الأحد، 18 سبتمبر 2022


 

الرسول القدوة (ص) في كلام الإمام علي

من خطبة لأمير المؤمنين يصف فيها النبي (ص) قال: "طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ، وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ، يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ؛ مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ، وَآذَانٍ صُمٍّ، وَأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ، مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ، وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ الْحِكْمَةِ، وَلَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ الْعُلُومِ الثَّاقِبَةِ، فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْأَنْعَامِ السَّائِمَةِ وَالصُّخُورِ الْقَاسِيَةِ".

في ذكرى وفاة رسول الله (ص) نريد أن نستنطق تلميذه علياً (ع)؛ لنقف على ملامح الاقتداء والتأسي في شخصية نموذج المعلم الأكبر للمسلمين رسول الله (ص)؛ ولأنه النموذج المتأسى بها فلا يسعنا إلا أن نحلِّق في كلمات ألصق الناس به، وأكثرهم محبة له، وأشدهم التزاماً بتعليماته، وأفضلهم في حمل علمه ووعيه، والذي نال شرف أن وصفه الله بأنه نفس الرسول في عقله وقلبه وروحه.

نحاول أن نستمع إلى أمير المؤمنين (ع)، وهو يحدثنا عن المحطات المهمة التي من خلالها نقف على ما يقربنا من الرسول المعلم والقائد والنبي والرسول المرشد:

@ خصائص الدعوة النبوية (الحركة الدائبة):

ما هي شخصية الرسول القائد؟ هل هو إنسان غيبي في شخصه وفي إمكاناته؟ هل من المفروض في الرسول الذي يرتبط بالله من خلال الوحي أن يكون في طبيعته شخصاً غير عادي، كما هو حال الوحي شيء غير عادي في جوهره؟ ... فما زال البعض -منا- لا يستطيع أن يتعامل مع النبوة من منطق أنه بشر فيه كل مكونات الجسد المادي.

يصوِّر لنا الإمام علي (ع) كيف كان رسول الله (ص) يتحرك بين الناس، فلم يكن يجمد في بيته بحيث ينتظر الناس ليأتوا إليه، كما يفعل الكثيرون من الذين لا يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن التحرك مع الناس، فهم المقصودون لا القاصدون في تصورهم؛ فإذا سألوهم أجابوا، وإذا لم يسألوهم رأوا أنفسهم في حلٍّ.

فالرسول (ص) على عكس ذلك تماماً؛ فهو يمسك بمفارق الطرق لكيلا ينتشر الوباء ويتفشّى بين الأمة؛ "طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ"؛ يداوي جرحى العقول والقلوب، وجرحى الأخلاق والآداب، وجرحى القيم والمثل، وجرحى الجهل والتخلف.

"وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ" والميسم هو المكواة، باعتبار أنَّ (آخر الدواء الكي)، فقد لا ينفع المرهم الذي يمثل دواءً عادة، فلا يكون أمام الطبيب سوى الكيّ.

"يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ" يضع الدواء لعلاج مرض هنا، وقد يكوي مرضاً هناك.

"مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ، وَآذَانٍ صُمٍّ" يعالجها حتى تبصر، ويعالجها حتى تستمع بعد صمم وصدود.

"وَأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ" ويداويها حتى تنطق بعد صمت رهيب..

"مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ، وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ" فهو (ص) يتحرك مع الناس الغافلين، الذين لم ينفتحوا على الوعي الحقيقي، فكانوا في ظلمة الغفلة يتقلبون؛ ليعيدهم (ص) إلى وعيهم ورشدهم، فهو كما الطبيب يحاول أن يدرس كلّ مظاهر المرض، وكلّ أوضاع المرضى.

"لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ الْحِكْمَةِ، وَلَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ الْعُلُومِ الثَّاقِبَةِ" ومعنى أن يقدح الزناد أن يخرج النور من خلاله، وكأن ّ الإنسان عندما ينفتح على العلم فإنّه يضيء له النور الذي يبدّد ظلام الجهل. "فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْأَنْعَامِ السَّائِمَةِ وَالصُّخُورِ الْقَاسِيَةِ"..

وهنا ينبغي أن نتساءل: ما العلاقة بين الطبيب والداعية؟

للأطباء منهجان في معالجة المرض: أحدهما إيجابي، والآخر سلبي:

ففي المنهج الإيجابي، نرى الطبيب يقول للمريض: احتقن بهذه الإبرة، استعمل هذا الكبسول، اشرب من هذا الشراب ملعقة واحدة كل ثمان ساعات. وفي الجانب السلبي يقول للمريض: لا تستعمل الأكلات الدسمة لا تأكل الحلويات..

فالمنهج الديني يشبه المنهج الطبي تماماً، فيقول للمسلم من جهة: أقم الصلاة، أدِّ الزكاة، ليكن كسبك حلالاً، ... ويقول له من جهة أخرى: لا تكذب، لا تفحش، لا تغتب... فالجانب الايجابي في الدين يسمى بالواجبات، بينما يطلق اسم المحرمات على الجانب السلبي.

وإذا ألقينا نظرةً فاحصةً على المنهج الطبي، لوجدنا موضوع الوقاية من العدوى، وترك القيام ببعض الأمور (الحمية) مهماً إلى درجة أنّ المريض لو لم يواظب على التوصيات اللازمة فالمعالجات الايجابية لا تنفعه أصلاً.

كذلك هو المنهج الديني؛ يرشدك إلى جملة من التوصيات الأخلاقية والإرشادية لتكون في وقاية من أمرك.

إذن لم يقتصر دور الرسول (ص) النبوي على الجانب الفقهي في بيان ما هو حلال وبيان ما هو حرام فقط، وإنما عمل (ص) إلى جانب ذلك، وسعى جاهداً لتربية المجتمع على المبادئ والقيم الأخلاقية، وتثقيفه بالفكر الإسلامي، ومن أجل هذا انطلق، في واقع المجتمع، وانتقل فيه من موقع إلى موقع، يلتقي بالناس ليحاورهم وليعلمهم وليرشدهم.

وقد أدّى (ص) هذا الدور بكل رحابة صدر، فلم يعكِّر جبينه، ولم يعقِّد حاجبيه، بل قابل السيئة بالحسنة، وبالحسنة بأحسن منها، سلاحه الإقناع، وأسلوبه الموعظة الحسنة.

وكان منهجه (ص) هو قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}، فالمبادرة والمسارعة إلى الخيرات أمر دعا إليه القرآن، وحث عليه الإسلام قال تعالى: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ}. {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}.. وفي ذلك حثٌ واستعجال على جميع الطاعات.

قال (ص): "بادروا بالأعمال"، "والتؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة".

فما هي حالُنا مع المبادرة؟

وما هي حالُ أسلافنا؟

لماذا يعترينا الضعفٌ أحياناً في المبادرة؟

وما هي الأمور المعينة على المبادرة؟

ألم يحثنا أهل البيت (ع) على المبادرة بأقرب الناس إلينا: "بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة".

ويختصر لنا تلميذه الإمام علي (ع) هذا المنهج فقال: "لأنسُبَنَّ الإسلامَ نسبةً لم ينسبها أحد قبلي: الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل".

وعليه فإنّ الدعوة إليه، وتعريف الناس به، وإقناعهم بالإقبال عليه، والتجاوب مع قيمه ومبادئه وتوجيهاته، وإبعادهم عن التناقض معه، والتصادم به... يصبح أمراً محتوماً لا بديل لاستقامة حياة الإنسان، وتناغم سعيه في العمارة مع سنن الله في الآفاق والنفس والكتاب.

وهو ما أكدته النصوص الكثيرة في القرآن، وارتقت به إلى قمة الأعمال الجليلة عند الله تعالى، لما يترتب عليه من الخير العظيم للناس الذين يعرفون الحق ويقبلون على الالتزام به كما قال تعالى: {وَمـَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.

@ كيف تصنع القيادة (التأسي بالرسول):

كان أمير المؤمنين (ع) يتحدث عن صفات رسول الله (ص) في حياته الخاصة، يقول (ع) وهو يخاطب بعض الناس: "فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَرِ (ص)؛ فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى، وَعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى، وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ، وَالْمُقْتَصُّ لِأَثَرِهِ" الذي يمشي وراءه.

-        قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً: لم يأكلها ليشبع منها.

-       وَلَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً: لم يلتفت إليها ليحدق فيها بكل عينيه وينبهر.

-       أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً، وَأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً: كان الضعيف وكان خميص البطن.

-       عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ، وَحَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ وَصَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ: كان يبغض ما يبغضه الله مهما كان الناس يتنازعون فيه، وكان يحقّر ما حقّره الله حتى لو كان الناس يعظّمونه.

-       وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا (وهذه هي مشكلتنا) إِلَّا حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَتَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ اللهُ وَرَسُولُهُ لَكَفَى بِهِ شِقَاقاً لِلهِ، وَمُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللهِ: فمن أحب من أبغضه الله وما أبغضه، ومن كبّر ما صغّره الله ومن صغّره، فإنه يكون ممن شاقّ الله وحادّه.

-       وَلَقَدْ كَانَ (ص) يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ، وَيَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ، وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ (من دون سرج) وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ (يُجلس شخصاً وراءه)، وَيَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ فَيَقُولُ: يَا فُلَانَةُ -لِإِحْدَى أَزْوَاجِهِ- غَيِّبِيهِ عَنِّي، فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا وَزَخَارِفَهَا، فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وَأَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ".

فالنبي الأكرم (ص) لم يرفض الدنيا لأنها حرام، بل إنّ الله تعالى قال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، ولكنه (ص) أراد أن يعيش للرسالة كلها، وأن لا يُشغل نفسه بالدنيا كما يُشغل الآخرون أنفسهم بها، فتكون أكبر همهم، فيبتعدون عن رسالتهم ومسؤولياتهم وطاعتهم لله طلباً للدنيا.

وقد أشار الإمام علي (ع) إلى قضية مهمة، وهي التأسي بالنبي الكريم (ص) "فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَرِ (ص)؛ فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى"؛ لأنّ الله أمرنا الأخذ بسنّة رسول الله (ص): {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطَاعَ اللهُ}.

وفي ضوء ذلك، نواجه موقف الذين يقولون "حسبنا كتاب الله" و "أننا نأخذ بما جاء في القرآن ونترك غيره"؛ على اعتبار أنّ القرآن هو المصدر المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ونترك كل الأحاديث المروية عن النبي (ص)، والتي قد تكون محل تأملٍ أو محل شكٍ وما إلى ذلك.

ونردّ على هؤلاء: أنّ الأخذ بكتاب الله يقتضي الأخذ بسنّة رسوله؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى أمـرنا في كتابه أن نتبع الرسول، وأن نطيعه في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه؛ حتى إنّ الله جعل سيرة الرسول (ص) شريعةً للناس ليأخذوا بها: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً}، ونحن نعرف أنّ النبي (ص) كان يمثّل القرآن الناطق ويجسّده، بحيث كان الناس يسمعون الآية من لسانه ويجدونها مجسّدة في سلوكه.

لا سيما في عهد الرسالة الأول؛ باعتبار أنّ الوحي كان ينطلق من الفكرة العامة على مستوى النظرية، ومن حركة التجربة الواقعية على مستوى التطبيق، فكان الناس يرون النبي (ص) في مضمون الآيات، ويحدّقون به في حركة الواقع، فيجدون وحدة الخطّ الفكري مع التجسيد الإنساني الواقعي وفي سلوكه العملي مع الناس؛ لأنّه ليس من الطبيعي أن تكون الصورة النبوية في الوجدان الإسلامي في تلك المرحلة -التي تؤسس للمراحل القادمة- بعيدة عن الصورة الواقعية.

وكذلك الحال علينا أن نتأمل تجربة الإمام علي (ع) من حيث النص والواقع.. لأنه الإنسان الذي شرى نفسه وباعها لله، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}. وكان سر علي (ع) أنه لم يفكر في نفسه قط، بل كلُّ فكره لله سبحانه، ويقول: "ليس أمري وأمركم واحداً، إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم".. فكانت علاقته بالناس من خلال علاقتهم بالله تعالى.

هذا هو عنوان التأسي بالنبي (ص) عند علي (ع).. وهو القائل: "ألا وأن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد".

@ الخصائص النفسية والسلوكية للنبي (تغلغله (ص) في وجدان كل الناس):

إنّ أصدق كلمة يقولها إنسان عندما يقف على جسد شخص مسجى يبثه لواعجه ومكنونه، وقد كان لعلي (ع) قولٌ، يدلل على مدى فداحة الخسارة التي أُصيب بها المسلمون بانتقال رسول الله (ص) إلى الرفيق الأعلى يقول: "بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالإِنْبَاءِ وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ.."..

أعظم فداحة على الأمة هو انقطاع الأمة عن النبوة؛ بحيث كان كل نبي عندما يموت يخلفه نبيّ آخر في كل مسيرة الأنبياء.. ولكن بموت رسول الله (ص) انقطع الوحي من السماء، لقد كانت السماء تُنزل علينا ما يسدد خطانا ويفتح آفاقنا وينير عقولنا وينظم حياتنا، وتعطينا من خلال النبي (ص) الكثير من الأنباء والأخبار التي تتصل بالحياة من حولنا.. إنَّ رحيل النبي (ص) عن هذه الدنيا يمثل الوفاة التي انقطع بها خبر السماء عن الأرض وانتهت بذلك مرحلة النبوة والأنبياء.

ثم يصف الإمام (ع) النبي (ص) في خصوصيته، بما أعطاه الله من المميزات، وبما انفتح به على الواقع من حوله، بحيث استطاع أن يكون السلوى عمن سواه؛ لأنه (ص) ملأ الساحة كلها بما أعطاه الله سبحانه وتعالى من خصائصه التي لم يعطها لسواه:

أ- "خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ" بحيث كان كل إنسان يجد فيك السلوى عن أي نبي أو قريب إلى الله.

ب- "وَعَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً" لقد عاش (ص) الشمولية للناس، فهي شخصية امتدت في وجدان الناس حتى صار الناس فيك سواء، وانطلق هؤلاء ليشعر كل واحد منهم بامتداد رسول الله (ص) الذي لا يختص به أحد دون أحد.

"وَلَوْلا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ وَنَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ (أردت لنا أن نصبر حتى على أشد المصائب التي تواجهنا في الحياة، لأنّ الله أراد للناس أن يصبروا لأنّ الصبر من عزم الأمور) لأنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّؤونِ (كل ما في عيوننا من الدمع) وَلَكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلاً (لكان المرض مستمراً) وَالْكَمَدُ مُحَالِفاً (والكمد هو التعبير عن حالة الحزن الشديد) وَقَلا لَكَ (فمهما بلغت حالة الكمد والداء والبكاء فإنّ كل ذلك يبقى قليلاً) وَلَكِنَّهُ مَا لا يُمْلَكُ رَدُّهُ، وَلا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ".

وهو أن يسأل رسول الله (ص) لأمتّه التوفيق لهم بالخير والصلاح. بمقدار ما تكون أنت مع النبي (ص) فقد ذكرك النبي (ص) في ذلك العالم {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون}.

وفي كلمة أخرى عندما وقف (ع) على قبر رسول الله (ص) بعد أن دفنه، والقوم مشغولون بما كان يمكن أن يُشغلوا به بعد ذلك، فقال على قبره (ص): "إِنَّ الصَّبْرَ لَجَمِيلٌ إِلا عَنْكَ، وَإِنَّ الْجَزَعَ لَقَبِيحٌ إِلا عَلَيْكَ، وَإِنَّ الْمُصَابَ بِكَ لَجَلِيلٌ، وَإِنَّهُ قَبْلَكَ وَبَعْدَكَ لَجَلَلٌ".

@ الاستفادة من خصائص النبي:

وهنا نتساءل: كيف استفاد أمير المؤمنين (ع) من قدوته لرسول الله؟

الأولى: إخماد الفتن:

روى الإمام الصادق (ع) عن آبائه (ع)، عن علي (ع) قال: قال رسول الله (ص): "أربعة لا تزال في أمتي إلى يوم القيامة: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة". ويرويها مسلم أيضاً عن الرسول.

لما قُبض رسول الله (ص)، وخاطبه العباس وأبو سفيان في أن يبايعاه بالخلافة، فقال:

"أَيُّهَا النَّاسُ شُقُّوا أَمْوَاجَ الْفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ -وما أكثر الفتن عندنا في الواقع-، وَعَرِّجُوا عَنْ طَرِيقِ الْمُنَافَرَةِ -لا تتنافروا-، وَضَعُوا تِيجَانَ الْمُفَاخَرَةِ أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاحٍ -الذي استطاع أن ينأى بنفسه عن كل هذا الواقع-، أَوِ اسْتَسْلَمَ فَأَرَاحَ، هَذَا مَاءٌ آجِنٌ، وَلُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا، وَمُجْتَنِي الثَّمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا كَالزَّارِعِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ. فَإِنْ أَقُلْ -طالبت بحقي- يَقُولُوا: حَرَصَ عَلَى الْمُلْكِ، وَإِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا: جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ، هَيْهَاتَ بَعْدَ اللَّتَيَّا وَالَّتِي! وَاللهِ لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ، بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لَاضْطَرَبْتُمْ اضْطِرَابَ الْأَرْشِيَةِ فِي الطَّوِيِّ الْبَعِيدَةِ".

