في الإسراء والمعراج والمبعث
{سُبْحَانَ
الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى
الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الإسراء:
1].
أولاً: تسمية السورة:
لقد جاء اسم هذه السورة (الإسراء) عنواناً للحدث المعجز الذي
جرى للنبي (ص)، في ما قصَّه الله سبحانه علينا في أول آية من السورة، عندما أسرى
به الله إلى السماوات العلى، في ما ذكرته السيرة في حديث المعراج.
وأطلق على هذه السورة أيضاً اسم (سورة بني إسرائيل)؛ لأنّها
تحدثت عن جانب مهم من سلوكهم المنحرف، الذي كان سبباً لغضب الله عليهم.
ثانياً: روايات الإسراء:
لقد
أجملت هذه الآية مسألة الإسراء، ولم تفصِّل شيئاً من حوادثه، ولكنها حافظت على روح
المعنى بشكل رمزي مبهر، بيد أنَّ الروايات المستفيضة أفاضت في الحديث عن ذلك.
فقد
روى هذه الحادثة جم غفير من الصحابة، منهم: علي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وعائشة،
وحذيفة بن اليمان، وأبو أيوب الأنصاري، وجابر بن عبد الله، وأم سلمة، وأم هانئ، وأنس
بن مالك، وشداد بن أولى، وأبو هريرة، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وأبي
بن كعب، وسمرة بن جندب، وصهيب بن سنان، وسهلان بن سعد، وأبو الدرداء، وأسماء بنت
أبي بكر، أبو سعيد الخدري..
ويقول
العلامة السيد محمد حسين فضل الله رحمه الله: "ربما طغى جو الخيال
على الكثير مما ذكر في خصوصياتها، وذلك ما نلاحظه في بعض القضايا التي قد لا
يستطيع الباحث تفسيرها بطريقة معقولة، لا سيما في ما أفاض فيه المحدثون عن قصة
المعراج ليلة الإسراء، رغم أنّ الحدث امتد إلى وقت قصير لا يسمح بتغطية ذلك كله،
لأنّ المسألة إذا كانت تحمل الإعجاز في طبيعتها، فإنها تبقى في دائرة القدرة
المحدودة للنبي في خصوصيات بشريته التي تخضع لعامل الزمان والمكان، لا سيّما وأنّ
الإسراء كان بالجسد كما هو معروف بينهم".
وقد
تكون الرواية التي رواها الشيخ الصدوق، في أماليه، هي أكثر الروايات اختصاراً
وأقربها إلى الاعتبار، فقد روى الصدوق، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبان بن
عثمان، عن أبي عبد الله جعفر الصادق (ع) قال: "لمَّا
أُسْرِيَ بِرَسُولِ
اللهِ (ص) إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَمْلُه جَبْرَئِيلُ عَلَى الْبُرَاقِ،
فَأَتَيَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَعُرِضَ عَلَيْهِ مَحَارِيبُ الْأَنْبِيَاءِ،
وَصَلَّى بِهَا وِرْدَهُ، فَمَرَّ رَسُولُ اللهِ (ص) فِي رُجُوعِهِ
بَعِيرٍ لِقُرَيْشٍ، وَإِذَا لَهُمْ مَاءٌ فِي آنِيَةٍ وَقَدْ أَضَلّوا بَعِيرًا لَهم
وَكَانُوا يَطْلُبُونَه، فَشَرِبَ رَسُولُ اللهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ
وَأَهْرَقَ بَاقِيِه.
فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ (ص) قَالَ
لِقُرَيْشٍ: إنَّ اللهَ جَلَّ جَلَالُهُ قَد أَسْرَى بِي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ،
وَأَرَانِي آثَارَ الْأَنْبِيَاءِ ومَنَازِلَهم، وَإِنِّي مَرَرْتُ بَعِيرٍ
لِقُرَيْشٍ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ أَضَلّوا بَعِيرًا لَهُم،
فَشَرِبْتُ مِنْ مَائِهِمْ وأَهْرَقْتُ بَاقِي ذَلِكَ.
فَقَال أبو جهل: قَد أمكنتكم
الْفُرْصَةُ مِنْه، فَاسْأَلُوهُ كَمْ الْأَسَاطِينُ فِيهَا وَالْقَنَادِيلُ؟
فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إنَّ
هَهُنَا مَنْ قَدْ دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَصِفْ لَنَا كَمْ أَسَاطِيِنَهُ وقَنَادِيِلَهُ
وَمَحَارِيِبَهُ؟
فَجَاء جَبْرَئِيل(ع) فَعَلَّقَ
صُورَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ تجَاهَ وَجْهِهِ، فَجَعَل يُخْبِرُهُمْ بِمَا
يَسْأَلُونَه عَنْه، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ قَالُوا: حَتَّى يَجِئَ الْعِيرُ وَنَسْأَلُهم
عَمَّا قُلْتَ؟!
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ (ص): تَصْدِيقُ
ذَلِكَ أَنَّ الْعِيرَ تَطْلُعُ عَلَيْكُمْ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، يَقْدِمُهَا
جَمَلٌ أَوْرَقُ.
فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ،
أَقْبَلُوُا يَنْظُرُونَ إلَى الْعَقَبَةِ وَيَقُولُونَ: هَذِهِ الشَّمْسُ
تَطْلُعُ السَّاعَةَ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ، إذْ طَلَعَتْ عَلَيْهِمْ الْعِيرُ
حِينَ طَلَعَ الْقُرْصُ، يَقْدِمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ، فَسَأَلُوهُمُ عَمَّا قَالَ رَسُولُ اللهِ (ص)، فَقَالُوا:
لَقَدْ كَانَ هَذَا؛ ضَلَّ جَمَلٌ لَنَا فِي مَوْضِع كَذَا وَكَذَا، وَوَضَعْنَا
مَاءً فَأَصْبَحْنَا وَقَد أُهْرِيقَ الْمَاءُ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ إلَّا
عَتَوْاً" (أمالي
الصدوق: ص 448).
صحيحة
محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا (ع)، قال: "قَالَ
رَسُولُ الله (ص): لَمَّا أُسْرِيَ بِي إِلَى السَّمَاءِ، بَلَغَ بِي جَبْرَئِيلُ
مَكَانًا لَمْ يَطَأْهُ قَطُّ جَبْرَئِيلُ، فَكَشَفَ لَه فَأَرَاه اللهُ مِنْ
نُورِ عَظَمَتِه مَا أَحَبَّ" (الكافي: ج 1 ص98.).
صحيحة
عبد العظيم الحسني، عن الجواد (ع)، عن أبيه، عن جده (ع)، قال: "قَالَ
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع): قَالَ
رَسُولُ اللهِ (ص): ... فَإِنَّهُ لَمَّا
أُسْرِيَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَنَسَبَنِي جَبْرَئِيلُ (ع) لِأَهْلِ
السَّمَاءِ، اسْتَوْدَعَ اللهُ حُبِّي وَحُبَّ أَهْلِ بَيْتِي وَشِيعَتِهِمْ فِي
قُلُوبِ الْمَلَائِكَةِ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ وَدِيعَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،
ثُمَّ هَبَطَ بِي إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَنَسَبَنِي إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ،
فَاسْتَوْدَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ حُبِّي وَحُبَّ أَهْلِ بَيْتِي وَشِيعَتِهِمْ
فِي قُلُوبِ مُؤْمِنِي أُمَّتِي فَمُؤْمِنُو أُمَّتِي يَحْفَظُونَ وَدِيعَتِي فِي
أَهْلِ بَيْتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَلَا فَلَوْ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ
أُمَّتِي عَبَدَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عُمُرَهُ أَيَّامَ الدُّنْيَا، ثُمَّ لَقِيَ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُبْغِضاً لِأَهْلِ بَيْتِي وَشِيعَتِي، مَا فَرَّجَ اللهُ
صَدْرَهُ إِلَّا عَنِ النِّفَاقِ" (الكافي: ج 2 ص 46).
صحيحة
أبان بن تغلب، عن الباقر (ع)، قال:
لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ (ص)
قَالَ: يَا رَبِّ، مَا حَالُ الْمُؤْمِنِ عِنْدَكَ؟ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ
أَهَانَ لِي وَلِيّاً فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَ أَنَا أَسْرَعُ شَيْءٍ إِلَى نُصْرَةِ
أَوْلِيَائِي وَ مَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ
كَتَرَدُّدِي عَنْ وَفَاةِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَ أَكْرَهُ
مَسَاءَتَهُ وَ إِنَّ مِنْ عِبَادِيَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا
الْغِنَى وَ لَوْ صَرَفْتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَهَلَكَ وَ إِنَّ مِنْ
عِبَادِيَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْفَقْرُ وَ لَوْ
صَرَفْتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَهَلَكَ وَ مَا يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ عَبْدٌ مِنْ
عِبَادِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَيَتَقَرَّبُ
إِلَيَّ بِالنَّافِلَةِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ إِذاً سَمْعَهُ
الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَ بَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَ لِسَانَهُ الَّذِي
يَنْطِقُ بِهِ وَ يَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا إِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ،
وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ.
(الكافي: ج 2 ص 352).
ثالثاً: مضامين هذه الآية الشريفة:
1 . كثرة التسبيح:
ولقد
حُفّت السورة كلها بالتسبيح والتحميد قبلها وبعدها ولعل في هذا إشارة إلى أنّ
النبي (ص) سينُقل إلى مكان وعالم كله تسبيح.
ولقد
ورد التسبيح في القرآن الكريم في سور شتى:
·
ورد
بصيغة الفعل الماضي: {سَبَّحَ لِلهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
[الحديد: 1].
·
وورد
بصيغة فعل المضارع: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة: 1].
·
وورد
بصيغة فعل الأمر: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الْعَظِيمِ} [الواقعة:
74].
·
وورد
بتعدية الفعل نفسه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}
[الأعلى: 1]،
{وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح: 9]،
وبالباء {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74].
·
وورد
بلفظ تسبيح وتسبيح اسمه {سَبِّحِ
اسْمَ رَبِّكَ} [الأعلى:
1] فنحن نسبّحه ونسبّح له ونسبّح باسمه ونسبّح
بحمده {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3].
فالمجيء
بالمصدر (سُبْحَانَ) يفيد الإطلاق بدون تقيِّد بزمن أو بفعل أو بفاعل. فمعنى "سبحانه":
أي تنزّه الله تعالى تنزيهاً مطلقاً، فليس له شَبَه أو مثيل فيما خلق، لا في الذات؛
فلا ذات كذاته. ولا في الصفات؛ فلا صفات كصفاته. ولا في الأفعال؛ فليس في أفعال
خلقه ما يشبه أفعاله تعالى.
فنزّه
الله أن يكون وجوده كوجودك؛ لأنَّ وجودك من عدم، وليس ذاتياً فيك، ووجوده سبحانه
ليس من عدم، وهو ذاتي فيه سبحانه. فذاته سبحانه لا مثيل لها، ولا شبيه في ذوات
خلقه. وكذلك نزّه الله أن يكون فعله كفعلك.
إذن
كلمة (سُبْحَانَ) جاءت هنا لتشير إلى أنَّ ما بعدها أمر خارج عن نطاق قدرات البشر،
فإذا ما سمعته لا تقل: كيف يحدث هذا؟! بل نزّه الله أن يشابه فعله فعل البشر، فإن
قال لك: إنه أسرى بنبيه محمد (ص) من مكة إلى بيت المقدس في ليلة، مع أنهم يضربون
إليها أكباد الإبل شهراً، فإياك أن تنكر. فربك لم يقل: سرى محمد، بل أسرى به.
فالفعل ليس لمحمد ولكنه لله، ومادام الفعل لله فلا تخضعه لمقاييس الزمن لديك، ففعل
الله ليس علاجاً ومزاولة كفعل البشر.
والافتتاح
بـ(سُبْحَانَ) طبع هذه السورة بجو التسبيح وشاع فيه ذكر التسبيح {سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء: 43]، {تُسَبِّحُ
لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}
[الإسراء: 44]،
{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}
[الإسراء: 44] وهي
أوسع وأشمل توسيع على الإطلاق.
وليس
هناك في القرآن كله سورة شاع فيها التسبيح كما شاع في سورة الإسراء ولا توجد سورة
تضاهيها في التسبيح ولعلها إشارة إلى أنّ الرسول (ص) سينتقل إلى عالم وجو مليء
بالتسبيح {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا
يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20].
2 - نسبة فعل الإسراء إلى الله:
{الَّذِي
أَسْرَى} من السري، وهو السير ليلاً. فالله سبحانه وتعالى
هو الذي أسرى بعبده، فالفعل لله تعالى، وليس لحبيبه محمد (ص) فلا يمكن أن نقيس
الفعل بمقياس البشر، بل علينا أن ننزه فعل الله عن أفعالنا..
لأننا
إذا لم ننزه هذا الفعل فحينئذ سنكون في ضمن دائرة المكذبين لهذه الحادثة، عيناً
كما استقبل أهل مكة هذا الحدث استقبال المكذب فقالوا: كيف هذا ونحن نضرب إليها
أكباد الإبل شهراً!! ولكنّ رسول الله (ص) لم يدعِّ أنه سرى بل قال: أسري بي.
ومن
تكذيب كفار مكة لرسول الله (ص) في رحلة الإسراء والمعراج نأخذ رداً جميلاً على
هؤلاء الذين يخوضون في هذا الحادث بعقول ضيقة سطحية في عصرنا الحاضر، فنسمع منهم
من يقول: إنّ الإسراء كان مناماً، أو كان بالروح دون الجسد.
ونقول
لهؤلاء: لو قال محمد لقومه: "أنا رأيت في الرؤيا بيت المقدس" هل كانوا
يكذبون؟! ولو قال لهم: "لقد سبحت روحي الليلة حتى أتت بيت المقدس"
أكانوا يكذبونه؟!
ولكن
في إنكار الكفار على رسول الله وتكذيبهم له دليل على أنّ الإسراء كان حقيقة تمت
لرسول الله (ص) بروحه وجسده، وكأنّه سبحانه ادخر الموقف التكذيبي لمكذبي الأمس،
ليرد به على مكذبي اليوم.
3 - العبودية الحقة مفتاح للإسراء:
{بِعَبْدِهِ}:
لم يقل برسوله ولا بمحمد وإنّما قال بعبده. والاختيار لكلمة (بعبده) له جملة معاني:
أ . أنّ الإنسان مهما عظُم لا يعدو
أن يكون عبداً لله تعالى لا ينبغي لأحد أن يدّعي مقاماً ليس للآخرين وحتى لا يعظم
أكثر مما ينبغي، كما فعل النصارى بعيسى (ع)، فاختيار كلمة عبد حتى لا يُدعى له
مقام غير مقام العبودية. فمقام العبودية لله هو أعلى مقام للخلق، وأعلى وسام يُنعم
الله تعالى به على عباده الصالحين، تماماً كما وصفت الآيات نوح (ع): {إِنَّهُ
كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء:
3]، وأيوب: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ
أَوَّابٌ} [ص:
44]، والرسول (ص): {وَأَنَّهُ
لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ} [الجـن: 19].
ب . العبودية نوعان: قسرية
واختيارية، فالعبودية القسرية تتحقق شاء أم أبى {إِنْ كُلُّ
مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً}
[مريم: 93]، أما
العبودية الاختيارية فهي أعلى مقام العبودية ولما ذُكر موسى (ع) ذكره الله تعالى
باسمه وأعلى مقام لموسى كان في المناجاة {وَلَمَّا
جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ
إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ
مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ
دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً...} [لأعراف: 143]. لم يكن ليقل "خرّ
عبدنا موسى" أو "جاء عبدنا موسى" فلا يجوز أن ينسب العبودية له ثم
يخرّ صعقاً هذا لا يحدث ولا يجوز أصلاً، أما الرسول (ص) عندما ذكر بصورة العبودية
أعقبها أنه عُرِج به إلى السماء وإلى سدرة المنتهى وخاطبه ربه بمقام لم يصل إليه
أحد إلا هو (ص) فلذا كان استعمال كلمة {بِعَبْدِهِ}
دلالة على زيادة التشريف له (ص)، والباء أيضاً إضافة تشريف وهي تدل على الرعاية
والحفظ مثل قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}
[النجم: 10].
فكأنَّ
كلمة (عبده) هي حيثية الإسراء. أي: أسرى به؛ لأنّه صادق العبودية لله، ومادام هو
عبده فقد أخلص في عبوديته لربه، فاستحق أن يكون له ميزة وخصوصية عن غيره، فالإسراء
والمعراج عطاء من الله استحقه رسوله بما حقق من عبودية لله.
4 - دلالات الزمان في هذه الحادثة:
{لَيْلاً}:
حتى نفهم أنّ الرحلة الطويلة من البيت الحرام إلى المسجد الأقصى والعروج إلى
السماء كانت كلها في جزء من الليل فقد جاءت كلمة {لَيْلاً}
بدل (الليل) لأنّ الليل تدل على الليل كله أما الإسراء فقد تم في جزء من الليل فقط
وليس الليل كله.
لماذا
لم يحدث الإسراء نهاراً؟!
نقول:
لتظل المعجزة غيباً يؤمن به من يصدق رسول الله (ص)، فلو ذهب في النهار لرآه الناس
في الطريق ذهاباً وعودة، فتكون المسألة -إذن- حسية مشاهدة لا مجال فيها للإيمان
بالغيب. لذلك لما سمع أبو جهل خبر الإسراء طار به إلى المسجد وقال: "إنّ
صاحبكم يزعم أنه أسرى به الليلة من مكة إلى بيت المقدس" فمنهم من ضرب كفاً
على كف مستسخفاً، ومنهم من ارتد...
لقد
جعل الله هذا الحادث محكاً للإيمان والاختبار، لذلك قال تعالى في آية أخرى: {وَمَا
جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}
[الإسراء: 60] وهذا
دليل آخر على أنّ الإسراء لم يكن مناماً، فالإسراء لا يكون فتنة واختباراً إلا إذا
كان حقيقة لا مناماً، فالمنام لا يكذبه أحد ولا يختلف فيه الناس.
لكن
لماذا قال عن الإسراء "رؤيا" يعني المنامية، ولم يقل "رؤية"
يعني البصرية؟! قالوا: لأنها لما كانت عجيبة من العجائب صارت كأنها رؤيا منامية،
فالرؤيا محل الأحداث العجيبة.
5 - دلالات المسجد في بداية الصعود:
{مِّنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }: أكثر العلماء يقولون أنّ
الإسراء لم يتم من المسجد الحرام وإنّما من بيت أم هانئ وفي هذا التفاتة إلى أنّ
مكة كلها حرم.
{إِلَى
الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}: أسند سبحانه وتعالى المباركة
لنفسه؛ للدلالة على التعظيم.
ولم
يقل: "باركناه" بل قال "باركنا حوله"؛ لأنّه لو قال: "باركناه"
لانحصرت المباركة بالمسجد فقط، أما "باركنا حوله" فهو يشمل كل ما حوله،
وهو تعظيم للمسجد نفسه ولكنه إشارة أنّ المباركة حول المسجد أيضاً.
ولم
يقل: "باركنا ما حوله" لأنها عندئذ تعني الأشياء فإذا زادت الأشياء زادت
المباركة وإذا ذهبت ذهبت المباركة لكنّ المباركة كانت مطلقة تشمل أشياء معنوية
وماديّة وروحانية بما أودع الله تعالى من رزق وخير وإرسال الرسل ولا تختص المباركة
بشيء معين واحد وإنّما تشمل كل هذه الأشياء.
فالمقطع
دليل على المبالغة في البركة..
لكن
بأي شيء بارك الله حوله؟ لقد بارك الله حول المسجد الأقصى ببركة دنيوية، وبركة
دينية: بركة دنيوية بما جعل حوله من أرض خصبة عليها الحدائق والبساتين التي تحوي
مختلف الثمار. وبركة دينية وتتمثل في أنّ الأقصى مهد الرسالات ومهبط الأنبياء،
تعطرت أرضه بأقدام إبراهيم وإسحق ويعقوب وعيسى وموسى وزكريا ويحيى، وفيه هبط الوحي
وتنزلت الملائكة.
6 - الجائزة من الله لحبيبه محمد:
{لِنُرِيَهُ
مِنْ آيَاتِنَا}: تدل على أنّ أفعاله سبحانه
معلّلة ولغرض معيّن ولحكمة. ولم يقل ليرى أو ليُرى إنّما جاءت (لنُريه) وهذا إكرام
وتشريف من الله تعالى لرسوله (ص) في هذا الرحلة. وإضافة الآيات إلى نفسه تعالى
تأتي من باب الاحتفاء بالرسول (ص).
فكأنّ
مهمة الإسراء من مكة إلى بيت المقدس أن نري رسول الله الآيات، وكلمة: الآيات لا
تطلق على مطلق موجود، إنّما تطلق على الموجود العجيب، كما نقول: هذا آية في الحسن،
آية في الشجاعة، فالآية هي الشيء العجيب.
ولله
عز وجل آيات كثيرة منها الظاهر الذي يراه الناس، كما قال تعالى: {وَمِنْ
آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ..}
[فصلت: 37]، {وَمِنْ
آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ} [الشورى: 32].
والله
سبحانه يريد أن يجعل لرسوله (ص) خصوصية، وأن يريه من آيات الغيب الذي لم يره أحد،
ليرى (ص) حفاوة السماء به، ويرى مكانته عند ربه الذي قال له: [النحل:
127] لأنك في سعة من عطاء الله، فإن أهانك أهل الأرض فسوق يحتفل بك
أهل السماء في الملأ الأعلى، وإن كنت في ضيق من الخلق فأنت في سعة من الخالق.
{إِنَّهُ
هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}: يمكن أن يكون المعنى: (سميع)
لأقوال الرسول (بصير) بأفعاله، حيث آذاه قومه وكذبوه وألجوؤه إلى الطائف، فكان
أهلها أشد قسوة من إخوانهم في مكة، فعاد منكراً دامياً..
إنّ حادثة الإسراء
والمعراج كانت الحد الفاصل بين فترة الاستضعاف ومرحلة عزة الأمة وإقامة دولة
الإسلام، فمن بين الدماء والآهات والأنات التي عاشها الكرام مع قائدهم الكبير محمد
(ص)، امتدت يد القدر لتحمل رسول هذه الدعوة إلى السماوات العلى حيث سدرة المنتهى،
ثم ليعود حاملاً بشرى الفرج القادم والانعتاق الآتي.
هل يتنافى العروج مع عقيدة
التوحيد:
لقد تصدَّى أئمة
أهل البيت (ع) لنفي ما قد يتوهمه الواهمون من أنَّ العروج بالنبي (ص) إلى السماء
يتنافى مع ما عليه عقيدة التوحيد من أنَّ الله تعالى ليس في مكان. ومن هذه النصوص:
معتبرة يونس بن
عبد الرحمن، قال: قلتُ لأبي الحسن موسى بن جعفر (ع): لأيِّ علة عرَجَ اللهُ
بنبيِّه إلى السماء ومنها إلى سدرة المُنتهى، ومنها إلى حُجُبِ النور وخاطبَه
وناجاه هناك والله لا يُوصفُ بمكان؟ فقال (ع): "إنَّ
اللهَ لَا يُوصَفُ بِمَكَانٍ، وَلَا يَجْرِي عَلَيِهِ زَمَاَنٌ، وَلَكْنَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ أَرَاَدَ أَنْ يُشْرِّفَ بِهِ مَلَائِكَتَهُ وَسُكَّانَ سَمَاوَاتِهِ،
ويُكْرِمُهْمُ بِمُشَاَهَدَتِهِ. وَيُرِيِهِ مِنْ عَجَائِبِ عَظَمَتِهِ ما يُخْبِرُ
بِهِ بَعْدَ هُبُوطِهِ، وَلَيْسَ ذَلكَ عَلَى مَاَ يَقُولُهُ المُشَبِّهُونَ، سُبْحَانَ
اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفْوُنَ" (التوحيد:
ص 175).
ما رواه الشيخ
الصدوق بسنده عن أبي حمزة الثمالي، قال: سألتُ زينَ اَلْعَابِدِيِنَ عَلْيَ بنِ
الحسين (ع) عَنْ اللهِ جَلَّ جَلالُهُ هل يُوصفُ بِمَكَانٍ؟ فقال (ع): "تَعَالَى
اللهُ عَنْ ذَلْكَ" قُلتُ: فَلِمَ أُسْرِيَ بِنَبْيِّهِ
مُحَمَّدٍ (ص) إِلْىَ الْسَماءِ؟ قال: "لِيُريِهِ
مَلَكُوتَ الْسَمَاواتِ وَمَا فِيِهَا مِنْ عَجَائِبِ صُنْعِهِ وَبَدَائِعِ خَلْقِهِ"
(الأمالي: ص 213-214).
