مطبّات في حياة الإمام الحسن المجتبى
قال الرسول (صلى الله عليه وآله): >لَوْ
كانَ الْعَقْلُ رَجُلًا لَكَانَ الْحَسَن<.
عندما ندرس الإمام الحسن (عليه السلام) من الداخل فإننا نجد أن
ّطفولته امتصت الكثير من إيحاءات رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أخلاقه
وروحانيته ورساليته، لأنَّ الطفولة تختزن ما يحيط بها في العمق شعوراً وإحساساً
لتتمثل ذلك كله في المستقبل.
وفي الحديث أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أعطى الإمام الحسن (عليه
السلام) هيبته وسؤوده؛ ما يفهم من ذلك أنَّ هذا العطاء لم يكن مجرد منحة غيبية، بل
كان النبي (صلى الله عليه وآله) يغرسه في شخصية الإمام الحسن (عليه السلام)..
وقد اختزن (عليه السلام) تلك المرحلة كلها حتى أنه كان في
طفولته يجلس إلى جدِّه (صلى الله عليه وآله) في المسجد، وكان يحفظ كلامه فينقله
إلى أمه، ويأتي الإمام علي (عليه السلام) فيجد علم ذلك عند الزهراء (عليه السلام)
ويسألها: ما مصدر ذلك، خاصة وأنها لم تحضر معهم في المسجد، فتقول: إنّ ابني هذا هو
الذي حدّثني.
كان جواداً كريماً وسخياً يدفع للسائل أضعاف ما يطلب وما لا
يطلب، ويعطي لمسيئه ومن يسيء إلى أهل بيته حتى يرتد المسيء عما كان عليه من إساءة؛
عملاً بقوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾.
وكان من عظيم سخائه وكرمه أنه قاسم الناس ماله ثلاث مرات، وهذا
ما لم يؤثر به عن إمام قبله ولا بعده إلا أبوه علي (عليه السلام). وكان حليماً
يوازن حلمه الجبال على حد قول مروان بن الحكم.
وكان عذب الروح حلو الحديث كريم المعاشرة حسن الأُلفة محباً
للناس.
وقد أبدى المسلمون كلَّ الاحترام والتقدير للإمام (عليه السلام)،
فكانوا يجلّونه، وكان إذا جلس على باب داره فإنّ الطريق ينقطع من المارة؛ لأنهم
عندما يتطلعون إليه تأخذهم هيبته فلا يملكون أن يمروا أمامه، فإذا علم ذلك قام
ودخل البيت حتى لا يعطل الطريق.
وكان (عليه السلام) يحج إلى بيت الله الحرام ماشياً فإذا رآه
الناس وفيهم علية القوم لم يملكوا أنفسهم إلا أن يترجلوا ويسيروا معه. وكان من بين
هؤلاء سعد بن أبي وقاص الذي كان وجهاً من وجوه الصحابة.
@
جناية التاريخ عليه:
لم يتعرض رجل من أهل بيت النبوة (عليه السلام) إلى ظلم وتشويه
إعلامي كما تعرض إليه الإمام الحسن (عليه السلام)، إذ بقيت الخطوط العامة لسياسته
في فترة حكومته القصيرة واستشهاده محاطة بهالة من الغموض والإبهام نتيجة الدعايات
والدسائس المغرضة التي أشاعها الأمويون وعلماء السوء.
( 1 ) مخالفته لسياسة أبيه:
ابتدأ التشويش عليه منذ وقت مبكر؛ فأظهروا أنّ سياسته (عليه
السلام) مخالفة لسياسة أبيه (عليه السلام).
ويكفي أن نقرأ في تاريخ خلافة الإمام علي (عليه السلام)، فتنة
حرب الجمل، وتمرد أبي موسى الأشعري
في الكوفة وعدم إفلاح الرسل معه; فبعث إليه ولده الحسن، وأرسل معه رسالة فيها عزل
أبي موسى عن منصبه وتعيين قرضة بن كعب مكانه.
وصل الإمام الحسن (عليه السلام) إلى الكوفة فالتأم الناس حوله
زمراً، وهم يعربون له عن انقيادهم وطاعتهم، ويظهرون له الولاء والإخلاص، وأعلن
الإمام (عليه السلام) عزل الوالي المتمرد عن منصبه، وتعيين قرضة محله.
وبعد حوارات مع أبي موسى عرف الإمام الحسن (عليه السلام) غايته،
فقطع حبل الجدال، وقال له: >يا أبا موسى! لِمَ
تثبّط عنّا الناس؟<.
وأقبل الإمام يحدّثه برفق ولين لينزع روح الشر والعناد عن نفسه
قائلاً: >يا أبا موسى والله ما أردنا إلا الإصلاح، وليس مثل أمير المؤمنين يخاف
على شيء<.
فقال أبو موسى: صدقت بأبي أنت وأمي، ولكنّ المستشار مؤتمن.
فأجابه الإمام (عليه السلام): نعم.
فقال أبو موسى: سمعت رسول الله يقول: إنّها ستكون فتنة، القاعد
فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب، وقد جعلنا
الله عزّ وجلّ إخواناً، وحرّم علينا أموالنا ودماءنا، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ
مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}، وقال
عزّ وجل: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ}.
فردّ عليه عمار قائلاً: أنت سمعت هذا من رسول الله؟
قال أبو موسى: نعم، وهذه يدي بما قلت.
فالتفت عمّار إلى الناس قائلاً: إنّما عنى رسول الله بذلك أبا
موسى، فهو قاعد خير من قائم.
وبقي أبو موسى مصرّاً على موقفه يثبّط العزائم، ويدعو الناس إلى
القعود وعدم نصرة الإمام، فعنفه الإمام الحسن (عليه السلام) قائلاً: >اعتزل عملنا أيّها الرجل، وتنحّ عن منبرنا<.
واستجابت الجماهير لدعوة الإمام، وعجّت الكوفة بالنفير ونزحت
منها آلاف كثيرة، وقد بدا عليهم الرضا والقبول، وساروا وهم تحت قيادة الإمام الحسن
(عليه السلام)، فانتهوا إلى ذي قار وقد التقوا
بالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث كان مقيماً هناك، فسرّ بنجاح ولده، وشكر له جهوده ومساعيه.
( 2 ) كثرة زواجه
وطلاقه:
وهذه الفرية قد دست في كتب وروايات أهل البيت.
منها: ما رواه أحمد بن أبي عبد
الله البرقي في المحاسن، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه
السلام) قال: >أَتَى رَجُلٌ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَقَالَ لَهُ: جِئْتُكَ مُسْتَشِيراً، إِنَّ
الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ جَعْفَرٍ خَطَبُوا إِلَيَّ. فَقَالَ
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ، أَمَّا
الْحَسَنُ، فَإِنَّهُ مِطْلَاقٌ لِلنِّسَاءِ، وَلَكِنْ زَوِّجْهَا الْحُسَيْنَ؛
فَإِنَّهُ خَيْرٌ لِابْنَتِكَ< [المحاسن: ج 2 ص 601 ح 20].
ومنها: ما رواه الكليني، عن عدّة
من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن جعفر بن بشير، عن
يحيى بن أبي العلا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: >إِنَّ
الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ (عليه السلام) طَلَّقَ خَمْسِينَ امْرَأَةً، فَقَامَ
عَلِيٌّ (عليه السلام) بِالْكُوفَةِ فَقَالَ: يَا مَعَاشِرَ أَهْلِ الْكُوفَةِ!
لَا تُنْكِحُوا الْحَسَنَ فَإِنَّهُ رَجُلٌ مِطْلَاقٌ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ
فَقَالَ: بَلَى وَاللهِ لَنُنْكِحَنَّهُ فَإِنَّهُ ابْنُ رَسُولِ اللهِ (صلى الله
عليه وآله) وَابْنُ فَاطِمَةَ (عليها السلام) فَإِنْ أَعْجَبَتْهُ أَمْسَكَ،
وَإِنْ كَرِهَ طَلَّقَ< [الكافي: ج 6 ص 56 ح 5].
ومنها: ما عن الكليني أيضاً، عن
حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن محمد بن زياد بن عيسى، عن عبد الله
بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام): >إِنَّ
عَلِيّاً (عليه السلام) قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: لَا تُزَوِّجُوا
الْحَسَنَ فَإِنَّهُ رَجُلٌ مِطْلَاقٌ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ، فَقَالَ:
بَلَى وَاللهِ لَنُزَوِّجَنَّهُ وَهُوَ ابْنُ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)
وَابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ
شَاءَ طَلَّقَ< [الكافي: ج 6 ص 56 ح 4].
ومن هنا كتب من كتب عن زواجه (عليه السلام) وتسابقوا في ذلك،
حتى أنّ أبا طالب المكي في >قوت القلوب< ذهب إلى أنه (عليه السلام) قد تزوج
ما بين مائتين وخمسين امرأة أو ثلاثمائة، وأنّ أبا عبد الله المحدِّث في (رامش افزاي)
أنّ هذه النساء كلّهن خرجن في خلف جنازته حافيات.
قد احتمل الشيخ المجلسي S كون
ذلك للاختبار، قال: >ولعل غرضه (عليه السلام) كان استعلام حالهم ومراتب
إيمانهم لا الانكار على ولده المعصوم المؤيّد من الحي القيّوم< [مرآة العقول: ج 21 ص96].
وهذا كلام ليس بتام؛ لأنه ان كان اختبار أمير المؤمنين (عليه
السلام) بأمر واقعي موجود فهذا نفس الإشكال، وإن كان بأمر غير واقعي فلا يصدر مثل
ذلك العبث عنه (عليه السلام)؛ فكيف يتهم أمير المؤمنين (عليه السلام) ابنه بما لم
يرتكبه!!
وقد احتار الشيخ يوسف البحراني S في
توجيه هذه الروايات وقال: >وربما حمل بعضهم هذه الأخبار على ما تقدّم في سابقها من
سوء خلق في أولئك النساء أو نحوه ممّا يوجب أولوية الطلاق، ولا يخفى بعده، لأنّه
لو كان كذلك لكان عذراً شرعياً. فكيف ينهى أمير المؤمنين (عليه السلام) عن تزويجه
والحال كذلك. وبالجملة فالمقام محلّ إشكال، ولا يحضرني الآن الجواب عنه، وحبس
القلم عن ذلك أولى بالأدب< [الحدائق: ج 25 ص 148].
والتحقيق في حل الاشكال:
الوجه الأول:
إنّها
مخالفة للأصول والقواعد الشرعية القطعية وللكتاب والسنّة القطعية، فإنّ الإمام (عليه
السلام) هو للناس وهو الحاكم بالقسط والعدل وهو لا يرتكب الظلم ولا يفعل المبغوض
ابداً فإنّ عهد الله تعالى لا ينال الظالمين. هذا مع وهنها بأنه:
( أ ) كيف لا يردع الإمام على
بن أبي طالب (عليه السلام) ابنه عن هذا الفعل القبيح وكيف يرتكبه الحسن (عليه
السلام) مع أنه حليم وحكي في حلمه ما يعجب الإنسان.
( ب ) وممّا يوهنها أيضاً عدم
نقل تلك الأخبار في الكتب الأربعة إلا في الكافي الشريف، فلم يروها الشيخ في
كتابيه التهذيب والاستبصار ولا الصدوق في فقيهه هذا مضافاً إلى أنّ الظاهر كون
خبري عبد الله بن سنان ويحيى بن أبي العلا هما نقل قضية واحدة فتأمل.
الوجه الثاني:
لو
قرأنا كتب الأنساب والتي أحصت عدد أولاد الإمام الحسن (عليه السلام) لرأينا أنّ
أكثر ما قيل أنهم سبعة عشر ولداً (بين ذكر وأنثى).
فكيف يتناسب هذا العدد من الأولاد وبين كونه قد تزوج ثلاثمائة
امرأة، ويظهر أنّ ذلك كان بالنكاح لا بملك اليمين، كما هو مقتضى الحديث عن الزواج،
فإنهم عادة يتكلمون عن الزوجات ثم يتكلمون عن الإماء وأنهن بملك اليمين لا
بالنكاح.
فتصوّر أنّ شخصاً فارغاً من كل عمل يريد أن يتزوج ثلاثمائة
امرأة. فكم يحتاج من المال والوقت لهذه المهمة؟ مع ملاحظة أنه لا يستطيع أن يجمع
أكثر من أربع نساء في وقت واحد! وأنه لكي يتزوج واحدة إضافية فإنه يحتاج إلى
الانتظار ثلاثة أشهر حتى تخرج من عدتها -مع فرض أنّ الطلاق رجعي-.
ومع هذا الحساب سوف يحتاج إلى سنة كاملة لكي يكون بإمكانه
الزواج بستة عشر امرأة، فلو فرضنا أنه يطلق أربعاً في كل دفعة بتلك الصورة..
سيحتاج إلى عشرين سنة لا شغل له ولا عمل لكي ينجز هذه المهمة، والتي تتخللها
حسابات واعتداد وملاحظة شروط الطلاق الشرعي من كونه بشاهدين عادلين في طهر -غير
طهر المواقعة- والمرأة غير حائض ... الخ
فهل ينطبق ذلك على مثل الحسن (عليه السلام) الذي قال فيه رسول
الله (صلى الله عليه وآله): >أشبهت خلقي
وخُلقي< وفي رواية أخرى: >أما الحسن فله
هيبتي وعلمي< هل تلك أخلاق رسول الله حتى يشابهه فيها؟!
بل جاء في التاريخ أنه >ما بلغ أحدٌ من الشرف بعد رسول الله (صلى الله
عليه وآله) ما بلغ الحسن، فقد كان يبسط له على باب داره فإذا خرج وجلس انقطع
الطريق فما مر أحد من خلق الله أجلالاً له<.. ولهذا قال له رجل: إنّ فيك
عظمة! فقال (عليه السلام): >بل فيّ عزة، إنّ الله
يقول {ولله العزة ولرسوله والمؤمنين}<.
ثم هل بلغ الأمر بأمير المؤمنين (عليه السلام) أنه لا يستطيع أن
يأمر ابنه الحسن بشيء، وييأس من قبوله كلامه حتى يضطر إلى تحذير الناس والخطاب
العام فيهم بأن لا يزوجوه! أو بلغ الأمر بالحسن (عليه السلام) أن لا يقبل كلام
أبيه ولا يعيره اهتماماً لا على سبيل النصيحة ولا على سبيل الأمر والنهي!!
ولو أردنا مناقشة التوالي الفاسدة لهذه الفكرة لطال بنا
المقام.. ومن هذا المنطلق فنحن لا نستطيع قبول هذه الفكرة، مع أنه توجد روايتان
معتبرتان سنداً في هذا المجال.
واننا لا نرضى بتقديس أي كتاب روائي بثمن باهض يحط فيه من كرامة
إمامنا الحسن (عليه السلام).
وأما دعوى الحفاظ على صدور النص كما يدعو به بعض الفقهاء
والمحققين، وأنه لا بدَّ من رد علمهما إلى قائليهما.
فنجيب: ما الفائدة في الحفاظ على الصدور وإلغاء الظهور؟! إنّ
تقديس أهل البيت (عليهم السلام) وأخبارهم يلزم أن يدعونا للحفاظ عليها صدوراً
وظهوراً، أما التسليم بصدورها مع عدم العمل بظهورها فهو رفع بالتالي لليد عن أخبار
أهل البيت (عليهم السلام) ويعني عدم عملنا بها.
ولذا لا يليق بنا الحفاظ على نص فيه حط لكرامة شخص من مثل الإمام
الحسن (عليه السلام)، الذي شملته آية التطهير والمباهلة وحديث الثقلين والكثير من
النصوص النبوية الكريمة.
ثانياً: الحكمة
السياسية:
لم يكن الإمام الحسن سياسياً بالمعنى الشائع الآن، فإنّ العمل
السياسي عموماً اقترن بكل ألوان الغدر والمكر والخداع، بل أصبحت السياسة في العرف
العام تعني الكذب والتسويف، وكل أشكال الالتواء والدجل واللف والدوران.حتى أنّ تشرشل
وجد لوحة مكتوبة على قبر أحد السياسيين المعروفين جاء فيها: (هنا يرقد السياسي
الصادق فلان)، فقال تشرشل قولته المعروفة: (هذه أول مرة أرى شخصين يرقدان في قبر
واحد).
بل إنّ الشيخ محمد عبده -في لحظة يأس بعد ذبح ثورة عرابي وتنكر
البعض- تنفّر من السياسة ومن لفظ السياسة فقال: >أعوذ بالله من السياسة ومن لفظ
السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة، ومن كل خيال يخطر
ببالي من السياسة، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجُن أو يعقل في السياسة، ومن ساس
ويسوس وسائس ومسوس<.
وهكذا أضحت كلمة (سياسة) في عرف هؤلاء سُبّة على أهلها وأنها لا
تمت إلى الصدق أو الأمانة بأية صلة، ولا علاقة لها بالاستقامة والعهود والمواثيق،
لا من قريب ولا من بعيد..
وهذه التهمة إذا صحت على السياسة، فإنها لا تمثل الحقيقة كلها،
أي إنّ السياسة شأنها شأن أي مهنة أو فن آخر، يمكن أن تكون سيفاً ذا حدين: حد ينفع
الناس ويرتقي بهم ويساهم في تكاملهم، وحد يأتي على حساب هذا السمو أو هذا التكامل
فيساهم في تدمير الناس أو تخديرهم.
على هذا الأساس يفترض التمييز بين سياسة الأنبياء والأئمة
والزعماء الصالحين، وبين سياسة تجار الدين والسماسرة وسياسي المصالح والمقاولين.
وعلى هذا الأساس أيضاً يفترض التمييز بين الإسلام الأموي والإسلام العلوي -غير
الصفوي-، ومعلوم كم هو الفارق بين الصنفين.
يقول الشهيد آية الله السيد حسن مدرس: >سياستنا هي عين عبادتنا، وإنّ
عبادتنا هي عين سياستنا<.
وقد سأل شخص الإمام الحسن (عليه السلام) عن رأيه في السياسة؛
فقال: >هي أن ترعى حقوق الله وحقوق الأحياء، وحقوق
الأموات، فأما حقوق الله: فأداء ما طلب، والاجتناب عما نهى. وأما حقوق الأحياء:
فهي أن تقوم بواجبك نحو إخوانك، ولا تتأخر عن خدمة أمتك وأن تخلص لولي الأمر ما
أخلص لأمته، وأن ترفع عقيرتك في وجهه إذا ما حاد عن الطريق السوي. أما حقوق
الأموات: فهي أن تذكر خيراتهم وتتغاضى عن مساوئهم، فإنّ لهم رباً يحاسبهم<.
وقال له معاوية يوما ما يجب لنا في سلطاننا؟
قال: >ما قال سليمان بن
داود<.
قال معاوية: وما قال سليمان بن داود؟!
قال: >إنه قال لبعض أصحابه،
أتدري ما يجب على الملك في ملكه، وما لا يضره إذا أدى الذي عليه منه: إذا خاف الله في السر
والعلانية، وعدل في الغضب والرضا، وقصد في الفقر والغنى، ولم يأخذ الأموال غصباً،
ولم يأكلها إسرافاً وتبذيراً، لم يضره ما تمتع به من دنياه إذا كان ذلك من
خلته<.
كل ذلك تماشياً مع الروح القرآنية التي أصلت دور العمل الصالح
في حياة الفرد والأمة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ
وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، وإشارة أخرى واضحة صريحة، موجهة إلى المؤمنين
أنفسهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ
تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا
مَا لاَ تَفْعَلُونَ}.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق