الخميس، 28 يوليو 2022


 

المثقف الحسيني والخطيب الحسيني

من أخطر الأمور التي تتداعى إليها المفاهيم المنساقة هو عدم فصل الخطيب الحسيني عن عالم الدين (الحوزوي)، مع أنّ الواقع المعرفي يأخذ بنا إلى أن هناك تمايزاً جوهرياً بين الوظيفتين، فعالم الدين (الحوزوي) تقوم أدواته على المماحكة العلمية الاستدلالية التي تخضع لقانون علمي دقيق، بينما الخطيب الحسيني فلا يراعي هذا الجانب المعرفي، وبالتفات بسيط إلى ما يعرض على القنوات الشيعية نجد المفارقة كبيرة بين الوظيفتين.

وعدم الجرأة في فصل الوظيفتين أدّى إلى فوضى معرفية وازدواجية في معايير الحوزة التي تؤمن بالعلم والمنطق من جهة وبين ما تلقيه على المنبر من جهة أخرى.

وتحكم المثقف الحسيني في عالمنا الإسلامي هواجس النهوض الحضاري، وهي هواجس أكبر من أن يحيط بها مثقف أو يتصدرها طالما أنه لم يعِ تراثه وعياً كاملاً، فلا يتاح له أن يعيش حالة التوازن بين ماض يريد العزوف عنه ومستقبل يطمح إليه، ويتسبب ذلك عادة بالقطيعة مع التراث والتي تتبدى بأشكال مختلفة، وهي قطيعة تترسخ معالمها من خلال ما يستوحيه من نظم وافدة لا تنتمي بحال إلى هذا التراث.

وفي المقابل يتسلح عالم الدين بما يفتقر إليه المثقف من نظم تراثية (شب عليها وشاب). ولكنه مع ذلك قد يقع في أسر هذه النظم بحيث يتعسر عليه أن يتجاوز ما يمكن تجاوزه فيها، ويعود السبب في ذلك إلى الطرق التي من خلالها يهضم التراث والتي قد لا تفسح في المجال لمثل هذا التجاوز فيما لو أسيئ فهم التراث الديني.

ولا أقصد بهذا أن أفصح عن لبِّ المشكلة القائمة بين المثقف وعالم الدين بمقدار ما قصدت إلى الإفصاح عن المراد من المثقف هنا ولو بنحو الإشارة والإجمال ومن دون الدخول في التحديدات المملة، فإنه ليس من المفارقات الكبرى أن يقوم عالم الدين بمهمة المثقف أو العكس، ولكن عالم الدين يغدو مثقفاً، كما أنّ المثقف يكون مدفوعاً بالحميِّة الدينية في تلك الحال.

ومهما يكن فقد تطرقت فيما يلي إلى بعض النواحي التي قد تسلط بعض الضوء على مجالات يظهر فيها الخلاف بين المثقف والعالم الديني:

أ . سطوة الأسس الفكرية:

إنّ الإنسان محكوم في رؤيته للواقع لشبكة من المؤثرات والمنظومات الفكرية التي درج عليها في أثناء تكوينه الذهني. ونظراً لتفاوت المنطلقات والأهداف التعليمية ما بين الحوزة والجامعة، فإنّ الواقع سوف ينعكس في ذهنية المتلقي عموماً، وبالتالي يتبلور فهمه للأشياء بالكيفية التي تشكلت بها ذهنيته الثقافية. ولهذا ربما قد نفاجأ حين نجد أنّ المشكلة التي يعاني منها الطرفين واحدة، ولكن مع اختلاف في المنطلقات والأهداف وحدّة التباين في الرؤية أيضاً.

فالعلم لا يكون علماً إلا بمقدار ما يلامس الواقع. وبهذا الاعتبار، سوف تقف بين المثقف والعالم الديني من جهة، والواقع الذي ينتمي إليه كل منهما من جهة ثانية فاصلة، هذه الفاصلة يمكن أن نعبر عنها كما يلي:

1 . واقع لا ينتمي إلى الأسس الفكرية «المعاصرة»، والمطلوب في هذه الحالة تغيير الواقع بما يتناسب مع تلك الأسس كشرط للانطلاق. وتلك هي مشكلة المثقف.

2 . وواقع ينتمي إلى الأسس الفكرية التراثية، ولكن مع وجود مساحة فاصلة تستدعي تطوير الخطاب وتحيينه وتفعيله لمعاصرة الحدث. وتلك مشكلة عالم الدين.

ب . التخصص (سلاح ذو حدين):

العلوم الإسلامية متمحورة حول النص، ومن مميزات النص الديني أنه شمولي، ونظراً لتعقيد الواقع فإنّ ربط النص بالواقع يستدعي العمل على إيجاد التخصص في مجال العلوم الدينية، في حين يفتقر الواقع التثقيفي الديني عموماً إلى هذه التخصصية، ويتسم العالم الديني بالشمولية على مستوى الطرح.

فالدارس الأكاديمي ينظر إلى العلاقات والروابط القائمة بين التيارات الفكرية بنظرة كلية شاملة في محاولة استجلاء معالمها الرئيسية وذلك من خلال مقارنة أوجه الاختلاف فيما بينها والحدود التي تفصل بعضها عن بعض، ولكن من دون الدخول في المعطيات المباشرة للظواهر المدروسة.

بينما الدارس الحوزوي يغرق في المعطيات المباشرة، بحيث يكاد أن تغيب عنه المعالم الكلية الفاصلة بين هذه التيارات الفكرية غالباً، ولكنه يمتلك بذلك وعي الحقيقة في تفاصيلها وهمومها الآنية. وفرق كبير بين التحليق بعيداً عن الأرض، وبين الاحتكاك الحميم بها.

ج . البعد الإيديولوجي في تفسير الظاهرة:

ينظر إلى التفسير المادي النافي للتفسير الغيبي، على أنه واحد من الأبعاد الإيديولوجية التي تدخل في نسيج البناء العلمي، بحيث تتشكل على أساسه الهوية العلمية. وهذا يكشف عن بعض وجوه التفاوت في المنطلقات الفكرية بين المثقف وعالم الدين.

فحين ينطلق المثقف وعالم الدين لمعالجة قضية ما من قضايا الواقع المعيش، مثل قضية الإصابة بالعين أو الجن مثلاً، هنا سوف يعمد المثقف إلى تحليل هذه الظاهرة على الأسس العلمية، وإذا لم يجد لها تفسيراً ضمن النطاق الفيزيائي، أو النفسي التجريبي... سوف يعمد إلى رفض هذه الظاهرة. وهو في رفضه لها لا ينطلق من أسس علمية طبعاً، فيكفي أن تنتفي القدرة العلمية على سبر أغوار الظاهرة حتى يتبرر بذلك نفيها عن الواقع المقبول لديه!

بينما عالم الدين لا يتوقف عند الإثبات المادي المباشر لهذه الظاهرة طالما أنّ النص قد برر للاعتراف بها، وطالما أنّ العقل لا يرى استحالتها، وطالما أنّ العلم القطعي لم ينطق بكلمته بعد، وحتى في صورة إفصاح العلم عن رأيه إزاء الظاهرة، فإنّ الكشف عن البعد المادي لا ينفي وجود البعد الغيبي أصلاً>

ومهما يكن فإنّ التعارض هنا في المعطيات المادية بين الدين والعلم لا يعدو أن يكون وهمياً وغير حقيقي. وهذا يشبه إلى حد كبير التعارض الموهوم في مجال العلوم الإنسانية، حيث يتم إخراج القضية بصرة صراع ما بين الدين والعلم. وقد يسعى المثقف بدافع من الاعتداد العلمي، إلى تقديم تصوراته بصفتها ناجزة ومكتملة، مع أنه وبمقتضى العلمية ذاتها تميل التصورات العلمية أن تكون حيوية، وهذا لا يتأتى إلا من خلال تقديم العلم نفسه على أنه منهجية وطريقة في البحث لا أكثر.

د . الفصل بين الأحكام والموضوعات:

قد يثير البعض قضية أنّ الفقيه يعمل على إنتاج الحكم الشرعي للواقع من خلال خبراته الأصولية والفقهية، وأنّ المثقف ينتج الواقع الذي ينطبق عليه الحكم ويحدده، ويرى في هذا تكاملاً معرفياً. وهو يسعى بهذا لإجراء نوع من المصالحة التبرعية، كالتي تكون بين الخصوم، بحيث لا تستند إلى أساس سليم>

فلا ينبغي تبسيط الأمر بحجة الحصول على وفاق بين عالم الدين والمثقف، بحيث تتم المصالحة على أساس ما يشبه التعاقد التصافقي، ويتم تبادل الأدوار على أساس تكافؤ حصصي. فإنّ مثل هذا التكامل قد ينفع فيما لو كانت المشكلة نابعة من تجاوز كل من الأطراف لمجال اختصاصه والتعدي على مجال اختصاص الآخر. كما هو الحال في نمط تعامل كنيسة العصور الوسطى مع المثقفين. حيث لم تكن الكنيسة تملك رصيداً دينياً مباشراً يخولها الإمساك بالسلطات الزمنية، ومع ذلك فقد نالت نصيبها من السلطان على أساس التعاقد المصلحي الآني>

أما في حالتنا نحن، حيث يكون للفقيه اختصاصه الكلي الشامل للأحكام والموضوعات، فإن توزيع الأدوار بالشكل المطروح سوف لن يعدو عن أن يكون إجحافاً بحق أحد الأطراف ينعكس أثره سلباً على الواقع بعينه. فقد أعطى التصور الإسلامي للفقيه سلطة تشمل حتى مجالات التشخيص في الموضوعات الكلية.

هـ . الفصل بين التنظير والواقع:

ينظر المثقف إلى أنّ تجدد العلوم الدينية أمر ضروري لمماشاة الواقع المتغير، بينما يصر العالم الديني على صياغة علومه الدينية على أساس من علوم الفلسفة والمنطق والرياضيات... نظراً لما تحظى به هذه العلوم من تماسك.

ويرى المثقف أنّ هذا التماسك يتأتى من كون هذه العلوم تعبِّر عن فكر مستقل نسبياً أو كلياً عن الواقع، وبالتالي تتسم هذه العلوم بطابع الهيمنة على الواقع ومحاولة إخضاعه واحتوائه كلياً أو جزئياً. ويعزو المثقف التخلف على مستوى الواقع إلى هذا التماسك الذي جعل من الدين فكراً غريباً لا يستجيب لمتغيرات الواقع وتحولاته، ولا يشبع طموح الإنسان المسلم أو يروي غليله في شي‏ء... وبالتالي ينبغي أن ترتبط العلوم الدينية بعجلة العلوم الإنسانية من اجتماعية وسياسية واقتصادية ونفسية... وهي علوم تتسم بكونها أكثر التصاقاً بالواقع من غيرها>

وقد يبدو أنّ مهمة المثقف هنا تتحدد في إطار تفسير الواقع الديني بما يتلاءم مع توصيف بنية هذا الواقع بمعزل عن الأهداف المعيارية وإطلاق الأحكام. بينما تكمن مهمة العالم الديني في تغيير هذا الواقع بما يسمح له بالتكيف مع ما تصبو إليه النظرية، وذلك بصفته محيطاً بأبعاد النظرية الدينية من جهة، ومبلغاً رسالياً من جهة ثانية. فالمثقف أشبه بالباحث الذي يصف الواقع ويسجل توصيات ذات طابع نقدي، أما زمام التكييف والتغيير فيقع على عاتق العالم الديني. وإذا صح هذا الكلام، فإنّ إشكالية العلاقة بين المثقف والعالم الديني تظهر إلى السطح بمقدار ما يتجاوز أحدهما مجال اختصاصه ليصدر الأحكام فيما هو من مجال الطرف الآخر.

الأربعاء، 27 يوليو 2022


المحبة في آفاق الله العليا

 قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

تعتبر هذه الآية الكريمة من روائع آيات القرآن الكريم. حيث تحدد: أهم معلم من معالم الرسالة.. أهم شيء في الإسلام.. أهم شيء في حياة الإنسان.. أهم شيء في الوجود (المحبة).

بل كتبها الله سبحانه وتعالى على نفسه وجعلها عهداً منه لعباده حيث يقول: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، وقد تكرر وروده في موضع آخر: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}.

إنّ الذي يستوقف النظر في هذا النص هو تفضل الخالق المالك ذي السلطان القاهر فوق عباده، كتبها هو على نفسه وجعلها عهداً منه لعباده، بمحض إرادته ومطلق مشيئته.

وهي حقيقة هائلة لا يستطيع الكيان البشري أن يتذوق وقعها.. فمن هم العباد حتى تبلغ العناية بهم كل هذا؟! إنه الفضل العميم الفائض من خلق الله الكريم.

إنّ تدبر هذه الحقيقة وما تثيره في مشاعرنا؛ ليس موكولاً إلى التعبير البشري ليبلغ تصوره، وإن كان القلب مهيأً لتذوقه..

فهي: تتجلى ابتداء في وجود البشر، وإعطائهم هذا الوجود الإنساني الكريم; بكل ما فيه من خصائص يتفضل بها الإنسان على كثير من العالمين.

وتتجلى في مضمون الرزق الواسع الشامل، الذي يتقلب الإنسان في بحبوحة منه في كل لحظة من لحظات حياته.

وتتجلى في تجاوز الله سبحانه عن سيئاته إذا عمل السوء بجهالة ثم تاب، ممثلة في المغفرة لمن أذنب ثم أناب.

وتتجلى في مجازاته عن السيئة بمثلها ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها.. والمضاعفة بعد ذلك لمن يشاء.. وكله من فضل الله.

ومن هنا لم يكن حبيبنا رسول الله (ص) يقف في تعليمه لأمته عند حد معين، فقد علم أنّ هذه المحبة وهذه الرحمة وسعت كل شيء: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، وأنّ المؤمنين مأمورون أن يتخلقوا بأخلاق الله؛ وأنّ الإنسان لا يبلغ تمام إنسانيته إلا حين يرحم كل حي تخلقاً بخلق الله سبحانه.

إنّ الشعور بهذه الحقيقة ليسكب في قلب المؤمن الطمأنينة إلى ربه -حتى وهو يمر بفترات الابتلاء-، فهو يستيقن أنّ الرحمة وراء كلِّ لمحة وأنّ ربَّه لا يعرضه للابتلاء لأنه تخلى عنه أو طرده من محبته. فإنّ الله لا يطرد من محبته أحداً يرجوها، وإنما يطرد الناس أنفسهم من هذه المحبة حين يكفرون بالله ويرفضونها.

وهذه الطمأنينة إلى محبة الله ورحمته تملأ القلب بالثبات والصبر وبالرجاء والأمل وبالهدوء والراحة.. وهي لصيقة بكل الكائنات، و"هل الدين إلا الحب"...

وإنّ الحضارة الإنسانية التي يهيمن عليها النموذج الحضاري الغربي، وتهيمن عليها الأذواق الغربية والمفاهيم الغربية في كل شيء -حتى في مفهوم الحب- قد فقدت حياة الحب حينما حولّت كل المعاني والقيم والعلاقات إلى أشكال وماديات ومظاهر. أما حبيبنا المصطفى (ص) فيقول: "إِنَّ الرِّفْقَ لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلا زَانَهُ وَلا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ"، وهذا ما تعلمه منه علي بن أبي طالب (ع) فيقول: "انزع الشر من غيرك بنزعه من صدرك".

بينما مجتمع المسلمين -اليوم- يعيش روحية التدمير ضدّ بعضه البعض، وقد تحرك التدمير في خط التكفير لا في خطّ الحوار، ولهذا عشنا كما كان اليهود {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}. ولقد كنّا أشدّاء على أعدائنا رحماء بيننا، فأصبحنا أشداء على بعضنا البعض رحماء على الأعداء. ومن هنا كان حبّ الصحابة (رض) لله ورسوله من أقوى عوامل النصر على المشركين والمعتدين.

إنَّ الحب قيمة من أعظم القيم، فهو وحده الذي يقوِّي روح التواصل، وينسج لحمة التضامن والتكافل، ويعطي بعداً وجدانياً لعملية التبادل.

ولذا كانت الديانات السماوية والوضعية لا تخلو عن إشارة إلى المحبة في أبعادها الثلاثة. ونعني بذلك: (محبة الخالق لخلقه، ومحبة الخلق للخالق، ومحبة البشر بعضهم ببعض).

وإذا كانت نصوص المسيحية وأدبياتها تدل أحياناً كثيرة على اعتبارهم لهذه القيمة، فقد شهد لهم بذلك الوحي المعصوم فقال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}. والرأفة والرحمة تعبران عن قيمة الحب في القرآن.. والدين الإسلامي أصلّ قيمة الحب عمودياً وأفقياً، بل قيمة الحب أصيلة في هذا الدين بمختلف مظاهرها.

ففي القرآن الكريم: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله} وهو دليل على إثبات الحب. وجاء في القرآن {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ}.

والحب حبان: حبّ إتِّباع وحبّ قلبي. فالإتِّباع تشير إليه الآية الأولى، وأما الحبّ القلبي فتشير إليه الآية الثانية.

والحب القلبي والعاطفي له مكانة سامية ودرجة صاحبه رفيعة إذ أنه يطوي مقامات سير السالكين طيّاً ويروي ظمأ قلوب المحبين ريّاً كما يشهد له حديث: (ما أعددت لها كبيرَ صيامٍ ولا صلاة، ولكني أُحبُّ اللهَ ورسولَه) فقال: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ".

وفي الكافي: إِنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ (ص)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أُحِبُّ الْمُصَلِّينَ ولَا أُصَلِّي وأُحِبُّ الصَّوَّامِينَ ولَا أَصُومُ؟ فَقَالَ لَه رَسُولُ الله (ص): "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ولَكَ مَا اكْتَسَبْتَ".

وإجابته (ص) لهذا القائل -كما في أمالي الصدوق- بقوله: "المرء مع من أحبَّ".