والثانية: نصرة الإسلام:

يحدثنا عليّ (ع) عن المشكلة التي واجهها بعد رسول الله (ص)، فقد بعث إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاّه إمارتها، فمن جملة ما قال:

"فَوَاللهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي وَلا يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ (ص) عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ -لأنهم هم الذين يملكون الحق في القيادة-، وَلا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ -وقد عرفوا موقعي من رسول الله وموقعي من الإسلام وقدرتي على قيادة المسلمين-، فَمَا رَاعَنِي إِلا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلانٍ يُبَايِعُونَهُ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي -لأنني لا أريد أن أخلق فتنة بين المسلمين وأنا أمين على الإسلام خارج الخلافة كما أنا أمين عليه داخلها- حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ (ص)، فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ.. فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ -ونصحت وساعدت وعاونت- حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَتَنَهْنَهَ".

@ الإسلام مسؤولية الجميع:

قال سبحانه وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ}. حيث نزلت في معركة أُحد، عندما ضُرب رسول الله (ص) وشُجّت جبهته وسقطت رباعية أسنانه ونزف منه الدم، فصاح صائح: "لقد قُتل محمد"، وحصل هناك اهتزاز بين المسلمين فقال بعضهم: "فلنذهب إلى أبي سفيان ليعطينا الأمان"، وقال البعض الآخر وهم المخلصون منهم: "إن كان محمد قد مات فإنّ ربّ محمد لم يمت فتعالوا نقاتل على ما قاتل عليه ونموت على ما مات عليه"، فنـزلت هذه الآية...

إنّ هذه الآية المباركة تريد أن تقول للمسلمين: إنّ محمداً رسول الله كأيّ رسول من الرسل، والرسول لا يُخلّد، فقد يموت أو يُقتل، ولكن إذا مات الرسول فلن تموت الرسالة بل تبقى ليحملها من بعده أوصياؤه، وليتبعها الناس الذين آمنوا بها ليسيروا عليها، فلا يجوز للذين اتبعوا الرسول أن ينقلبوا على أعقابهم بعد أن يموت الرسول؛ لأنّ الإنسان الذي يؤمن بالرسول هو الذي يؤمن بأنّ رسالته هي من الله تعالى، وأنّ دوره هو أن يبلّغ الرسالة وأنّ دور الناس هو أن يؤمنوا بها، ولذلك فإنّ الرسالة لا ترتبط في امتدادها بحياة الرسول، بل يموت الرسول كما يموت الناس من قبله ومن بعده، ولكن تبقى الرسالة وعلى الناس أن يلتزموها، {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً}؛ لأنّ الله تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يتضرر بكفر الكافرين {وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ}، الذين يتجسّد شكرهم في التزامهم بخط الإيمان والعمل.

ومن هذه الآية نستوحي أنّ علينا أن لا نتجمد في أية مرحلة من المراحل عند وفاة عالِم أو قائد، بل علينا أن نعرف أنّ العلماء والمصلحين والقادة هم مراحل في حياة الأمم، وأنهم يبلّغون الرسالة وعلى الأمة أن تتابع الرسالة من بعدهم، وأن تحمل رسالتهم التي تؤمن بها.

ونقف -بعد ذلك- على الأبعاد الكبرى لمشروع الخلافة النبوية في كلمات علي:

أ- الترقي المعرفي: قال علي (ع): "فما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة".

ب- الترقي الروحي: من خلال الوقوف على سنن الله في الخليقة، والاهتداء إلى نواميس التسخير، وكشف الإنسان نفسه في الآفاق والأنفس..

ج- الترقي الأخلاقي: ويعتبر هذا البعد انعكاساً طبيعياً مباشراً لمدى استيعاب الإنسان للبعدين السابقين.. وهي أخلاقية الالتزام، وأخلاقية المفهوم المقترن بالموقف، والموقف المتجسد بالعمل، والفعل الممثّل للفكرة .. كما يقول علي (ع): "أأقنع من نفسي بأن يقال لي أمير المؤمنين: ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش" .. وقوله (ع): "إنّي لأرفع نفسي عن أن أنهى الناس عمّا لست أنتهي عنه، أو أأمرهم بما لا أسبقهم إليه بعملي، وأرضى منهم بما لا يرضى ربي".

د- الترقي العمراني: وهو التأثر الإيجابي المتصاعد، الذي يحدثه الجهد الإنساني في الطبيعة المحيطة به، بواسطة إعمال قوانين التسخير فيها، بغية ترقية حياته المادية بشكل فعّال يتيح له الفرصة للاستمتاع بما أودعه الله تعالى في الكون من أسرار ونِعَم لا حصر لها. ولا يخفى فإنّ عمارة الأرض هي الساحة التي تلتقي فيها كلّ أبعاد المشروع الاستخلافي في كتلة متكاملة.

أيها المؤمنون..

في ذكرى وفاة النبي الأكرم (ص)، علينا أن نتحسس مسؤوليتنا عن الإسلام كله، لأنّ المسلمين بأجمعهم معنيون في بيوتهم وأسواقهم ونواديهم وساحاتهم أن يعملوا في سبيل أن يكون الإسلام قوياً في كل ساحات الحياة، وأن نعمل جميعاً -كما عمل رسول الله (ص) وهو صاحب الرسالة- من أجل أن لا نرى ثلماً في الإسلام ولا هدماً، أن نعمل على أساس الوحدة بين المسلمين، ولا أقصد من الوحدة أن يترك هذا مذهبه وذاك مذهبه، ولكن الوحدة أن نلتقي على ما اتفقنا عليه وأن نتحاور فيما اختلفنا فيه، وأن نكون صفاً كالبنيان المرصوص في مواجهة كل التحديات والأوضاع الصعبة.


الاثنين، 5 سبتمبر 2022


 

الملامح الفكرية العقائدية في حياة الإمام الكاظم

نعيش هذه الأيام ذكرى الإمام موسى الكاظم (ع)، أحد أئمة أهل البيت الطاهرين (ع) الذين أمرنا جدهم الرسول الأكرم (ص) أن ننفتح على آفاقهم وفهمهم للإسلام، وأن نتحرك في الطريق الذي أرادوا أن نتحرك فيه لنبلغ الأهداف الكبرى التي أرادنا الله أن نبلغها في هدي سيد المرسلين (ص).

عاش الإمام موسى الكاظم (ع) حياة متحركة في الواقع الإسلامي امتّدت من عهد المنصور إلى هارون الرشيد.. وكانت الحركة الفكرية في ذلك الوقت تثير الكثير من علامات الاستفهام حول مفردات العقيدة من جهة، وحول خطوط الشريعة من جهة أخرى، وحول الواقع السياسي من جهة ثالثة.

لقد كانت هذه المرحلة لا تخلو من عنف سياسي وأمني؛ لأنَّ السلطة العباسية آنذاك كانت لا تزال تخشى الاتجاهات المضادة، وتواجهها بعنف إلى حدِّ الوحشية في التعذيب وإزهاق أرواح الناس في الزنزانات.

ولكنه رغم هذه الظروف عاش الإمام الكاظم (ع) هذه المرحلة، وقد استطاع أن يملأها علماً وفكراً وروحانية، وأن يرصد الانحرافات التي كانت تفرض نفسها على حركة الفكر الإسلامي ليصححّها ويقوّمها في الاتجاه الصحيح.

رؤية الإمام الكاظم لتوحيد الصفات:

لقد كانت هناك حركة فتية تتحدث عن الله، وعن صفاته، وهل هو جسم كبقية الأجسام أو هو جسم لا كالأجسام، أي أنه جسم من نوع آخر لا نعقله وليس كالأجسام التي يعرفها الناس في الموجودات المادية.

ولم يجلس الإمام الكاظم مكتوف اليد، بل دخل في هذه المعركة، فتحدَّث بأكثر من أسلوب وفي أكثر من فكرة، بحسب ما رصدناه من نصوص ومواقف واردة عنه (ع):

الموقف الأول: كما جاء في رجال الكشي، عن جعفر بن محمد بن حكيم الخثعمي، قال: اجتمع هشام بن سالم، وهشام بن الحكم، وجميل بن دراج، وعبد الرحمن بن الحجاج، ومحمد بن حمران، وسعيد بن غزوان، ونحو من خمسة عشر رجلاً من أصحابنا، فسألوا هشام بن الحكم أن يناظر هشام بن سالم فيما اختلفوا فيه من التوحيد وصفة الله عز وجل وغير ذلك لينظروا أيهما أقوى حجة.

فرضي هشام بن سالم أن يتكلم عند محمد بن أبي عمير، ورضي هشام بن الحكم أن يتكلم عند محمد بن هشام، فتكالما وساق ما جرى بينهما.

قال عبد الرحمن بن الحجاج لهشام بن الحكم: كفرت والله بالله العظيم وألحدت فيه، ويحك ما قدرت أن تشبه بكلام ربك إلا العود يضرب به!

قال جعفر ابن محمد بن حكيم، فكتب إلى أبي الحسن موسى (ع)؛ يَحْكِي لَهُ مُخَاطَبَتَهُمْ وَكَلَامَهُمْ، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ مَا الْقَوْلُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَدِينَ اللهَ بِهِ مِنْ صِفَةِ الْجَبَّارِ؟

فأجابه الإمام في عرض كتابه: "فَهِمْتُ -رَحِمَكَ اللهُ- وَاعْلَمْ -رَحِمَكَ اللهُ- أَنَّ اللهَ أَجَلُّ وَأَعْلَى وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُبْلَغَ كُنْهُ صِفَتِهِ، فَصِفُوهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَكُفُّوا عَمَّا سِوَى ذَلِكَ" (رجال الكشي: حديث 500).

هنا نجد أنَّ الإمام (ع) يريد أن يشير إلى أننا لن نستطيع أن نعرف الله في صفاته إلا من خلاله؛ لأنه لا يعرف الله حق معرفته إلا هو، فهو الذي أحاط بذاته ولم يحط بذاته أحد إلا من خلاله؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى هو المطلق الذي لا حدود لأية صفة من صفاته، ولهذا فإنَّ المحدود مهما كانت عظمته لا يستطيع أن يفهم حقيقة الله.

وعلى ضوء هذا فإنَّ الإمام (ع) يقول لنا إذا أردتم أن تعرفوا الله في صفاته فاعرفوه بما وصف به نفسه فإنَّ ما وصف به نفسه هو الذي يمكن لنا أن نطّل من خلاله على الحقيقة الكامنة في صفات الله، أما انتم فقد تصفون الله من خلال ما تتخيلونّه وتنظّرونه.

الموقف الثاني: عن الحسن بن عبد الرحمن الْحِمّانِيّ قال: قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (ع) إِنّ هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ زَعَمَ أَنّ اللهَ جِسْمٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، عَالِمٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ قَادِرٌ مُتَكَلّمٌ نَاطِقٌ، وَالْكَلَامُ وَالْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ يَجْرِي مَجْرَى وَاحِدٍ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مَخْلُوقاً!

فقال (ع): "قَاتَلَهُ اللهُ أَمَا عَلِمَ أَنَّ الْجِسْمَ مَحْدُودٌ وَالْكَلَامَ غَيْرُ الْمُتَكَلّمِ! مَعَاذَ اللهِ وَأَبْرَأُ إِلَى اللهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ؛ لَا جِسْمٌ وَلَا صُورَةٌ وَلَا تَحْدِيدٌ، وَكُلّ شَيْءٍ سِوَاهُ مَخْلُوقٌ، إِنّمَا تُكَوّنُ الْأَشْيَاءُ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ وَلَا تَرَدّدٍ فِي نَفَسٍ وَلَا نُطْقٍ بِلِسَانٍ" (الكافي: ج 1 ص 142).‏

عندما نريد أن ننفذ إلى صفات الله فإنَّ علينا أن لا نأخذ بأساليب الفلسفة في ذلك، لا سيما إذا عرفنا أنَّ الفلسفة الإسلامية في أصولها انطلقت من الفلسفة اليونانية، وبهذا فقد تختلط جذور الفلسفة اليونانية التي فرضت نفسها على كثير من مناهج الفلاسفة المسلمين، ولا أقول الفلسفة الإسلامية، في امتداد الواقع الإسلامي فيخيَّل إلينا أننا نقرأ فلسفة إسلامية في عناوين الإسلام ولكنها في العمق والمنهج قد تأخذ الكثير من ملامح الفلسفة اليونانية التي وُلدت في بيئة ثقافية أخرى تختلف عن البيئة الثقافية التي ولدت فيها الفلسفة الإسلامية..

وفي الوقت الذي نقدِّر فيه الفلاسفة المسلمين الذي درسوا الفلسفة اليونانية وحاولوا أن يسجّلوا ملاحظات عليها نرى أنَّ المنهج بقي يفرض نفسه على مدى التفكير، لذلك أراد الإمام (ع) من خلال ما نستوحيه من هذا الحديث أن يقول لنا إذا أردتم أن تأخذوا عقائدكم فخذوها من القرآن، لأنَّ الإمام أراد أن يؤكد على الفكر الذاتي في هذا المجال.

ففي النص يدّعي أنَّ "هشام بن الحكم زعم أنَّ الله جسم ليس كمثله شيء"، أي أنه جسم ليس كالأجسام التي يراها الناس في الموجودات المادية ولكنه جسم من نوع آخر.

وتابع هشام كلامه قال: "عَالِمٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ قَادِرٌ مُتَكَلّمٌ نَاطِقٌ، وَالْكَلَامُ وَالْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ يَجْرِي مَجْرَى وَاحِدٍ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مَخْلُوقاً". وكأنما الكلام الإلهي هو شيء في ذاته سبحانه، وكذلك القدرة والعلم لا فرق، وكأنَّ هشام لا يقول بخلق الكلام.

فردَّ الإمام الكاظم على هذه الفكرة بقوله:

1. قوله: "أَمَا عَلِمَ أَنَّ الْجِسْمَ مَحْدُودٌ".

2. قوله: "وَالْكَلَامَ غَيْرُ الْمُتَكَلّمِ" فلا يمكن أن يكون الكلام صفة في الذات بمعنى أن يكون داخلاً في تكوين الذات كما يظهر من كلام هشام.

3. قوله: "مَعَاذَ اللهِ وَأَبْرَأُ إِلَى اللهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ؛ لَا جِسْمٌ وَلَا صُورَةٌ وَلَا تَحْدِيدٌ، وَكُلّ شَيْءٍ سِوَاهُ مَخْلُوقٌ، إِنّمَا تُكَوّنُ الْأَشْيَاءُ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ وَلَا تَرَدّدٍ فِي نَفَسٍ وَلَا نُطْقٍ بِلِسَانٍ" فليست كالكلمات التي تخطر في الذهن وتتردد في الفكر ثم تنطلق بعد ذلك، فالإمام (ع) يريد أن يصحّح هذه الفكرة المنحرفة التي تبتعد عن صفاء التوحيد في صفات الله.

وقد حكى الشريف المرتضى أنه سأل الشيخ المفيد عن هشام بن الحكم وما تحكيه عنه المعتزلة من التجسيم، ويوافقهم عليه بعض محدِّثي الشيعة ومشبهة العامة، وما يقال من أنَّ الشيعة إنما أخذوا نفي التشبيه من المعتزلة؛ فذكر المفيد أنَّ هذه الدعوى عرية من البرهان، وأنه ليس في أسلافهم من كان يدين بالتشبيه من طريق المعنى..

قال: "وإنما خالف هشام وأصحابه جماعة أبي عبد الله (ع) بقوله في الجسم؛ فزعم أنَّ الله تعالى "جسم لا كالأجسام". وقد روي أنه رجع عن هذا القول بعد ذلك، وقد اختلفت الحكايات عنه ولم يصح منها إلا ما ذكرت" (الحكايات في مخالفات المعتزلة من العدلية، والفرق بينهم وبين الشيعة الإمامية: ص 78-79).

الموقف الثالث: عن يعقوب بن جعفر الجعفري عن أبي إبراهيم موسى الكاظم (ع)، ذكر عنده قوم يزعمون أنَّ الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا!

فقال (ع): "إنَّ الله تبارك وتعالى لا ينزل، ولا يحتاج إلى أن ينزل، إنما منظره في القرب والبعد سواء، لم يبعد منه قريب ولم يقرب منه بعيد، ولم يحتج بل يحتاج إليه، وهو ذو الطول لا إلَه إلا هو العزيز الحكيم. أما قول الواصفين: إنه تبارك وتعالى ينزل! فإنما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة، وكل متحرك محتاج إلى من يحركه أو يتحرك به، فظن بالله الظنون فهلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حد فتحدوه بنقص أو زيادة أو تحرك أو زوال أو نهوض أو قعود، فإنَّ الله جلَّ عن صفة الواصفين ونعت الناعتين وتوهم المتوهمين" (التوحيد: ص 183).

وفي الكافي زاد في آخر الحديث: "وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين" (الكافي: ج 1 ص 125).

