** الفن رئة الحب **
وسنجد عندئذ
آراءً متفاوتة؛ بعضها تقترب من الحقيقة فتجعل من الفن طقساً مقدساً ملتصقاً بقلب الإنسان
ووجدانه وعقله، وبعضها الآخر تبتعد عن الحقيقة ابتعاداً منفراً فتجعل منه المدنس
الذي يتحمل كل الإثم والعصيان.
إنني مؤمن
-بكل وجداني- أنّ الفن نعمة وهبة تشعّ بسخاء المعطي، وتغمر بهذا السخاء الإنسانية،
بل الخليقة التي تحظى بها.. فيمنح الخالق المبدع عطاياه بفضل نعمته، ويجد من ينال
هبته حظوة ورضىً أمامه سبحانه وتعالى.
وأؤمن أنَّ
ما وصلتنا من حضارة قديمة كان سببه نعمة ما خلَّفه الإنسان القديم من رسومات
ونقوشات على الحجارة والأخشاب؛ كما في حضارة الرافدين وحضارة النيل، مما يجعلنا
نقف بخشوع عند أمر مهم جداً، وهو أنَّ أول أبجديات الخطاب الإنساني على هذا الكوكب
هو الرسم والنقش؛ فكانت تلك الرسوم والنقوش المفتاح الأول للترقي إلى اختراع
الكتابة بعد آلاف السنين، ومعنى ذلك أنَّ الإنسان خُلق ليكون فناناً، وليعبِّر عن
فنه بالقلم، سواء كان صورة أو أبجدية.
وليس من
العبث أن تكون طفولتنا الأولى ملتصقة بالفن، فالطفل يهتز للصوت وللموسيقى وللمنحوتات
التي هي على شكل ألعاب، وبه يبدأ الطفل في استعمال الجانب الخيالي من نشاطه العقلي والمعرفي؛
فالقدرة التخيلية عنده هي المسيطرة، ونشاطه الخيالي هو المبدع في هذه اللحظة من
سني حياته الأولى.. وكأنَّ الفن والخيال لا ينفك عن هذا الطفل حتى يصيبه
التكلس بسبب عدم وعينا لأهمية الفن في استمرار وعي الطفل وخياله.
في
الأصل كانت كلمة، لكن عبَّر عنها الإنسان بأحاسيسه ووجدانه عن طريق الرسم والنحت
والنقش.. فلماذا إذن يعيب بعضنا -ونحن في هذا العصر المذهل- أن يكون الإنسان
فناناً حالماً، وأن يتناص من خلال ثقافته مع تلك الفنون التي تعبِّر عن فطرته التي
هي هبة الله في خلقه، ونعمة النعم، وعلى حدِّ تعبير العلامة الغزالي في إحيائه:
"من لم يحرّكه الربيعُ
وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج".
ومهما يكن
من أمر واختلاف، فما هذه الأحاديث التي يمكن أن تسمعها إلا صدى لآراء الفلاسفة والفقهاء
عبر التاريخ الطويل، في أهمية وظيفة الفن ودوره في تشكل شخصية الإنسان.. ولا شك أنّ
الكثير من المناقشات مبالغ فيها، بل في أغلبها لها جذورها الأيديولوجية.
وأؤمن -أيضاً-
أنّ الفن يعطي الإيمان قوة ونشاطاً لإنجاز الأعمال؛ لأنه قائم على قاعدة راسخة وهي
(المحبة).. فبهذه النعمة يولد المرء ولادة جديدة، تعطي للحياة الروح الذي يحيي قلب
الإنسان مع خالقه سبحانه.
وكلما كان المذهب ملاصقاً للروح والعقل والحياة،
ظهرت طرائقه في صورة إبداعية جمالية؛ مصاحبة بما فطر عليه الإنسان من صوت ومقامات ورسم
وإبداع؛ يستلهمها الفنانون التشكيليون في إبداعاتهم المعاصرة وتغدو اتجاهاً فنياً
له مريدوه .. ولقد تذوق الإنسان في الشرق، ومنذ الحضارة القديمة، حيث عثر على أحفورات
ونقوش جدارية تمثل علاقة العبادة بطقوس الإنشاد والصوت.. يقول الإمام جعفر بن محمد
الصادق (ع): "كان علي بن الحسين صلوات الله عليه
أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان السقاؤون يمرون فيقفون ببابه يسمعون قراءته، وكان
أبو جعفر (الباقر) عليه السلام أحسن الناس صوتاً -أي بالقرآن-".
لقد ازدهر الغناء الصوفي وموسيقاه في عهد
الفاطميين، الذين يعتبرون أول من احتفل بعيد المولد النبوي الشريف وليلة الإسراء
والمعراج ويوم الفطر والنحر ومولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والزهراء وولديهما
الحسن والحسين وغيرها.. ومنها انتشر في بلاد فارس، وحتى يومنا هذا.
يقول العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل
الله: "عندما ندرس التشريع الديني ونقارن المفاهيم التي نستنتجها من النصوص
الدينية، لا نجد أنَّ هناك مشكلة في الدين مع الفن كمبدأ. لأنَّ الفن يمثل
التعبير، تعبير إنساني في ما يعيشه الإنسان من أحاسيس ومشاعر وتصورات. أكثر من وضع
إنساني في الانفتاح على الصورة أو على الواقع أو على حركة العلاقات وما إلى ذلك<.
وأشار
إلى أنَّ قبح أي فن من الفنون هو قبح فاعلي، في حالة القصد السلبي لدى الفاعل.. ولفت
رحمه الله إلى >أنَّ السيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام قال: {أنّي
أخلُق لكم من الطّين كهيئة الطّير فأنفخ فيه فيكون طيراً باذن الله}، فلو كان صنع تمثال الحيوان
محرّماً، لما أقدم عليه النبي عيسى عليه السلام حتى وهو يقوم بالمعجزة".
ولقد شبَّه الإمام علي الخامنئي الفن بـ(الوجد)
فقال: "هذا الوجد والعشق بدوره مسؤولية، وهو بمثابة اليد القوية التي
تفرض على الإنسان فعل شيء، ولا تسمح للكسل والارتخاء أن تقعده عن الإنتاج".
فالفن رئة الحب. وله قدرة تعبيرية تفوق
إمكانات اللغة. ولهذا يحرم القضاء على الفنون الإنسانية للشعوب؛ لأنها تعبر عن
نسيج حضاري متصل في التاريخ الإنساني، بين الماضي والحاضر، وتعبر عن هوية الإنسان
وثقافته.. وإنَّ معاناة الرسام والفنان، أشبه بمعاناة العاشق؛ فهو يعيش العشق
المتكرر مع كل لوحة جديدة.
وأخيراً نحتاج بصدق أن نتذوق الفن لنتوازن.. لأنه
النشاط الإنساني الحتمي الذي يحتل جزءً مهماً من التركيب البشري، ولا يمكن الفصل
بينه وبين الإنسان، وله ضرورته القصوى في حفظ التوازن الوجداني لدى الإنسان
للمحافظة على حياته من الفناء أو الانقراض.. إذن، لا بدَّ للعقل أن يتذوق (الفن) سَكْرة
الحب، فإذا سَكَرَ كان قادراً على تلمس التوازن الأعمق لوجوده في حضرة الله سبحانه.
فإذا كان قدر السيف أن يكون جهاداً!!
فإنَّ قدر الفن والحبِّ هو أعلى أوسمة الجهاد؛ فالفنُ والحب نسكٌ عملي، هو اليد
الممدودة في الظلام، تبحثُ عن نفحة رحمة تحولها إلى يد تهب النعم.. ألم يعلنها رسول
الله محمد بن عبد الله (ص)، حينما رجع من معركة بدر منتصراً، فقال: "رجعنا من الجهاد الأصغر،
إلى الجهاد الأكبر"، فقالوا: وهل هناك جهاد أعظم من جهاد
الكفار؟ قال: "نعم. جهاد النفس".
فهل يمكن لإنسان أن يقوم بعملية بناء لشخصيته
من دون (فن)؟
وهل يستطيع أن يشذِّب ويهذِّب من سلوكه
وأقواله كي يصبح عامل تطور وازدهار في المحيط المجتمعي الذي يتحرك فيه من دون (فن)؟
ولكن قبل ذلك كيف يبني الإنسان شخصية
اجتماعية جذابة من دون (فن)؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق