السبت، 6 أغسطس 2022


علي الأكبر

وأمه ليلى ابنة أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفى.

عروة بن مسعود شهد صلح الحديبية، زعيم من زعماء العرب، وسيد ممن ساد قومه فأحسن السيادة، وهو رابع أربعة من العرب سادوا قومهم، كما ورد عن النبي (ص) قول حول عروة، والثلاثة الآخرون، وهو قوله: "أربعة سادة في الإسلام: بشر بن هلال العبدي، وعدي بن حاتم، وسراقة بن مالك المدلجي، وعروة بن مسعود الثقفي" (أسد الغابة: ج 1 ص 227؛ ميزان الاعتدال: ج 2 ص 422).

وهذا ما نصَّ عليه القرآن في موقف معروف، إذ حكى عنهم ما قاله أحدهم -الوليد بن المغيرة- على سبيل المقارنة الفاشلة.. {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف: 31).

والمقصود من القريتين هما مكة والطائف، أما المقصود من العظيمين فيهما، فهو القائل نفسه الوليد بن المغيرة بمكة ويعني بالثاني عروة الثقفي بالطائف، كما ورد في الإصابة والاستيعاب (الاحتجاج: ج 1 ص 37؛ البرهان في تفسير القرآن: ج 3 ص 587).

أجل كان عروة شخصية مرموقة، لكنه أبى أن يزعم العظمة كابن المغيرة وأمثاله، وكان شجاعاً وجريئاً بحيث إنه صمم على أن يدعو قومه للإسلام حالما يعود إلى الطائف وهكذا كان. فبعدما أسلم على يد الرسول الذي تبع أثره من الطائف وأدركه قبل دخول المدينة، وبعد أن تمكن الإسلام والإيمان من قلبه، استأذن النبي (ص) كي يرجع لهداية قومه.

وسأل رسول الله (ص) أن يرجع إلى قومه بالإسلام. فقال: يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبصارهم، وكان فيهم محبباً مطاعاً (أسد الغابة: ج 3 ص 529؛ الاستيعاب: ج 3 ص 204).

فخرج يدعو قومه إلى الإسلام فأظهر دينه رجاء ألا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف على قومه، وقد دعاهم إلى دينه رموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله.

ومن إيمانه ورضاه وقناعته بواجب الصدع بالرسالة مع تحمل دفع الثمن باهظاً إنه أجاب بجواب واضح اليقين حينما سألوه "وقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليّ، فليس فيّ إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله (ص) قبل أن يرتحل عنكم. (أسد الغابة: ج 3 ص 406؛ الاستيعاب: ج 3 ص 204؛ الإصابة في تمييز الصحابة: ج 3 ص 112 – 113).

وكان من حسن العاقبة والمصير كما نسب للنبي (ص) قوله: إنّ مثله في قومه مثل صاحب يس من قومه (أسد الغابة: ج 3 ص 406؛ الاستيعاب: ج 3 ص 204؛ الإصابة في تمييز الصحابة: ج 3 ص 112 – 113) دعا قومه إلى الله فقتلوه.

في هذه الأجواء عاشت السيدة ليلى (رضي الله عنها) حيث نالت من الإيمان والحظوة لدى الله سبحانه وتعالى بحيث وُفقت لأن تكون مع نساء أهل بيت النبوة، تعيش أجواء التقى والإيمان، وتعيش آلام آل الرسول وآمالهم، وتشاطر الطاهرات أفراحهن وأتراحهن، وقد ظفرت بتوفيق كبير آخر، حيث أضحت وعاءً لأشبه الناس طراً برسول الله (ص).. فهي امرأة رشيدة، جليلة القدر، سامية المنزلة، عالية المكانة، رفيعة الشرف في الأوساط الاجتماعية، كيف لا وهي زوجة سبط سيد المرسلين وسيد شباب أهل الجنة أبي عبد الله الحسين (ع).

ولقد كان الأكبر نتاج هذا اللقاء، ومن هنا ندرك ببساطة عوامل بلوغ أحدهم مستوىً تربوياً عالياً جداً، وهي بعض عوامل تضلعهم العلم واضطلاعهم بالحكمة فضلاً عن التربية بالذات، وذلك عندما نأخذ بنظر الاعتبار وجود العناصر، أو توفر المقدمات الأساسية هذهِ سلفاً. وهي:

·   خلو الشخصية من الشوائب السلبية المعكرة والرافضة للإيجابيات والنافرة من الصفاء.

·   طهارة الروح، وصفاء النفس.