إنَّ هذه الفكرة كانت موجودة عند بعض المجسّمة وربما تصل إلى حد الخرافة في وصف الله تعالى؛ فهم يقولون انه ينزل على حمار بصورة شاب أمرد وما شاكل.. ومن جواب الإمام (ع) نلاحظ كيف رصد الانحراف في تصوِّر الله سبحانه وتعالى، وكيف وضع المسألة في نصابها التوحيدي بالدرجة التي جرَّدت الله سبحانه وتعالى عن كلِّ صفات الممكن ووجهت الناس أن لا يخوضوا في صفاته بما لا يملكون معرفته وعمقه بل إنَّ عليهم أن يصفوه بما وصف به نفسه فإنه أعرف بنفسه من مخلوقاته كلّها.

تصحيح بعض أفكار تلامذته:

لقد كان أئمة أهل البيت (ع) ضد فكر الغلو والذي يراد به رفع مقامهم إلى مقامات لا يؤمنون بها، ومنها علمهم بالغيب.

نقل الكشّي عن محمد بن أبي عمير، عن ابن المغيرة قال: "كنت عند أبي الحسن [موسى] (ع) أنا ويحيى بن عبد الله بن الحسن (ع) فقال يحيى: جُعِلتُ فداك إنّهم يزعمون أنّك تعلم الغيب؟ فقال (ع): "سبحان الله، ضع يدك على رأسي، فوالله ما بقيت في جسدي شعرة ولا في رأسي إلا قامت". قال: ثمّ قال: "لا والله ما هي إلا رواية عن رسول الله (ص)" (رجال الكشي: حديث 530).

ومما يؤكد ذلك، الخبر المروي عن أبي عمرو عن حمدوية قال: حدّثنا يعقوب عن ابن أبي عمير عن شعيب عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (ع) إنّهم يقولون، قال: "وما يقولون؟" قلت: يقولون: تعلم قطر المطر وعدد النجوم وورق الشجر ووزن ما في البحر وعدد التراب. فرفع (ع) يده إلى السماء وقال: "سبحان الله، سبحان الله، لا والله ما يعلم هذا إلا الله" (رجال الكشي: حديث 532).

فقوله (ع): "وما يقولون؟" يدلّ على عدم علمه (ع) بالغيب، بالإضافة إلى مضمون الرواية، وإلا لما صحَّ منه الاستفهام.

وجاء في نهج البلاغة، أنَّ امير المؤمنين (ع) كان يُخبر عن ملاحم تحدث بالبصرة: فقال له بعض أصحابه: لَقَدْ أُعْطِيتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عِلْمَ الْغَيْبِ؟

فَضَحِكَ (ع) وَقَالَ لِلرَّجُلِ، وَكَانَ كَلْبِيّاً: "يَا أَخَا كَلْبٍ، لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ، وَإِنَّمَا عِلْمُ الْغَيْبِ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَمَا عَدَّدَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} الْآيَةَ. فَيَعْلَمُ اللهُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الْأَرْحَامِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَقَبِيحٍ أَوْ جَمِيلٍ وَسَخِيٍّ أَوْ بَخِيلٍ وَشَقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ وَمَنْ يَكُونُ فِي النَّارِ حَطَباً أَوْ فِي الْجِنَانِ لِلنَّبِيِّينَ مُرَافِقاً فَهَذَا عِلْمُ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا اللهُ " (نهج البلاغة: الخطبة 128)

يقول الفقيه الشّيخ جعفر السّبحاني: "فإنَّ العلم بالغيب في الكتاب العزيز هو العلم النّابع من الذّات -أي من ذات العالم- غير المُكتسَب من آخر، وهذا يختصّ بالله الواحد الأحد، وإليه يشير قوله سبحانه: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ} ". (الإيمان والكفر في الكتاب والسنة: ص 114).

ولهذا كان رافدهم (ع) القرآن والسنة النبوية المباركة، والتمسك بنصوص القرآن، وخاصة في قضايا العقيدة؛ لكي يبقى إيمان المسلم صحيحاً متوائماً مع الواقع. وفي الموثق عن سَمَاعَةَ، عن أبي الحسن موسى (ع)، قال: قُلْتُ لَه: أكُلُّ شَيْءٍ فِي كِتَابِ اللهِ وسُنَّةِ نَبِيِّه (ع)، أَوْ تَقُولُونَ فِيه؟ قَالَ: "بَلْ كُلُّ شَيْءٍ فِي كِتَابِ اللهِ وسُنَّةِ نَبِيِّه" (الكافي: ج 1 ص 62).

فالقرآن الكريم يشرِّع الأصول والقوانين، ويؤسِّس القواعد الكلِّية للأحكام والأخلاق والآداب، بل لكلِّ ما يتصل بعلوم الدين ومعارفه ومناهجه التربويّة والاجتماعيّة، والحديث يتناول تلك الأصول والقواعد فيفصّلها، ويوضِّح مبهماتها، ويحلّ متشابهاتها، ويبيِّن مجملاتها، مع ما تفرِّعه عليه، بحيث لم يدع ملاحظاً كليِّاً أو جزئيِّاً له صلة بالفرد أو المجتمع إلا وقد بيَّن حكمه وأرشد إليه بكلِّ دقّة وتفصيل، وبشكل يستحيل معه رفع اليد عن الحديث كليِّاً في فهم القرآن الكريم.

يقول الإمام موسى (ع): قَالَ النبي (ص): "إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، وما خلاهن فهو فضل" (الكافي: ج 1 ص 32).

ولهذا جاء ولده الإمام الرضا (ع) ليبين سلوك أئمة أهل البيت (ع) فيقول، كما في الصحيح: "إِذَا كَانَتِ الرِّوَايَاتُ مُخَالِفَةً لِلْقُرْآنِ، كَذَّبْتُهَا" (الكافي: ج 1 ص 95-96؛ التوحيد: ص 110 ح 9؛ الوافي: ج 1 ص 378 ح 300).

تصحيح بعض الأدعية:

يجب علينا أن لا نأخذ كلَّ دعاء أخذاً مسلَّماً، من دون تدقيق أو تمحيص؛ لأنَّ المشكلة هي أنَّ كتب الأدعية امتلأت بالكثير من الأدعية التي لا نعرف مصادرها؛ حتى أنَّ السيد رضي الدين ابن طاووس (رحمه الله) في الإقبال، كثيراً ما يذكر جملة من الأدعية أنها وجدها في كتب قديمة؛ فيقول: وجدت في كتاب عتيق، وقل كذا، وادع كذا، وما إلى ذلك.. فيقبله الناس كما لو كان من مصدر معصوم في حين أنَّ الأدعية تمثل الثقافة الروحية التي تنطلق فيها المفاهيم الإسلامية. فعندما ندعو الله ونتحدث عنه وصفاته وعن النبي وصفاته وعن الإمام وصفاته، فذلك يمثّل بمجمله منظومة المفاهيم الإسلامية، وقد يقول بعض الناس عن الله أو الحديث عن أنبياء الله وأوليائه، أو الحديث عن بعض الخطوط الروحية والأخلاقية والفكرية بأنّها تمثل منهجً إسلامياً في المفاهيم الإسلامية المتصلة بهذا الجانب أو ذاك.

ولذلك علينا أن لا نأخذ من الأدعية إلا ما ثبت لنا صحتها؛ من خلال موافقتها لكتاب الله، أو وردت عن النبي (ص) أو من الأئمة (ع) بشكل معتبر.

فكما أننا نوثق الأحكام الشرعية، ونناقش النصوص الواردة فيها، فكذلك الأدعية والزيارات بحاجة إلى توثيق وضبط، وأن نخضعه للدراسة العلمية حتى لا ينفذ إلينا مفهوم غير إسلامي من خلال تراث يتعنون على أنه تراث إسلامي ولكن لم يدقق انتماؤه إلى المصادر الأصلية للإسلام.

فعن عبد الله بن يحيى الكاهلي، قال: كَتَبتُ إلى أبِي الحَسَنِ الكاظِمِ (ع) في دُعاءٍ: (الحَمدُ للهِ مُنتَهى عِلمِهِ)؟ فَكَتَبَ (ع) إلَيَّ: "لا تَقولَنَّ مُنتَهى عِلمِهِ؛ فَلَيسَ لِعِلمِهِ مُنتَهىً، ولكِن قُل: مُنتَهى رِضاهُ" (الكافي: ج 1 ص 107؛ التوحيد: ص 134).

فكم هي دقيقة هذه الملاحظة، ولعلّنا ندعو دائماً فنقول: "الحمد لله منتهى علمه" غير عارفين أنَّ ذلك يجعل علم الله محدَّداً فيما بين البداية والنهاية، والحال أنَّ علم الله لا نهاية له؛ لأنه العلم اللامحدود، لقوله في محكم كتابه: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}.

فينبغي أن نقول: "منتهى رضاه"؛ لأنَّ رضاه يتصل بالمخلوقين في درجات تتحرك حتى تبلغ منتهاها ولا يتعلّق ذلك في ذاته وفي صفته.

صفات الشيعي عند الإمام الكاظم:

قال (ع)، وهو يوجِّه كلامه للشيعة: "كثيراً ما كنت أسمع أبي يقول: ليس من شيعتنا من لا تتحدث المخدرات بورعه في خدورهن وليس من أوليائنا من هو في قرية فيها عشرة آلاف رجل فيهم [من] خلق لله أورع منه" (الكافي: ج 2 ص 79).

فمن هو الشيعي الذي يمثل النموذج الذي يحبه الله ورسوله وأهل بيته؟

هو فالذي يصل إلى مرتبة من الورع عن الحرام في قوله وفعله وعلاقاته وموقفه بحيث أنَّ أمره ينتشر بين الناس حتى أنَّ المخدرات المحجبات اللاتي لا يتحركن في المجتمع تصلهن أخبار ورعه بحيث يتحدثن عن ورعه؛ فلو كان عندنا عشرة آلاف رجل، على حد قول الإمام (ع)، وفيهم شيعي لا بدَّ أن يكون هذا الشيعي أورع من هؤلاء كلّهم.

من هنا ندرك أنَّ التشيع ليس كلمة، وليس عاطفة، وليس مجرد دمعة عند ضريح إمام، أو دمعة في مجالس العزاء فقط، ولكنَّ التشيع هو كما قال جده الإمام الباقر (ع): "مَا شِيعَتُنَا إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللهَ وَأَطَاعَهُ. وَمَا كَانُوا يُعْرَفُونَ إِلَّا بِالتَّوَاضُعِ، وَالتَّخَشُّعِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ وَتَعَهُّدِ الْجِيرَانِ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَذَوِي الْمَسْكَنَةِ وَالْغَارِمِينَ وَالْأَيْتَامِ وَصِدْقِ الْحَدِيثِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَكَفِّ الْأَلْسُنِ عَنِ النَّاسِ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ وَكَانُوا أُمَنَاءَ عَشَائِرِهِمْ فِي الْأَشْيَاءِ".

وفي الختام: إنَّ علينا أن نقرأ تراث أئمتنا من أهل البيت (ع)؛ لأنه يضيء لنا طريق الإيمان، ويضيء لنا الشريعة، ويضيء لنا المنهج، ويضيء لنا ظلمات الحياة كلها.

وعندما ندرس طريقة الأئمة من أهل البيت (ع) في ما تركوه لنا من تراث، فإننا نجد أنّهم وهم يعملون على تثقيف الأمة، كانوا لا يتعقّدون من سؤال، وقد ورد عنهم أنّهم (ع) كانوا يطلبون من أصحابهم أنّهم إذا حدّثوهم بحديث، أن يسألوهم عن أساسه في كتاب الله، ليعرِّفوهم كيف يستنتجون الفكرة من كتاب الله سبحانه وتعالى، ويشجعوهم على أن يناقشوا العلماء، وأن يسألوهم في ما يملكون علمه، ليتعلموا منهم ذلك.


محرم 1447 في الصحافة الكويتية