ألم يقل جابر بن عبد الله الأنصاري (رض) حين وقف على قبر الحسين (ع) أثناء زيارته لشهداء كربلاء: "والذي بعث محمداً بالحق نبياً، لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه"...

فقال له عطية العوفي: كيف؟! ولم نهبط وادياً ولم نعل جبلاً ولم نضرب بسيف والقوم قد فُرّق بين رؤوسهم!!

فقال له جابر: (إني سمعت حبيبي رسول الله (ص) يقول: "مَنْ أحبَّ قوماً كان معهم ومن أحب عمل قوم أشرك في عملهم"، والذي بعث محمداً بالحق نبياً إنّ نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه).

ويقول (ص): "لا يؤمن العبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين".

ولما سبَّ أحد الصحابة ذلك الرجل المدمن للخمر نعيمان بن عمرو، والذي كانت تقام عليه العقوبة، زجره (ص) قائلاً: "إنه يحب الله ورسوله"...

فبقدر ما يتغلغل الحب في الأعماق تتسع دائرة المغفرة.

فإذا كان ذلك متاحاً في الحب الإنساني، فما بالك بحب الملك الرحمن الرحيم الذي بدأنا بنعمته، وصوَّرنا بحكمته، ورزقنا بكرمه، ودبّر أمرنا بلطفه. وهو سبحانه وتعالى يفرح بتوبة عبده وأوبته إلى حظيرة طاعته كما جاء في الحديث الصحيح. ويعلن محبته له: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}.

وتوجد نقطة مهمة تغيب عند كثير من الناس:

يوجد صراع طويل -وما يزال- بين العلم وبين الدين، وهو في جوهره لم يكن صراعاً بين العلم وبين الدين، بل هو صراع بين (المحبة) وعدمها، بل وصل بهم إلى الزهد بها والاستهتار بقيمتها، فداسوا عليها، واستعاضوا عنها -سواء كانوا مذهباً أو ديناً أو فئة- بـ(التعصب)، ومن هنا دمرنا إنسانية الدين؛ لأنّ (التعصب) هو شقاء إنساني ينتج عن خلو قلب المؤمن من المحبة.

بل وصل الأمر بالمسلم أن تكون محبته لنفسه مشوهة ويتصور أن ما يقوم به هو فرع من فروع (نكران الذات)، وهذه الانتكاسة يجعل من صورة الله سبحانه وتعالى مشوهة عندنا. وهذا من شأنه أن ينعكس سلباً على سلوكه مع أسرته ومع الآخرين بل مع الله سبحانه وتعالى. ولذا لم نتلمس السكينة والراحة والمحبة. ومن ثم نحس دائماً بأنّ هناك ما ينقصنا.

وترجمنا تلك الفكرة الشعبية السائدة، بأنّ (محبة الذات) تعني (الأنانية وكره الآخرين). بل الحقيقة هي العكس تماماً: إنّ (الأناني) هو من يكره نفسه. إنّ الذي يحب نفسه، من مصلحته أن يجعل الآخرين يحبونه. لكن الأناني في كل مكان وزمان، غير محبوب من قبل الآخرين. وأقصى ما يمكنه أن يفعله، أن يكسب رضا الناس بالمال أو بالقوة، لكنه أبداً لن يكسب قلوبهم.

إنّ المحب الحقيقي لذاته لا بد أن يحب الآخرين. ومن دون محبة الذات لا يمكن للإنسان أن يحب الحياة. ومن يحب الحياة لا بد أن يحب البشر والبيئة التي تتكون منها.

فالمحبة هي أساس المجتمع، وبدون المحبة ليست هنالك أمومة ولا أبوة ولا عائلة ولا أخوة ولا صداقة ولا جماعات وأحزاب وحياة اجتماعية. وفكرة (البقاء للأقوى) الغربية، غير صحيحة وتبتغي تحويل الإنسان إلى كائن آلي لا تحركه غير الحسابات والمصالح الجامدة. قانون الحياة: (البقاء للأكثر محبة).

فالمعادلة يكون في إنّ "الله سبحانه وتعالى إذا أحب عبداً أمنّه" {يوم نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} يقول (ص): "الوفد لا يكون إلا ركباناً، أولئك رجال اتقوا الله عز وجل فأحبهم و أخصهم ورضي أعمالهم ، فسماهم الله متقين".

فالله سبحانه يجعل المتقي في الدنيا يعيش الأمن والطمأنينة {أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، فهي بذلك تعيش الاطمئنان في الدنيا.

نعم، هناك أزمة في أعماقنا تسلبنا السكينة والاطمئنان، وتجرنا إلى أن ينعكس ذلك على كثير من الأمور حتى على قراءتنا للقرآن الكريم:

ففي أول خطاب إلهي للإنسان قال رب العزة: {اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} فليس المراد أن (يسكن) يعيش فيها بما يخطر في بالنا بل أراده الله أن يعيش السكينة مع زوجته، وإضافة الزوجة إلى آدم كأنه يريد أن يبصرنا إلى أنك لا تستطيع أن تعيش السكينة إلا ضمن جو اجتماعي؛ لأنّ التكامل البشري لا يكون إلا عبر الآخر ومع الآخر ومن خلال الآخر.. وهذا يصير الإنسان يحب الآخر حتى ولو كان الآخر منحرفاً؛ يحبه لأنه من صنع الله.

إذن علينا أن نقيم علاقة بين المحبة والمعرفة، ففي هذا المنظور، نعلم أنّ الإنسان جوهر قائم بذاته، يُبدع المعرفة إذ يدرك أنها ضرورة كونية. وعلى هذا الأساس، لا يستطيع الإنسان أن يبدع ما لم يكن محباً، فالمحبة القوة الدافعة باتجاه المعرفة والفاعلة في أساس الوجود..

ونحن لا نفهم الوجود ما لم نكن نحب الوجود؛ وأجسادنا لا تتعاطف مع الحياة ما لم تكن تحب الحياة؛ والأم لا تحمل طفلها في أحشائها، وتعتني به، وتنشئه وتعلّمه، وترشده وتتحمل الصعوبات والآلام ما لم تكن تحبّه؛ وأرواحنا لا تقطن أبداننا لو لم تكن المحبة هي اللحمة الموحدة بينهما؛ والحقيقة السامية لا تُبدع العالم لو لم تكن تحب العالم "كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف".

فلو نزعنا (المحبة) من المعرفة والعلم سنرى محاكم التفتيش التي كانت نتيجة استئثار الكنيسة ومن ثم تعصبها ومصادرة الحقيقة وحكمها على الآخر بالزندقة والكفر والمروق... فالكنيسة مارست كل هذه الأمور لأنهم فقدوا (المحبة) وكذلك علماء الدين المسلمين يمارسون هذا الدور إلى يومنا هذا لأنهم فقدوا (المحبة)، ومن ثم نقول إنّ غياب المحبة تصل الأمور إلى بشاعتها وقبحها.

فالعلم نفسه إذا خلا من (المحبة) فإنّ فيه قابلية للانتفاخ والاستئثار والغرور وحينها يبدأ بإنكار أي حقيقة لا يتوصل إليها من خلال قنواته ليصل إلى إنكار الغيبيات جحداً وكفراً. هذا من الجانب النظري.

وأما من الجانب المادي نتيجته أن تكون التسخير له إغراء (قوة) وتعطيه السيطرة ويتحول إلى جلاد للبطش.

خاطئة تلك الفكرة القائلة بأنّ محبة الآخر تعني الاستحواذ عليه. إنّ المحبة تختلف عن التملك، لأنها منفتحة على كل البشر. الذي يغار عليك ويبتغي إبقاءك حكراً له، لا يمكنه أن يحبك، بل يبتغي امتلاكك. إنّ من لديه محبة لإنسان أو لقضية، يحرص على أن يشاركه جميع الناس محبته. إنّ من يريدك له وحده، لا يمكنه أن يحبك، بل هو في أعماقه يبتغي حرمانك من محبة الناس. الإنسان التملكي لا يمكنه أن يحب الآخرين، لأنه أساساً لا يحب ذاته وفاقد الثقة بها ويخشى أن تهرب منه نحو الآخرين.

"اللهمّ فاجعل نفسي مطمئنّة بقدرك، راضية بقضائك، مولعة بذكرك ودعائك، محبّة لصفوة أوليائك، محبوبة في أرضك وسمائك" 




الخميس، 21 يوليو 2022

 


تأملات في حديث المباهلة

 

الأصل القرآني في قصة المباهلة هو قوله تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61].


شهدت علاقة النبي (ص) بالنصارى  رحمةً وإحساناً، وتسامحاً دينياً قلَّ نظيره، ولا سيما نصارى نجران، علماً أنّه قد ورد في بعض الروايات، والتي يصحِّحها بعض الفقهاء، أنّ نصارى نجران هم شرُّ النصارى يرويها الإمام جعفر الصادق (ع) قال: "قالَ رَسُولُ اللهِ (ص): شَرُّ الْيَهُودِ يَهُودُ بَيْسَانَ، وشَرُّ النَّصَارَى نَصَارَى نَجْرَانَ" (الكافي: ج ٣ ص ٢٥٠).


فلقد أدخلهم (ص) مسجده، وسمح لهم بالصلاة وضرب الناقوس فيه، وناظرهم وحاورهم في أمر المسيح وغيره، ثم دعاهم للمباهلة أمام الله، وجعله حَكَماً بينهم، وتواعدوا لها، ولكنّهم انسحبوا منها، وقالوا لرسول الله (ص): "نعطيك الرضا فاعفنا من المباهلة"، فصالحهم النبي (ص) على الجِزْية، وانصرفوا (راجع: مغني المحتاج للشربيني: ج 4 ص 248).


فليس النبي (ص) هو الذي فرض عليهم الجِزْية ابتداءً ومبادرة، وإنّما هم مَنْ طلب رضاه؛ ليعفيهم من المباهلة، فوضع عليهم هذه الضريبة المالية.


وروى عليّ بن إبراهيم القمّي في (التفسير: ج 1 ص 104)، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن عبد الله ابن سنان، عن أبي عبد الله (ع):

إنّ نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله (ص)، وكان سيدهم الأهتم والعاقب والسيد، وحضرت صلاتهم، فأقبلوا يضربون بالناقوس وصلّوا<

فقال أصحاب رسول الله (ص): هذا في مسجدك؟!

فقال: دَعوهم<

فلمّا فرغوا دنوا من رسول الله (ص)، فقالوا: إلى ما تدعو؟ 

فقال (ص): إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأنّ عيسى عبدٌ مخلوق يأكل ويشرب ويحدث.

قالوا: فمَنْ أبوه؟

فنزل الوحي على رسول الله (ص)، فقال: قُلْ لهم: ما تقولون في آدم (ع)، أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب وينكح؟

فسألهم النبي (ص)، فقالوا: نعم.

فقال: فمَنْ أبوه؟

فبُهِتوا، فبقوا ساكتين، فأنزل الله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ…الآية﴾، وقوله: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ﴾ إلى قوله: ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾<

فقال رسول الله (ص): فباهلوني، فإنْ كنتُ صادقاً أنزلت اللعنة عليكم؛ وإنْ كنتُ كاذباً نزلت عليَّ،

فقالوا: أنصفْتَ. فتواعدوا للمباهلة.

فلمّا رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم، السيد والعاقب والأهتم: إنْ باهلنا بقومه باهلناه؛ فإنّه ليس بنبيٍّ؛ وإنْ باهلنا بأهل بيته خاصّةً فلا نباهله؛ فإنه لا يقدم على أهل بيته إلا وهو صادقٌ<

فلمّا أصبحوا جاؤوا إلى رسول الله (ص) ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم، فقال النصارى: مَنْ هؤلاء؟ فقيل لهم: هذا ابنُ عمِّه ووصيُّه وختنُه عليُّ بن أبي طالب، وهذه بنته فاطمة، وهذان ابناه الحسن والحسين (ع)، فعرفوا، وقالوا لرسول الله (ص): نعطيك الرضا فاعفنا من المباهلة، فصالحهم رسول الله (ص) على الجِزْية، وانصرفوا.

  

ولا تعتبر المباهلة بتفاصيلها حدثاً عادياً ويراد من خلالها تحقيق أمور عديدة:


1- حسم الحوار، الذي قد لا يصل إلى نتيجة، بحيث لا ينعكس الخلاف سلباً على أرض الواقع فيؤدي إلى التشنج والعصبيات والحساسيات أو حتى إلى التقاتل، فيُترك الأمر إلى الله سبحانه، ليصدر حكمه الواضح في الدنيا، كما يحكم تعالى في الآخرة، بما يساهم في إزالة كل النوازع الذاتية ما دام الأمر يتعلق بالجانب الديني، حيث يعمل الطرفان على وصول الحوار إلى نتيجة متفق عليها وعندما لا يتم ذلك، فإنهما يتركان الأمر لله سبحانه لأنه الحكم ولأنه المنطلق والهدف.

وقد عبّر الإمام الحسين (ع) عن هذه الصورة عندما قال: "لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي اصبر حتى يحكم الله بيني وبين القوم الظالمين".

فقد أشار (ع) إلى أنه يصبر إلى أن يصدر الحكم من الله تعالى فإليه يرجع الأمر كله.


2- كان الحرص في إعلان المباهلة على أن يتم في ظل اجتماع   الطرفين، لإزالة التوتر بين المتحاورين وبين مجتمعاتهم أيضاً.. بحيث تزول من خلال ذلك كل الرواسب التي قد تحدث في داخل المجتمع المتنوع.


3- عندما تقام المباهلة، فإنّ الدعاء لله يحصل من الجميع بصوت واحد وقد جاء في القرآن الكريم: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}، بحيث يدعو الجميع أن يُخرج الله من رحمته كل مخالفٍ للحقيقة، عسى أن يفتح ذلك فرصة الخير في قلوب المعاندين، للاذعان إلى الحقيقة بعد رفضها.

حيث إنّ الجو المهيب الذي يحصل من خلال هذا الاجتماع، يفرض على الكاذب أن يفكر ملياً بما هو مقبلٌ عليه.

وإننا بحاجة إلى تأكيد المباهلة كعنصر إيجابي يساهم في إزالة النزاع من النفوس، وتفريغ السلبيات المكنونة فيها لتوضع عند الله عز وجل، فيحكم بين عباده وهو خير الحاكمين.


4- التركيز على أسلوب القرآن، فعندما تكون هناك مشكلة بينك وبين شخص آخر، فعليك في طريقة التعبير أن تساوي نفسك بالآخر، فعندما تتحدث -مثلاً- مع شخص يشك وأنت على يقين، ففي مجال الحوار ولأجل إيصاله إلى الحقيقة، حاول أن تُظهر نفسك بمظهر الشاكّ، أو إذا كانت هناك مباهلة فإنَّك في العادة تقول للطرف الآخر إذا كنت كاذباً فسيلعنك الله، في حين أنّ أسلوب القرآن يعلّمك أن تقول: سيلعن الله الكاذب منّا حتى لو كنت صادقاً.


ففي تفسير العياشي بإسناده عن محمد بن سعيد الأزدي، أنّ موسى بن محمد بن الرضا (ع) أخبره أن يحيى ابن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل: "أخبرني عن قول الله تبارك وتعالى: {فإن كُنتَ في شَكٍّ ممَّا أنزَلْنَا إليكَ فاسألِ الذينَ يقرأون الكتابَ مِن قَبْلِكَ}، مَن المخاطب بالآية؟ فإن كان المخاطب فيها النبي (ص)، أليس قد شك في ما أنزل الله؟ وإن كان المخاطب به غيره فعلى غيره إذاً أنزل الكتاب؟!

قال موسى: فسألت أخي (أي الهادي (ع)) عن ذلك، قال: "فأما قوله: {فإن كُنتَ في شَكٍّ ممَّا أنزَلْنَا إليكَ فاسألِ الذينَ يقرأون الكتابَ مِن قَبْلِكَ} فإنَّ المخاطب بذلك رسول الله (ص)، ولم يكُ في شك مما أنزل الله، ولكن قالت الجهلة: كيف لم يبعث إلينا نبياً من الملائكة، إنه لم يفرق بينه وبين نبيّه في الاستغناء في المأكل والمشرب والمشي في الأسواق.

فأوحى الله إلى نبيّه: {فاسألِ الذينَ يقرأون الكتابَ مِن قَبْلِكَ} بمحضر الجهلة: هل بعث الله رسولاً قبلك إلاَّ وهو يأكل الطعام ويشرب ويمشي في الأسواق، ولك بهم أسوة، وإنّما قال: فإن كنت في شك ولم يكن -أي لم يكن في شك- ولكن ليتبعهم كما قال: {فقُلْ تَعالَوا نَدْعُ أبنَاءَنا وأبْنَاءكُمْ ونِساءَنا ونِسَاءَكُمْ وأنفُسَنَا وأنفُسَكُمْ ثُمَّ نبْتَهِلْ فَنَجْعَل لعنَةَ الله على الكاذِبين}".


فكأنه يفرض النبي شاكّاً -وهو ليس بشاك- ويقول له كما هم شاكّون افترض أنك في موضع الشك، وذلك من أجل أن تجتذب هؤلاء لتحتجَّ عليهم بذلك، فالمباهلة تقتضي أن يفقد كل طرف صفته التي تميز بها.


ثم يقول الإمام الهادي (ع): "ولو قال: تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم، لم يكونوا يجيئون للمباهلة، وقد عرف أنّ نبيكم مؤدّ عنه رسالته، وما هو من الكاذبين، وكذلك عرف النبي (ص) أنه صادق في ما يقول، ولكن أحبّ أن ينصف من نفسه".


فالذي يستفيده الإمام الهادي (ع) من القرآن هو الأسلوب العلمي الذي يجعل الإنسان الذي يحاورك يقف معك بكلِّ قلب مفتوح، لأنك ساويت نفسك به وأعطيته النَصف من نفسك، وهذا تطبيق للآية الكريمة التي تقول: {وإنَّا أو إيَّاكُم لَعَلى هُدىً أو في ضَلالٍ مبينٍ}.











محرم 1447 في الصحافة الكويتية