·   سلامة الضمير.. والتجاوب مع الوجدان.

·   نزاهة المشاعر، وسمو الأحاسيس.

·   التطلع للأفضل والتوق للأحسن.

·   السعي للاقتراب من الكمال وبلوغ مستوى المسؤوليات ومستوى حمل الرسالة.

هذه كلها مجتمعة تشكل تُربة الأرض الخصبة لبذر بذور التربية وغرس أشجار التربية الراسخة الأصول، الضاربة الجذور.. الثابتة في الواقع طالما تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

فهو (ع) أوّل الهاشميين الذين تقدّموا إلى الشهادة بين يدي الإمام أبي عبد الله الحسين (ع). وقد لا يسع الواصف الساعي إلى وصفه بما يكشف عن عِظم شأنه وعلّو منزلته وسموّ مقامه إلاّ أن يتمسك بالوصف الجامع المانع الذي وصفه به أبوه الحسين (ع) حين قال: "غلامٌ أشبه الناس برسول الله (ص) خَلقاً وخُلُقاً ومنطقاً!!" (راجع: مقتل الحسين للمقرم: ص 255).

وكان عمره الشريف يومئذٍ على أعلى الأقوال سبعاً وعشرين سنة، وعلى أقلّها ثماني عشرة سنة.

هل كان لعليّ الأكبر ذريّة؟

صرّح المرحوم العلوي بأنّ علي الأكبر(ع) لم يخلف عقباً وقال: روى ذلك غير واحد من شيوخنا (المجدي: ص 91)، وذكر حسام الدين في (الحدائق الوردية: ص 124) بأنه كان له عقب.

ونحن نعتقد بهذا القول الثاني، ويشهد لذلك:

1. ما ورد في زيارته (ع) المرويّة عن أبي حمزة الثمالي أنّ الأمام الصادق (ع) قال له: "ضع خدّك على القبر وقل: صلى الله عليك يا أبا الحسن" (كامل الزيارات: ص 416). وكما يحتمل أن تكون الكنية للتفاؤل بالولد الحسن، فإنه يحتمل أيضاً أنّها صدرت على الحقيقة وأنه كان له ولد اسمه الحسن.

2. رواية أحمد بن أبي نصر البزنطي تشهد بأنه كان متزوجاً من جارية له ولد منها، فإنه قال للإمام الرضا (ع): عَنِ الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ ويَتَزَوَّجُ أُمَّ وَلَدِ أَبِيهَا؟ فَقَالَ: "لَا بَأْسَ بِذَلِكَ"، فَقُلْتُ لَه: بَلَغَنَا عَنْ أَبِيكَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (ع) تَزَوَّجَ ابْنَةَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (ع) وأُمَّ وَلَدِ الْحَسَنِ، وذَلِكَ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِنَا سَأَلَنِي أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهَا. فَقَالَ: "لَيْسَ هَكَذَا، إِنَّمَا تَزَوَّجَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (ع) ابْنَةَ الْحَسَنِ، وأُمَّ وَلَدٍ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْمَقْتُولِ عِنْدَكُمْ" (الكافي: ج 5 ص 361).

ومن المعلوم أنّ الجارية لا يقال لها أم ولد إلا إذا ولدت من سيدها، فهذا الحديث شاهد صريح على أنّ علي الأكبر كانت عنده جارية قد أولدها.

على أنَّ الاستضاءة بقول الإمام الصادق (ع) في تلك الزيارة التي رواها أبو حمزة الثمالي تكشف لنا عن حقيقة أضاعتها الحقب وهي أنّ للأكبر الشهيد أهلاً وولداً، وإن كان عقبه منقطعاً هو الآخر، فإنّ الإمام (ع) يقول فيها: "صلّى الله عليك وعلى عترتك وأهل بيتك وآبائك وأبنائك وأمهاتك الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا" (كامل الزيارات: ص 416).

ولفظ الأبناء جمع يدل على أكثر من اثنين، وكما يحتمل إرادة الصلبيين خاصّة يحتمل أيضاً أن يراد ما يعمّهم وأبناءهم لكنّ الاحتمال الثاني مدفوع بظاهر إطلاق اللفظ عند العرف، فإنه يختص بالصلبيين.

كما أنّ قوله (ع) "وعلى عترتك" دالُّ عليه فإنّ عترة الرجل ذرّيته فلو لم يكن له ذرّية لما صحّ استعمال هذا اللفظ وورود هذه الجملة في لسان الإمام العارف بخواص البلاغة ومقتضيات الأحوال أقوى برهان (عليّ الأكبر للمقرّم: ص 15، وكامل الزيارات: ص 416).

خروجه للشهادة ومحاولة أموية لاستمالته:

كانت الروح العشائرية والعصبية القبلية هي السائدة قبل مجيء الإسلام، مما أدَّى إلى صراع وخراب وسفك دماء دونما حساب، ولربما كانت لأسباب مصطنعة وهمية.

ويكفينا أن نتذكر دور زياد بن أبيه، والد عبيد الله بن زياد، وأفعاله الشنيعة عقيب استلحاق معاوية له بأبيه صخر بن حرب (أبي سفيان)، وكانت لهذه الرابطة الوهمية ويلاتها ومآسيها التي تصبُّ في مصلحة ملك معاوية ولتمكينه من رقاب المسلمين.

فعادت المعالم الجاهلية لتسود في زمن بني أمية، وكان لها أثرها الكبير في صنع الأحداث وفي إشعال حروب متكررة ضد آل الرسول.

فكانت استمالة بعض العناصر وفق منطق الصراع القبلي هو الأسلوب الأفضل، وهو ما يسمى بسياسة "فَرِّقْ تَسُدْ. فالعصبيّة التي أماتها الاسلام كان معاوية قد أطلق لها العنان لتمزِّق شمل الأمة، وفجر التناحر القبلي تفجيراً شديداً، واحتقر الموالي واضطهدهم، وأذلَّ الفقراء، وفرَّق بين البلدان الإسلامية في العطاء والمنزلة، كما فرَّق بين أشراف القبيلة الواحدة وبين عامتها، كل ذلك من أجل أن تجد الأمة نفسها في حال تمزقها وتناحرها مضطرة إلى التقرّب إليه بالطاعة والانقياد لأوامره" (مع الركب الحسيني: ج 1 ص 129-130).

ولهذا دعا معسكر يزيد علي الأكبر -حسب قول أبي نصر البخاري- إلى الأمان، وقالوا: "إنّ لك رحماً بأمير المؤمنين يزيد بن معاوية، يريدون رحم ميمونة بنت أبي سفيان. (سر السلسلة العلوية: ص 30). حيث كانت أم ليلى هي ميمونة بنت أبي سفيان ابن حرب.

يقول الزبيري: "وكان رجل من أهل العراق!! دعا علي بن الحسين الأكبر إلى الأمان، وقال له: إنّ لك قرابة بأمير المؤمنين يعني يزيد بن معاوية، ونريد أن نرعى هذا الرحم! فإن شئت أمناك" (نسب قريش: ص 57).

فما هو موقف علي الأكبر من ذلك العرض؟؟

لا بدَّ أن ندرك أنه عرض رخيص، وعلي الأكبر لا يركن إلى مثل هذه العروض الدنيئة. وقد سبق له أن استجاب لعرض لا يدانيه عَرض آخر، لهذا أصحاب العرض الرخيص بجواب قاطع: "لقرابة رسول الله (ص) أحق أن ترعى" (نسب قريش: ص 57)...

فلا رحم ولا قرابة أقدس مما وصى القرآن بها وحرص بشدة عليها، فأي يزيد أم أية رحم أموية هذه.

"لقرابة رسول الله أحق أن ترعى من قرابة يزيد بن معاوية.. ثم شد عليهم".

وحمل عليهم وهو يقول:

أنا علي بن الحسين بن علي              نحن وبيت الله أولى بالنبي

والله لا يحكم فينا ابن الدعي           أطعنكم بالرمح حتى ينثني

ضرب غلام هاشمي علوي

قال ابن أعثم: فتقدم نحو القوم، ورفع الحسين شيبته نحو السماء وقال: "اللهم اشهد على هؤلاء القوم! فقد برز إليهم غلام أشبه القوم خلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك محمد (ص)، فامنعهم بركات الأرض، فإن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقاً، وأقطعهم قطعاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترض الولاة عنهم أبداً، فإنهم دعونا لينصرونا، ثم عدوا علينا يقاتلوننا".

ثم صاح الحسين بعمر بن سعد فقال: "ما لك قطع الله رحمك، ولا بارك لك في أمرك، وسلَّط عليك بعدي من يقتلك على فراشك، كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من محمد (ص)".

ثم رفع الحسين صوته وقرأ: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الفتوح: ج 5 ص 114؛ مقتل الحسين للخوارزمي: ص 34).



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محرم 1447 في الصحافة الكويتية