السبت، 21 سبتمبر 2019


الوجه الآخر للإمام علي بن الحسين زين العابدين

قال أمير المؤمنين (ع) في وصف آل محمد (ص): "نَحْنُ النُّمْرُقَةُ الْوُسْطَى؛ بِهَا يَلْحَقُ التَّالِي، وَإِلَيْهَا يَرْجِعُ الْغَالِي" (الحكمة: 109).

والنمرقة الوسطى المتمسكون بالصراط المستقيم المتمثل بنهج أهل البيت (ع) الخالي عن الافراط والتفريط، والخالي عن الغلو والتقصير، فهو الملاك في معرفة الوسطية والاعتدال، وهو النهج الذي يرتضيه أهل البيت (ع).

فالغالي بحسب قول الإمام الباقر (ع): "قَوْمٌ يَقُولُونَ فِينَا مَا لَا نَقُولُهُ فِي أَنْفُسِنَا، فَلَيْسَ أُولَئِكَ مِنَّا وَلَسْنَا مِنْهُمْ".. فالقضية إذن ليست قضية "نزّهونا عن الربوبيّة وقولوا فينا ما شئتم، ولن تبلغوا" الذي ليس له مصدر فضلاً عن سند.

ولهذا أقبل الإمام الباقر (ع) على من حضر مجلسه فقال: "وَاللهِ مَا مَعَنَا مِنَ اللهِ بَرَاءَةٌ، وَلَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللهِ قَرَابَةٌ، وَلَا لَنَا عَلَى اللهِ حُجَّةٌ، وَلَا نَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ إِلَّا بِالطَّاعَةِ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُطِيعاً للهِ تَنْفَعُهُ وَلَايَتُنَا، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ عَاصِياً لِلهِ لَمْ تَنْفَعْهُ وَلَايَتُنَا، وَيْحَكُمْ لَا تَغْتَرُّوا وَيْحَكُمْ لَا تَغْتَرُّوا" (الكافي: ج 2 ص 75 ح 6).

بين فينة وأخرى نطالع في كتب أخبارنا المنسوب صدورها عن الرسول الأكرم (ص) وأئمة أهل البيت (ع)، والموجودة في كتبنا خاصة، وكلما تعمق الإنسان فيها، رأى خطورة الاعتماد على هذه الأحاديث بمعزل عن القرآن الكريم، وإنّ الكثير من الشواهد والأدلة التاريخية تثبت -وبوضوح- دخول كثير من الأحاديث الكاذبة والموضوعة في كتب أحاديث المسلمين. وكما يقول العلامة الطباطبائي (ره): "هذه الأحاديث المندسّة يمكن تلمسها في أبواب الحديث المختلفة، وعلى الأخص في التفسير، وتأريخ الأنبياء وتأريخ الأمم السابقة، وباب الغزوات ووقائع صدر الإسلام. والحق؛ أننا نجد قصصاً وأموراً أخرى بين الحديث، لا يستطيع العقل السليم أن يقبلها"(أنظر: الشيعة: ص 77-78).

وقد روى الكشي -بسند صحيح- عن يونس بن عبد الرحمن -وقد سأله بعض أصحابه-: يا أبا محمَّد ما أشدّك في الحديث، وأكثر انكارك لما يرويه أصحابنا، فما الَّذي يحملك على رد الأحاديث؟! .. فقال: حدثني هشام بن الحكم أنه سمع أبا عَبْد الله (ع) يقول: "لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسُنَّة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة؛ فإنّ المغيرة بن سعيد -لعنه الله- دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يُحدِّث بها أبي، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى وسنة نبينا (ص) فإنا إذا حدثنا، قلنا: قَالَ الله عز وجل، وقال رسول الله (ص)".
قال يونس: وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر (ع)، ووجدت أصحاب أبي عَبْد الله (ع) متوافرين، فسمعت منهم وأخذت كتبهم، فعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا (ع) فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عَبْد الله (ع). وقال لي: "إنّ أبا الخطاب كذب على أبي عَبْد الله (ع). لعن الله أبا الخطاب، وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عَبْد الله (ع)، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن فإنا إن تحدثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السُنَّة، إنا عن الله وعن رسوله نحدّث، ولا نقول قَالَ فلان وفلان، فيتناقض كلامنا، إنَّ كلام آخرنا مثل كلام أولنا، وكلام أولنا مصادق لكلام آخرنا، فإذا أتاكم من يحدثكم بخلاف ذلك فردّوه عليه وقولوا أنت أعلم وما جئت به، فإنّ مع كل قول منا حقيقة وعليه نوراً، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك من قول الشيطان" (رجال الكشي: ج 2 ص 489 -491 ح 401).

قال المحقق السيد هاشم معروف الحسني (ت 1403ﻫ): "وبعد التتبع في الأحاديث المنتشرة في مجاميع الحديث، كالكافي والوافي وغيرهما، نجد الغلاة والحاقدين على الأئمة الهداة لم يتركوا باباً من الأبواب إلا ودخلوا منه؛ لإفساد أحاديث الأئمة والإساءة إلى سمعتهم، وبالتالي رجعوا إلى القرآن الكريم لينفثوا -عن طريقه- سمومهم ودسائسهم، لأنه الكلام الوحيد الَّذي يتحمل ما لا يتحمله غيره، ففسّروا مئات الآيات بما يريدون، وألصقوها بالأئمة الهداة زوراً وبهتاناً وتضليلاً..." (دراسات في الحديث والمحدثين: ص 178).

لماذا الإمام السجاد (ع)؟

برزت شخصية الإمام علي بن الحسين (ع) على مسرح الأحداث الإسلامية في فترة من أصعب فترات الإمامة، وقد مات الثقل الأكبر من أهل البيت (ع)، فبرز بطراز خاص ومتميز عن باقي أدوار الأئمة (ع) اللاحقين، حيث طرح علاجاً فريداً استطاع من خلاله أن يزيح عن وعي الأمة (التخدير الإعلامي) الذي فرضته السلطة الأموية.

واستطاعت هذه الشخصية لما تحمله من مواهب خاصة أن تسترجع القوة الاقتصادية لبني هاشم، والمنهوبة من قبل السلطة الأموية، فقام عبد الملك بن مروان بردِّ صدقات الرسول (ص) وصدقات علي (ع) إلى الإمام علي بن الحسين (عوالم العلوم: ص 172).

