الأربعاء، 27 يوليو 2022


المحبة في آفاق الله العليا

 قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

تعتبر هذه الآية الكريمة من روائع آيات القرآن الكريم. حيث تحدد: أهم معلم من معالم الرسالة.. أهم شيء في الإسلام.. أهم شيء في حياة الإنسان.. أهم شيء في الوجود (المحبة).

بل كتبها الله سبحانه وتعالى على نفسه وجعلها عهداً منه لعباده حيث يقول: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، وقد تكرر وروده في موضع آخر: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}.

إنّ الذي يستوقف النظر في هذا النص هو تفضل الخالق المالك ذي السلطان القاهر فوق عباده، كتبها هو على نفسه وجعلها عهداً منه لعباده، بمحض إرادته ومطلق مشيئته.

وهي حقيقة هائلة لا يستطيع الكيان البشري أن يتذوق وقعها.. فمن هم العباد حتى تبلغ العناية بهم كل هذا؟! إنه الفضل العميم الفائض من خلق الله الكريم.

إنّ تدبر هذه الحقيقة وما تثيره في مشاعرنا؛ ليس موكولاً إلى التعبير البشري ليبلغ تصوره، وإن كان القلب مهيأً لتذوقه..

فهي: تتجلى ابتداء في وجود البشر، وإعطائهم هذا الوجود الإنساني الكريم; بكل ما فيه من خصائص يتفضل بها الإنسان على كثير من العالمين.

وتتجلى في مضمون الرزق الواسع الشامل، الذي يتقلب الإنسان في بحبوحة منه في كل لحظة من لحظات حياته.

وتتجلى في تجاوز الله سبحانه عن سيئاته إذا عمل السوء بجهالة ثم تاب، ممثلة في المغفرة لمن أذنب ثم أناب.

وتتجلى في مجازاته عن السيئة بمثلها ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها.. والمضاعفة بعد ذلك لمن يشاء.. وكله من فضل الله.

ومن هنا لم يكن حبيبنا رسول الله (ص) يقف في تعليمه لأمته عند حد معين، فقد علم أنّ هذه المحبة وهذه الرحمة وسعت كل شيء: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، وأنّ المؤمنين مأمورون أن يتخلقوا بأخلاق الله؛ وأنّ الإنسان لا يبلغ تمام إنسانيته إلا حين يرحم كل حي تخلقاً بخلق الله سبحانه.

إنّ الشعور بهذه الحقيقة ليسكب في قلب المؤمن الطمأنينة إلى ربه -حتى وهو يمر بفترات الابتلاء-، فهو يستيقن أنّ الرحمة وراء كلِّ لمحة وأنّ ربَّه لا يعرضه للابتلاء لأنه تخلى عنه أو طرده من محبته. فإنّ الله لا يطرد من محبته أحداً يرجوها، وإنما يطرد الناس أنفسهم من هذه المحبة حين يكفرون بالله ويرفضونها.

وهذه الطمأنينة إلى محبة الله ورحمته تملأ القلب بالثبات والصبر وبالرجاء والأمل وبالهدوء والراحة.. وهي لصيقة بكل الكائنات، و"هل الدين إلا الحب"...

وإنّ الحضارة الإنسانية التي يهيمن عليها النموذج الحضاري الغربي، وتهيمن عليها الأذواق الغربية والمفاهيم الغربية في كل شيء -حتى في مفهوم الحب- قد فقدت حياة الحب حينما حولّت كل المعاني والقيم والعلاقات إلى أشكال وماديات ومظاهر. أما حبيبنا المصطفى (ص) فيقول: "إِنَّ الرِّفْقَ لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلا زَانَهُ وَلا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ"، وهذا ما تعلمه منه علي بن أبي طالب (ع) فيقول: "انزع الشر من غيرك بنزعه من صدرك".

بينما مجتمع المسلمين -اليوم- يعيش روحية التدمير ضدّ بعضه البعض، وقد تحرك التدمير في خط التكفير لا في خطّ الحوار، ولهذا عشنا كما كان اليهود {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}. ولقد كنّا أشدّاء على أعدائنا رحماء بيننا، فأصبحنا أشداء على بعضنا البعض رحماء على الأعداء. ومن هنا كان حبّ الصحابة (رض) لله ورسوله من أقوى عوامل النصر على المشركين والمعتدين.

إنَّ الحب قيمة من أعظم القيم، فهو وحده الذي يقوِّي روح التواصل، وينسج لحمة التضامن والتكافل، ويعطي بعداً وجدانياً لعملية التبادل.

ولذا كانت الديانات السماوية والوضعية لا تخلو عن إشارة إلى المحبة في أبعادها الثلاثة. ونعني بذلك: (محبة الخالق لخلقه، ومحبة الخلق للخالق، ومحبة البشر بعضهم ببعض).

وإذا كانت نصوص المسيحية وأدبياتها تدل أحياناً كثيرة على اعتبارهم لهذه القيمة، فقد شهد لهم بذلك الوحي المعصوم فقال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}. والرأفة والرحمة تعبران عن قيمة الحب في القرآن.. والدين الإسلامي أصلّ قيمة الحب عمودياً وأفقياً، بل قيمة الحب أصيلة في هذا الدين بمختلف مظاهرها.

ففي القرآن الكريم: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله} وهو دليل على إثبات الحب. وجاء في القرآن {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ}.

والحب حبان: حبّ إتِّباع وحبّ قلبي. فالإتِّباع تشير إليه الآية الأولى، وأما الحبّ القلبي فتشير إليه الآية الثانية.

والحب القلبي والعاطفي له مكانة سامية ودرجة صاحبه رفيعة إذ أنه يطوي مقامات سير السالكين طيّاً ويروي ظمأ قلوب المحبين ريّاً كما يشهد له حديث: (ما أعددت لها كبيرَ صيامٍ ولا صلاة، ولكني أُحبُّ اللهَ ورسولَه) فقال: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ".

وفي الكافي: إِنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ (ص)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أُحِبُّ الْمُصَلِّينَ ولَا أُصَلِّي وأُحِبُّ الصَّوَّامِينَ ولَا أَصُومُ؟ فَقَالَ لَه رَسُولُ الله (ص): "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ولَكَ مَا اكْتَسَبْتَ".

وإجابته (ص) لهذا القائل -كما في أمالي الصدوق- بقوله: "المرء مع من أحبَّ".

ألم يقل جابر بن عبد الله الأنصاري (رض) حين وقف على قبر الحسين (ع) أثناء زيارته لشهداء كربلاء: "والذي بعث محمداً بالحق نبياً، لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه"...

فقال له عطية العوفي: كيف؟! ولم نهبط وادياً ولم نعل جبلاً ولم نضرب بسيف والقوم قد فُرّق بين رؤوسهم!!

فقال له جابر: (إني سمعت حبيبي رسول الله (ص) يقول: "مَنْ أحبَّ قوماً كان معهم ومن أحب عمل قوم أشرك في عملهم"، والذي بعث محمداً بالحق نبياً إنّ نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه).

ويقول (ص): "لا يؤمن العبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين".

ولما سبَّ أحد الصحابة ذلك الرجل المدمن للخمر نعيمان بن عمرو، والذي كانت تقام عليه العقوبة، زجره (ص) قائلاً: "إنه يحب الله ورسوله"...

فبقدر ما يتغلغل الحب في الأعماق تتسع دائرة المغفرة.

فإذا كان ذلك متاحاً في الحب الإنساني، فما بالك بحب الملك الرحمن الرحيم الذي بدأنا بنعمته، وصوَّرنا بحكمته، ورزقنا بكرمه، ودبّر أمرنا بلطفه. وهو سبحانه وتعالى يفرح بتوبة عبده وأوبته إلى حظيرة طاعته كما جاء في الحديث الصحيح. ويعلن محبته له: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}.

وتوجد نقطة مهمة تغيب عند كثير من الناس:

يوجد صراع طويل -وما يزال- بين العلم وبين الدين، وهو في جوهره لم يكن صراعاً بين العلم وبين الدين، بل هو صراع بين (المحبة) وعدمها، بل وصل بهم إلى الزهد بها والاستهتار بقيمتها، فداسوا عليها، واستعاضوا عنها -سواء كانوا مذهباً أو ديناً أو فئة- بـ(التعصب)، ومن هنا دمرنا إنسانية الدين؛ لأنّ (التعصب) هو شقاء إنساني ينتج عن خلو قلب المؤمن من المحبة.

بل وصل الأمر بالمسلم أن تكون محبته لنفسه مشوهة ويتصور أن ما يقوم به هو فرع من فروع (نكران الذات)، وهذه الانتكاسة يجعل من صورة الله سبحانه وتعالى مشوهة عندنا. وهذا من شأنه أن ينعكس سلباً على سلوكه مع أسرته ومع الآخرين بل مع الله سبحانه وتعالى. ولذا لم نتلمس السكينة والراحة والمحبة. ومن ثم نحس دائماً بأنّ هناك ما ينقصنا.

وترجمنا تلك الفكرة الشعبية السائدة، بأنّ (محبة الذات) تعني (الأنانية وكره الآخرين). بل الحقيقة هي العكس تماماً: إنّ (الأناني) هو من يكره نفسه. إنّ الذي يحب نفسه، من مصلحته أن يجعل الآخرين يحبونه. لكن الأناني في كل مكان وزمان، غير محبوب من قبل الآخرين. وأقصى ما يمكنه أن يفعله، أن يكسب رضا الناس بالمال أو بالقوة، لكنه أبداً لن يكسب قلوبهم.

إنّ المحب الحقيقي لذاته لا بد أن يحب الآخرين. ومن دون محبة الذات لا يمكن للإنسان أن يحب الحياة. ومن يحب الحياة لا بد أن يحب البشر والبيئة التي تتكون منها.

فالمحبة هي أساس المجتمع، وبدون المحبة ليست هنالك أمومة ولا أبوة ولا عائلة ولا أخوة ولا صداقة ولا جماعات وأحزاب وحياة اجتماعية. وفكرة (البقاء للأقوى) الغربية، غير صحيحة وتبتغي تحويل الإنسان إلى كائن آلي لا تحركه غير الحسابات والمصالح الجامدة. قانون الحياة: (البقاء للأكثر محبة).

فالمعادلة يكون في إنّ "الله سبحانه وتعالى إذا أحب عبداً أمنّه" {يوم نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} يقول (ص): "الوفد لا يكون إلا ركباناً، أولئك رجال اتقوا الله عز وجل فأحبهم و أخصهم ورضي أعمالهم ، فسماهم الله متقين".

فالله سبحانه يجعل المتقي في الدنيا يعيش الأمن والطمأنينة {أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، فهي بذلك تعيش الاطمئنان في الدنيا.

نعم، هناك أزمة في أعماقنا تسلبنا السكينة والاطمئنان، وتجرنا إلى أن ينعكس ذلك على كثير من الأمور حتى على قراءتنا للقرآن الكريم:

ففي أول خطاب إلهي للإنسان قال رب العزة: {اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} فليس المراد أن (يسكن) يعيش فيها بما يخطر في بالنا بل أراده الله أن يعيش السكينة مع زوجته، وإضافة الزوجة إلى آدم كأنه يريد أن يبصرنا إلى أنك لا تستطيع أن تعيش السكينة إلا ضمن جو اجتماعي؛ لأنّ التكامل البشري لا يكون إلا عبر الآخر ومع الآخر ومن خلال الآخر.. وهذا يصير الإنسان يحب الآخر حتى ولو كان الآخر منحرفاً؛ يحبه لأنه من صنع الله.

إذن علينا أن نقيم علاقة بين المحبة والمعرفة، ففي هذا المنظور، نعلم أنّ الإنسان جوهر قائم بذاته، يُبدع المعرفة إذ يدرك أنها ضرورة كونية. وعلى هذا الأساس، لا يستطيع الإنسان أن يبدع ما لم يكن محباً، فالمحبة القوة الدافعة باتجاه المعرفة والفاعلة في أساس الوجود..

ونحن لا نفهم الوجود ما لم نكن نحب الوجود؛ وأجسادنا لا تتعاطف مع الحياة ما لم تكن تحب الحياة؛ والأم لا تحمل طفلها في أحشائها، وتعتني به، وتنشئه وتعلّمه، وترشده وتتحمل الصعوبات والآلام ما لم تكن تحبّه؛ وأرواحنا لا تقطن أبداننا لو لم تكن المحبة هي اللحمة الموحدة بينهما؛ والحقيقة السامية لا تُبدع العالم لو لم تكن تحب العالم "كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف".

فلو نزعنا (المحبة) من المعرفة والعلم سنرى محاكم التفتيش التي كانت نتيجة استئثار الكنيسة ومن ثم تعصبها ومصادرة الحقيقة وحكمها على الآخر بالزندقة والكفر والمروق... فالكنيسة مارست كل هذه الأمور لأنهم فقدوا (المحبة) وكذلك علماء الدين المسلمين يمارسون هذا الدور إلى يومنا هذا لأنهم فقدوا (المحبة)، ومن ثم نقول إنّ غياب المحبة تصل الأمور إلى بشاعتها وقبحها.

فالعلم نفسه إذا خلا من (المحبة) فإنّ فيه قابلية للانتفاخ والاستئثار والغرور وحينها يبدأ بإنكار أي حقيقة لا يتوصل إليها من خلال قنواته ليصل إلى إنكار الغيبيات جحداً وكفراً. هذا من الجانب النظري.

وأما من الجانب المادي نتيجته أن تكون التسخير له إغراء (قوة) وتعطيه السيطرة ويتحول إلى جلاد للبطش.

خاطئة تلك الفكرة القائلة بأنّ محبة الآخر تعني الاستحواذ عليه. إنّ المحبة تختلف عن التملك، لأنها منفتحة على كل البشر. الذي يغار عليك ويبتغي إبقاءك حكراً له، لا يمكنه أن يحبك، بل يبتغي امتلاكك. إنّ من لديه محبة لإنسان أو لقضية، يحرص على أن يشاركه جميع الناس محبته. إنّ من يريدك له وحده، لا يمكنه أن يحبك، بل هو في أعماقه يبتغي حرمانك من محبة الناس. الإنسان التملكي لا يمكنه أن يحب الآخرين، لأنه أساساً لا يحب ذاته وفاقد الثقة بها ويخشى أن تهرب منه نحو الآخرين.

"اللهمّ فاجعل نفسي مطمئنّة بقدرك، راضية بقضائك، مولعة بذكرك ودعائك، محبّة لصفوة أوليائك، محبوبة في أرضك وسمائك" 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محرم 1447 في الصحافة الكويتية