السبت، 26 فبراير 2022


 

في الإسراء والمعراج والمبعث

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الإسراء: 1].

أولاً: تسمية السورة:

لقد جاء اسم هذه السورة (الإسراء) عنواناً للحدث المعجز الذي جرى للنبي (ص)، في ما قصَّه الله سبحانه علينا في أول آية من السورة، عندما أسرى به الله إلى السماوات العلى، في ما ذكرته السيرة في حديث المعراج.

وأطلق على هذه السورة أيضاً اسم (سورة بني إسرائيل)؛ لأنّها تحدثت عن جانب مهم من سلوكهم المنحرف، الذي كان سبباً لغضب الله عليهم.

ثانياً: روايات الإسراء:

لقد أجملت هذه الآية مسألة الإسراء، ولم تفصِّل شيئاً من حوادثه، ولكنها حافظت على روح المعنى بشكل رمزي مبهر، بيد أنَّ الروايات المستفيضة أفاضت في الحديث عن ذلك.

فقد روى هذه الحادثة جم غفير من الصحابة، منهم: علي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وعائشة، وحذيفة بن اليمان، وأبو أيوب الأنصاري، وجابر بن عبد الله، وأم سلمة، وأم هانئ، وأنس بن مالك، وشداد بن أولى، وأبو هريرة، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وأبي بن كعب، وسمرة بن جندب، وصهيب بن سنان، وسهلان بن سعد، وأبو الدرداء، وأسماء بنت أبي بكر، أبو سعيد الخدري..

ويقول العلامة السيد محمد حسين فضل الله رحمه الله: "ربما طغى جو الخيال على الكثير مما ذكر في خصوصياتها، وذلك ما نلاحظه في بعض القضايا التي قد لا يستطيع الباحث تفسيرها بطريقة معقولة، لا سيما في ما أفاض فيه المحدثون عن قصة المعراج ليلة الإسراء، رغم أنّ الحدث امتد إلى وقت قصير لا يسمح بتغطية ذلك كله، لأنّ المسألة إذا كانت تحمل الإعجاز في طبيعتها، فإنها تبقى في دائرة القدرة المحدودة للنبي في خصوصيات بشريته التي تخضع لعامل الزمان والمكان، لا سيّما وأنّ الإسراء كان بالجسد كما هو معروف بينهم".

وقد تكون الرواية التي رواها الشيخ الصدوق، في أماليه، هي أكثر الروايات اختصاراً وأقربها إلى الاعتبار، فقد روى الصدوق، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبان بن عثمان، عن أبي عبد الله جعفر الصادق (ع) قال: "لمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ (ص) إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَمْلُه جَبْرَئِيلُ عَلَى الْبُرَاقِ، فَأَتَيَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَعُرِضَ عَلَيْهِ مَحَارِيبُ الْأَنْبِيَاءِ، وَصَلَّى بِهَا وِرْدَهُ، فَمَرَّ رَسُولُ اللهِ (ص) فِي رُجُوعِهِ بَعِيرٍ لِقُرَيْشٍ، وَإِذَا لَهُمْ مَاءٌ فِي آنِيَةٍ وَقَدْ أَضَلّوا بَعِيرًا لَهم وَكَانُوا يَطْلُبُونَه، فَشَرِبَ رَسُولُ اللهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ وَأَهْرَقَ بَاقِيِه.

فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ (ص) قَالَ لِقُرَيْشٍ: إنَّ اللهَ جَلَّ جَلَالُهُ قَد أَسْرَى بِي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَرَانِي آثَارَ الْأَنْبِيَاءِ ومَنَازِلَهم، وَإِنِّي مَرَرْتُ بَعِيرٍ لِقُرَيْشٍ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ أَضَلّوا بَعِيرًا لَهُم، فَشَرِبْتُ مِنْ مَائِهِمْ وأَهْرَقْتُ بَاقِي ذَلِكَ.

فَقَال أبو جهل: قَد أمكنتكم الْفُرْصَةُ مِنْه، فَاسْأَلُوهُ كَمْ الْأَسَاطِينُ فِيهَا وَالْقَنَادِيلُ؟

فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إنَّ هَهُنَا مَنْ قَدْ دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَصِفْ لَنَا كَمْ أَسَاطِيِنَهُ وقَنَادِيِلَهُ وَمَحَارِيِبَهُ؟

فَجَاء جَبْرَئِيل(ع) فَعَلَّقَ صُورَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ تجَاهَ وَجْهِهِ، فَجَعَل يُخْبِرُهُمْ بِمَا يَسْأَلُونَه عَنْه، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ قَالُوا: حَتَّى يَجِئَ الْعِيرُ وَنَسْأَلُهم عَمَّا قُلْتَ؟!

فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ (ص): تَصْدِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الْعِيرَ تَطْلُعُ عَلَيْكُمْ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، يَقْدِمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ.

فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ، أَقْبَلُوُا يَنْظُرُونَ إلَى الْعَقَبَةِ وَيَقُولُونَ: هَذِهِ الشَّمْسُ تَطْلُعُ السَّاعَةَ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ، إذْ طَلَعَتْ عَلَيْهِمْ الْعِيرُ حِينَ طَلَعَ الْقُرْصُ، يَقْدِمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ، فَسَأَلُوهُمُ عَمَّا قَالَ رَسُولُ اللهِ (ص)، فَقَالُوا: لَقَدْ كَانَ هَذَا؛ ضَلَّ جَمَلٌ لَنَا فِي مَوْضِع كَذَا وَكَذَا، وَوَضَعْنَا مَاءً فَأَصْبَحْنَا وَقَد أُهْرِيقَ الْمَاءُ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ إلَّا عَتَوْاً" (أمالي الصدوق: ص 448).

صحيحة محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا (ع)، قال: "قَالَ رَسُولُ الله (ص): لَمَّا أُسْرِيَ بِي إِلَى السَّمَاءِ، بَلَغَ بِي جَبْرَئِيلُ مَكَانًا لَمْ يَطَأْهُ قَطُّ جَبْرَئِيلُ، فَكَشَفَ لَه فَأَرَاه اللهُ مِنْ نُورِ عَظَمَتِه مَا أَحَبَّ" (الكافي: ج 1  ص98.).

صحيحة عبد العظيم الحسني، عن الجواد (ع)، عن أبيه، عن جده (ع)، قال: "قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع): قَالَ رَسُولُ اللهِ (ص): ... فَإِنَّهُ لَمَّا أُسْرِيَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَنَسَبَنِي جَبْرَئِيلُ (ع) لِأَهْلِ السَّمَاءِ، اسْتَوْدَعَ اللهُ حُبِّي وَحُبَّ أَهْلِ بَيْتِي وَشِيعَتِهِمْ فِي قُلُوبِ الْمَلَائِكَةِ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ وَدِيعَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ هَبَطَ بِي إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَنَسَبَنِي إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَاسْتَوْدَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ حُبِّي وَحُبَّ أَهْلِ بَيْتِي وَشِيعَتِهِمْ فِي قُلُوبِ مُؤْمِنِي أُمَّتِي فَمُؤْمِنُو أُمَّتِي يَحْفَظُونَ وَدِيعَتِي فِي أَهْلِ بَيْتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَلَا فَلَوْ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ أُمَّتِي عَبَدَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عُمُرَهُ أَيَّامَ الدُّنْيَا، ثُمَّ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُبْغِضاً لِأَهْلِ بَيْتِي وَشِيعَتِي، مَا فَرَّجَ اللهُ صَدْرَهُ إِلَّا عَنِ النِّفَاقِ" (الكافي: ج 2 ص 46).

صحيحة أبان بن تغلب، عن الباقر (ع)، قال: لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ (ص) قَالَ: يَا رَبِّ، مَا حَالُ الْمُؤْمِنِ عِنْدَكَ؟ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّاً فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَ أَنَا أَسْرَعُ شَيْءٍ إِلَى نُصْرَةِ أَوْلِيَائِي وَ مَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ كَتَرَدُّدِي عَنْ وَفَاةِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَ أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَ إِنَّ مِنْ عِبَادِيَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْغِنَى وَ لَوْ صَرَفْتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَهَلَكَ وَ إِنَّ مِنْ عِبَادِيَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْفَقْرُ وَ لَوْ صَرَفْتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَهَلَكَ وَ مَا يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَيَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّافِلَةِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ إِذاً سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَ بَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَ لِسَانَهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ وَ يَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا إِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ. (الكافي: ج 2 ص 352).

ثالثاً: مضامين هذه الآية الشريفة:

1 . كثرة التسبيح:

ولقد حُفّت السورة كلها بالتسبيح والتحميد قبلها وبعدها ولعل في هذا إشارة إلى أنّ النبي (ص) سينُقل إلى مكان وعالم كله تسبيح.

ولقد ورد التسبيح في القرآن الكريم في سور شتى:

·                ورد بصيغة الفعل الماضي: {سَبَّحَ لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد: 1].

·                وورد بصيغة فعل المضارع: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة: 1].

·                وورد بصيغة فعل الأمر: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74].

·                وورد بتعدية الفعل نفسه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1]، {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح: 9]، وبالباء {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74].

·                وورد بلفظ تسبيح وتسبيح اسمه {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} [الأعلى: 1] فنحن نسبّحه ونسبّح له ونسبّح باسمه ونسبّح بحمده {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3].

فالمجيء بالمصدر (سُبْحَانَ) يفيد الإطلاق بدون تقيِّد بزمن أو بفعل أو بفاعل. فمعنى "سبحانه": أي تنزّه الله تعالى تنزيهاً مطلقاً، فليس له شَبَه أو مثيل فيما خلق، لا في الذات؛ فلا ذات كذاته. ولا في الصفات؛ فلا صفات كصفاته. ولا في الأفعال؛ فليس في أفعال خلقه ما يشبه أفعاله تعالى.

فنزّه الله أن يكون وجوده كوجودك؛ لأنَّ وجودك من عدم، وليس ذاتياً فيك، ووجوده سبحانه ليس من عدم، وهو ذاتي فيه سبحانه. فذاته سبحانه لا مثيل لها، ولا شبيه في ذوات خلقه. وكذلك نزّه الله أن يكون فعله كفعلك.

إذن كلمة (سُبْحَانَ) جاءت هنا لتشير إلى أنَّ ما بعدها أمر خارج عن نطاق قدرات البشر، فإذا ما سمعته لا تقل: كيف يحدث هذا؟! بل نزّه الله أن يشابه فعله فعل البشر، فإن قال لك: إنه أسرى بنبيه محمد (ص) من مكة إلى بيت المقدس في ليلة، مع أنهم يضربون إليها أكباد الإبل شهراً، فإياك أن تنكر. فربك لم يقل: سرى محمد، بل أسرى به. فالفعل ليس لمحمد ولكنه لله، ومادام الفعل لله فلا تخضعه لمقاييس الزمن لديك، ففعل الله ليس علاجاً ومزاولة كفعل البشر.

والافتتاح بـ(سُبْحَانَ) طبع هذه السورة بجو التسبيح وشاع فيه ذكر التسبيح {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء: 43]، {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الإسراء: 44]، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] وهي أوسع وأشمل توسيع على الإطلاق.

وليس هناك في القرآن كله سورة شاع فيها التسبيح كما شاع في سورة الإسراء ولا توجد سورة تضاهيها في التسبيح ولعلها إشارة إلى أنّ الرسول (ص) سينتقل إلى عالم وجو مليء بالتسبيح {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20].

2 - نسبة فعل الإسراء إلى الله:

{الَّذِي أَسْرَى} من السري، وهو السير ليلاً. فالله سبحانه وتعالى هو الذي أسرى بعبده، فالفعل لله تعالى، وليس لحبيبه محمد (ص) فلا يمكن أن نقيس الفعل بمقياس البشر، بل علينا أن ننزه فعل الله عن أفعالنا..

لأننا إذا لم ننزه هذا الفعل فحينئذ سنكون في ضمن دائرة المكذبين لهذه الحادثة، عيناً كما استقبل أهل مكة هذا الحدث استقبال المكذب فقالوا: كيف هذا ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً!! ولكنّ رسول الله (ص) لم يدعِّ أنه سرى بل قال: أسري بي.

ومن تكذيب كفار مكة لرسول الله (ص) في رحلة الإسراء والمعراج نأخذ رداً جميلاً على هؤلاء الذين يخوضون في هذا الحادث بعقول ضيقة سطحية في عصرنا الحاضر، فنسمع منهم من يقول: إنّ الإسراء كان مناماً، أو كان بالروح دون الجسد.

ونقول لهؤلاء: لو قال محمد لقومه: "أنا رأيت في الرؤيا بيت المقدس" هل كانوا يكذبون؟! ولو قال لهم: "لقد سبحت روحي الليلة حتى أتت بيت المقدس" أكانوا يكذبونه؟!

ولكن في إنكار الكفار على رسول الله وتكذيبهم له دليل على أنّ الإسراء كان حقيقة تمت لرسول الله (ص) بروحه وجسده، وكأنّه سبحانه ادخر الموقف التكذيبي لمكذبي الأمس، ليرد به على مكذبي اليوم.

3 - العبودية الحقة مفتاح للإسراء:

{بِعَبْدِهِ}: لم يقل برسوله ولا بمحمد وإنّما قال بعبده. والاختيار لكلمة (بعبده) له جملة معاني:

أ . أنّ الإنسان مهما عظُم لا يعدو أن يكون عبداً لله تعالى لا ينبغي لأحد أن يدّعي مقاماً ليس للآخرين وحتى لا يعظم أكثر مما ينبغي، كما فعل النصارى بعيسى (ع)، فاختيار كلمة عبد حتى لا يُدعى له مقام غير مقام العبودية. فمقام العبودية لله هو أعلى مقام للخلق، وأعلى وسام يُنعم الله تعالى به على عباده الصالحين، تماماً كما وصفت الآيات نوح (ع): {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء: 3]، وأيوب: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44]، والرسول (ص): {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ} [الجـن: 19].

ب . العبودية نوعان: قسرية واختيارية، فالعبودية القسرية تتحقق شاء أم أبى {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم: 93]، أما العبودية الاختيارية فهي أعلى مقام العبودية ولما ذُكر موسى (ع) ذكره الله تعالى باسمه وأعلى مقام لموسى كان في المناجاة {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً...} [لأعراف: 143]. لم يكن ليقل "خرّ عبدنا موسى" أو "جاء عبدنا موسى" فلا يجوز أن ينسب العبودية له ثم يخرّ صعقاً هذا لا يحدث ولا يجوز أصلاً، أما الرسول (ص) عندما ذكر بصورة العبودية أعقبها أنه عُرِج به إلى السماء وإلى سدرة المنتهى وخاطبه ربه بمقام لم يصل إليه أحد إلا هو (ص) فلذا كان استعمال كلمة {بِعَبْدِهِ} دلالة على زيادة التشريف له (ص)، والباء أيضاً إضافة تشريف وهي تدل على الرعاية والحفظ مثل قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10].

فكأنَّ كلمة (عبده) هي حيثية الإسراء. أي: أسرى به؛ لأنّه صادق العبودية لله، ومادام هو عبده فقد أخلص في عبوديته لربه، فاستحق أن يكون له ميزة وخصوصية عن غيره، فالإسراء والمعراج عطاء من الله استحقه رسوله بما حقق من عبودية لله.

4 - دلالات الزمان في هذه الحادثة:

{لَيْلاً}: حتى نفهم أنّ الرحلة الطويلة من البيت الحرام إلى المسجد الأقصى والعروج إلى السماء كانت كلها في جزء من الليل فقد جاءت كلمة {لَيْلاً} بدل (الليل) لأنّ الليل تدل على الليل كله أما الإسراء فقد تم في جزء من الليل فقط وليس الليل كله.

لماذا لم يحدث الإسراء نهاراً؟!

نقول: لتظل المعجزة غيباً يؤمن به من يصدق رسول الله (ص)، فلو ذهب في النهار لرآه الناس في الطريق ذهاباً وعودة، فتكون المسألة -إذن- حسية مشاهدة لا مجال فيها للإيمان بالغيب. لذلك لما سمع أبو جهل خبر الإسراء طار به إلى المسجد وقال: "إنّ صاحبكم يزعم أنه أسرى به الليلة من مكة إلى بيت المقدس" فمنهم من ضرب كفاً على كف مستسخفاً، ومنهم من ارتد...

لقد جعل الله هذا الحادث محكاً للإيمان والاختبار، لذلك قال تعالى في آية أخرى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] وهذا دليل آخر على أنّ الإسراء لم يكن مناماً، فالإسراء لا يكون فتنة واختباراً إلا إذا كان حقيقة لا مناماً، فالمنام لا يكذبه أحد ولا يختلف فيه الناس.

لكن لماذا قال عن الإسراء "رؤيا" يعني المنامية، ولم يقل "رؤية" يعني البصرية؟! قالوا: لأنها لما كانت عجيبة من العجائب صارت كأنها رؤيا منامية، فالرؤيا محل الأحداث العجيبة.

5 - دلالات المسجد في بداية الصعود:

{مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }: أكثر العلماء يقولون أنّ الإسراء لم يتم من المسجد الحرام وإنّما من بيت أم هانئ وفي هذا التفاتة إلى أنّ مكة كلها حرم.

{إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}: أسند سبحانه وتعالى المباركة لنفسه؛ للدلالة على التعظيم.

ولم يقل: "باركناه" بل قال "باركنا حوله"؛ لأنّه لو قال: "باركناه" لانحصرت المباركة بالمسجد فقط، أما "باركنا حوله" فهو يشمل كل ما حوله، وهو تعظيم للمسجد نفسه ولكنه إشارة أنّ المباركة حول المسجد أيضاً.

ولم يقل: "باركنا ما حوله" لأنها عندئذ تعني الأشياء فإذا زادت الأشياء زادت المباركة وإذا ذهبت ذهبت المباركة لكنّ المباركة كانت مطلقة تشمل أشياء معنوية وماديّة وروحانية بما أودع الله تعالى من رزق وخير وإرسال الرسل ولا تختص المباركة بشيء معين واحد وإنّما تشمل كل هذه الأشياء.

فالمقطع دليل على المبالغة في البركة..

لكن بأي شيء بارك الله حوله؟ لقد بارك الله حول المسجد الأقصى ببركة دنيوية، وبركة دينية: بركة دنيوية بما جعل حوله من أرض خصبة عليها الحدائق والبساتين التي تحوي مختلف الثمار. وبركة دينية وتتمثل في أنّ الأقصى مهد الرسالات ومهبط الأنبياء، تعطرت أرضه بأقدام إبراهيم وإسحق ويعقوب وعيسى وموسى وزكريا ويحيى، وفيه هبط الوحي وتنزلت الملائكة.

6 - الجائزة من الله لحبيبه محمد:

{لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا}: تدل على أنّ أفعاله سبحانه معلّلة ولغرض معيّن ولحكمة. ولم يقل ليرى أو ليُرى إنّما جاءت (لنُريه) وهذا إكرام وتشريف من الله تعالى لرسوله (ص) في هذا الرحلة. وإضافة الآيات إلى نفسه تعالى تأتي من باب الاحتفاء بالرسول (ص).

فكأنّ مهمة الإسراء من مكة إلى بيت المقدس أن نري رسول الله الآيات، وكلمة: الآيات لا تطلق على مطلق موجود، إنّما تطلق على الموجود العجيب، كما نقول: هذا آية في الحسن، آية في الشجاعة، فالآية هي الشيء العجيب.

ولله عز وجل آيات كثيرة منها الظاهر الذي يراه الناس، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ..} [فصلت: 37]، {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ} [الشورى: 32].

والله سبحانه يريد أن يجعل لرسوله (ص) خصوصية، وأن يريه من آيات الغيب الذي لم يره أحد، ليرى (ص) حفاوة السماء به، ويرى مكانته عند ربه الذي قال له:  [النحل: 127] لأنك في سعة من عطاء الله، فإن أهانك أهل الأرض فسوق يحتفل بك أهل السماء في الملأ الأعلى، وإن كنت في ضيق من الخلق فأنت في سعة من الخالق.

{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}: يمكن أن يكون المعنى: (سميع) لأقوال الرسول (بصير) بأفعاله، حيث آذاه قومه وكذبوه وألجوؤه إلى الطائف، فكان أهلها أشد قسوة من إخوانهم في مكة، فعاد منكراً دامياً..

إنّ حادثة الإسراء والمعراج كانت الحد الفاصل بين فترة الاستضعاف ومرحلة عزة الأمة وإقامة دولة الإسلام، فمن بين الدماء والآهات والأنات التي عاشها الكرام مع قائدهم الكبير محمد (ص)، امتدت يد القدر لتحمل رسول هذه الدعوة إلى السماوات العلى حيث سدرة المنتهى، ثم ليعود حاملاً بشرى الفرج القادم والانعتاق الآتي.

هل يتنافى العروج مع عقيدة التوحيد:

لقد تصدَّى أئمة أهل البيت (ع) لنفي ما قد يتوهمه الواهمون من أنَّ العروج بالنبي (ص) إلى السماء يتنافى مع ما عليه عقيدة التوحيد من أنَّ الله تعالى ليس في مكان. ومن هذه النصوص:

معتبرة يونس بن عبد الرحمن، قال: قلتُ لأبي الحسن موسى بن جعفر (ع): لأيِّ علة عرَجَ اللهُ بنبيِّه إلى السماء ومنها إلى سدرة المُنتهى، ومنها إلى حُجُبِ النور وخاطبَه وناجاه هناك والله لا يُوصفُ بمكان؟ فقال (ع): "إنَّ اللهَ لَا يُوصَفُ بِمَكَانٍ، وَلَا يَجْرِي عَلَيِهِ زَمَاَنٌ، وَلَكْنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَرَاَدَ أَنْ يُشْرِّفَ بِهِ مَلَائِكَتَهُ وَسُكَّانَ سَمَاوَاتِهِ، ويُكْرِمُهْمُ بِمُشَاَهَدَتِهِ. وَيُرِيِهِ مِنْ عَجَائِبِ عَظَمَتِهِ ما يُخْبِرُ بِهِ بَعْدَ هُبُوطِهِ، وَلَيْسَ ذَلكَ عَلَى مَاَ يَقُولُهُ المُشَبِّهُونَ، سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفْوُنَ" (التوحيد: ص 175).

ما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن أبي حمزة الثمالي، قال: سألتُ زينَ اَلْعَابِدِيِنَ عَلْيَ بنِ الحسين (ع) عَنْ اللهِ جَلَّ جَلالُهُ هل يُوصفُ بِمَكَانٍ؟ فقال (ع): "تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلْكَ" قُلتُ: فَلِمَ أُسْرِيَ بِنَبْيِّهِ مُحَمَّدٍ (ص) إِلْىَ الْسَماءِ؟ قال: "لِيُريِهِ مَلَكُوتَ الْسَمَاواتِ وَمَا فِيِهَا مِنْ عَجَائِبِ صُنْعِهِ وَبَدَائِعِ خَلْقِهِ" (الأمالي: ص 213-214).

فالغايةُ من الإسراء به إلى السماء هي تجلي سيدنا محمد (ص) من خلال إراءتُه لملكوتِ السماوات وما فيها من عجائبِ صُنعِ الله تعالى وبدائعِ خلقِه، كما أرى الله سبحانه ملكوت إحياء الطير لجده الخليل إبراهيم (ع).

وأما كيفيته فمجهول إلا ما كسف عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) أنَّه قال في الآية: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾: "انقطعت الكيفيَّة عن الدنوِّ؛ ألا ترى كيف حُجب جبرائيل عن دنوِّه، ودنا محمَّدٌ إلى ما أُودع قلبُه من المعرفة والإيمان، فتدلَّى بسكونِ قلبِه إلى ما أدناه، وزال عن قلبِه الشكُّ والارتياب" (شرح الشفا: ج 1 ص 436).

كلمة أخيرة:

ظهرت في سنوات سابقة كتابات مهمة تحمل نظرات توصف بأنها عقلانية حداثية، في تناولها للسيرة النبوية إجمالاً، ومنها حدث الإسراء والمعراج. وهذه الكتابات تنزع في عمومها إلى توظيف المعارف العلمية الحديثة في تناول هذا الحدث، من خلال علم التاريخ والأنثربولوجيا وعلم النفس الاجتماعي وغير ذلك من مفاهيم ومناهج العلوم الإنسانية الحديثة.

ويمكن اختصارها في تناول هذا الحدث:

1.(1) كونه مجرد رؤيا منامية، كما يذهب محمد عابد الجابري (في مدخله التفسيري ج 1 ص 166-167)، مستعيداً الرأي الكلامي الذي يذهب إلى أنَّ الرحلة النبوية كانت رحلة روحية وليست بالجسد.

2.(2) إلغاء هذا الحدث جملة وتفصيلاً كما يذهب إلى ذلك مثلاً هشام جعيط في دراسته للسيرة النبوية عبر كتابه (تاريخية الدعوة المحمدية في مكة: ص 93-141).

3.(3) ما يذهب إليه جورج طرابيشي في سعيه إلى إيقاظ العقل الإسلامي من سباته ونفي كل معجزة عن نبي الإسلام عدا القرآن باعتباره معجزة عقلية غير مادية (أنظر كتابه: المعجزة أو سبات العقل في الإسلام)؛ وذلك في نزوع إلى عقلنة فهم الإسلام عقلنة تطغى عليها نزعة تروم إلى نفي الغيب أو تقليص حضوره وأثره في التدين إلى أبعد مدى.

وفي نظري ما يحتاجه المؤمن هو مقاربة جديدة تضع معايير عقلانية للإيمان من أجل تمييز ما هو (متعالي) عن (التاريخي) في السيرة النبوية، وتمييز (الغيبي) عن (الخرافي) في الموروث التفسيري الديني، وتعمل كذلك على إنتاج خطابٍ يستند إلى المعرفة المتجددة من أجل كتابةٍ علميةٍ دقيقةٍ تاريخيةٍ في السيرة النبوية، ودون أن نقصي البعد الغيبي فيها؛ ذاك البعد الذي يجب أن يرتبط بـ(المتعالي) في النصوص الدينية ويغذي وهج الإيمان، دونما مناقضة أو مباينة لعقل المؤمن هنا.

وهو مسعى يقتضي الاجتهاد الفكري الحثيث، والإسهام المبدع في بناء فهم جديد لـ(المعجزة)، بموجبه يمكن تجديدُ الخطاب الديني الإسلامي في تعامله مع السيرة النبوية، وذلك بما يضمن للمؤمن معرفة علمية تاريخية بهذه السيرة من جهة، ويضمن له، من جهة ثانية، عدم إقصاء البعد الإيماني الذي تتيحه معرفةُ أقوال وأفعال وأحوال النبي الأكرم (ص)، و بالنتيجة عدم إغلاق الإمكانات اللانهائية التي تحفلُ بها هذه السيرةُ بما هي عنوان رحمة كونية متجددة، يمكن للعالم أن يستنبط منها ما به يضيء مستقبل الإنسان المعاصر المُطوَّق بتحديات ما تفتأ تهدد وجوده المادي والروحي على السواء.

الثلاثاء، 22 فبراير 2022


                  ملامح فكرية في حياة الإمام موسى الكاظم

نعيش هذه الأيام ذكرى وفاة الإمام موسى الكاظم (ع)، أحد أئمة أهل البيت الطاهرين (ع) الذين أمرنا جدهم الرسول الأكرم (ص) أن ننفتح على آفاقهم وفهمهم للإسلام، وأن نتحرك في الطريق الذي أرادوا أن نتحرك فيه لنبلغ الأهداف الكبرى التي أرادنا الله أن نبلغها في هدي سيد المرسلين (ص).

عاش الإمام موسى الكاظم (ع) حياة متحركة في الواقع الإسلامي امتّدت من عهد المنصور إلى هارون الرشيد.. وكانت الحركة الفكرية في ذلك الوقت تثير الكثير من علامات الاستفهام حول مفردات العقيدة من جهة، وحول خطوط الشريعة من جهة أخرى، وحول الواقع السياسي من جهة ثالثة.

لقد كانت هذه المرحلة لا تخلو من عنف سياسي وأمني؛ لأنَّ السلطة العباسية آنذاك كانت لا تزال تخشى الاتجاهات المضادة، وتواجهها بعنف إلى حدِّ الوحشية في التعذيب وإزهاق أرواح الناس في الزنزانات.

ولكنه رغم هذه الظروف عاش الإمام الكاظم (ع) هذه المرحلة، وقد استطاع أن يملأها علمًا وفكرًا وروحانية، وأن يرصد الانحرافات التي كانت تفرض نفسها على حركة الفكر الإسلامي ليصححّها ويقوّمها في الاتجاه الصحيح.

 

رؤية الإمام الكاظم لتوحيد الصفات:

لقد كانت هناك حركة فتية تتحدث عن الله، وعن صفاته، وهل هو جسم كبقية الأجسام أو هو جسم لا كالأجسام، أي أنه جسم من نوع آخر لا نعقله وليس كالأجسام التي يعرفها الناس في الموجودات المادية.

ولم يجلس الإمام الكاظم مكتوف اليد، بل دخل في هذه المعركة، فتحدَّث بأكثر من أسلوب وفي أكثر من فكرة، بحسب ما رصدناه من نصوص ومواقف واردة عنه (ع):


الموقف الأول: كما جاء في رجال الكشي، عن جعفر بن محمد بن حكيم الخثعمي، قال: اجتمع هشام بن سالم، وهشام بن الحكم، وجميل بن دراج، وعبد الرحمن بن الحجاج، ومحمد بن حمران، وسعيد بن غزوان، ونحو من خمسة عشر رجلًا من أصحابنا، فسألوا هشام بن الحكم أن يناظر هشام بن سالم فيما اختلفوا فيه من التوحيد وصفة الله عز وجل وغير ذلك لينظروا أيهما أقوى حجة.

فرضي هشام بن سالم أن يتكلم عند محمد بن أبي عمير، ورضي هشام بن الحكم أن يتكلم عند محمد بن هشام، فتكالما وساق ما جرى بينهما.

قال عبد الرحمن بن الحجاج لهشام بن الحكم: كفرت والله بالله العظيم وألحدت فيه، ويحك ما قدرت أن تشبه بكلام ربك إلا العود يضرب به!

قال جعفر ابن محمد بن حكيم، فكتب إلى أبي الحسن موسى (ع)؛ يَحْكِي لَهُ مُخَاطَبَتَهُمْ وَكَلَامَهُمْ، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ مَا الْقَوْلُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَدِينَ اللهَ بِهِ مِنْ صِفَةِ الْجَبَّارِ؟

فأجابه الإمام في عرض كتابه: "فَهِمْتُ -رَحِمَكَ اللهُ- وَاعْلَمْ -رَحِمَكَ اللهُ- أَنَّ اللهَ أَجَلُّ وَأَعْلَى وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُبْلَغَ كُنْهُ صِفَتِهِ، فَصِفُوهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَكُفُّوا عَمَّا سِوَى ذَلِكَ" (رجال الكشي: حديث 500).


هنا نجد أنَّ الإمام (ع) يريد أن يشير إلى أننا لن نستطيع أن نعرف الله في صفاته إلا من خلاله؛ لأنه لا يعرف الله حق معرفته إلا هو، فهو الذي أحاط بذاته ولم يحط بذاته أحد إلا من خلاله؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى هو المطلق الذي لا حدود لأية صفة من صفاته، ولهذا فإنَّ المحدود مهما كانت عظمته لا يستطيع أن يفهم حقيقة الله.