وبلغ عبد الملك أنّ سيف رسول الله (ص) عند زين العابدين (ع)، فبعث يستوهبه ويسأله الحاجة، فأبى عليه، فكتب إليه عبد الملك يهدده وأنه يقطع رزقه من بيت المال، فأجابه (ع): "أما بعد فإنّ الله ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون". وهو نفسه الذي حمله من المدينة إلى الشام بعد ذلك، مثقلاً بالحديد، على حسب وصف تلميذه الزهري (عوالم العلوم: ص 174).

لقد عاش الإمام (ع) فترة زمنية فيها من الفوادح والمآسي والاضطرابات ما أدت إلى تحجيم القاعدة الموالية لأهل البيت في منطقة الحجاز، وقد ترجم الإمام (ع) معاناته وعمق المأساة التي يعيشها في كثير من أدعيته في الصحيفة السجادية.. (الصحيفة السجادية: دعاؤه في دفع كيد الأعداء ورد بأسهم، دعاؤه لدفع الأعداء والحفظ في شرهم وبأسهم).

فقد أشار (ع) في فقرة من فقرات بعض أدعيته إلى شكواه عن عدم وجود قاعدة جماهيرية تسانده بوعي وإخلاص حيث يقول: "فَنَظَرْتَ يا إلهِيْ إلَى ضَعْفِي عَنِ احْتِمَالِ الْفَوَادِحِ، وَعَجْزِي عَنِ الانْتِصَارِ مِمَّنْ قَصَدَنِيْ بِمُحَارَبَتِهِ، وَوَحْدَتِي فِي كَثِيرِ عَدَدِ مَنْ نَاوَانِيْ وَأَرْصَدَ لِيْ بِالْبَلاءِ فِيمَا لَمْ أُعْمِلْ فِيهِ فِكْرِي" (دعاؤه في دفع كيد الأعداء).

يشير (ع) -في هذا المقطع- إلى أنّ شروط الانتصار على الأعداء مرهونة ببناء قواعد جماهيرية واعية، وهو الذي يفتقده الإمام (ع) حيث أنّ الأعداء هم الذين يملكون القوة والقدرة، ويملكون العدة والعدد، والإمام (ع) مفرد بين أعداء كثيرين، يريدون محاربته، بما يرصدون له من البلاء ويخططون له.

لقد كان (ع) يتمتع بأفق واسع وثقافة شاملة لعلوم عصره، وقد اتفق علماء الأمصار على فقاهته الرفيعة بل وصف من قبل بعض العلماء بأنّه الأفقه.

وقد تمكن -رغم محاصرته- من توضيح معالم فقه أهل البيت (ع)، وإرساء قواعده، وتزويد طلابه وتربيتهم، وكانت مدرسته في داره وفي المسجد النبوي أيضاً، وكان حضار مجلسه العلمي يفوق المائة والستين طالب علم.

وكان (ع) يحث الأمة -وخاصة الشباب- على طلب العلم، فكان إذا نظر إلى الشباب الذين يطلبون العلم أدناهم إليه وقال: "مرحباً بكم، أنتم ودائع العلم، أنتم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار آخرين".

وكان يأخذ بعضدهم ويقول: "أهلاً بوصية رسول الله".

وقد مثّل مجلسه طيلة ثلاثين عاماً نشاطاً فكرياً متميزاً، وكان الفقهاء يفتخرون بالتلمّذ عليه، وتخرّج من تحت منبره قادة رأي وفكر.

ولكن!!!..

الأسف كل الأسف أن نجد أقلاماً تناولت هذه الشخصية الأصيلة بسطحية مقنّعة، وقدمت إلى الأجيال الواعدة شخصية مشوهة لا تتناسب وشخصية الإمام (ع)، والسرّ في هذا أنّهم لم يمعنوا النظر والفحص في حياة هذه الشخصية، ولم يتعمقوا في النصوص والمدلولات التي خلّفها للأمة، والتي من خلالها تُرسم ملامح شخصيته العظيمة.

وقد نعته الدكتور كامل الشيبي: "بأنّه أول إمام يتخذ الزهد المطلق منهجاً لحياته فلا يشارك في حرب أو نقاش ولا يتدخل في أمر من الأمور" (الصلة بين التصوف والتشيع: ج 1 ص 162).

ويقول الدكتور أحمد محمود صبحي: "كانت فاجعة مقتل أبيه التي شاهدها ببصره أقسى من أن تتركه يطلب بعد ذلك شيئاً من إمارة الدنيا، أو يثق في الناس، أو يشارك في شأن من شؤون السياسة، اعتكف على العبادة حتى قيل إنّه كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة .. ولكنّ الإقبال على الله واعتزال شؤون العالم بعد أن استشرى فيه داء الجور وساده الظلال كان منهجه في حياته الخاصة، وطابعه الذي طبع به التشيع الاثنى عشر، فاتجه إلى الإمامة الروحية مبتعداً عن طلب إمامة سياسية" (نظرية الإمامة لدى الشيعة: ص 349).

وتقول الدكتورة سميرة الليثي: "افتقدت الشيعة -بمصرع الحسين- الزعيم الذي يكون محوراً لجماعتهم وتنظيمهم، والذي يقودهم إلى تحقيق تعاليمهم ومبادئهم، واصرف الإمام علي زين العابدين عن السياسة إلى الدين، وعبادة الله عز وجل، وأصبح للشيعة زعيماً روحياً، ولكنه لم يكن الثائر السياسي الذي يتزعم جماعة الشيعة، حتى أنّه آثر البقاء في المدينة طوال حياته. وحاول المختار بن أبي عبيدة الثقفي أن ينتزع علياً من حياة التعبيد، والاشتغال بالعلم إلى ميادين السياسة، دون جدوى" (جهاد الشيعة: ص 29).

ونتساءل حينئذ من أين انبعثت هذه الأفكار السلبية التي أحجمت دور الإمام علي بن الحسين (ع) في التاريخ الاجتماعي والفكري؟

لا ريب أنّ بعض المورثات الشيعية منها والسنية كان لها كبير الأثر في ترويج هذه الأفكار الخاطئة بل وقع في شركها بعض أعاظم علماء الشيعة، وإليك ثلاثة شواهد:

الشاهد الأول:


الشيخ الصدوق (ره) حيث وصف حال علي بن الحسين (ع)، بعد كربلاء ومقتل أبيه، قائلاً: "ثم انقبض عن الناس فلم يلقَ أحداً ولا كان يلقاه إلا خواص أصحابه وكان في نهاية العبادة ولم يخرج عنه من العلم إلا يسيراً لصعوبة الزمان وجور بني أمية" (إكمال الدين: ص 91).

وهذا كلام عار عن الصحة لمن طالع سيرة هذا الإمام الكريم، ومداها في العالم الإسلامي، وما خلفه من تراث معرفي رائد، سواء في صحيفته السجادية، ورسالة الحقوق، وغيرهما (مشكلتنا أننا نريد أن نبرر للإمام وهذا صحيح أما أن نبرر للعالم فهذا خطأ).

الشاهد الثاني:


ما رواه الشيخ الكليني (ره) من أنّ علي بن الحسين (ع) قد بايع يزيد بن معاوية، بعد واقعة الحرة، وبسند صحيح، عن بريد بن معاوية قال: سمعت أبا جعفر (ع) يقول: إنّ يزيد بن معاوية دخل المدينة وهو يريد الحج فبعث إلى رجل من قريش فأتاه فقال له يزيد أتقر لي أنك عبد لي، إن شئت بعتك وإن شئت استرقيتك، فقال له الرجل: والله يا يزيد ما أنت بأكرم مني في قريش حسباً، ولا كان أبوك أفضل من أبي في الجاهلية والإسلام، وما أنت بأفضل مني في الدين ولا بخير مني فكيف أقر لك بما سألت؟ فقال له يزيد: إن لم تقر لي والله قتلتك، فقال له الرجل: ليس إياي بأعظم من قتلك الحسين بن علي (ع) ابن رسول الله (ص) فأمر به فقتل.
ثم أرسل إلى علي بن الحسين (ع) فقال له مثل مقالته للقرشي، فقال له علي بن الحسين (ع): أرأيت إن لم أقر لك أليس تقتلني كما قتلت الرجل بالأمس؟ فقال له يزيد: بلى، فقال له علي بن الحسين (ع): قد أقررت لك بما سألت، أنا عبد مكره، فإن شئت فامسك وإن شئت فبع، فقال له يزيد: أولى لك حقنت دمك ولم ينقصك ذلك من شرفك (الكافي: ج 8 ص 196 ح 313)؟؟!!

وهذه الرواية رغم صحتها سنداً، إلا أنَّ الحقائق التاريخية تنص على أنَّ يزيد بن معاوية لم يخرج من الشام مدة خلافته، ولم يأت للمدينة حاجّاً، وهذا يوهن الرواية، بل يُسقطها من رأس.

الشاهد الثالث: مع حديث جزع الإمام السجاد:


من المعلوم أنَّ الجزع على الميت من الموارد القبيحة، وفي بعض الروايات نهي عن فعله، ولكن توجد بعض الروايات المثيرة التي ينبغي للباحث أن يقف عندها، ومنها موقف الإمام علي بن الحسين (ع) في جزعه على أبيه سيد الشهداء (ع)، فنسبت بعض الروايات مقولة للإمام السجاد (ع) يقول: "حتى كادت نفسي تخرج فتبيّـنت ذلك مني عمتي زينب فقالت لي: مالي أراك تجود بنفسك. فقلت: كيف لا أجزع وأهلع...".

والنص الذي موجود في كامل الزيارات طويل جداً:

"قال: حدثني أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عيّاش، قال: حدثني أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه، قال: حدثني أبو عيسى عبيد الله بن الفضل بن محمد بن هلال الطائي البصري (ره)، قال: حدثني أبو عثمان سعيد بن محمد، قال: حدثني محمد بن سلام بن يسار (سيار خ ل) الكوفي، قال: حدثني أحمد بن محمد الواسطي، قال: حدثني عيسى بن أبي شيبة القاضي، قال: حدثني نوح بن دراج، قال: حدثني قدامة بن زائدة، عن أبيه زائدة قال:
قال علي بن الحسين (ع): "بلغني يا زائدة أنك تزور قبر أبي عبد الله الحسين (ع) أحياناً"، فقلت: إنّ ذلك لكما بلغك، فقال لي: "فلماذا تفعل ذلك ولك مكان عند سلطانك الذي لا يحتمل أحداً على محبتنا وتفضيلنا وذكر فضائلنا والواجب على هذه الأمة من حقنا؟!!"، فقلت: والله، ما أريد بذلك إلا الله ورسوله، ولا أحفل بسخط من سخط، ولا يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه، ... فقال (ع): ابشر ثم ابشر فلأخبرنك بخبر كان عندي في النخب المخزون.
فإنه لما أصابنا بالطف ما أصابنا وقُتل أبي (ع)، وقُتل مَن كان معه من ولده وأخوته وسائر أهله، وحُملت حرمه ونساؤه على الأقتاب، يراد بنا الكوفة، فجعلت أنظر إليهم صرعى ولم يواروا، فعظم ذلك في صدري وأشتد لما أرى منهم قلقي، فكادت نفسي تخرج، وتبينت ذلك مني عمتي زينب الكبرى بنت علي (ع)، فقالت: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وأخوتي؟! فقلت: وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى سيدي وأخوتي وعمومتي وولد عمي وأهلي مضرّجين بدمائهم، مرمّلين بالعراء، مسلّبين، لا يكفنون ولا يوارون، ولا يعرج عليهم أحد، ولا يقربهم بشر، كأنهم أهل بيت من الديلم والخزر، فقالت: لا يجزعنك ما ترى فوالله إنّ ذلك لعهد من رسول الله (ص) إلى جدك وأبيك وعمك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأمة، وهم معروفون في أهل السماوات إنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة، وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء، لا يُدرس أثره، ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام، وليجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وتطميسه، فلا يزداد إلا ظهوراً، وأمره إلا علواً.
فقلت: وما هذا العهد وما هذا الخبر؟ فقالت: نعم، حدثتني أم أيمن أنّ رسول الله (ص) زار منزل فاطمة (ع)، في يوم من الأيام، فعملت له حريرة وأتاه علي (ع) بطبق فيه تمر، ثم قالت أم أيمن: فأتيتهم بعُسّ فيه لبن وزبد، فأكل رسول الله (ص) وعلي وفاطمة والحسن والحسين من تلك الحريرة، وشرب رسول الله (ص) وشربوا من ذلك اللبن، ثم أكل وأكلوا من التمر والزبد، ثم غسل رسول الله (ص) يده وعلي يصب عليه الماء، فلما فرغ من غسل يده مسح وجهه، ثم نظر إلى علي وفاطمة والحسن والحسين نظراً عرفنا به السرور في وجهه، ثم رمق بطرفه نحو السماء مليّاً، ثم وجّه وجهه نحو القبلة وبسط يديه ودعا، ثم خرّ ساجداً، وهو ينشج، فأطال النشوج وعلا نحيبه وجرت دموعه، ثم رفع رأسه، وأطرق إلى الأرض ودموعه تقطر كأنها صوب المطر، فحزنت فاطمة وعلي والحسن والحسين، وحزنت معهم لما رأينا من رسول الله (ص)، وهبناه أن نسأله، حتى إذا طال ذلك قال له علي، وقالت له فاطمة: ما يبكيك يا رسول الله! لا أبكى الله عينيك فقد أقرح قلوبنا ما نرى من حالك؟ فقال: يا أخي سررت بكم -وقال مزاحم بن عبد الوارث في حديثه ها هنا: فقال: يا حبيبي- إنيّ سررت بكم سروراً ما سررت مثله قط، وإني لأنظر إليكم وأحمد الله على نعمته فيكم.
إذ هبط عليّ جبرئيل (ع) فقال: يا محمد إنّ الله تبارك وتعالى اطلع على ما في نفسك، وعرف سرورك بأخيك وابنتك وسبطيك فأكملَ لك النعمة وهنّأكَ العطية، بأن جعلهم وذرياتهم ومحبيهم وشيعتهم معك في الجنة، لا يفرق بينك وبينهم، يحبُون كما تحبِي، ويعطون كما تعطي، حتى ترضى وفوق الرضا على بلوى كثيرة تنالهم في الدنيا ومكاره تصيبهم بأيدي أناس ينتحلون ملتك ويزعمون أنهم من أمتك، برءا من الله ومنك، خبطاً خبطاً وقتلاً قتلاً، شتي مصارعهم نائية قبورهم، خيرة من الله لهم ولك فيهم، فاحمد الله عز وجل على خيرته وارض بقضائه، فحمدت الله ورضيت بقضائه بما اختاره لكم.
ثم قال لي جبريل: يا محمد إنّ أخاك مضطهد بعدك، مغلوب على أمتك، متعوب من أعدائك، ثم مقتول بعدك، يقتله أشر الخلق والخليقة، وأشقى البرية، يكون نظير عاقر الناقة، ببلدٍ تكون إليه هجرته، وهو مغرس شيعته وشيعة ولده، وفيه على كل حال يكثر بلواهم ويعظم مصابهم، وإنّ سبطك هذا -وأومئ بيده إلى الحسين (ع)- مقتول في عصابة من ذريتك وأهل بيتك وأخيار من أمتك بضفة الفرات بأرض يقال لها: كربلاء، من أجلها يكثر الكرب والبلاء، على أعدائك وأعداء ذريتك في اليوم الذي لا ينقضي كربه ولا تفنى حسرته، وهي أطيب بقاع الأرض وأعظمها حرمة، وإنها من بطحاء الجنة، فإذا كان ذلك اليوم الذي يُقتل فيه سبطك وأهله وأحاطت به كتائب أهل الكفر واللعنة تزعزعت الأرض من أقطارها، ومادت الجبال وكثر اضطرابها، واصطفت البحار بأمواجها، وماجت السماوات بأهلها غضباً لك يا محمد ولذريتك، واستعظاماً لما يُنتهك من حرمتك، ولشر ما تكافئ به ذريتك وعترتك، ولا يبقى شيء من ذلك إلا استأذن الله عز وجل في نصرة أهلك المستضعفين المظلومين، الذين هم حجة الله على خلقه بعدك.
فيوحي الله إلى السماوات والأرض والجبال والبحار ومن فيهن: إني أنا الله الملك القادر الذي لا يفوته هارب ولا يعجزه ممتنع، وأنا أقدر فيه على الانتصار والانتقام، وعزتي وجلالي لأعذبنّ من وتر رسولي وصفيي، وانتهك حرمته وقتل عترته ونبذ عهده وظلم أهل بيته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، فعند ذلك يضج كل شيء في السماوات والأرضين بلعن من ظلم عترتك واستحل حرمتك، فإذا برزت تلك العصابة إلى مضاجعها تولّى الله عز وجل قبض أرواحها بيده، وهبط إلى الأرض ملائكة من السماء السابعة معهم آنية من الياقوت والزمرد مملوءة من ماء الحياة، وحلل من حلل الجنة وطيب من طيب الجنة، فغسلوا جثثهم بذلك الماء وألبسوها الحلل، وحنّطوها بذلك الطيب وصلّت الملائكة صفاً صفاً عليهم، ثم يبعث الله قوماً من أمتك لا يعرفهم الكفار لم يشركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولا نية، فيوارون أجسامهم ويقيمون رسماً لقبر سيد الشهداء بتلك البطحاء، يكون علماً لأهل الحق وسبباً للمؤمنين إلى الفوز، وتحفّه الملائكة من كل سماء مائة ألف ملك كل يوم وليلة، ويصلّون عليه ويسبّحون الله عنده، ويستغفرون الله لمن زاره، ويكتبون أسماء من يأتيه زائراً من أمتك متقرباً إلى الله تعالى وإليك بذلك، وأسماء آبائهم وعشائرهم وبلدانهم، ويوسمون في وجوههم بميسم نور عرش الله: هذا زائر قبر خير الشهداء وابن خير الأنبياء.
فإذا كان يوم القيامة سطع في وجوههم من أثر ذلك الميسم نور تغشى منه الأبصار يدل عليهم ويعرفون به، وكأني بك يا محمد بيني وبين ميكائيل وعليٌ أمامنا، ومعنا من ملائكته الله ما لا يحصى عددهم، ونحن نلتقط من ذلك الميسم في وجهه من بين الخلائق، حتى ينجيهم الله من هول ذلك اليوم وشدائده، وذلك حكم الله وعطاؤه لمن زار قبرك يا محمد أو قبر أخيك أو قبر سبطيك، لا يريد به غير الله عز وجل، وسيجتهد أناس ممن حفت عليهم اللعنة من الله والسخط، أن يعفو رسم ذلك القبر ويمحوا أثره، فلا يجعل الله تبارك وتعالى لهم إلى ذلك سبيلاً.
ثم قال رسول الله (ع): فهذا أبكاني وأحزنني.
قالت زينب: فلما ضرب ابن ملجم لعنه الله أبي (ع) ورأيت عليه أثر الموت منه، قلت له: يا أبه حدثتني أم أيمن بكذا وكذا، وقد أحببت أن أسمعه منك فقال: يا بنيه الحديث كما حدثتك أم أيمن، وكأني بك ونساء أهلك سبايا بهذا البلد أذلّاء خاشعين، تخافون أن يتخطفكم الناس، فصبراً صبراً، فوالذي فلق الحبة وبرء النسمة ما لله على ظهر الأرض ولي غيركم وغير محبيكم وشيعتكم، ولقد قال لنا رسول الله (ص) حين أخبرنا بهذا الخبر: إنّ إبليس لعنه الله في ذلك اليوم يطير فرحاً، فيجول الأرض كلها بشياطينه وعفاريته، فيقول: يا معاشر الشياطين قد أدركنا من ذرّية آدم الطلبة، وبلغنا في هلاكهم الغاية وأورثناهم النار إلا من اعتصم بهذه العصابة، فاجعلوا شغلكم بتشكيك الناس فيهم وحملهم على عداوتهم وإغرائهم بهم وأوليائهم، حتى تستحكم ضلالة الخلق وكفرهم ولا ينجو منهم ناج، ولقد صدق عليهم إبليس وهو كذوب، أنه لا ينفع مع عداوتكم عمل صالح ولا يضر مع محبتكم وموالاتكم ذنب غير الكبائر".
قال زائدة: ثم قال علي بن الحسين (ع) بعد أن حدثني بهذا الحديث: "خذه إليك أما لو ضربت في طلبه آباط الإبل حولاً لكان قليلاً". (المصدر: كامل الزيارات: ص 444-448 الباب 88 هامش الحديث 674، وبحار الأنوار: ج 45 ص 179 و ج 101 ص 115).

# المبحث السندي لهذه الرواية:


إنّ رواة هذا الخبر بحسب التسلسل أحد عشر وهم:

1 . الحسين بن أحمد بن المغيرة: قال عنه النجاشي: "مضطرب المذهب". والاضطراب في المذهب بمعنى‏ التلوّن في المذهب، يستقيم تارة، ويعوج أخرى‏.

2. أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عبيد الله بن الحسن بن عيّاش الجوهري: قال عنه الشيخ الطوسي في الفهرست: "اختل في آخر عمره".

وقال النجاشي: "اضطرب  في آخر عمره، ... ورأيت شيوخنا يضعّفونه، فلم أروِ عنه شيئاً وتجنّبته".

قال المحقق والخبير الرجالي الشيخ محمد تقي التستري: "وأحسن النجاشي في تجنّبه عن الرواية عنه؛ وقد روى الشيخ في مصباحه عنه في أدعية شهر رجب دعاء (اللهم إني أسألك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاة أمرك) وهو دعاء مختل الألفاظ والمعاني، وفيه فقرة منكرة (ولا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك)".

3. أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه: مؤلف كتاب "كامل الزيارات" ثقة صدوق.

4. أبو عيسى عبيد الله بن الفضل بن محمد بن هلال الطائي البصري:  مجهول الحال.

5. أبو عثمان سعيد بن محمد: غير معروف في كتب الرجال عند العامة والخاصة.

6. محمد بن سلام بن يسار (سيار خ ل) الكوفي: مجهول الحال.

7. أحمد بن محمد الواسطي: مجهول الحال.

8. عيسى بن أبي شيبة القاضي: مجهول الحال.

9. نوح بن درّاج: مختلف فيه.

10. قدامة بن زائدة الثقفي الكوفي: مجهول الحال.

11. زائدة بن قدامة: ويوجد شخصان ينطبق عليهما هذا الاسم، ولكن الذي ينطبق عليه أنه الراوي هنا هو: زائدة بن قدامة قائد جيش الحجاج الثقفي: من أنصار بني أمية، وكان من أصحاب الشأن والسلطان والنفوذ الاجتماعي لدى الحجاج بن يوسف الثقفي.. واستقربناه لقرينة قول الإمام (ع) لزائدة: "إنك من أصحاب السلطان!!"، وهو إشارة إلى عمله كقائد عند الحجاج بن يوسف الثقفي، وهذا يرجح أن يكون هو الراوي عن الإمام.

# ملاحظات مهمة:


1 - سند خبر حديث أم أيمن غير معتبر، وغير قابل للاعتماد والقبول بأي وجه من الوجوه وهو من جهة الموازين العلمية فاقد لأبسط الحدود التي تجعله حجة.

2 - هذا الخبر لم يذكره ابن قولويه بنفسه في كتابه الآنف الذكر، وإنما أدخله واحد من تلامذته -وهو الحسين بن المغيرة- ضمن محتويات كتاب كامل الزيارات بعد وفاة أستاذه!!. وعلى هذا، فخبر (أم أيمن) المزعوم ناتج عن الإضافة التي قام بها (الحسين بن أحمد بن المغيرة) من دون رضا وموافقة أستاذه ابن قولويه، ولم يُذكر هذا الخبر في هذا الكتاب إلا بعد وفاة ابن قولويه، وما جاء في تحقيق الكتاب يكشف لنا أنّ هذا الخبر لم تذكره المخطوطة التي كتبها المؤلف، وهي موجودة في مكتبة الإمام الرضا في مشهد في إيران. ولذلك ارتأى المحقق إثباتها في هامش الكتاب وعلق عليها قائلاً: "زيادة في النسخ نقلناها كما وجدناها: للحسين بن أحمد بن المغيرة... الخ".

وهذا ما أكده المرجع السيد البروجردي (ره) (ت 1380هـ) في موسوعته (جامع أحاديث الشيعة: ج 12 ص437) حيث ذكر في الهامش: في كامل الزيارة ذيل الصفحة التي ذكر هذا الحديث قال: "هذا الحديث ليس من أصل الكتاب وإنما أدرجه فيه بعض تلامذة المؤلف (قدس سره)، فما في البحار من نقله عن الكتاب غير تنبيه على ما ذكر ليس في محله".

3 - نلاحظ سلسلة من الأخطاء ونقاط الضعف في نص الخبر ومتنه وكذلك في مقدمته:

أولاً: الخبر طويل وممل، وهو أشبه بالحكايات والقصص التي ترويها العجائز.

ثانياً: عبارات الخبر ركيكة وفاقدة لمقومات الاعتبار، وفاقدة لعناصر القوة في نسبته إلى رسول البيان والبلاغة (ع).

ثالثاً: الطريقة التراجيدية التي ظهر فيها الإمام السجاد (ع)، وكأنّه (ع) -حسب ما تقوله العبارة- لم يتحمل الموقف ففقد صبره!! مع إنّ استشهاد أهل بيته كان سابقاً لموقفه هذا!! ولم تذكر لنا الأخبار والروايات إنه قد فقد توازنه وصبره وراح يندب كالثكلى!! ثم كيف يصور الإمام (ع) هذا المنظر المهزوم أمام أعين الأعداء؟! وهو المثل الأعلى بالصبر والاستقامة والثبات، وهو إلى جانب هذا وذاك يُعلّم الناس فنون ضبط النفس والتعالي على الجراح والمحن والآهات.

إننا هنا أمام رجل عاطفي فاقد للسيطرة على مشاعره وأحاسيسه، بحيث أخرجته من موضع القوة، وأدخلته في موقع الضعف!!

وليس هذا هو النص الوحيد الذي يبرز لنا الصورة المشوهة -كذباً- لشخصية الإمام السجاد (ع)، بل يوجد نص آخر "يسندونه إلى البريء أبي حمزة الثمالي فيروون أنه جاء يوماً إلى الإمام زين العابدين (ع) وطرق بابه فجاءت الجارية لتفتح له، وعندما عرفت أنه أبو حمزة حمدت الله على وصوله في ذلك الوقت عسى أن يسلّي الإمام (ع)؛ إذ قد أغمي عليه في ذلك اليوم مرتين، وحينما دخل عليه أخذ في تعزيته، فقال له: سيّدي، ما هذا البكاء والجزع؟! ألم يقتل عمُّك حمزة؟ ألم يقتل جدّك علي (ع) بالسيف؟ إنَّ القتل لكم عادة، وكرامتكم من الله الشهادة، فقال له الإمام: شكر الله سعيك يا أبا حمزة، كما ذكرت، القتل لنا عادة، وكرامتنا من الله الشهادة ولكن يا أبا حمزة، هل سمعت أذناك أم رأت عيناك أنَّ امرأة منا أُسرت أو هُتكت قبل يوم عاشوراء؟ والله يا أبا حمزة، ما نظرت إلى عمَّاتي وأخواتي إلاَّ وذكرت فرارهن في البيداء من خيمة إلى خيمة، ومن خباء إلى خباء، والمنادي ينادي أحرقوا بيوت الظالمين"(اللؤلؤ والمرجان في آداب أهل المنبر، الميرزا حسين النوري: ص 215).

فهل يعقل أن نصدقه في مثل الإمام السجاد (ع) العالم الذي لم تفارقه كلمات أبيه الحسين (ع) الشهيرة لعمته زينب (ع) حيث طلب منها أن لا تشمت به الأعداء "يا أختاه إِنِّي أَقْسَمْتُ عَلَيْكِ فَأَبِرِّي قَسَمِي إِذَا أَنَا قُتَلَتُ فَلَا تَشُقِّي عَلَيَّ جَيْباً، وَلَا تَخْمِشِي عَلَيَّ وَجْهاً، وَلَا تَدْعِي عَلَيَّ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ". وكان (ع) في أقصى حالات التّماسك حتى عندما كان يذهب إلى الشّهداء في ساحة المعركة، ويتحدّث أحد الرواة عن حالته في ذلك الموقف الذي برز فيه إلى الأعداء، فيقول: "فَوَاللهِ مَا رَأَيْتُ مكثوراً قَطُّ قَدْ قُتِلَ وِلْدُهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَأَصْحَابُهُ، أَرْبَطَ جأشاً وَلَا أَمْضَى جِنَاناً وَلَا أَجْرَأَ مُقدِماً مِنْهُ. وَاللهِ مَا رَأَيْتُ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَلَقَدْ كَانَتِ الرِّجَالُ تَشُدُّ عَلَيْهِ فَيَشُدُّ عَلَيْهَا بِسَيْفِهِ، فَتَنْكَشِفُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ انْكِشَافَ الْمِعْزَى إِذَا شَدَّ فِيهَا الذِّئْبُ".

فالسجاد (ع) ابن أبيه، وهو أرفع مقاماً، وأجل شأناً أن تدفعه المصائب للجزع وفقدان الصبر، إني اعتقد أنّ هذه العبارة فيها ذم غير مباشر لمقام الإمامة، ودورها الريادي القائد؛ فالإمامة تعني الشجاعة والصبر والاستقامة في دنيا الناس، وبدونها لا يكون الإمام إماماً.

أيها الأحبة ..

هذا الدور السلبي الذي رسمته بعض الروايات للإمام علي بن الحسين (ع)، ندرك حينها لماذا أهملت المصادر التاريخية دور الإمام السجاد (ع) في كربلاء، بل ادعت أنه لم يشارك في القتال لعلة أصابته منعته من القتال، إلا أنّ أقدم نص مأثور لدينا، يذكر أنّ الإمام السجاد (ع) قد قاتل في ذلك اليوم، وقد جرح.

فقد جاء في كتاب (تسمية من قتل مع الحسين (ع) من أهل بيته وأخوته وشيعته) والذي جمعه الفضيل بن الزبير الأسدي الرسان -من أصحاب الإمامين الباقر والصادق (ع)- فقد ذكر ما نصه: "وكان علي بن الحسين عليلاً، وارتُثّ، وقد حضر بعض القتال، فدفع الله عنه، وأخذ مع النساء"(مجلة تراثنا: عدد 2 ص 112). والمرتث: هو الجريح إذا حمل من المعركة وبه رمق لأنّه حينئذ يكون ضعيفاً.

أيها الأحبة..

وهذا ما يجعلنا نؤكد أنَّ أهل الحديث هم رواة حديث فقط، من دون تحقيق في متن ما ينقلونه عن أئمة أهل البيت (ع). وأنَّ صحة السند في حديث ليس بالضرورة ينبئ عن صحة المتن، ولا عكس، لأنَّ المتن بما هو متن لا حجية معه، وإنما حجيته في صحة النقل الوارد إلينا.

وللمفسّر العلامة الطباطبائي (ت 1402ﻫ) كلاما ضافياً ومهماً: "اقبال عموم المسلمين على الحديث والمحدِّثين بأكثر مما تستلزمه الحاجة الحقيقية. وقد كان من الطبيعي أن يكون من بين هؤلاء المحدِّثين مجموعة من الباحثين عن الجاه والمنفعة دفَعهم إقبال الناس المتزايد على الحديث للطمع في كسب مزايا اجتماعية، فأخذوا يهيئون الحديث من أيّ مصدر كان -دونما تمحيص- وبأي مفهوم اتفق، أو أنهم بادروا إلى وضع الحديث تبعاً لميول المتنفِّذين ومقاصدهم في ذلك الوقت، مما أدّى إلى شيوع الوضع... لقد دسّت بين الحديث مجموعة من الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة وأصبحت في عداد الحديث المقبول، مما أدّى إلى أن تنفذ إلى المعارف والحقائق الإسلامية مجموعة من الخرافات، بعد أن كان رسول الله (ص) قد توفّر على ابانتها والتحذير منها. مثل هذه الأحاديث المندسّة يمكن تلمسها في أبواب الحديث المختلفة، وعلى الأخص في التفسير، وتأريخ الأنبياء وتأريخ الأمم السابقة، وباب الغزوات ووقائع صدر الإسلام. والحق؛ أننا نجد قصصاً وأموراً أخرى بين الحديث، لا يستطيع العقل السليم أن يقبلها.
لقد تنبأ رسول الله (ص) إنَّ مثل هذه المشكلة ستنتاب العالم الإسلامي بعد حين، ويصاب بها الإسلام بعد برهة؛ لذلك أمر أن تعرض الأحاديث على كتاب الله، وتقبل في ضوء انطباقها مع القرآن. بيد إنَّ الضجة الَّتي رافقت التقدم المذهل الَّذي أحرزه علم الحديث في المحيط الإسلامي، لم تدع -أبداً- الفرصة المناسبة لتنفيذ الأمر النبوي؛ مضافاً إلى أنه ليس لدى الرواة وناقلي الأحاديث فرصة العمل بذلك.
إنه مما يبعث على الدهشة حقاً أن تتفق كلمة المسلمين على مؤدّى حديث "العرض على كتاب الله" على نحو التواتر أو الاستفاضة، وأن يعترفوا في الوقت نفسه، إنَّ الحديث الشريف وإن كان صنو القرآن ورديفه إلا أنه لا حجِّية  له إلا أن يوافق كتاب الله، ولكن مع ذلك تثبت أية دعوة بمجرد نقل حديث واحد في مضمونها، ويقبل أيّ موضوع وإن كان خرافياً بدلالة خبر واحد، ويحسب في زمرة الحقائق...".




الاثنين، 16 سبتمبر 2019


** الفن رئة الحب **

 ربما سنجد الكثير ممن يحجم عن تناول أهمية الفن في حياة الإنسان، بل ضرورته، بل فطرته الملتصقة بحياة الإنسان من المبدأ إلى المنتهى.. والسبب في ذلك أنهم لم يدركوا وظيفة الفن ومهمته ودوره المهم في تكوين شخصية الإنسان النفسية والصحية وتشكله به.

وسنجد عندئذ آراءً متفاوتة؛ بعضها تقترب من الحقيقة فتجعل من الفن طقساً مقدساً ملتصقاً بقلب الإنسان ووجدانه وعقله، وبعضها الآخر تبتعد عن الحقيقة ابتعاداً منفراً فتجعل منه المدنس الذي يتحمل كل الإثم والعصيان.

إنني مؤمن -بكل وجداني- أنّ الفن نعمة وهبة تشعّ بسخاء المعطي، وتغمر بهذا السخاء الإنسانية، بل الخليقة التي تحظى بها.. فيمنح الخالق المبدع عطاياه بفضل نعمته، ويجد من ينال هبته حظوة ورضىً أمامه سبحانه وتعالى.

وأؤمن أنَّ ما وصلتنا من حضارة قديمة كان سببه نعمة ما خلَّفه الإنسان القديم من رسومات ونقوشات على الحجارة والأخشاب؛ كما في حضارة الرافدين وحضارة النيل، مما يجعلنا نقف بخشوع عند أمر مهم جداً، وهو أنَّ أول أبجديات الخطاب الإنساني على هذا الكوكب هو الرسم والنقش؛ فكانت تلك الرسوم والنقوش المفتاح الأول للترقي إلى اختراع الكتابة بعد آلاف السنين، ومعنى ذلك أنَّ الإنسان خُلق ليكون فناناً، وليعبِّر عن فنه بالقلم، سواء كان صورة أو أبجدية.

وليس من العبث أن تكون طفولتنا الأولى ملتصقة بالفن، فالطفل يهتز للصوت وللموسيقى وللمنحوتات التي هي على شكل ألعاب، وبه يبدأ الطفل في استعمال الجانب الخيالي من نشاطه العقلي والمعرفي؛ فالقدرة التخيلية عنده هي المسيطرة، ونشاطه الخيالي هو المبدع في هذه اللحظة من سني حياته الأولى.. وكأنَّ الفن والخيال لا ينفك عن هذا الطفل حتى يصيبه التكلس بسبب عدم وعينا لأهمية الفن في استمرار وعي الطفل وخياله.

في الأصل كانت كلمة، لكن عبَّر عنها الإنسان بأحاسيسه ووجدانه عن طريق الرسم والنحت والنقش.. فلماذا إذن يعيب بعضنا -ونحن في هذا العصر المذهل- أن يكون الإنسان فناناً حالماً، وأن يتناص من خلال ثقافته مع تلك الفنون التي تعبِّر عن فطرته التي هي هبة الله في خلقه، ونعمة النعم، وعلى حدِّ تعبير العلامة الغزالي في إحيائه: "من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج".

ومهما يكن من أمر واختلاف، فما هذه الأحاديث التي يمكن أن تسمعها إلا صدى لآراء الفلاسفة والفقهاء عبر التاريخ الطويل، في أهمية وظيفة الفن ودوره في تشكل شخصية الإنسان.. ولا شك أنّ الكثير من المناقشات مبالغ فيها، بل في أغلبها لها جذورها الأيديولوجية.

وأؤمن -أيضاً- أنّ الفن يعطي الإيمان قوة ونشاطاً لإنجاز الأعمال؛ لأنه قائم على قاعدة راسخة وهي (المحبة).. فبهذه النعمة يولد المرء ولادة جديدة، تعطي للحياة الروح الذي يحيي قلب الإنسان مع خالقه سبحانه.

وكلما كان المذهب ملاصقاً للروح والعقل والحياة، ظهرت طرائقه في صورة إبداعية جمالية؛ مصاحبة بما فطر عليه الإنسان من صوت ومقامات ورسم وإبداع؛ يستلهمها الفنانون التشكيليون في إبداعاتهم المعاصرة وتغدو اتجاهاً فنياً له مريدوه .. ولقد تذوق الإنسان في الشرق، ومنذ الحضارة القديمة، حيث عثر على أحفورات ونقوش جدارية تمثل علاقة العبادة بطقوس الإنشاد والصوت.. يقول الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): "كان علي بن الحسين صلوات الله عليه أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان السقاؤون يمرون فيقفون ببابه يسمعون قراءته، وكان أبو جعفر (الباقر) عليه السلام أحسن الناس صوتاً -أي بالقرآن-".

لقد ازدهر الغناء الصوفي وموسيقاه في عهد الفاطميين، الذين يعتبرون أول من احتفل بعيد المولد النبوي الشريف وليلة الإسراء والمعراج ويوم الفطر والنحر ومولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والزهراء وولديهما الحسن والحسين وغيرها.. ومنها انتشر في بلاد فارس، وحتى يومنا هذا.

يقول العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله: "عندما ندرس التشريع الديني ونقارن المفاهيم التي نستنتجها من النصوص الدينية، لا نجد أنَّ هناك مشكلة في الدين مع الفن كمبدأ. لأنَّ الفن يمثل التعبير، تعبير إنساني في ما يعيشه الإنسان من أحاسيس ومشاعر وتصورات. أكثر من وضع إنساني في الانفتاح على الصورة أو على الواقع أو على حركة العلاقات وما إلى ذلك<.

وأشار إلى أنَّ قبح أي فن من الفنون هو قبح فاعلي، في حالة القصد السلبي لدى الفاعل.. ولفت رحمه الله إلى >أنَّ السيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام قال: {أنّي أخلُق لكم من الطّين كهيئة الطّير فأنفخ فيه فيكون طيراً باذن الله}، فلو كان صنع تمثال الحيوان محرّماً، لما أقدم عليه النبي عيسى عليه السلام حتى وهو يقوم بالمعجزة".

ولقد شبَّه الإمام علي الخامنئي الفن بـ(الوجد) فقال: "هذا الوجد والعشق بدوره مسؤولية، وهو بمثابة اليد القوية التي تفرض على الإنسان فعل شيء، ولا تسمح للكسل والارتخاء أن تقعده عن الإنتاج".

فالفن رئة الحب. وله قدرة تعبيرية تفوق إمكانات اللغة. ولهذا يحرم القضاء على الفنون الإنسانية للشعوب؛ لأنها تعبر عن نسيج حضاري متصل في التاريخ الإنساني، بين الماضي والحاضر، وتعبر عن هوية الإنسان وثقافته.. وإنَّ معاناة الرسام والفنان، أشبه بمعاناة العاشق؛ فهو يعيش العشق المتكرر مع كل لوحة جديدة.

وأخيراً نحتاج بصدق أن نتذوق الفن لنتوازن.. لأنه النشاط الإنساني الحتمي الذي يحتل جزءً مهماً من التركيب البشري، ولا يمكن الفصل بينه وبين الإنسان، وله ضرورته القصوى في حفظ التوازن الوجداني لدى الإنسان للمحافظة على حياته من الفناء أو الانقراض.. إذن، لا بدَّ للعقل أن يتذوق (الفن) سَكْرة الحب، فإذا سَكَرَ كان قادراً على تلمس التوازن الأعمق لوجوده في حضرة الله سبحانه.

فإذا كان قدر السيف أن يكون جهاداً!! فإنَّ قدر الفن والحبِّ هو أعلى أوسمة الجهاد؛ فالفنُ والحب نسكٌ عملي، هو اليد الممدودة في الظلام، تبحثُ عن نفحة رحمة تحولها إلى يد تهب النعم.. ألم يعلنها رسول الله محمد بن عبد الله (ص)، حينما رجع من معركة بدر منتصراً، فقال: "رجعنا من الجهاد الأصغر، إلى الجهاد الأكبر"، فقالوا: وهل هناك جهاد أعظم من جهاد الكفار؟ قال: "نعم. جهاد النفس".

فهل يمكن لإنسان أن يقوم بعملية بناء لشخصيته من دون (فن)؟

وهل يستطيع أن يشذِّب ويهذِّب من سلوكه وأقواله كي يصبح عامل تطور وازدهار في المحيط المجتمعي الذي يتحرك فيه من دون (فن)؟

ولكن قبل ذلك كيف يبني الإنسان شخصية اجتماعية جذابة من دون (فن)؟

محرم 1447 في الصحافة الكويتية