فالغايةُ من
الإسراء به إلى السماء هي تجلي سيدنا محمد (ص) من خلال إراءتُه لملكوتِ السماوات
وما فيها من عجائبِ صُنعِ الله تعالى وبدائعِ خلقِه، كما أرى الله سبحانه ملكوت
إحياء الطير لجده الخليل إبراهيم (ع).
وأما كيفيته
فمجهول إلا ما كسف عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) أنَّه قال في الآية: ﴿ثُمَّ
دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾: "انقطعت
الكيفيَّة عن الدنوِّ؛ ألا ترى كيف حُجب جبرائيل عن دنوِّه، ودنا محمَّدٌ إلى ما
أُودع قلبُه من المعرفة والإيمان، فتدلَّى بسكونِ قلبِه إلى ما أدناه، وزال عن
قلبِه الشكُّ والارتياب" (شرح الشفا: ج 1
ص 436).
كلمة أخيرة:
ظهرت في سنوات
سابقة كتابات مهمة تحمل نظرات توصف بأنها عقلانية حداثية، في تناولها للسيرة
النبوية إجمالاً، ومنها حدث الإسراء والمعراج. وهذه الكتابات تنزع في عمومها إلى توظيف
المعارف العلمية الحديثة في تناول هذا الحدث، من خلال علم التاريخ والأنثربولوجيا وعلم
النفس الاجتماعي وغير ذلك من مفاهيم ومناهج العلوم الإنسانية الحديثة.
ويمكن اختصارها في تناول
هذا الحدث:
1.(1) كونه مجرد رؤيا منامية،
كما يذهب محمد عابد الجابري (في مدخله التفسيري ج 1 ص 166-167)، مستعيداً الرأي
الكلامي الذي يذهب إلى أنَّ الرحلة النبوية كانت رحلة روحية وليست بالجسد.
2.(2) إلغاء هذا الحدث جملة وتفصيلاً
كما يذهب إلى ذلك مثلاً هشام جعيط في دراسته للسيرة النبوية عبر كتابه (تاريخية الدعوة المحمدية في مكة: ص 93-141).
3.(3) ما يذهب إليه جورج طرابيشي
في سعيه إلى إيقاظ العقل الإسلامي من سباته ونفي كل معجزة عن نبي الإسلام عدا القرآن
باعتباره معجزة عقلية غير مادية (أنظر كتابه: المعجزة أو سبات العقل في
الإسلام)؛ وذلك في نزوع إلى عقلنة فهم الإسلام عقلنة تطغى
عليها نزعة تروم إلى نفي الغيب أو تقليص حضوره وأثره في التدين إلى أبعد مدى.
وفي نظري ما يحتاجه
المؤمن هو مقاربة جديدة تضع معايير عقلانية للإيمان من أجل تمييز ما هو (متعالي) عن
(التاريخي) في السيرة النبوية، وتمييز (الغيبي) عن (الخرافي) في الموروث التفسيري الديني،
وتعمل كذلك على إنتاج خطابٍ يستند إلى المعرفة المتجددة من أجل كتابةٍ علميةٍ
دقيقةٍ تاريخيةٍ في السيرة النبوية، ودون أن نقصي البعد الغيبي فيها؛ ذاك البعد
الذي يجب أن يرتبط بـ(المتعالي) في النصوص الدينية ويغذي وهج الإيمان، دونما مناقضة
أو مباينة لعقل المؤمن هنا.
وهو مسعى يقتضي
الاجتهاد الفكري الحثيث، والإسهام المبدع في بناء فهم جديد لـ(المعجزة)، بموجبه يمكن
تجديدُ الخطاب الديني الإسلامي في تعامله مع السيرة النبوية، وذلك بما يضمن للمؤمن
معرفة علمية تاريخية بهذه السيرة من جهة، ويضمن له، من جهة ثانية، عدم إقصاء البعد
الإيماني الذي تتيحه معرفةُ أقوال وأفعال وأحوال النبي الأكرم (ص)، و بالنتيجة عدم
إغلاق الإمكانات اللانهائية التي تحفلُ بها هذه السيرةُ بما هي عنوان رحمة كونية
متجددة، يمكن للعالم أن يستنبط منها ما به يضيء مستقبل الإنسان المعاصر المُطوَّق
بتحديات ما تفتأ تهدد وجوده المادي والروحي على السواء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق