قَادِرٌ أَنْ يُدْخِلَ الدُّنْيَا كُلَّهَا الْبَيْضَةَ لَا تَصْغَرُ الدُّنْيَا وَلَا تَكْبُرُ الْبَيْضَةُ...الخ.

إنَّ هذ النص غير معقول؛ لأنَّ قدرة الله لا تتعلق بالمحالات العقليّة، وهذا ليس نقصاً في قدرته تعالى، ولكن هناك قصور في القابل، وامتناعه الذاتي.

وقد اعتبر الشريف المرتضى هذا الخبر من الموضوعات، قال: "وهذا الخبر المذكور بظاهره، يقتضي تجويز المحال المعلوم بالضرورات فساده، وإن رواه الكليني (ره). فكم روى هذا الرجل، وغيره من أصحابنا (رحمهم الله تعالى) في كتبهم ما له ظواهر مستحيلة أو باطلة. والأغلب الأرجح أن يكون هذا خبراً موضوعاً مدسوساً"(رسائل السيد المرتضى: ج ١ ص ٤١٠).

فقد سمعنا على ألسنة الخطباء هذه الرواية كثيراً، وطننوا بها، في حين هجروا الرواية النقية؛ فقد سؤل أمير المؤمنين (ع) عن هذا السؤال نفسه، فأجاب: "إنّ الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون"(التوحيد: ص ٢٢٢).

(مثال: ٢): روى الكليني، بسند حسن، عن بريد بن معاوية قال: سمعت أبا جعفر (ع) يقول: "إنّ يزيد بن معاوية دخل المدينة وهو يريد الحج فبعث إلى رجل من قريش فأتاه فقال له يزيد أتقر لي أنك عبد لي، إن شئت بعتك وإن شئت استرقيتك، فقال له الرجل: والله يا يزيد ما أنت بأكرم مني في قريش حسباً، ولا كان أبوك أفضل من أبي في الجاهلية والإسلام، وما أنت بأفضل مني في الدين ولا بخير مني فكيف أقر لك بما سألت؟ فقال له يزيد: إن لم تقر لي والله قتلتك، فقال له الرجل: ليس إياي بأعظم من قتلك الحسين بن علي (ع) ابن رسول الله (ص) فأمر به فقتل.
ثم أرسل إلى علي بن الحسين (ع) فقال له مثل مقالته للقرشي، فقال له علي بن الحسي (ع): أرأيت إن لم أقر لك أليس تقتلني كما قتلت الرجل بالأمس؟ فقال له يزيد لعنه الله: بلى، فقال له علي بن الحسين (ع): قد أقررت لك بما سألت، أنا عبد مكره، فإن شئت فامسك وإن شئت فبع، فقال له يزيد لعنه الله: أولى لك حقنت دمك ولم ينقصك ذلك من شرفك.

وهذه الرواية، وإن رواها الكليني بسند حسن، فلا يمكن قبولها، والسبب في ذلك أنَّ يزيد بن معاوية بعد البيعة له بالخلافة لم يأتِ المدينة بل لم يخرج من الشام، حتى مات(أنظر: مرآة العقول، للمجلسي: ج ٢٥ ص ١٧٨).

(مثال : ٣): رفض المرجع الكبير السيد حسين البروجردي (ت ١٣٨٠ﻫ) الأخبار الواردة في مدح البلدان والفاكهة والأيام وغيرها.. وقال: "الأصل الأول في أغلب الأخبار والروايات الواردة في مدح وذم البلدان وفي خواص الفاكهة وفضائل الأفراد والأيام، هو عد الحجية؛ لأنّها موضوعة من جانب الشيعة والسنّة لما يحقق مصالحهم" (فلسفة الفقه: ص ٥٩).

(مثال: ٤): وردت روايات عن أهل البيت بأنَّ الأكراد قومٌ من الجن، منها: عن الإمام جعفر الصاد (ع)، قال: "إِنَّ الْأَكْرَادَ حَيٌّ مِنْ أَحْيَاءِ الْجِنِّ كَشَفَ اللهُ عَنْهُمُ الْغِطَاءَ، فَلَا تُخَالِطُوهُمْ"... وغيرها.
وهذه الروايات مخالفة للعقل ومخالفة لمضامين ومحتوى القرآن الكريم.
يقول السيد محمَّد باقر الصدر: "لو وردت رواية في ذمّ طائفة من الناس، وبيان خستهم في الخلق، أو أنّهم قسم من الجن، قلنا: إنَّ هذا مخالف مع الكتاب، الصريح في وحدة البشرية جنساً وحسباً، ومساواتهم في الإنسانيّة ومسؤولياتها، مهما اختلفت أصنافهم وألوانهم".(بحوث في علم الأصول: ج ٧ ص ٣٣٤).

ومع أهمية نقد متن الحديث عند أهل الاختصاص، إلا أنه قد تختلف فيه وجهات النظر لا سيما وهو مسلك وعر، يحتاج عند استعماله إلى علم واسع ويقظة تامة، بخلاف الكلام في الرجال ونقد الأسانيد، وإن كان في بعض حالات الأسانيد من ذلك الأمر كالعلل الخفية.

وفي الوقت الحالي أصبح إعمال (نقد المتون) ضرورة ملحّة لا يمكن الاستغناء عنها والاكتفاء بـ(نقد الأسانيد) وحده، سواء أكان الإسناد عالياً أو نازلاً، صحيحاً أو مشهوراً، حسناً أو دون ذلك.. نظراً لتفشي ظاهرة المرويات في الفضاء المرئي، والتي يشم في كثير منها واقع الخرافة والأسطورة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محرم 1447 في الصحافة الكويتية