الخميس، 19 أكتوبر 2017

واقع مخروم وماض مأزوم


قال أحد المفكرين: "حين جاء الإسلام كانت (الحقيقة) في الجزيرة موزعة على أرصدة الزعماء والأثرياء والأوثان والأشباح".

وللأسف أنَّ هذه المعادلة ما زالت سائدة في هذه المناطق.. فالشيء الذي يغيب عن أغلب مواطني هذه المنطقة -بما فيها المؤسسة الدينية- أنَّ الإسلام شريعة قامت على قواعد مدنية، يحثنا دائماً على أن يسيطر وعينا على أكبر مساحة ممكنة من مشاعرنا وسلوكاتنا.

وتغافلت عن قاعدة (خلدونية) مهمة، وهي أنَّ "تحضير الإنسان شرط أساس وسابق على إشادة العمران".. وأنَّ "التطور العمراني غير الموجَّه، جعل الناس يشعرون بالاغتراب داخل أوطانهم وبين أهليهم".

والتجارب التاريخية عند المسلمين تثبت "أنَّ اتساع العمران كان غالباً مصحوباً بانخفاض درجة التدين والالتزام الأخلاقي".

وكان الإمام الحسين ينظر -بسعة أفقه- إلى حال الإنسان في ذلك الوقت وكيف يعيش الأزمات النفسية والاجتماعية والأخلاقية، فيقول: "ألا ترون أنّ الحق لا يعمل به وأن الباطل لا يُتناهى عنه"..

ثم  يخبر عن موقفه من تلك: "اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماساً لفضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويُعمل بفرائضك وسننك وأحكامك".

ثم يعلن عن الموقف النبوي الذي استلهمه من فم جده رسول الله (ص): "أيها الناس إن رسول الله قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً بعهده مخالفاً لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإنّ هؤلاء القوم قد تركوا طاعة الرحمن ولزموا طاعة الشيطان وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء وأنا أحق من غيّر".

وكان شعاره (ع): "إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب".

والله الكريم في كتابه يرشدنا إلى مداواة الجروح فيقول: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

إنَّ كثيراً من حلول أزمة الوعي الإسلامي، إنِّما يكون في تحسين الواقع من واقع (ديني مأزوم) إلى واقع (مدني علمي) يعتمد على الكفاءة والفاعلية.

السبت، 14 أكتوبر 2017

**رسالة الحزن ورسالة الحسين**


يقول الإمام علي بن الحسين (ع): "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ كُلَّ قَلْبٍ حَزِينٍ، وَيُحِبُّ كُلَّ عَبْدٍ شَكُورٍ".

الحزن ظاهرة غير محببة إلى النفس، بل وردت نصوص تتعوذ منه، وترفضه ..

فقد روى الصدوق في الفقيه أنّ رَسُولَ اللهِ (ص) كَانَ يَقُولُ بَعْدَ صَلاةِ الْفَجْرِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ".

وفي الكافي يقول الصادق (ع) : "تَمْسَحُ بِيَدِكَ الْيُمْنَى عَلَى جَبْهَتِكَ وَوَجْهِكَ فِي دُبُرِ الْمَغْرِبِ وَالصَّلَوَاتِ وَتَقُولُ: بِسْمِ اللهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْـهَمِّ وَالْـحَزَنِ، وَالسُّقْمِ وَالْعُدْمِ (الفقر)، وَالصَّغَارِ وَالذُّلِّ، وَالْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ".

ولا يتعارض هذا الاتجاه مع اتجاه آخر..

يقول أمير المؤمنين (ع) : "إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللهِ إِلَيْهِ عَبْداً أَعَانَهُ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ؛ فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ، وَتَجَلْبَبَ الْخَوْفَ، فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْهُدَى فِي قَلْبِهِ، وَأَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِهِ النَّازِلِ بِهِ، فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِيدَ، وَهَوَّنَ الشَّدِيدَ، نَظَرَ فَأَبْصَرَ، وَذَكَرَ فَاسْتَكْثَرَ، وَارْتَوَى مِنْ عَذْبٍ فُرَاتٍ سُهِّلَتْ لَهُ مَوَارِدُهُ، فَشَرِبَ نَهَلاً، وَسَلَكَ سَبِيلاً جَدَداً".

ويقول حفيده علي بن الحسين السجاد (ع): "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ كُلَّ قَلْبٍ حَزِينٍ، وَيُحِبُّ كُلَّ عَبْدٍ شَكُورٍ".

فمن هو القلب الحزين؟

فالقلب الحزين هو القلب الذي يعيش الإحساس بالله، وهو الذي يحمل آلام الناس ومشاكلهم ومآسيهم ومعاناتهم.. فالله تبارك وتعالى يحبّ القلب الحزين؛ لأنّ القلب يعيش أعمق شعور، وأطهر إحساس.

هو الذي عناه جلال الدين الرومي في كلامه:

الحزن يؤهلك للفرح ، إنه يجتاح بعنف كلَّ شيء خارج منزلك !
لذلك سوف يجد الفرح مساحة جديدة للدخول .
إنه يهز الأوراق الصفراء عن أغصان قلبك ..
فتنمو أوراقاً خضراء نضرة مكانها ..
ويسحب الجذور المتعفنة فتجد الجذور الجديدة مكاناً لها !
مهما كان ما يسقطه الحزن من قلبك ..
فإنَّ أموراً أفضل بكثير سوف تأخذ مكانه ذات يومٍ ..

وإذا قرأت قصة يعقوب (ع) في القرآن ستجد تراجيديا رائعة للحزنين معاً .. {قَالُوا تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}..
وفي هذا النص القرآني دلالة على أنّ فرط الحزن قد يفضي إلى أضرار جسدية جسيمة غير متوقعة، وقد أثبت العلم وجود هذا التواصل الدقيق بين النفس والجسد.. إلا أنَّ يعقوب (ع) ينفي أن يكون بحاجة إلى الناس، لينشر عليهم حزنه وأسفه، وإنما يرتبط بالله في سروره وفي حزنه.

فالإنسان الحصيف، يمكنه أن يرى الإشارات من بين ظلال الأحداث. وهو أنَّ يعقوب في خضم هذه الأحداث لم يمت الأمل في نفسه؛ لأنّ من يؤمن بالله لا ييأس، لأنّ اليأس من رحمة الله في معناه العميق كفر.

فعندما يعيش الإنسان الحزن على قضية ما، يحتاج حينئذ إلى تسويغ هذا الحزن، ليكون عنصراً فاعلاً في حياته.

إذن لا بدّ لنا أن نفسِّر هذا الحزن لأنفسنا، وأنّ هذا الحزن ليس حزناً ذاتياً، بل هو حزن ينفتح برسالته على كل مواقع الحياة، من خلال الذين يخدعون الناس باسم الإسلام، أو يقتلون حريتهم باسم الإسلام... الخ

فالحب والحزن في خط الحسين (ع) واحد لا يتجزأ ..

ربما نتذوقه ونحبه لأنه يحمل معه رسالة الله، ولأنه جاهد في سبيل الله، ولأنه أعطى كلَّ شيء يملكه لله.

وكأنني أسمعه ناي جلال الدين الرومي وهو يهمس متناغماً فيقول:
سأجد معناً جديداً .. لكلِّ حزنٍ وكلِّ ابتسامة ..
في السكون الموحش .. سأسمع صوت روحي فأعرفها ..
متحرراً من هذا العالم ..
سوف أطأ عالماً أبعد .. عالماً جديداً , حيث يكون المنتهى هو عين المبتدى ..


فما بالنا حملنا حزنه (ع) أربعة عشر قرناً ، ولكننا ضيعنا معالم رسالته ، وأصبح اسم (الحسين) سلعة على ألسنتنا ، لأننا ندعي (......) أننا نُصلح ذواتنا ومجتمعنا وعالمنا ..

صحيح أنّ المطلوب هو أن تستمر أجواءُ الحزن، وأن لا نخدش الجو العام للذكرى، ولكن من الصحيح أيضاً أن نؤكد أنّ الإمام الحسين (ع) ومعه بقية الأئمة كانوا أصحاب رسالة، لذا فإنّ معيار الإخلاص والمحبة لهم يتحدد من خلال الإخلاص للمبادئ والرسالة التي بذلوا التضحيات من أجلها ، ومن أجل ذلك لا بدّ أن تكون عاداتنا وتقاليدنا منطلقة من خلال رسالتهم الممزوجة بالمشاعر الحية والمحبة الصافية.

وكما يقول المرجع السيد محمد حسين فضل الله رحمه الله: "الحزن الذي يتمثّل في عاشوراء، هو حزن الإنسان الذي يتفاعل مع قضايا المأساة، سواء كانت هذه المأساة في التاريخ، أو كانت في الواقع، والإنسان الذي لا يحزن لمآسي التاريخ، هو إنسان قاسي القلب، لا يمكن أن يحزن للمآسي التي تصيب الناس في حياته، مما يحصل لهم من مجازر وحشية ومن ظلم الإنسان للإنسان".

فلا يجوز بأيِّ حالٍ .. -على اسم الحسين (ع)- مثلاً تجميد أو تعطيل استمرارية الحياة.. وأن تتجمد مصالح الناس العملية، وأن تتوقف مسيرة العلم والعمل.

فإن كان الحسين (هو القَتيلُ بلا إثْمٍ ولا حَرَجِ) ..

فكن أنت الصوت الحزين لمبادئه التي تستباح وتنتهك .

الجمعة، 13 أكتوبر 2017

السب والطعن وواقع المنبر الحسيني!!

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران: 102). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (النساء: 1). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 70-71).

 

في القديم كان السبُّ والطعنُ في الإمام علي وشيعته راية الولاء للأمويين. حتى جاء الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز، الذي حكم من سنة 99ﻫ إلى سنة 101ﻫ، وتصدّى إلى منع ظاهرة سبّ أمير المؤمنين وشتمه من على منابر الدولة الأموية الرسمية في جميع حواضر الدولة الإسلامية آنذاك.


وفي هذا العصر أصبح السبُّ والطعنُ في أمهات المؤمنين والصحابة راية الولاء للأعراب المتاجرين بالدين.

في حين أننا نجد في الروايات عن أئمة أهل البيت (ع) ما يمثّل كل الاحتضان للآخر المختلف؛ فقد ورد أنهم (ع) كانوا يوجّهون أصحابهم لتقبّل من يخالفهم في بعض التوجهات، ويستغربون رفض أصحابهم وإقصاءهم لهؤلاء!!

لذلك كانت وصية الإمام جعفر الصادق (ع)، لمن يطيعوه من شيعته!! ، كما جاء في الصحيح: "اقْرَأْ عَلَى مَنْ تَرَى أَنَّهُ يُطِيعُنِي مِنْهُمْ وَيَأْخُذُ بِقَوْلِيَ السَّلَامَ، ... صِلُوا عَشَائِرَكُمْ، وَاشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ، وَعُودُوا مَرْضَاهُمْ، وَأَدُّوا حُقُوقَهُمْ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذَا وَرِعَ فِي دِينِهِ، وَصَدَقَ الْحَدِيثَ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَحَسُنَ خُلُقُهُ مَعَ النَّاسِ، قِيلَ: هَذَا جَعْفَرِيٌّ، فَيَسُرُّنِي ذَلِكَ، وَيَدْخُلُ عَلَيَّ مِنْهُ السُّرُورُ، وَقِيلَ: هَذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ؛ وَإِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، دَخَلَ عَلَيَّ بَلَاؤُهُ وَعَارُهُ، وَقِيلَ: هَذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ؛ فَوَ اللهِ، لَحَدَّثَنِي أَبِي (ص) أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ فِي الْقَبِيلَةِ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ (ع)، فَيَكُونُ زَيْنَهَا: آدَاهُمْ لِلْأَمَانَةِ، وَأَقْضَاهُمْ لِلْحُقُوقِ، وَأَصْدَقَهُمْ لِلْحَدِيثِ، إِلَيْهِ وَصَايَاهُمْ وَوَدَائِعُهُمْ، تُسْأَلُ الْعَشِيرَةُ عَنْهُ، فَتَقُولُ: مَنْ مِثْلُ فُلَانٍ؟ إِنَّهُ لآَدَانَا لِلْأَمَانَةِ، وَأَصْدَقُنَا لِلْحَدِيثِ" (الكافي: ج ٢ ص ٦٠٠).

وفي حديث أنَّ جماعة من أهل العراق دخلوا عليه، وهو بالحيرة، وجرى حديث، ثم قال ناطقهم: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّا نَبْرَأُ مِنْهُمْ؟ إِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ مَا نَقُولُ.
فَقَالَ (ع): "يَتَوَلَّوْنَا ولَا يَقُولُونَ مَا تَقُولُونَ تَبْرَؤُونَ مِنْهُمْ؟!".
قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: "فَهُوَ ذَا عِنْدَنَا، مَا لَيْسَ عِنْدَكُمْ فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَبْرَأَ مِنْكُمْ؟".
قَالَ: قُلْتُ: لَا، جُعِلْتُ فِدَاكَ.
قَالَ: "وهُوَ ذَا عِنْدَ اللهِ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا أفَتَرَاه اطّرحنَا؟!".
قَالَ: قُلْتُ: لَا، واللهِ جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا نَفْعَلُ؟!
قَالَ: "فَتَوَلَّوْهُمْ ولَا تَبَرَّءُوا مِنْهُمْ، إِنَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَه سَهْمٌ، ومِنْهُمْ مَنْ لَه سَهْمَانِ، ومِنْهُمْ مَنْ لَه ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، ومِنْهُمْ مَنْ لَه أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، ومِنْهُمْ مَنْ لَه خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، ومِنْهُمْ مَنْ لَه سِتَّةُ أَسْهُمٍ، ومِنْهُمْ مَنْ لَه سَبْعَةُ أَسْهُمٍ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ صَاحِبُ السَّهْمِ عَلَى مَا عَلَيْه صَاحِبُ السَّهْمَيْنِ، ..." (الكافي: ج ٢ ص ٤٨).

وفي حديثٍ آخر: أنّ شخصاً قال لأبي عبد الله الصادق (ع): إنّ عندنا قوماً يقولون بأمير المؤمنين (ع)، ويفضِّلونه على الناس كلّهم، وليس يصفون ما نصف من فضلكم؟!
فقال لي: "نعم، في الجملة، أليس عند الله ما لم يكن عند رسول الله، ولرسول الله عند الله ما ليس لنا، وعندنا ما ليس عندكم؟ إنّ الله وضع الإسلام على سبعة أسهم، على الصبر، والصدق، واليقين، والرضا، والوفاء، والعلم، والحلم. ثم قسَّم ذلك بين الناس. فمَنْ جعل فيه هذه السبعة الأسهم فهو كاملٌ محتمل. ثم قسَّم لبعض الناس السهم، ولبعضهم السهمين، ولبعض الثلاثة أسهم، ولبعض الأربعة أسهم، ولبعض الخمسة أسهم، ولبعض الستة أسهم، ولبعض السبعة أسهم، فلا تحملوا على صاحب السهم السهمين، ولا على صاحب السهمين ثلاثة، ولا على صاحب الثلاثة أربعة أسهم، ولا على صاحب الأربعة خمسة أسهم، ولا على صاحب الخمسة ستة أسهم، ولا على صاحب الستة سبعة أسهم، فتثقلوهم، وتنفِّروهم، ولكن ترفَّقوا بهم، وسهِّلوا لهم المدخل، فلا تخرقوا بهم؛ أما علمتَ أنّ إمارة بني أمية كانت بالسيف والعسف والجور، وأنّ إمامتنا بالرفق والتألف والوقار والتقية وحسن الخلطة والورع والاجتهاد. فرغبوا الناس في دينكم، وفي ما أنتم فيه" (الكافي: ج ٢ ص ٤٣).

وللأسف لا نجد هذه المرونة بين أتباع مذهب أهل البيت (ع)، ولا في واقعنا التربوي والعائلي... بل -وللأسف- قد نجد عكسها تماماً!

وقد قال الإمام الصادق (ع): "ما أنتم والبراءة؟! يبرأ بعضكم من بعض. إنّ المؤمنين بعضهم أفضل من بعض، وبعضهم أكثر صلاة من بعض، وبعضهم أنفذ بصراً من بعض، وهي الدرجات، حيث قال تعالى: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ)" (الكافي: ج ٢ ص ٤٥).

يقول الشيخ الصدوق (ت 381ﻫ): "اعتقادنا في النار أنه لا يُخلَّد فيها إلا أهل الكفر والشرك، فأمَّا المذنبون من أهل التوحيد فيخرجون منها بالرحمة التي تدركهم" (عقائد الصدوق: ص ٩٠؛ الإلهيات للسبحاني: ص ٢٩٤).

وروى الحميري بسنده عن الإمام جعفر، عن أبيه (ع): "إنَّ علياً (ع) لم يكن ينسب أحداً من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق، ولكنه كان يقول: هُمْ إخْوانُنَا بغَوْا علَيْنَا" (قرب الإسناد: ص ٩٤ حديث ٣١٨).

ولذا خرجت توصيات شديدة من أهل البيت (ع) على أهمية احترام المسلمين المنتسبين للمذاهب الأخرى، يقول الإمام الصادق (ع): "مَا أَيْسَرَ مَا رَضِيَ بِهِ النَّاسُ عَنْكُمْ كُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ عَنْهُمْ" (الكافي: ج ٨ ص ٣٤١).

وفي الصحيح عن حَنَان بن سَدِير، قال: قَالَ أَبُو الصَّبَّاحِ الْكِنَانِيُّ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (ع): مَا نَلْقَى مِنَ النَّاسِ فِيكَ!
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (ع): "وَمَا الَّذِي تَلْقَى مِنَ النَّاسِ فِيَّ؟!".
فَقَالَ: لَا يَزَالُ يَكُونُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرَّجُلِ الْكَلَامُ، فَيَقُولُ: جَعْفَرِيٌّ خَبِيثٌ!
فَقَالَ: "يُعَيِّرُكُمُ النَّاسُ بِي؟".
فَقَالَ لَهُ أَبُو الصَّبَّاحِ: نَعَمْ.
فَقَالَ: "مَا أَقَلَّ وَاللهِ مَنْ يَتَّبِعُ جَعْفَراً مِنْكُمْ! إِنَّمَا أَصْحَابِي مَنِ اشْتَدَّ وَرَعُهُ، وَعَمِلَ لِخَالِقِهِ، وَرَجَا ثَوَابَهُ؛ فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابِي" (الكافي: ج ٢ ص ٧٧).. أي، لو حفظتم وصايا أهل البيت (ع) وطبَّقتم تعاليمها لما عيركم بذلك أحد، ولكنَّ القليل القليل من يطبِّق هذه التعاليم.

وفي المنبر الحسيني -اليوم- نعيش هاجساً خطيراً على مستوى الوعي الجماهيري.. وهو في مستويين:
المستوى الأول: عدم فصل ثقافة الخطيب الحسيني عن ثقافة عالم الدين (الحوزوي)، مع أنَّ الواقع المعرفي يأخذ بنا إلى أنَّ هناك تمايزاً جوهرياً بين الوظيفتين، فعالم الدين (الحوزوي) تقوم أدواته على المماحكة العلمية الاستدلالية التي تخضع لقانون علمي دقيق، بينما الخطيب الحسيني فلا يراعي هذا الجانب المعرفي، وبالتفات بسيط إلى ما يعرض على المنابر والقنوات الشيعية نجد المفارقة كبيرة بين الوظيفتين.
المستوى الثاني: وهو الأخطر.. انجراف مجموعة من علماء الحوزة إلى العاطفة الحسينية بعيداً عن العقل والعلم والتحقيق والتمحيص، ولوي عنق الدليل لمصلحة ذاتية.. وأدّى إلى فوضى معرفية وازدواجية في معايير الحوزة التي تؤمن بالعلم والمنطق من جهة وبين ما تلقيه على المنبر من جهة أخرى.

تصدَّر للتدريس كلُّ مهوِّس ............... بليدٍ تَسمَّى بالفقيه المدرِّسِ
فحقَّ لأهلِ العلمِ أن يتمثَّلوا .............. ببيتٍ قديمٍ شاعَ في كلِّ مجلسِ
لقد هزلتْ حتَّى بدا من هزالها ........... كلاها وحتَّى سامها كلُّ مفلسِ

إننا مسؤولون جميعاً عن الأمة كلها، لا سيما في ظروف المرحلة الخطيرة التي ينطلق فيها الظلم العالمي بكل قواه من أجل إضعاف الأمّة، والإجهاز على كل مواقع القوة فيها، وعلينا أن نتحمل مسؤولية ذلك كله.


محرم 1447 في الصحافة الكويتية