الرسول
القدوة (ص) في كلام الإمام علي
من خطبة لأمير
المؤمنين يصف فيها النبي (ص) قال: "طَبِيبٌ
دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ، وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ، يَضَعُ
ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ؛ مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ، وَآذَانٍ صُمٍّ،
وَأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ، مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ، وَمَوَاطِنَ
الْحَيْرَةِ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ الْحِكْمَةِ، وَلَمْ يَقْدَحُوا
بِزِنَادِ الْعُلُومِ الثَّاقِبَةِ، فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْأَنْعَامِ
السَّائِمَةِ وَالصُّخُورِ الْقَاسِيَةِ".
في ذكرى وفاة رسول
الله (ص) نريد أن نستنطق تلميذه علياً (ع)؛ لنقف على ملامح الاقتداء والتأسي في شخصية
نموذج المعلم الأكبر للمسلمين رسول الله (ص)؛ ولأنه النموذج المتأسى بها فلا يسعنا
إلا أن نحلِّق في كلمات ألصق الناس به، وأكثرهم محبة له، وأشدهم التزاماً بتعليماته،
وأفضلهم في حمل علمه ووعيه، والذي نال شرف أن وصفه الله بأنه نفس الرسول في عقله
وقلبه وروحه.
نحاول أن نستمع
إلى أمير المؤمنين (ع)، وهو يحدثنا عن المحطات المهمة التي من خلالها نقف على ما يقربنا
من الرسول المعلم والقائد والنبي والرسول المرشد:
@ خصائص الدعوة النبوية (الحركة الدائبة):
ما هي شخصية
الرسول القائد؟ هل هو إنسان غيبي في شخصه وفي إمكاناته؟ هل من المفروض في الرسول
الذي يرتبط بالله من خلال الوحي أن يكون في طبيعته شخصاً غير عادي، كما هو حال الوحي
شيء غير عادي في جوهره؟ ... فما زال البعض -منا- لا يستطيع أن يتعامل مع النبوة من
منطق أنه بشر فيه كل مكونات الجسد المادي.
يصوِّر لنا الإمام علي (ع) كيف كان رسول
الله (ص) يتحرك بين الناس، فلم يكن يجمد في بيته بحيث ينتظر الناس ليأتوا إليه،
كما يفعل الكثيرون من الذين لا يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن التحرك مع الناس، فهم
المقصودون لا القاصدون في تصورهم؛ فإذا سألوهم أجابوا، وإذا لم يسألوهم رأوا
أنفسهم في حلٍّ.
فالرسول (ص) على عكس ذلك تماماً؛ فهو يمسك بمفارق
الطرق لكيلا ينتشر الوباء ويتفشّى بين الأمة؛ "طَبِيبٌ
دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ"؛ يداوي جرحى العقول
والقلوب، وجرحى الأخلاق والآداب، وجرحى القيم والمثل، وجرحى الجهل والتخلف.
"وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ" والميسم هو
المكواة، باعتبار أنَّ (آخر الدواء الكي)، فقد لا ينفع المرهم الذي يمثل دواءً
عادة، فلا يكون أمام الطبيب سوى الكيّ.
"يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ
الْحَاجَةُ إِلَيْهِ" يضع الدواء لعلاج مرض هنا، وقد يكوي مرضاً هناك.
"مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ، وَآذَانٍ
صُمٍّ" يعالجها حتى تبصر، ويعالجها حتى تستمع بعد صمم وصدود.
"وَأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ" ويداويها حتى
تنطق بعد صمت رهيب..
"مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ
مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ، وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ" فهو (ص) يتحرك
مع الناس الغافلين، الذين لم ينفتحوا على الوعي الحقيقي، فكانوا في ظلمة الغفلة
يتقلبون؛ ليعيدهم (ص) إلى وعيهم ورشدهم، فهو كما الطبيب يحاول أن يدرس كلّ مظاهر
المرض، وكلّ أوضاع المرضى.
"لَمْ يَسْتَضِيئُوا
بِأَضْوَاءِ الْحِكْمَةِ، وَلَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ الْعُلُومِ الثَّاقِبَةِ" ومعنى أن يقدح
الزناد أن يخرج النور من خلاله، وكأن ّ الإنسان عندما ينفتح على العلم فإنّه يضيء
له النور الذي يبدّد ظلام الجهل. "فَهُمْ فِي
ذَلِكَ كَالْأَنْعَامِ السَّائِمَةِ وَالصُّخُورِ الْقَاسِيَةِ"..
وهنا ينبغي أن نتساءل: ما العلاقة بين الطبيب والداعية؟
للأطباء منهجان في معالجة المرض: أحدهما
إيجابي، والآخر سلبي:
ففي المنهج الإيجابي، نرى الطبيب يقول
للمريض: احتقن بهذه الإبرة، استعمل هذا الكبسول، اشرب من هذا الشراب ملعقة واحدة
كل ثمان ساعات. وفي الجانب السلبي يقول للمريض: لا تستعمل الأكلات الدسمة لا تأكل
الحلويات..
فالمنهج الديني يشبه المنهج الطبي تماماً،
فيقول للمسلم من جهة: أقم الصلاة، أدِّ الزكاة، ليكن كسبك حلالاً، ... ويقول له من
جهة أخرى: لا تكذب، لا تفحش، لا تغتب... فالجانب الايجابي في الدين يسمى
بالواجبات، بينما يطلق اسم المحرمات على الجانب السلبي.
وإذا ألقينا نظرةً فاحصةً على المنهج الطبي،
لوجدنا موضوع الوقاية من العدوى، وترك القيام ببعض الأمور (الحمية) مهماً إلى درجة
أنّ المريض لو لم يواظب على التوصيات اللازمة فالمعالجات الايجابية لا تنفعه
أصلاً.
كذلك هو المنهج الديني؛ يرشدك إلى جملة من
التوصيات الأخلاقية والإرشادية لتكون في وقاية من أمرك.
إذن لم يقتصر دور الرسول (ص) النبوي على
الجانب الفقهي في بيان ما هو حلال وبيان ما هو حرام فقط، وإنما عمل (ص) إلى جانب
ذلك، وسعى جاهداً لتربية المجتمع على المبادئ والقيم الأخلاقية، وتثقيفه بالفكر
الإسلامي، ومن أجل هذا انطلق، في واقع المجتمع، وانتقل فيه من موقع إلى موقع،
يلتقي بالناس ليحاورهم وليعلمهم وليرشدهم.
وقد أدّى (ص) هذا الدور بكل رحابة صدر، فلم
يعكِّر جبينه، ولم يعقِّد حاجبيه، بل قابل السيئة بالحسنة، وبالحسنة بأحسن منها،
سلاحه الإقناع، وأسلوبه الموعظة الحسنة.
وكان منهجه (ص) هو قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا
سَابِقُونَ}، فالمبادرة والمسارعة
إلى الخيرات أمر دعا إليه القرآن، وحث عليه الإسلام قال تعالى: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ}. {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}.. وفي
ذلك حثٌ واستعجال على جميع الطاعات.
قال (ص): "بادروا
بالأعمال"، "والتؤدة في كل شيء إلا في
عمل الآخرة".
فما هي حالُنا مع المبادرة؟
وما هي حالُ أسلافنا؟
لماذا يعترينا الضعفٌ أحياناً في المبادرة؟
وما هي الأمور المعينة على المبادرة؟
ألم يحثنا أهل البيت (ع)
على المبادرة بأقرب الناس إلينا: "بادروا
أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة".
ويختصر لنا تلميذه الإمام علي (ع) هذا
المنهج فقال: "لأنسُبَنَّ الإسلامَ نسبةً لم ينسبها
أحد قبلي: الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق
هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل".
وعليه فإنّ الدعوة إليه، وتعريف الناس به،
وإقناعهم بالإقبال عليه، والتجاوب مع قيمه ومبادئه وتوجيهاته، وإبعادهم عن التناقض
معه، والتصادم به... يصبح أمراً محتوماً لا بديل لاستقامة حياة الإنسان، وتناغم
سعيه في العمارة مع سنن الله في الآفاق والنفس والكتاب.
وهو ما أكدته النصوص الكثيرة في القرآن،
وارتقت به إلى قمة الأعمال الجليلة عند الله تعالى، لما يترتب عليه من الخير
العظيم للناس الذين يعرفون الحق ويقبلون على الالتزام به كما قال تعالى: {وَمـَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ
وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
@ كيف تصنع القيادة (التأسي بالرسول):
كان أمير
المؤمنين (ع) يتحدث عن صفات رسول الله (ص) في حياته الخاصة، يقول (ع) وهو يخاطب
بعض الناس: "فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ
الْأَطْهَرِ (ص)؛ فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى، وَعَزَاءً لِمَنْ
تَعَزَّى، وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ،
وَالْمُقْتَصُّ لِأَثَرِهِ" الذي يمشي وراءه.
-
قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً: لم يأكلها
ليشبع منها.
-
وَلَمْ
يُعِرْهَا طَرْفاً: لم يلتفت إليها ليحدق فيها بكل عينيه وينبهر.
-
أَهْضَمُ
أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً، وَأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً: كان الضعيف
وكان خميص البطن.
-
عُرِضَتْ
عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ
أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ، وَحَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ وَصَغَّرَ شَيْئاً
فَصَغَّرَهُ: كان يبغض ما يبغضه الله مهما كان الناس يتنازعون فيه، وكان
يحقّر ما حقّره الله حتى لو كان الناس يعظّمونه.
-
وَلَوْ لَمْ
يَكُنْ فِينَا (وهذه هي مشكلتنا) إِلَّا
حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَتَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ اللهُ
وَرَسُولُهُ لَكَفَى بِهِ شِقَاقاً لِلهِ، وَمُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللهِ:
فمن أحب من أبغضه الله وما أبغضه، ومن كبّر ما صغّره الله ومن صغّره، فإنه يكون
ممن شاقّ الله وحادّه.
-
وَلَقَدْ كَانَ
(ص) يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ، وَيَخْصِفُ
بِيَدِهِ نَعْلَهُ، وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ
(من
دون سرج) وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ (يُجلس شخصاً
وراءه)، وَيَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ
فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ فَيَقُولُ: يَا فُلَانَةُ -لِإِحْدَى أَزْوَاجِهِ-
غَيِّبِيهِ عَنِّي، فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا وَزَخَارِفَهَا،
فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وَأَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ،
وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ".
فالنبي الأكرم (ص)
لم يرفض الدنيا لأنها حرام، بل إنّ الله تعالى قال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ
لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، ولكنه (ص)
أراد أن يعيش للرسالة كلها، وأن لا يُشغل نفسه بالدنيا كما يُشغل الآخرون أنفسهم
بها، فتكون أكبر همهم، فيبتعدون عن رسالتهم ومسؤولياتهم وطاعتهم لله طلباً للدنيا.
وقد أشار
الإمام علي (ع) إلى قضية مهمة، وهي التأسي بالنبي الكريم (ص) "فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَرِ (ص)؛
فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى"؛ لأنّ الله أمرنا الأخذ
بسنّة رسول الله (ص): {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}، {قُلْ
إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، {مَنْ
يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطَاعَ اللهُ}.
وفي ضوء ذلك،
نواجه موقف الذين يقولون "حسبنا كتاب الله" و "أننا نأخذ بما جاء في
القرآن ونترك غيره"؛ على اعتبار أنّ القرآن هو المصدر المعصوم الذي لا
يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ونترك كل الأحاديث المروية عن النبي (ص)،
والتي قد تكون محل تأملٍ أو محل شكٍ وما إلى ذلك.
ونردّ على
هؤلاء: أنّ الأخذ بكتاب الله يقتضي الأخذ بسنّة رسوله؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى
أمـرنا في كتابه أن نتبع الرسول، وأن نطيعه في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه؛
حتى إنّ الله جعل سيرة الرسول (ص) شريعةً للناس ليأخذوا بها: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً}،
ونحن نعرف أنّ النبي (ص) كان يمثّل القرآن الناطق ويجسّده، بحيث كان الناس يسمعون
الآية من لسانه ويجدونها مجسّدة في سلوكه.
لا سيما في عهد
الرسالة الأول؛ باعتبار أنّ الوحي كان ينطلق من الفكرة العامة على مستوى النظرية،
ومن حركة التجربة الواقعية على مستوى التطبيق، فكان الناس يرون النبي (ص) في مضمون
الآيات، ويحدّقون به في حركة الواقع، فيجدون وحدة الخطّ الفكري مع التجسيد
الإنساني الواقعي وفي سلوكه العملي مع الناس؛ لأنّه ليس من الطبيعي أن تكون الصورة
النبوية في الوجدان الإسلامي في تلك المرحلة -التي تؤسس للمراحل القادمة- بعيدة عن
الصورة الواقعية.
وكذلك الحال
علينا أن نتأمل تجربة الإمام علي (ع) من حيث النص والواقع.. لأنه الإنسان الذي شرى
نفسه وباعها لله، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي
نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}. وكان
سر علي (ع) أنه لم يفكر في نفسه قط، بل كلُّ فكره لله سبحانه، ويقول: "ليس أمري وأمركم واحداً، إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني
لأنفسكم".. فكانت علاقته بالناس من خلال علاقتهم بالله تعالى.
هذا هو عنوان
التأسي بالنبي (ص) عند علي (ع).. وهو القائل: "ألا
وأن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على
ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد".
@ الخصائص النفسية والسلوكية للنبي (تغلغله (ص) في وجدان كل الناس):
إنّ أصدق كلمة
يقولها إنسان عندما يقف على جسد شخص مسجى يبثه لواعجه ومكنونه، وقد كان لعلي (ع)
قولٌ، يدلل على مدى فداحة الخسارة التي أُصيب بها المسلمون بانتقال رسول الله (ص)
إلى الرفيق الأعلى يقول: "بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي
يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ
غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالإِنْبَاءِ وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ.."..
أعظم فداحة على
الأمة هو انقطاع الأمة عن النبوة؛ بحيث كان كل نبي عندما يموت يخلفه نبيّ آخر في
كل مسيرة الأنبياء.. ولكن بموت رسول الله (ص) انقطع الوحي من السماء، لقد كانت
السماء تُنزل علينا ما يسدد خطانا ويفتح آفاقنا وينير عقولنا وينظم حياتنا،
وتعطينا من خلال النبي (ص) الكثير من الأنباء والأخبار التي تتصل بالحياة من
حولنا.. إنَّ رحيل النبي (ص) عن هذه الدنيا يمثل الوفاة التي انقطع بها خبر السماء
عن الأرض وانتهت بذلك مرحلة النبوة والأنبياء.
ثم يصف الإمام (ع)
النبي (ص) في خصوصيته، بما أعطاه الله من المميزات، وبما انفتح به على الواقع من
حوله، بحيث استطاع أن يكون السلوى عمن سواه؛ لأنه (ص) ملأ الساحة كلها بما أعطاه
الله سبحانه وتعالى من خصائصه التي لم يعطها لسواه:
أ- "خَصَّصْتَ
حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ" بحيث كان كل إنسان يجد فيك
السلوى عن أي نبي أو قريب إلى الله.
ب- "وَعَمَّمْتَ
حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً" لقد عاش (ص) الشمولية
للناس، فهي شخصية امتدت في وجدان الناس حتى صار الناس فيك سواء، وانطلق هؤلاء
ليشعر كل واحد منهم بامتداد رسول الله (ص) الذي لا يختص به أحد دون أحد.
"وَلَوْلا
أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ وَنَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ (أردت لنا أن
نصبر حتى على أشد المصائب التي تواجهنا في الحياة، لأنّ الله أراد للناس أن يصبروا
لأنّ الصبر من عزم الأمور) لأنْفَدْنَا عَلَيْكَ
مَاءَ الشُّؤونِ (كل ما في عيوننا من الدمع) وَلَكَانَ
الدَّاءُ مُمَاطِلاً (لكان المرض مستمراً) وَالْكَمَدُ
مُحَالِفاً (والكمد هو التعبير عن حالة الحزن الشديد) وَقَلا لَكَ (فمهما بلغت حالة الكمد
والداء والبكاء فإنّ كل ذلك يبقى قليلاً) وَلَكِنَّهُ
مَا لا يُمْلَكُ رَدُّهُ، وَلا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، اذْكُرْنَا
عِنْدَ رَبِّكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ".
وهو أن يسأل
رسول الله (ص) لأمتّه التوفيق لهم بالخير والصلاح. بمقدار ما تكون أنت مع النبي (ص)
فقد ذكرك النبي (ص) في ذلك العالم {وَقُلِ اعْمَلُواْ
فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون}.
وفي كلمة أخرى
عندما وقف (ع) على قبر رسول الله (ص) بعد أن دفنه، والقوم مشغولون بما كان يمكن أن
يُشغلوا به بعد ذلك، فقال على قبره (ص): "إِنَّ
الصَّبْرَ لَجَمِيلٌ إِلا عَنْكَ، وَإِنَّ الْجَزَعَ لَقَبِيحٌ إِلا عَلَيْكَ، وَإِنَّ
الْمُصَابَ بِكَ لَجَلِيلٌ، وَإِنَّهُ قَبْلَكَ وَبَعْدَكَ لَجَلَلٌ".
@ الاستفادة من خصائص النبي:
وهنا نتساءل: كيف
استفاد أمير المؤمنين (ع) من قدوته لرسول الله؟
الأولى:
إخماد الفتن:
روى الإمام
الصادق (ع) عن آبائه (ع)، عن علي (ع) قال: قال رسول الله (ص): "أربعة لا تزال في أمتي إلى يوم القيامة: الفخر بالأحساب،
والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة". ويرويها مسلم
أيضاً عن الرسول.
لما قُبض رسول
الله (ص)، وخاطبه العباس وأبو سفيان في أن يبايعاه بالخلافة، فقال:
"أَيُّهَا
النَّاسُ شُقُّوا أَمْوَاجَ الْفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ -وما أكثر
الفتن عندنا في الواقع-، وَعَرِّجُوا عَنْ
طَرِيقِ الْمُنَافَرَةِ -لا تتنافروا-، وَضَعُوا تِيجَانَ الْمُفَاخَرَةِ أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ
بِجَنَاحٍ -الذي استطاع أن ينأى بنفسه عن كل هذا الواقع-، أَوِ اسْتَسْلَمَ فَأَرَاحَ، هَذَا مَاءٌ آجِنٌ، وَلُقْمَةٌ
يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا، وَمُجْتَنِي الثَّمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا
كَالزَّارِعِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ. فَإِنْ أَقُلْ -طالبت بحقي- يَقُولُوا: حَرَصَ عَلَى الْمُلْكِ، وَإِنْ أَسْكُتْ
يَقُولُوا: جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ، هَيْهَاتَ بَعْدَ اللَّتَيَّا وَالَّتِي!
وَاللهِ لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ
أُمِّهِ، بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ
لَاضْطَرَبْتُمْ اضْطِرَابَ الْأَرْشِيَةِ فِي الطَّوِيِّ الْبَعِيدَةِ".
والثانية: نصرة الإسلام:
يحدثنا عليّ (ع)
عن المشكلة التي واجهها بعد رسول الله (ص)، فقد بعث إلى أهل مصر مع مالك الأشتر
لما ولاّه إمارتها، فمن جملة ما قال:
"فَوَاللهِ
مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي وَلا يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ
هَذَا الأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ (ص) عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ -لأنهم هم
الذين يملكون الحق في القيادة-، وَلا أَنَّهُمْ
مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ -وقد عرفوا موقعي من رسول
الله وموقعي من الإسلام وقدرتي على قيادة المسلمين-، فَمَا رَاعَنِي إِلا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلانٍ
يُبَايِعُونَهُ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي -لأنني لا أريد أن أخلق
فتنة بين المسلمين وأنا أمين على الإسلام خارج الخلافة كما أنا أمين عليه داخلها- حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ
الْإِسْلَامِ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ (ص)، فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ
أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ
الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ.. فَنَهَضْتُ
فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ -ونصحت وساعدت وعاونت- حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ
وَتَنَهْنَهَ".
@ الإسلام مسؤولية الجميع:
قال سبحانه
وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً
وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ}. حيث نزلت في معركة أُحد، عندما ضُرب
رسول الله (ص) وشُجّت جبهته وسقطت رباعية أسنانه ونزف منه الدم، فصاح صائح: "لقد
قُتل محمد"، وحصل هناك اهتزاز بين المسلمين فقال بعضهم: "فلنذهب إلى أبي
سفيان ليعطينا الأمان"، وقال البعض الآخر وهم المخلصون منهم: "إن كان
محمد قد مات فإنّ ربّ محمد لم يمت فتعالوا نقاتل على ما قاتل عليه ونموت على ما
مات عليه"، فنـزلت هذه الآية...
إنّ هذه الآية
المباركة تريد أن تقول للمسلمين: إنّ محمداً رسول الله كأيّ رسول من الرسل،
والرسول لا يُخلّد، فقد يموت أو يُقتل، ولكن إذا مات الرسول فلن تموت الرسالة بل
تبقى ليحملها من بعده أوصياؤه، وليتبعها الناس الذين آمنوا بها ليسيروا عليها، فلا
يجوز للذين اتبعوا الرسول أن ينقلبوا على أعقابهم بعد أن يموت الرسول؛ لأنّ
الإنسان الذي يؤمن بالرسول هو الذي يؤمن بأنّ رسالته هي من الله تعالى، وأنّ دوره
هو أن يبلّغ الرسالة وأنّ دور الناس هو أن يؤمنوا بها، ولذلك فإنّ الرسالة لا
ترتبط في امتدادها بحياة الرسول، بل يموت الرسول كما يموت الناس من قبله ومن بعده،
ولكن تبقى الرسالة وعلى الناس أن يلتزموها، {وَمَنْ
يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً}؛ لأنّ الله
تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يتضرر بكفر الكافرين {وَسَيَجْزِي
اللهُ الشَّاكِرِينَ}، الذين يتجسّد شكرهم في التزامهم بخط الإيمان والعمل.
ومن هذه الآية
نستوحي أنّ علينا أن لا نتجمد في أية مرحلة من المراحل عند وفاة عالِم أو قائد، بل
علينا أن نعرف أنّ العلماء والمصلحين والقادة هم مراحل في حياة الأمم، وأنهم
يبلّغون الرسالة وعلى الأمة أن تتابع الرسالة من بعدهم، وأن تحمل رسالتهم التي
تؤمن بها.
ونقف -بعد ذلك- على الأبعاد الكبرى لمشروع
الخلافة النبوية في كلمات علي:
أ-
الترقي المعرفي: قال علي (ع): "فما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة".
ب-
الترقي الروحي: من خلال الوقوف على سنن
الله في الخليقة، والاهتداء إلى نواميس التسخير، وكشف الإنسان نفسه في الآفاق
والأنفس..
ج- الترقي الأخلاقي: ويعتبر هذا
البعد انعكاساً طبيعياً مباشراً لمدى استيعاب الإنسان للبعدين السابقين.. وهي
أخلاقية الالتزام، وأخلاقية المفهوم المقترن بالموقف، والموقف المتجسد بالعمل،
والفعل الممثّل للفكرة .. كما يقول علي (ع): "أأقنع
من نفسي بأن يقال لي أمير المؤمنين: ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم
في جشوبة العيش" .. وقوله (ع): "إنّي
لأرفع نفسي عن أن أنهى الناس عمّا لست أنتهي عنه، أو أأمرهم بما لا أسبقهم إليه
بعملي، وأرضى منهم بما لا يرضى ربي".
د- الترقي العمراني: وهو التأثر
الإيجابي المتصاعد، الذي يحدثه الجهد الإنساني في الطبيعة المحيطة به، بواسطة
إعمال قوانين التسخير فيها، بغية ترقية حياته المادية بشكل فعّال يتيح له الفرصة
للاستمتاع بما أودعه الله تعالى في الكون من أسرار ونِعَم لا حصر لها. ولا يخفى
فإنّ عمارة الأرض هي الساحة التي تلتقي فيها كلّ أبعاد المشروع الاستخلافي في كتلة
متكاملة.
أيها المؤمنون..
في ذكرى وفاة النبي
الأكرم (ص)، علينا أن نتحسس مسؤوليتنا عن الإسلام كله، لأنّ المسلمين بأجمعهم
معنيون في بيوتهم وأسواقهم ونواديهم وساحاتهم أن يعملوا في سبيل أن يكون الإسلام
قوياً في كل ساحات الحياة، وأن نعمل جميعاً -كما عمل رسول الله (ص) وهو صاحب الرسالة-
من أجل أن لا نرى ثلماً في الإسلام ولا هدماً، أن نعمل على أساس الوحدة بين
المسلمين، ولا أقصد من الوحدة أن يترك هذا مذهبه وذاك مذهبه، ولكن الوحدة أن نلتقي
على ما اتفقنا عليه وأن نتحاور فيما اختلفنا فيه، وأن نكون صفاً كالبنيان المرصوص
في مواجهة كل التحديات والأوضاع الصعبة.