السب والطعن وواقع المنبر الحسيني!!
{يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ
وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران: 102). {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ
مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ
الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}
(النساء: 1). {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ
أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 70-71).
في
القديم كان السبُّ والطعنُ في الإمام علي وشيعته راية الولاء للأمويين. حتى جاء الخليفة
الأموي العادل عمر بن عبد العزيز، الذي حكم من سنة 99ﻫ إلى سنة 101ﻫ، وتصدّى إلى
منع ظاهرة سبّ أمير المؤمنين وشتمه من على منابر الدولة الأموية الرسمية في جميع
حواضر الدولة الإسلامية آنذاك.
وفي هذا العصر أصبح السبُّ والطعنُ في أمهات
المؤمنين والصحابة راية الولاء للأعراب المتاجرين بالدين.
في حين أننا نجد في الروايات عن أئمة أهل البيت (ع)
ما يمثّل كل الاحتضان للآخر المختلف؛ فقد ورد أنهم (ع) كانوا يوجّهون أصحابهم
لتقبّل من يخالفهم في بعض التوجهات، ويستغربون رفض أصحابهم وإقصاءهم لهؤلاء!!
لذلك كانت وصية الإمام جعفر الصادق (ع)، لمن
يطيعوه من شيعته!! ، كما جاء في الصحيح: "اقْرَأْ
عَلَى مَنْ تَرَى أَنَّهُ يُطِيعُنِي مِنْهُمْ وَيَأْخُذُ بِقَوْلِيَ السَّلَامَ،
... صِلُوا عَشَائِرَكُمْ، وَاشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ، وَعُودُوا مَرْضَاهُمْ،
وَأَدُّوا حُقُوقَهُمْ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذَا وَرِعَ فِي دِينِهِ،
وَصَدَقَ الْحَدِيثَ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَحَسُنَ خُلُقُهُ مَعَ النَّاسِ،
قِيلَ: هَذَا جَعْفَرِيٌّ، فَيَسُرُّنِي ذَلِكَ، وَيَدْخُلُ عَلَيَّ مِنْهُ
السُّرُورُ، وَقِيلَ: هَذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ؛ وَإِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ،
دَخَلَ عَلَيَّ بَلَاؤُهُ وَعَارُهُ، وَقِيلَ: هَذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ؛ فَوَ اللهِ،
لَحَدَّثَنِي أَبِي (ص) أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ فِي الْقَبِيلَةِ مِنْ
شِيعَةِ عَلِيٍّ (ع)، فَيَكُونُ زَيْنَهَا: آدَاهُمْ لِلْأَمَانَةِ، وَأَقْضَاهُمْ
لِلْحُقُوقِ، وَأَصْدَقَهُمْ لِلْحَدِيثِ، إِلَيْهِ وَصَايَاهُمْ وَوَدَائِعُهُمْ،
تُسْأَلُ الْعَشِيرَةُ عَنْهُ، فَتَقُولُ: مَنْ مِثْلُ فُلَانٍ؟ إِنَّهُ لآَدَانَا
لِلْأَمَانَةِ، وَأَصْدَقُنَا لِلْحَدِيثِ" (الكافي: ج ٢ ص ٦٠٠).
وفي حديث أنَّ جماعة من أهل العراق دخلوا عليه،
وهو بالحيرة، وجرى حديث، ثم قال ناطقهم: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّا نَبْرَأُ مِنْهُمْ؟ إِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ مَا
نَقُولُ.
فَقَالَ (ع): "يَتَوَلَّوْنَا
ولَا يَقُولُونَ مَا تَقُولُونَ تَبْرَؤُونَ مِنْهُمْ؟!".
قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: "فَهُوَ
ذَا عِنْدَنَا، مَا لَيْسَ عِنْدَكُمْ فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَبْرَأَ مِنْكُمْ؟".
قَالَ: قُلْتُ: لَا، جُعِلْتُ فِدَاكَ.
قَالَ: "وهُوَ
ذَا عِنْدَ اللهِ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا أفَتَرَاه اطّرحنَا؟!".
قَالَ: قُلْتُ: لَا، واللهِ جُعِلْتُ فِدَاكَ،
مَا نَفْعَلُ؟!
قَالَ: "فَتَوَلَّوْهُمْ ولَا تَبَرَّءُوا
مِنْهُمْ، إِنَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَه سَهْمٌ، ومِنْهُمْ مَنْ لَه
سَهْمَانِ، ومِنْهُمْ مَنْ لَه ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، ومِنْهُمْ مَنْ لَه أَرْبَعَةُ
أَسْهُمٍ، ومِنْهُمْ مَنْ لَه خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، ومِنْهُمْ مَنْ لَه سِتَّةُ
أَسْهُمٍ، ومِنْهُمْ مَنْ لَه سَبْعَةُ أَسْهُمٍ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ
يُحْمَلَ صَاحِبُ السَّهْمِ عَلَى مَا عَلَيْه صَاحِبُ السَّهْمَيْنِ، ..." (الكافي: ج ٢ ص ٤٨).
وفي حديثٍ آخر: أنّ شخصاً قال لأبي عبد الله
الصادق (ع): إنّ عندنا قوماً يقولون بأمير المؤمنين (ع)، ويفضِّلونه على الناس
كلّهم، وليس يصفون ما نصف من فضلكم؟!
فقال لي: "نعم،
في الجملة، أليس عند الله ما لم يكن عند رسول الله، ولرسول الله عند الله ما ليس
لنا، وعندنا ما ليس عندكم؟ إنّ الله وضع الإسلام على سبعة أسهم، على الصبر،
والصدق، واليقين، والرضا، والوفاء، والعلم، والحلم. ثم قسَّم ذلك بين الناس. فمَنْ
جعل فيه هذه السبعة الأسهم فهو كاملٌ محتمل. ثم قسَّم لبعض الناس السهم، ولبعضهم
السهمين، ولبعض الثلاثة أسهم، ولبعض الأربعة أسهم، ولبعض الخمسة أسهم، ولبعض الستة
أسهم، ولبعض السبعة أسهم، فلا تحملوا على صاحب السهم السهمين، ولا على صاحب
السهمين ثلاثة، ولا على صاحب الثلاثة أربعة أسهم، ولا على صاحب الأربعة خمسة أسهم،
ولا على صاحب الخمسة ستة أسهم، ولا على صاحب الستة سبعة أسهم، فتثقلوهم، وتنفِّروهم،
ولكن ترفَّقوا بهم، وسهِّلوا لهم المدخل، فلا تخرقوا بهم؛ أما علمتَ أنّ إمارة بني
أمية كانت بالسيف والعسف والجور، وأنّ إمامتنا بالرفق والتألف والوقار والتقية
وحسن الخلطة والورع والاجتهاد. فرغبوا الناس في دينكم، وفي ما أنتم فيه" (الكافي: ج ٢ ص ٤٣).
وللأسف لا نجد هذه المرونة بين أتباع مذهب أهل
البيت (ع)، ولا في واقعنا التربوي والعائلي... بل -وللأسف- قد نجد عكسها تماماً!
وقد قال الإمام الصادق (ع): "ما أنتم والبراءة؟! يبرأ بعضكم من بعض. إنّ المؤمنين
بعضهم أفضل من بعض، وبعضهم أكثر صلاة من بعض، وبعضهم أنفذ بصراً من بعض، وهي
الدرجات، حيث قال تعالى: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ
عِنْدَ اللهِ)" (الكافي: ج ٢ ص ٤٥).
يقول الشيخ الصدوق (ت 381ﻫ): "اعتقادنا في النار أنه لا يُخلَّد
فيها إلا أهل الكفر والشرك، فأمَّا المذنبون من أهل التوحيد فيخرجون منها بالرحمة
التي تدركهم" (عقائد الصدوق: ص ٩٠؛
الإلهيات للسبحاني: ص ٢٩٤).
وروى الحميري بسنده عن الإمام جعفر، عن أبيه (ع):
"إنَّ علياً (ع) لم يكن ينسب أحداً من أهل حربه
إلى الشرك ولا إلى النفاق، ولكنه كان يقول: هُمْ إخْوانُنَا بغَوْا علَيْنَا"
(قرب الإسناد: ص ٩٤ حديث ٣١٨).
ولذا خرجت توصيات شديدة من أهل البيت (ع) على
أهمية احترام المسلمين المنتسبين للمذاهب الأخرى، يقول الإمام الصادق (ع): "مَا أَيْسَرَ مَا رَضِيَ بِهِ النَّاسُ عَنْكُمْ
كُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ عَنْهُمْ" (الكافي: ج ٨ ص ٣٤١).
وفي الصحيح عن حَنَان بن سَدِير، قال: قَالَ
أَبُو الصَّبَّاحِ الْكِنَانِيُّ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (ع): مَا نَلْقَى مِنَ
النَّاسِ فِيكَ!
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (ع): "وَمَا الَّذِي تَلْقَى مِنَ النَّاسِ فِيَّ؟!".
فَقَالَ: لَا يَزَالُ يَكُونُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
الرَّجُلِ الْكَلَامُ، فَيَقُولُ: جَعْفَرِيٌّ خَبِيثٌ!
فَقَالَ: "يُعَيِّرُكُمُ
النَّاسُ بِي؟".
فَقَالَ لَهُ أَبُو الصَّبَّاحِ: نَعَمْ.
فَقَالَ: "مَا
أَقَلَّ وَاللهِ مَنْ يَتَّبِعُ جَعْفَراً مِنْكُمْ! إِنَّمَا أَصْحَابِي مَنِ
اشْتَدَّ وَرَعُهُ، وَعَمِلَ لِخَالِقِهِ، وَرَجَا ثَوَابَهُ؛ فَهَؤُلَاءِ
أَصْحَابِي" (الكافي: ج ٢ ص ٧٧).. أي، لو حفظتم وصايا أهل البيت (ع) وطبَّقتم
تعاليمها لما عيركم بذلك أحد، ولكنَّ القليل القليل من يطبِّق هذه التعاليم.
وفي المنبر الحسيني -اليوم- نعيش هاجساً خطيراً
على مستوى الوعي الجماهيري.. وهو في مستويين:
المستوى الأول: عدم فصل ثقافة الخطيب الحسيني عن ثقافة عالم
الدين (الحوزوي)، مع أنَّ الواقع المعرفي يأخذ بنا إلى أنَّ هناك تمايزاً جوهرياً
بين الوظيفتين، فعالم الدين (الحوزوي) تقوم أدواته على المماحكة العلمية
الاستدلالية التي تخضع لقانون علمي دقيق، بينما الخطيب الحسيني فلا يراعي هذا
الجانب المعرفي، وبالتفات بسيط إلى ما يعرض على المنابر والقنوات الشيعية نجد
المفارقة كبيرة بين الوظيفتين.
المستوى الثاني: وهو الأخطر.. انجراف مجموعة من علماء الحوزة إلى
العاطفة الحسينية بعيداً عن العقل والعلم والتحقيق والتمحيص، ولوي عنق الدليل
لمصلحة ذاتية.. وأدّى إلى فوضى معرفية وازدواجية في معايير الحوزة التي تؤمن
بالعلم والمنطق من جهة وبين ما تلقيه على المنبر من جهة أخرى.
تصدَّر للتدريس كلُّ مهوِّس
............... بليدٍ تَسمَّى بالفقيه المدرِّسِ
فحقَّ لأهلِ العلمِ أن يتمثَّلوا
.............. ببيتٍ قديمٍ شاعَ في كلِّ مجلسِ
لقد هزلتْ حتَّى بدا من هزالها ...........
كلاها وحتَّى سامها كلُّ مفلسِ
إننا مسؤولون جميعاً عن الأمة كلها، لا سيما في
ظروف المرحلة الخطيرة التي ينطلق فيها الظلم العالمي بكل قواه من أجل إضعاف
الأمّة، والإجهاز على كل مواقع القوة فيها، وعلينا أن نتحمل مسؤولية ذلك كله.