وعلى ضوء هذا فإنَّ الإمام (ع) يقول لنا إذا أردتم أن تعرفوا الله في صفاته فاعرفوه بما وصف به نفسه فإنَّ ما وصف به نفسه هو الذي يمكن لنا أن نطّل من خلاله على الحقيقة الكامنة في صفات الله، أما انتم فقد تصفون الله من خلال ما تتخيلونّه وتنظّرونه.


الموقف الثاني: عن الحسن بن عبد الرحمن الْحِمّانِيّ قال: قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (ع) إِنّ هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ زَعَمَ أَنّ اللهَ جِسْمٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، عَالِمٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ قَادِرٌ مُتَكَلّمٌ نَاطِقٌ، وَالْكَلَامُ وَالْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ يَجْرِي مَجْرَى وَاحِدٍ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مَخْلُوقًا!

فقال (ع): "قَاتَلَهُ اللهُ أَمَا عَلِمَ أَنَّ الْجِسْمَ مَحْدُودٌ وَالْكَلَامَ غَيْرُ الْمُتَكَلّمِ! مَعَاذَ اللهِ وَأَبْرَأُ إِلَى اللهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ؛ لَا جِسْمٌ وَلَا صُورَةٌ وَلَا تَحْدِيدٌ، وَكُلّ شَيْءٍ سِوَاهُ مَخْلُوقٌ، إِنّمَا تُكَوّنُ الْأَشْيَاءُ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ وَلَا تَرَدّدٍ فِي نَفَسٍ وَلَا نُطْقٍ بِلِسَانٍ" (الكافي: ج 1 ص 142).‏

عندما نريد أن ننفذ إلى صفات الله فإنَّ علينا أن لا نأخذ بأساليب الفلسفة في ذلك، لا سيما إذا عرفنا أنَّ الفلسفة الإسلامية في أصولها انطلقت من الفلسفة اليونانية، وبهذا فقد تختلط جذور الفلسفة اليونانية التي فرضت نفسها على كثير من مناهج الفلاسفة المسلمين، ولا أقول الفلسفة الإسلامية، في امتداد الواقع الإسلامي فيخيَّل إلينا أننا نقرأ فلسفة إسلامية في عناوين الإسلام ولكنها في العمق والمنهج قد تأخذ الكثير من ملامح الفلسفة اليونانية التي وُلدت في بيئة ثقافية أخرى تختلف عن البيئة الثقافية التي ولدت فيها الفلسفة الإسلامية..

وفي الوقت الذي نقدِّر فيه الفلاسفة المسلمين الذي درسوا الفلسفة اليونانية وحاولوا أن يسجّلوا ملاحظات عليها نرى أنَّ المنهج بقي يفرض نفسه على مدى التفكير، لذلك أراد الإمام (ع) من خلال ما نستوحيه من هذا الحديث أن يقول لنا إذا أردتم أن تأخذوا عقائدكم فخذوها من القرآن، لأنَّ الإمام أراد أن يؤكد على الفكر الذاتي في هذا المجال.

ففي النص يدّعي أنَّ "هشام بن الحكم زعم أنَّ الله جسم ليس كمثله شيء"، أي أنه جسم ليس كالأجسام التي يراها الناس في الموجودات المادية ولكنه جسم من نوع آخر.

وتابع هشام كلامه قال: "عَالِمٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ قَادِرٌ مُتَكَلّمٌ نَاطِقٌ، وَالْكَلَامُ وَالْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ يَجْرِي مَجْرَى وَاحِدٍ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مَخْلُوقًا". وكأنما الكلام الإلهي هو شيء في ذاته سبحانه، وكذلك القدرة والعلم لا فرق، وكأنَّ هشام لا يقول بخلق الكلام.


فردَّ الإمام الكاظم على هذه الفكرة بقوله:

  1.  قوله: "أَمَا عَلِمَ أَنَّ الْجِسْمَ مَحْدُودٌ".
  2.  قوله: "وَالْكَلَامَ غَيْرُ الْمُتَكَلّمِ" فلا يمكن أن يكون الكلام صفة في الذات بمعنى أن يكون داخلًا في تكوين الذات كما يظهر من كلام هشام.
  3. قوله: "مَعَاذَ اللهِ وَأَبْرَأُ إِلَى اللهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ؛ لَا جِسْمٌ وَلَا صُورَةٌ وَلَا تَحْدِيدٌ، وَكُلّ شَيْءٍ سِوَاهُ مَخْلُوقٌ، إِنّمَا تُكَوّنُ الْأَشْيَاءُ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ وَلَا تَرَدّدٍ فِي نَفَسٍ وَلَا نُطْقٍ بِلِسَانٍ" فليست كالكلمات التي تخطر في الذهن وتتردد في الفكر ثم تنطلق بعد ذلك، فالإمام (ع) يريد أن يصحّح هذه الفكرة المنحرفة التي تبتعد عن صفاء التوحيد في صفات الله.


وقد حكى الشريف المرتضى أنه سأل الشيخ المفيد عن هشام بن الحكم وما تحكيه عنه المعتزلة من التجسيم، ويوافقهم عليه بعض محدِّثي الشيعة ومشبهة العامة، وما يقال من أنَّ الشيعة إنما أخذوا نفي التشبيه من المعتزلة؛ فذكر المفيد أنَّ هذه الدعوى عرية من البرهان، وأنه ليس في أسلافهم من كان يدين بالتشبيه من طريق المعنى.. قال: "وإنما خالف هشام وأصحابه جماعة أبي عبد الله (ع) بقوله في الجسم؛ فزعم أنَّ الله تعالى "جسم لا كالأجسام". وقد روي أنه رجع عن هذا القول بعد ذلك، وقد اختلفت الحكايات عنه ولم يصح منها إلا ما ذكرت" (الحكايات في مخالفات المعتزلة من العدلية، والفرق بينهم وبين الشيعة الإمامية: ص 78-79).


الموقف الثالث: عن يعقوب بن جعفر الجعفري عن أبي إبراهيم موسى الكاظم (ع)، ذكر عنده قوم يزعمون أنَّ الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا.

فقال (ع): "إنَّ الله تبارك وتعالى لا ينزل، ولا يحتاج إلى أن ينزل، إنما منظره في القرب والبعد سواء، لم يبعد منه قريب ولم يقرب منه بعيد، ولم يحتج بل يحتاج إليه، وهو ذو الطول لا إلَه إلا هو العزيز الحكيم. أما قول الواصفين: إنه تبارك وتعالى ينزل! فإنما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة، وكل متحرك محتاج إلى من يحركه أو يتحرك به، فظن بالله الظنون فهلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حد فتحدوه بنقص أو زيادة أو تحرك أو زوال أو نهوض أو قعود، فإنَّ الله جلَّ عن صفة الواصفين ونعت الناعتين وتوهم المتوهمين" (التوحيد: ص 183).

وفي الكافي زاد في آخر الحديث: "وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين" (الكافي: ج 1 ص 125).


إنَّ هذه الفكرة كانت موجودة عند بعض المجسّمة وربما تصل إلى حد الخرافة في وصف الله تعالى؛ فهم يقولون انه ينزل على حمار بصورة شاب أمرد وما شاكل.. ومن جواب الإمام (ع) نلاحظ كيف رصد الانحراف في تصوِّر الله سبحانه وتعالى، وكيف وضع المسألة في نصابها التوحيدي بالدرجة التي جرَّدت الله سبحانه وتعالى عن كلِّ صفات الممكن ووجهت الناس أن لا يخوضوا في صفاته بما لا يملكون معرفته وعمقه بل إنَّ عليهم أن يصفوه بما وصف به نفسه فإنه أعرف بنفسه من مخلوقاته كلّها.


تصحيح بعض أفكار تلامذته من الوقوع في الغلو:

لقد كان أئمة أهل البيت (ع) ضد فكر الغلو والذي يراد به رفع مقامهم إلى مقامات لا يؤمنون بها، ومنها علمهم بالغيب.

نقل الكشّي عن محمد بن أبي عمير، عن ابن المغيرة قال: "كنت عند أبي الحسن [موسى] (ع) أنا ويحيى بن عبد الله بن الحسن (ع) فقال يحيى: جُعِلتُ فداك إنّهم يزعمون أنّك تعلم الغيب؟ فقال (ع): "سبحان الله، ضع يدك على رأسي، فوالله ما بقيت في جسدي شعرة ولا في رأسي إلا قامت". قال: ثمّ قال: "لا والله ما هي إلا رواية عن رسول الله (ص)"(رجال الكشي: حديث 530).

ومما يؤكد ذلك، الخبر المروي عن أبي عمرو عن حمدوية قال: حدّثنا يعقوب عن ابن أبي عمير عن شعيب عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (ع) إنّهم يقولون، قال: "وما يقولون؟" قلت: يقولون: تعلم قطر المطر وعدد النجوم وورق الشجر ووزن ما في البحر وعدد التراب. فرفع (ع) يده إلى السماء وقال: "سبحان الله، سبحان الله، لا والله ما يعلم هذا إلا الله". (رجال الكشي: حديث 532).

فقوله (ع): "وما يقولون؟" يدلّ على عدم علمه (ع) بالغيب، بالإضافة إلى مضمون الرواية، وإلا لما صحَّ منه الاستفهام.

وجاء في نهج البلاغة، أنَّ امير المؤمنين (ع) كان يُخبر عن ملاحم تحدث بالبصرة: فقال له بعض أصحابه: لَقَدْ أُعْطِيتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عِلْمَ الْغَيْبِ؟

فَضَحِكَ (ع) وَقَالَ لِلرَّجُلِ، وَكَانَ كَلْبِيًّا: "يَا أَخَا كَلْبٍ، لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ، وَإِنَّمَا عِلْمُ الْغَيْبِ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَمَا عَدَّدَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} الْآيَةَ. فَيَعْلَمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الْأَرْحَامِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَقَبِيحٍ أَوْ جَمِيلٍ وَسَخِيٍّ أَوْ بَخِيلٍ وَشَقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ وَمَنْ يَكُونُ فِي النَّارِ حَطَبًا أَوْ فِي الْجِنَانِ لِلنَّبِيِّينَ مُرَافِقًا فَهَذَا عِلْمُ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ" (نهج البلاغة: الخطبة 128)


يقول الفقيه الشّيخ جعفر السّبحاني: "فإنَّ العلم بالغيب في الكتاب العزيز هو العلم النّابع من الذّات -أي من ذات العالم- غير المُكتسَب من آخر، وهذا يختصّ بالله الواحد الأحد، وإليه يشير قوله سبحانه: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}". (الإيمان والكفر في الكتاب والسنة: ص 114).

ولهذا كان رافدهم (ع) القرآن والسنة النبوية المباركة، والتمسك بنصوص القرآن، وخاصة في قضايا العقيدة؛ لكي يبقى إيمان المسلم صحيحًا متوائمًا مع الواقع. وفي الموثق عن سَمَاعَةَ، عن أبي الحسن موسى (ع)، قال: قُلْتُ لَه: أكُلُّ شَيْءٍ فِي كِتَابِ اللهِ وسُنَّةِ نَبِيِّه (ع)، أَوْ تَقُولُونَ فِيه؟ قَالَ: "بَلْ كُلُّ شَيْءٍ فِي كِتَابِ اللهِ وسُنَّةِ نَبِيِّه" (الكافي: ج 1 ص 62).

فالقرآن الكريم يشرِّع الأصول والقوانين، ويؤسِّس القواعد الكلِّية للأحكام والأخلاق والآداب، بل لكلِّ ما يتصل بعلوم الدين ومعارفه ومناهجه التربويّة والاجتماعيّة، والحديث يتناول تلك الأصول والقواعد فيفصّلها، ويوضِّح مبهماتها، ويحلّ متشابهاتها، ويبيِّن مجملاتها، مع ما تفرِّعه عليه، بحيث لم يدع ملاحظاً كليِّاً أو جزئيِّاً له صلة بالفرد أو المجتمع إلا وقد بيَّن حكمه وأرشد إليه بكلِّ دقّة وتفصيل، وبشكل يستحيل معه رفع اليد عن الحديث كليِّاً في فهم القرآن الكريم.

يقول الإمام موسى (ع): قَالَ النبي (ص): "إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، وما خلاهن فهو فضل" (الكافي: ج 1 ص 32).

ولهذا جاء ولده الإمام الرضا (ع) ليبين سلوك أئمة أهل البيت (ع) فيقول، كما في الصحيح: "إِذَا كَانَتِ الرِّوَايَاتُ مُخَالِفَةً لِلْقُرْآنِ، كَذَّبْتُهَا" (الكافي: ج 1 ص 95-96؛ التوحيد: ص 110 ح 9؛ الوافي: ج 1 ص 378 ح 300).

 

تصحيح بعض الأدعية:

يجب علينا أن لا نأخذ كلَّ دعاء أخذًا مسلَّمًا، من دون تدقيق أو تمحيص؛ لأنَّ المشكلة هي أنَّ كتب الأدعية امتلأت بالكثير من الأدعية التي لا نعرف مصادرها؛ حتى أنَّ السيد رضي الدين ابن طاووس (رحمه الله) في الإقبال، كثيرًا ما يذكر جملة من الأدعية أنها وجدها في كتب قديمة؛ فيقول: وجدت في كتاب عتيق، وقل كذا، وادع كذا، وما إلى ذلك.. فيقبله الناس كما لو كان من مصدر معصوم في حين أنَّ الأدعية تمثل الثقافة الروحية التي تنطلق فيها المفاهيم الإسلامية. فعندما ندعو الله ونتحدث عنه وصفاته وعن النبي وصفاته وعن الإمام وصفاته، فذلك يمثّل بمجمله منظومة المفاهيم الإسلامية، وقد يقول بعض الناس عن الله أو الحديث عن أنبياء الله وأوليائه، أو الحديث عن بعض الخطوط الروحية والأخلاقية والفكرية بأنّها تمثل منهجً إسلاميًا في المفاهيم الإسلامية المتصلة بهذا الجانب أو ذاك.

ولذلك علينا أن لا نأخذ من الأدعية إلا ما ثبت لنا صحتها؛ من خلال موافقتها لكتاب الله، أو وردت عن النبي (ص) أو من الأئمة (ع) بشكل معتبر.

فكما أننا نوثق الأحكام الشرعية، ونناقش النصوص الواردة فيها، فكذلك الأدعية والزيارات بحاجة إلى توثيق وضبط، وأن نخضعه للدراسة العلمية حتى لا ينفذ إلينا مفهوم غير إسلامي من خلال تراث يتعنون على أنه تراث إسلامي ولكن لم يدقق انتماؤه إلى المصادر الأصلية للإسلام.

فعن عبد الله بن يحيى الكاهلي، قال: كَتَبتُ إلى أبِي الحَسَنِ الكاظِمِ (ع) في دُعاءٍ: (الحَمدُ للهِ مُنتَهى عِلمِهِ)؟ فَكَتَبَ (ع) إلَيَّ: "لا تَقولَنَّ مُنتَهى عِلمِهِ؛ فَلَيسَ لِعِلمِهِ مُنتَهىً، ولكِن قُل: مُنتَهى رِضاهُ" (الكافي: ج 1 ص 107؛ التوحيد: ص 134).

فكم هي دقيقة هذه الملاحظة، ولعلّنا ندعو دائمًا فنقول: "الحمد لله منتهى علمه" غير عارفين أنَّ ذلك يجعل علم الله محدَّدًا فيما بين البداية والنهاية، والحال أنَّ علم الله لا نهاية له؛ لأنه العلم اللامحدود، لقوله في محكم كتابه: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}.

فينبغي أن نقول: "منتهى رضاه"؛ لأنَّ رضاه يتصل بالمخلوقين في درجات تتحرك حتى تبلغ منتهاها ولا يتعلّق ذلك في ذاته وفي صفته.

 

صفات الشيعي عند الإمام الكاظم:

قال (ع)، وهو يوجِّه كلامه للشيعة: "كثيرًا ما كنت أسمع أبي يقول: ليس من شيعتنا من لا تتحدث المخدرات بورعه في خدورهن وليس من أوليائنا من هو في قرية فيها عشرة آلاف رجل فيهم [من] خلق لله أورع منه" (الكافي: ج 2 ص 79).


فمن هو الشيعي الذي يمثل النموذج الذي يحبه الله ورسوله وأهل بيته؟

هو فالذي يصل إلى مرتبة من الورع عن الحرام في قوله وفعله وعلاقاته وموقفه بحيث أنَّ أمره ينتشر بين الناس حتى أنَّ المخدرات المحجبات اللاتي لا يتحركن في المجتمع تصلهن أخبار ورعه بحيث يتحدثن عن ورعه؛ فلو كان عندنا عشرة آلاف رجل، على حد قول الإمام (ع)، وفيهم شيعي لا بدَّ أن يكون هذا الشيعي أورع من هؤلاء كلّهم.

من هنا ندرك أنَّ التشيع ليس كلمة، وليس عاطفة، وليس مجرد دمعة عند ضريح إمام، أو دمعة في مجالس العزاء فقط، ولكنَّ التشيع هو كما قال جده الإمام الباقر (ع): "مَا شِيعَتُنَا إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللهَ وَأَطَاعَهُ. وَمَا كَانُوا يُعْرَفُونَ إِلَّا بِالتَّوَاضُعِ، وَالتَّخَشُّعِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ وَتَعَهُّدِ الْجِيرَانِ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَذَوِي الْمَسْكَنَةِ وَالْغَارِمِينَ وَالْأَيْتَامِ وَصِدْقِ الْحَدِيثِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَكَفِّ الْأَلْسُنِ عَنِ النَّاسِ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ وَكَانُوا أُمَنَاءَ عَشَائِرِهِمْ فِي الْأَشْيَاءِ".


وفي الختام: إنَّ علينا أن نقرأ تراث أئمتنا من أهل البيت (ع)؛ لأنه يضيء لنا طريق الإيمان، ويضيء لنا الشريعة، ويضيء لنا المنهج، ويضيء لنا ظلمات الحياة كلها.

وعندما ندرس طريقة الأئمة من أهل البيت (ع) في ما تركوه لنا من تراث، فإننا نجد أنّهم وهم يعملون على تثقيف الأمة، كانوا لا يتعقّدون من سؤال، وقد ورد عنهم أنّهم (ع) كانوا يطلبون من أصحابهم أنّهم إذا حدّثوهم بحديث، أن يسألوهم عن أساسه في كتاب الله، ليعرِّفوهم كيف يستنتجون الفكرة من كتاب الله سبحانه وتعالى، ويشجعوهم على أن يناقشوا العلماء، وأن يسألوهم في ما يملكون علمه، ليتعلموا منهم ذلك.

 

 

 

 

 

 

محرم 1447 في الصحافة الكويتية