الأربعاء، 20 ديسمبر 2023


 

** كيف نعى أمير المؤمنين السيدة الزهراء **

ما هي الكفاءة الفاطمية؟

هل كانت عليها محدَّثة؟

كيف نعاها أمير المؤمنين؟

قال الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): "لِفاطِمَةَ سَلامُ اللهِ عَلَيها تِسعَةُ أسماء عِندَ اللهِ عزّ وجلّ: فَاطِمَةُ، وَالصِّديقَةُ، والمُبارِكَةُ، والطّاهِرَةُ، والزَّكيَّةُ، والرَّضيَّةُ، والمَرضيَّةُ، والُمحَدَّثَةُ، والزَّهراءُ" (أمالي الصدوق: ص 688؛ الخصال: ص 414).

ومن كلام لعلي (عليه السلام) روي عنه أنّه قاله عند دفن سيدة النساء فاطمة (عليها السلام) كالمُنَاجي به رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند قبره:

"السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ الله عَنِّي وَعَنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ، وَالسَّرِيعَةِ اللَّحَاقِ بِكَ، قَلَّ يَا رَسُولَ الله عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي، وَرَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِي، إِلا أَنَّ فِي التَّأَسِّي لِي بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ، وَفَادِحِ مُصِيبَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ، فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ، وَفَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وَصَدْرِي نَفْسُكَ، فَإِنَّا للهِ وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ، وَأُخِذَتِ الرهينة، أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ، وَأَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ، إِلَى أَنْ يَخْتَارَ الله لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ، وَسَتُنَبِّئُكَ ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا، فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ، وَاسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ، هَذَا وَلَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ، وَلَمْ يَخْلُ مِنْكَ الذِّكْرُ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمَا، سَلامَ مُوَدِّعٍ لا قَالٍ وَلا سَئِمٍ، فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلا عَنْ مَلالَةٍ، وَإِنْ أُقِمْ فَلا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ الله الصَّابِرِينَ".

وهذا الكلام مروي في: الكافي، وكشف الغمة، والبحار من أمالي الشيخ، ومجالس المفيد باختلاف وزيادة. فقد روى الكليني بسنده إلى الحسين بن علي (عليه السلام) قال: "لمّا قبضت فاطمة سلام الله عليها دفنها أمير المؤمنين (عليه السلام) سراً وعفا على موضع قبرها، ثم قام فحوّل وجهه إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال:

"السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ عَنِّي، وَالسَّلامُ عَلَيْكَ عَنِ ابْنَتِكَ وَزَائِرَتِكَ وَالْبَائِتَةِ فِي الثَّرَى بِبُقْعَتِكَ، وَالْمُخْتَارِ اللهُ لَهَا سُرْعَةَ اللِّحَاقِ بِكَ، قَلَّ يَا رَسُولَ اللهِ عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي، وَعَفَا عَنْ سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ تَجَلُّدِي، إِلا أَنَّ لِي فِي التَّأَسِّي بِسُنَّتِكَ فِي فُرْقَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ، فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ، وَفَاضَتْ نَفْسُكَ بَيْنَ نَحْرِي وَصَدْرِي، بَلَى وَفِي كِتَابِ اللهِ لِي أَنْعَمُ الْقَبُولِ، إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، قَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ، وَأُخِذَتِ الرهينة، وَأُخْلِسَتِ الزَّهْرَاءُ، فَمَا أَقْبَحَ الْخَضْرَاءَ وَالْغَبْرَاءَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ، وَأَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ، وَهَمٌّ لا يَبْرَحُ مِنْ قَلْبِي، أَوْ يَخْتَارَ اللهُ لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا مُقِيمٌ، كَمَدٌ مُقَيِّحٌ، وَهَمٌّ مُهَيِّجٌ، سَرْعَانَ مَا فَرَّقَ بَيْنَنَا، وَإِلَى اللهِ أَشْكُو، وَسَتُنْبِئُكَ ابْنَتُكَ بِتَظَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا، فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ، وَاسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ، فَكَمْ مِنْ غَلِيلٍ مُعْتَلِجٍ بِصَدْرِهَا لَمْ تَجِدْ إِلَى بَثِّهِ سَبِيلاً، وَسَتَقُولُ وَيَحْكُمُ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، سَلامَ مُوَدِّعٍ، لا قَالٍ وَلا سَئِمٍ، فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلا عَنْ مَلالَةٍ، وَإِنْ أُقِمْ فَلا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللهُ الصَّابِرِينَ، وَاهَ وَاهاً وَالصَّبْرُ أَيْمَنُ وَأَجْمَلُ، وَلَوْ لا غَلَبَةُ الْمُسْتَوْلِينَ لَجَعَلْتُ الْمُقَامَ وَاللَّبْثَ لِزَاماً مَعْكُوفاً، وَلأَعْوَلْتُ إِعْوَالَ الثَّكْلَى عَلَى جَلِيلِ الرَّزِيَّةِ، فَبِعَيْنِ اللهِ تُدْفَنُ ابْنَتُكَ سِرّاً وَتُهْضَمُ حَقَّهَا وَتُمْنَعُ إِرْثَهَا وَلَمْ يَتَبَاعَدِ الْعَهْدُ وَلَمْ يَخْلَقْ مِنْكَ الذِّكْرُ وَإِلَى اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ الْمُشْتَكَى وَفِيكَ يَا رَسُولَ اللهِ أَحْسَنُ الْعَزَاءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْكَ وَعَلَيْهَا السَّلامُ وَالرِّضْوَانُ" (الكافي: ج 1 ص 459).

الكفاءة الفاطمية:

لقد كانت السيدة فاطمة (عليها السلام) الكفؤ لعلي (عليه السلام)، وهو الكفؤ لها؛ يقول الإمام الصادق (عليه السلام): "لَوْ لَا أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِفَاطِمَةَ (عليها السلام) مَا كَانَ لَهَا كُفْؤٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ" (أنظر: الكافي: ج 1 ص 461؛ تهذيب الأحكام: ج 7 ص 470 حديث 1882؛ مناقب آل أبي طالب: ج 2 ص 29).

فما هي هذه (الكفاءة) التي يقصدها الحديث الشريف؟

بالتأكيد ليست هي كفاءة النسب؛ لأنَّ هناك أكثر من ابن عم للرسول (صلى الله عليه وآله)، وإنما هي كفاءة الروح وكفاءة العقل والفكر والإيمان، فقد كانت فاطمة (عليها السلام)، من خلال إيمانها وعقلها وفكرها وروحها وطهرها وجهادها وزهدها، كفؤاً لعلي (عليه السلام)، الذي كان في المستوى الأعلى من كل هذه الصفات والمعاني والقيم والآفاق التي تحلّق مع الله سبحانه.

لقد أمر الله رسوله (صلى الله عليه وآله) بأن يزوّج الكفؤ بالكفؤ والطهر بالطهر، لأنّ هناك أكثر من نقطة يلتقيان عليها، كيف وقد تربّيا على يد رسول الله، ونهلا من معينه علماً وأخلاقاً وروحاً، وعاشا معه بما لم يعشه أي صحابي أو صحابية من أصحابه، فقد كانا معه في الليل والنهار، وكان (صلى الله عليه وآله) ينطلق ليربيهما ويصنعهما على صورته استجابةً لنداء الله سبحانه {وأنذر عشيرتك الأقربين}، وحتى عندما انكفأت عنه عشيرته وكلَّ الناس، كان أقرب الناس إليه روحاً وإيماناً فاطمة وعلي (عليهما السلام).

ومن هنا لاحظنا -من خلال التاريخ الواصل إلينا- أنّ ما عاشه علي من روح ومن انفتاح على الله ومن معرفة بالله، كانت تعيشه فاطمة (عليها السلام). ولو أننا درسنا عبادة علي وعبادة فاطمة لوجدنا أنهما يعيشان في المستوى نفسه من القرب لله والانفتاح عليه، والمعرفة بكل أسرار قدسه وصفاته وأسمائه.

وهنا يكمن سر قوله (صلى الله عليه وآله): "لولا علي لما كان لفاطمة كفؤ" (أنظر: الكافي: ج 1 ص 383؛ من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 249 حديث 1183؛ التهذيب: ج 7 ص 470 حديث 1882؛ الفردوس: ج 3 ص 373 حديث 5130؛ مقتل الحسين للخوارزمي: ج 1 ص 66).

وبالالتفات إلى ذلك نفهم سرّ تمنّع رسول الله من تزويجها من أكابر الصحابة.

وقد روى الصدوق بسنده عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، عن أبيه موسى الكاظم (عليه السلام)، عن آبائه (عليه السلام)، عن علي (عليه السلام) أنه قال: "قالَ لي رَسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): يا عَلِيُّ، لَقَد عاتَبَتني رِجالُ قُرَيشٍ في أمرِ فاطِمَةَ، وقالوا: خَطَبناها إلَيكَ فَمَنَعتَنا، وتَزَوَّجَت عَلِيّاً! فَقُلتُ لَهُم: وَاللهِ ما أنا مَنَعتُكُم وزَوَّجتُهُ، بَلِ اللهُ تَعالى مَنَعَكُم وزَوَّجَهُ! فَهَبَطَ عَلَيَّ جَبرَئيلُ (عليه السلام) فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، إنَّ اللهَ جَلَّ جَلالُهُ يَقولُ: لَو لَم أخلُق عَلِيّاً (عليه السلام) لَما كانَ لِفاطِمَةَ ابنَتِكَ كُفؤٌ عَلى وَجهِ الأَرضِ؛ آدَمُ فَمَن دونَهُ" (عيون أخبار الرضا: ج 1 ص 203).

بعد. أفلا يحق للإمام (عليه السلام) أن تذهب نفسه أسى على بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويندبها بهذه الكلمة النائحة: "السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ عَنِّي وَعَنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ، وَالسَّرِيعَةِ اللَّحَاقِ بِكَ".

أسرع الناس لحوقًا برسول الله:

فقد روى البخاري في صحيحه باب علامات النبوة في الإسلام: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) دعا فاطمة في شكواه الذي قبض فيه فبكت، ولما أسرّ إليها بشيء ضحكت، فسألتها عائشة عن بكائها ثم ضحكها؟

فقالت: "أَسَرَّ إِلَيَّ إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي، لَحَاقًا بِي، فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ أَوْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ" (صحيح البخاري: ج 6 ص 62 حديث 3240).

لقد كان الإمام علي (عليه السلام) يشعر بالسكينة والاطمئنان إلى جانب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلمّا غاب الرسول (صلى الله عليه وآله) بقي يعيش السكينة والطمأنينة الروحيّة مع الزهراء البتول، فلما غابت الزهراء (عليه السلام) وأفل نجمها، شعر علي بالغربة وأحسّ بالوحدة وامتلأ قلبه بالحزن الكبير، لا من جهة فقد قرابة هنا أو قرابة هناك، بل لأنه لم يعدْ يوجد إنسان يعيش معنى علي (عليه السلام) ويعيش علي (عليه السلام) معناه، لم يعد يوجد إنسان يلجأ إليه علي (عليه السلام)، كما كانت فاطمة (عليها السلام)، لأنها كانت كفؤاً له (عليها السلام)، كما كان علي (عليه السلام) كفؤاً لها، كان عقلها عقله وقلبها قلبه، فهما صنيعتا رسول الله وتلميذاه اللذان نهلا من معين علمه. ولهذا أحسّ علي (عليه السلام) بفقدها أنه فقد كيانه، ومن يفقد كيانه فلا بدّ أن يشعر بالغربة عن هذا العالم.

- (السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ الله عَنِّي وَعَنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ): بدأ (عليه السلام) بالسلام قبل الكلام رعاية لرسم الأدب ومواظبة على النّدب. ثم أشار (عليه السلام) إلى أنها دفنت إلى جوار رسول الله (صلى الله عليه وآله).

قال الشيخ الطوسي: "الأصوب أنّها مدفونة في دارها أو في الرّوضة".

يؤيّد قوله قول النبي (صلى الله عليه وآله): "إنّ بين قبرى ومنبرى روضة من رياض الجنة"، وفي البخاري: "بين بيتي ومنبري".

وعن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن قبر فاطمة؟ فقال: "دفنت في بيتها فلمّا زادت بنو أميّة في المسجد صارت في المسجد" (أنظر تفصيل ذلك في كتابي معجم معالم فقه المناسك تحت عنوان "بيت فاطمة" و "قبر فاطمة").

- (وَالسَّرِيعَةِ اللَّحَاقِ بِكَ):

لقد اختلفت الأخبار جداً في مدّة بقائها بعد أبيها:

أولاً: قال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين: "كانت وفاة فاطمة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) بمدة يختلف في مبلغها، فالمكثر يقول: ثمانية أشهر، والمقلّل يقول: أربعين يوماً إلا أنّ الثبت في ذلك ما روى عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) أنّها توفيت بعده بثلاثة أشهر..".

وفى كشف الغمة، ونقلت من كتاب الذريّة الطاهرة للدولابي في وفاتها ما نقله عن رجاله قال: لبثت فاطمة (عليها السلام) بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ثلاثة أشهر.

ثانياً: وقال ابن شهاب ستة أشهر وقال الزهري ستة أشهر ومثله عن عائشة ومثله عن عروة بن الزبير.

ثالثاً: وعن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) خمساً وتسعين ليلة في سنة إحدى عشرة.

رابعاً: وقال ابن قتيبة في معارفه مائة يوم.

خامساً: وفي البحار عن الكفعمي في الثالث من جمادى الآخرة.

سادساً: وفي الكافي بسند صحيح عن أبي عبيدة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "... إِنَّ فَاطِمَةَ (عليها السلام) مَكَثَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) خَمْسَةً وسَبْعِينَ يَوْماً، وكَانَ دَخَلَهَا حُزْنٌ شَدِيدٌ عَلَى أَبِيهَا، وكَانَ يَأْتِيهَا جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) فَيُحْسِنُ عَزَاءَهَا عَلَى أَبِيهَا، ويُطَيِّبُ نَفْسَهَا، ويُخْبِرُهَا عَنْ أَبِيهَا ومَكَانِه، ويُخْبِرُهَا بِمَا يَكُونُ بَعْدَهَا فِي ذُرِّيَّتِهَا، وكَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) يَكْتُبُ ذَلِكَ" (الكافي: ج 1 ص 506؛ مشرعة البحار: ج 2 ص 137؛ مرآة العقول: ج 5 ص 314. وأنظر: بصائر الدرجات: ص 153 حديث 6).

قال الشيخ المجلسي بعد نقله الأخبار على كثرة اختلافها:

"أقول: لا يمكن التطبيق بين أكثر تواريخ الولادة والوفاة ومدّة عمرها الشريف، ولا بين تواريخ الوفاة وبين ما مرّ في الخبر الصحيح أنّها عاشت بعد أبيها خمسة وسبعين يوماً، إذ لو كان وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) في الثامن والعشرين من صفر كان على هذا وفاتها في أواسط جمادى الأولى، ولو كان في ثاني عشر ربيع الأول كما ترويه العامة كان وفاتها في أواخر جمادى الأولى، وما رواه أبو الفرج عن الباقر (عليه السلام) من كون مكثها بعده ثلاثة أشهر يمكن تطبيقه على ما هو المشهور من كون وفاتها في ثالث جمادى الآخرة هذا".

- (قَلَّ يَا رَسُولَ الله عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي، وَرَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِي):

قوله: "صفيتك" يشير إلى مكانتها عند الله ورسوله، قال الخطيب في [تاريخ بغداد: ج 1 ص 259]، بسنده عن ابن عباس، قال: قال رسول الله: "لَيْلَةَ عُرِجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ، رَأَيْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا لا إِلَهَ إِلا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، عَلِيٌّ حِبُّ اللهِ، الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ صَفْوَةُ اللهِ، فَاطِمَةُ خِيرةُ اللهِ، عَلَى بَاغِضِهِمْ لَعْنَةُ اللهِ". قلت: حديث منكر بهذا الإسناد. (تاريخ بغداد: ج 1 ص 274. وأنظر: تاريخ دمشق: ج 14 ص 170 حديث 3511؛ المناقب للخوارزمي: ص 302 حديث 297؛ الأمالي للطوسي: ص 355 حديث 737؛ الطرائف: ص 64 حديث 65؛ كفاية الطالب: ص 432)

فهو (عليه السلام) وصل إلى حد يكاد يفقد فيه الصبر، وهذه مبالغة فيما كان يتحسسه من ألم الفقد، وإلا فإنّ علياً (عليه السلام) هو الصابر الذي لا صبر كصبره. فحاشا علي (عليه السلام) أن لا يتماسك في هذه الظروف.

وهذا الكلام من لطائف عبارته ومحاسن كنايته (عليه السلام): إلى كونها صفيّة له مختارة عنده، كما أنّها كانت صفيّة لله.

ففي كل مرة كان (صلى الله عليه وآله) يعبِّر عن منزلة هذه الصفية المباركة، فيقول: -كما في صحيح البخاري-: "فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي، فَمَنْ أَغْضَبَهَا أَغْضَبَنِي" (صحيح البخاري: ج 4 ص 210)، وفي صحيح مسلم: "إِنَّمَا فَاطِمَةُ بِضْعَةٌ مِنِّي، يُؤْذِينِي مَا آذَاهَا" (صحيح مسلم: ج 7 ص 141)، وفي رواية أخرى لمسلم: "فَإِنَّمَا ابنتي بَضْعَةٌ مِنِّي، يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا، وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا" (صحيح مسلم: ج 7 ص 141)، وفي نص رابع: "فَاطِمَةُ شُجْنَةٌ مِنِّي، يَبْسُطُنِي مَا بَسَطَهَا، وَيَقْبِضُنِي مَا قَبَضَهَا" (مسند الإمام أحمد بن حنبل: ج 31 ص 258).

وهذه الكلمات - على اختلاف تعبيراتها - الصادرة عن الصادق الأمين، الذي يتحدث وحياً وإسلاماً لا عاطفةً، لأنّ عاطفته كبشر، مجالها أن يحتضن ابنته كما يحضن أي بشر ابنه وابنته، ولكن عندما يعطي قيمة فهو يعطيها من خلال الوحي والرسالة، ولا يمكن أن يتقوّل على الله أبداً: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثم لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقّة: 44 - 46].

هذه النصوص تعبّر عن التمازج الروحي والاندماج العميق بينها وبين والدها (صلى الله عليه وآله)، لأنّ قوله (صلى الله عليه وآله): "بَضْعَةٌ مِنِّي" لا يريد به الإشارة إلى الجانب المادي فإنه لا يخفى على أحد، وإنّما يريد به الإشارة إلى ما هو أعمق من ذلك، فإنّ معنى أن يكون إنسانٌ ما قطعة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنه يرتبط برسول الله ارتباطاً رسالياً عضوياً، كما لو كان جزءاً حياً من جسده.

ومعنى ذلك أنّ عقله يختزن بعضاً من عقل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وروحه تختزن بعضاً من روح رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنّ حياته تختزن الطهر والنقاء والروحانية والصدق والأمانة كما اختزنها رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ثم عندما يضيف (صلى الله عليه وآله): "فَمَنْ أَغْضَبَهَا أَغْضَبَنِي" "وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا"، فإنّ أصحاب الرسالات لا ينفعلون عاطفياً عندما يؤذي الناس أولادهم، بل أي أب صالح لو أغضب الناس ابنه بالحق لأنّه أساء إليهم، فإنه لا يغضب ولا ينفعل لذلك.

إذاً فما معنى "فَمَنْ أَغْضَبَهَا أَغْضَبَنِي" "وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا"؟!

إنّ معناه أنّ فاطمة هي المرأة التي لا يمكن أن تسيء إلى أحد في قول أو فعل حتى يكون للناس حق في إيذائها وإغضابها، بل فاطمة لو غضبت فلا يملك أحد أن يغضبها؛ لأنها المرأة التي لا تغضب إلا لله، والمرأة التي لا تسيء إلى أحد ولا تذنب أو تنحرف، فمن أغضبها فإنه يغضب الحق ويغضب الخطّ المستقيم، وهي المرأة التي لا تتأذى إلا عندما يُعصى الله أو ينحرف الناس عن طريق الله، ولذلك يتأذى رسول الله بأذاها، وإلا كيف يمكن أن يتأذى رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأذاها إن لم يكن أذاها مبرراً ومنسجماً مع الحق والرسالة؟

وهكذا قوله (صلى الله عليه وآله) كما جاء في بعض الروايات: "يرضيني ما يرضيها"، فإنّ معناه أنها لا ترضى إلا ما يرضاه الله ورسوله، ولو لم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) مطّلعاً على عمق الزهراء (عليها السلام) وعلى كونها صورة عن روحه وفكره وخطه ورسالته، وعلى أنّ الرسالة قد انطبعت في شخصيتها وذابت شخصيتها في الرسالة، بحيث إنه لا يوجد فاصل بينها وبين الرسول وبينها وبين الرسالة، لما صحّ أن يربط رضاه برضاها وغضبه بغضبها. وهذا يدلل بوضوح على أن الزهراء (عليها السلام) معصومة مطهرة وبلغت الغاية في الكمال.

- (إِلا أَنَّ فِي التَّأَسِّي لِي بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ وَفَادِحِ مُصِيبَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ):

المصاب بفقد السيدة بضعة النبي (صلى الله عليه وآله) عظيم وأليم على قلب الإمام، ولكنه جلل إذا قيس بفقد رسول الله، وقد صبر الإمام على هذا فبالأولى أن يصبر على ذاك.

ومن أقواله (عليه السلام): "إِنْ صَبَرْتَ جَرَى عَلَيْكَ الْقَدَرُ وَأَنْتَ مَأْجُورٌ، وَإِنْ جَزِعْتَ جَرَى عَلَيْكَ الْقَدَرُ وَأَنْتَ مَأْزُورٌ".

وهذا الكلام وارد مورد التسلية لنفسه القدسيّة، فإنّه لمّا ذكر عظم وجده في افتقاد الصديقة سلام الله عليها وشدّة تأثيره فيه استدرك ذلك بأنّي قد أصبت قبل ذلك بعظيم فراقك وثقيل مصابك فصبرت عليه مع كونه أعظم رزء وأشدّ تأثيرا فينبغي لي أن أقتدي في الصبر على تلك المصيبة الحادثة بالصبر على هذه المصيبة الماضية لكونها سهلاً عندها.

وبعبارة أوضح فكأنه يقول: إنّ صفيّتك وإن عظم بفراقها المصاب وقلّ عنها الصبر والتحمل إلا أنّ فراقك قد كان أعظم وأجلّ، ومصابك أشدّ وأثقل فكما صبرت في تلك الرّزيّة العظمى فلئن أصبر في هذه المصيبة كان أولى وأحرى.

ثم أكد شدة تأثره بفراقه (صلى الله عليه وآله) بشرح بعض حالاته معه (صلى الله عليه وآله) حين موته المفيدة لمزيد اختصاصه به فإنّ الاختصاص كلّما كان أزيد كان تأثير الفراق أشدّ، فقال:

- (فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ):

كأنّ الإمام يقول بهذا لرسول الله: انه معه في عقله وروحه وجسمه بعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى تماماً كما كان معه في حياته.

- (وَفَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وَصَدْرِي نَفْسُكَ) تقدم في الخطبة 195.

- (فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ، وَأُخِذَتِ الرهينة):

المراد بالوديعة والرهينة السيدة أم الحسنين، وكانت عند الإمام عوضاً عن رؤية رسول الله كما تكون الرهينة عوضاً عن الأمر الذي أخذت عليه على حد ما قال ابن أبي الحديد.

فالزهراء كانت عند علي (عليه السلام) وديعة، وقد حافظ عليها أعظم محافظة، لا كما يقول البعض من أنه آذاها في بعض الأعمال.

فلقد استعار (عليه السلام) لفظ الوديعة والرهينة لتلك النفس الكريمة؛ لأنَّ الأرواح كالوديعة والرّهن في الأبدان، أو لأنَّ النساء كالودائع والرهائن عند الأزواج يجب عليهم مراقبتهنّ ومحافظتهنّ كما يجب على المستودع والمرتهن حفظ الودائع والرهائن.

- (أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ) دائم.

- (وَأَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ) كناية عن شدة الآلام والأتراح التي تمنع من النوم؛ لأنكما كنتما أنسي في كلِّ أوقاتي؛ فأنت يا رسول الله كنت أنس نهاري، وأما ابنتك فكانت أنس ليلي، ومنذ افتقدتكما لم تستطع عيني أن تغفو وتنام.

- (إِلَى أَنْ يَخْتَارَ الله لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ):

فأنا وحدي، في ليلي ونهاري، وإن كان الناس كلّهم معي؛ لأنَّ العلاقة بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين علي (عليه السلام) هي علاقة لا نظير لها، فرسول الله (صلى الله عليه وآله) هو أبو علي بالتربية ومعلّمه ومرشده وأخوه ورفيقه، ولذلك نمت بينهما علاقة لا فراغ فيها قط.

- (وَسَتُنَبِّئُكَ ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا ...):

يشير (عليه السلام) بهذا إلى قصة فدك، ولفدك في التاريخ الإسلامي أدوار وأخبار، وتتلخص بأنّ فدكاً قرية في الحجاز، وكانت ملكاً لليهود، فصالحوا رسول الله عليها، ولما انتقلت إليه وهبها لابنته فاطمة.

وعن كتاب "الدر المنثور" للسيوطي عند تفسير قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} [الإسراء: 26] أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) دعا فاطمة، وأعطاها فدكاً.. ولما قبض النبي انتزعها أبو بكر من فاطمة، ولم يردها عمر في عهده لبضعة محمد (صلى الله عليه وآله)، ولما جاء عثمان وهبها لمروان بن الحكم، وحين تولى عمر بن عبد العزيز ردها إلى أولاد فاطمة، وبعده انتزعها منهم يزيد بن عبد الملك، ثم ردها السفاح العباسي إلى الفاطميين، ثم أخذها منهم المنصور الدوانيقي وأرجعها إليهم المأمون، وانتزعها منهم المتوكل، وانتهى عهد الفاطميين بفدك (والحديث في فدك طويل يوجد في كتب وأبحاث).

ويريد أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يقول للرسول: إنّ ابنتك ستخبرك في ما تعرّضت له من مظالم - فأحفّها السؤال - فقد حدثت لها ولأمتك كلها بعد رحيلك مشاكل كثيرة وحوادث أليمة - واستخبرها الحال، هذا ولم يطل العهد، ولم يخل منك الذكر - فلا يزال ذكرك يعيش فينا ولم يطل عهدنا بك، ومع ذلك حصل ما حصل.

ولا يخفى ما في هذه العبارة من حسن البيان مع بديع الإيجاز فإنّ التظافر بمادّته التي هي الظفر وهو الفوز على المطلوب يدل على أنّ هضمها كان مطلوباً لهم، لكنهم لم يكونوا متمكنين من الفوز به ما دام كونه (صلى الله عليه وآله) حياً بين أظهرهم، فلمّا وجدوا الأجواء خالية من وجوده الشريف فازوا به.

وإن كان مأخوذاً من أظفر الصقر الطائر من باب افتعل وتظافر أي أعلق عليه ظفره وأخذه برأسه فيدلّ على أنهم علقوا أظفارهم على هضمها قاصدين بذلك إهلاكها.

- (وَالسَّلامُ عَلَيْكُمَا، سَلامَ مُوَدِّعٍ لا قَالٍ وَلا سَئِمٍ، فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلا عَنْ مَلالَةٍ، وَإِنْ أُقِمْ فَلا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ الله الصَّابِرِينَ):

فلست جزعاً عندما أقف على قبرك وقبر ابنتك مودعاً، ولست متنكراً لقضاء الله وقدره، وأنا أعلم أنّ الدنيا لا تدوم لأحد من الخلق، وأنه لا يبقى إلا وجهك الكريم، تعاليت عن الموت والفناء واختصصت بالعزّ البقاء... فإن اخترت المقام عند قبرك يا رسول الله فأقيم عنده وأنا صابر وراض بقضاء الله طلبا لثواب الصابرين، لا جازع ولا متبرم.

وقريب من هذا قول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) عند موت ولده إبراهيم: "تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلا نَقُولُ إِلا مَا يُرْضِي رَبَّنَا. وَاللهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ".

وروي أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) بكى عند موت صاحبه عثمان بن مظعون؛ عن عائشة قالت: "قَبَّلَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله) عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَهُوَ مَيِّتٌ، فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ عَلَى خَدَّيْهِ" (مسند الإمام أحمد بن حنبل: ج 42 ص 469؛ المصنف لابن أبي شيبة: ج 3 ص 259؛ مسند ابن راهويه: ج 2 ص 376).

قال كاتب انكليزي: "نجد كثيراً من القصص تدل على دماثة محمد وحساسيته. فقد بكى على ابن عمه جعفر، وأيضا بكى حين رأى ابنة زيد بن حارثة تبكي على أبيها الذي قتل مع جعفر، وفي ذات يوم رأى طفلا حزينا، فسأله عن السبب فأجاب الطفل بأن بلبله قد مات. فبذل محمد كل جهده لتعزيته" (في ظلال نهج البلاغة: ج 3 ص 221).

فما الذي حدث بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله)؟!

في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) تركيز على المحنة التي عاشتها الزهراء (عليها السلام) وعاشها هو أيضاً بكل غصصها وآلامها فهو يقول: "وَسَتُنَبِّئُكَ ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا، فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ، وَاسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ، هَذَا وَلَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ، وَلَمْ يَخْلُ مِنْكَ الذِّكْرُ".

نعم، بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) هناك تهديدات وقعت على الأمة:

الأولى: تهديد داخلي: والمتمثل في حزب النفاق الذي كان ينشر بذور العداء والشحناء في صفوف المسلمين بُغية نيل مآربه وهي الإطاحة بالدولة الإسلامية والقضاء على زعيمها النبي (صلى الله عليه وآله)، وكان يترصّد بالمسلمين الدوائر للانقضاض عليهم، وما برح على هذا النحو حتى قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) نحبه واختاره الله لجواره.

ومن غريب الأمر أن يمد أبو سفيان يده للإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) للبيعة وهو يجهّز النبي (صلى الله عليه وآله) للدفن قائلاً: "والله إنّي لأرى عجاجة لا يُطفئها إلا دم، يا آل عبد مناف فيما أبو بكر من أموركم، أين المستضعفان أين الأذلاّن: علي والعباس، وقال: يا أبا حسن أبسط يدك حتى أبايعك".

فأبى علي عليه وزجره وقال: "إنّك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة وإنّك والله طالما بغيت الإسلام شراً لا حاجة لنا في نصيحتك" [تاريخ الطبري: ج 2 ص 449، حوادث سنة 11هـ].

الثانية: تهديد خارجي المتمثل في خطر الروم الذي يهدّد كيان الإسلام، وكانت تربطه بحزب النفاق روابط وثيقة، ولم يكن هجومه على المدينة أمراً بعيداً عن الأذهان ولم يغب عن بال النبي (صلى الله عليه وآله) خطرهم حتى على فراش الموت فكان يوصي أصحابه بالانضواء تحت لواء أسامة بن زيد بغية المسير إلى ثغورهم، وكان يُلحّ عليهم بالذهاب كلّما أفاق من مرضه ويلعن من تخلّف عنه ويقول: "جهّزوا جيش أسامة لعن الله من تخلّف عنه".

الثالثة: وثمة عامل ثالث كان محطَّ إثارة قلق لكلّ من ينبض قلبه للإسلام، وهو طروء روح العصيان على القبائل المجاورة للمدينة حيث كانوا على عتبة الارتداد من أجل التخلّف عن أداء الزكاة ودفع الضرائب للحكومة المركزية.

لقد كانت هذه العوامل الثلاثة التي تكفي واحدة منها في إثارة القلق والاضطراب صارت سبباً لغض الإمام علي (عليه السلام) عن حقه وسكوته أمام المؤامرات التي حيكت في السقيفة، فلو كان الإمام مصرّاً على تسنّم منصة الخلافة وخوض غمار الحرب من أجل الوصول إلى هدفه، فليس من البعيد أن تتاح الفرصة للمنافقين للتصيّد بالماء العكر، وبالتالي هجوم الروم على المدينة ومحو الإسلام، وقد نوّه الإمام بهذه الأمور العصيبة الداعية إلى السكوت في بعض خطبه، وقال:

"فَوَاللهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي وَ لا يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ (ص) عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ فَمَا رَاعَنِي إِلا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلانٍ يُبَايِعُونَهُ فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإِسْلامِ يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ محمد (ص) فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الإِسْلامَ وَ أَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ علي أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلائِلَ يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَتَنَهْنَهَ" [الكتاب 65].

إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان ينظر بنور الله وقد تنبّأ في بعض كلامه بالأخطار التي كانت تحدق بعلي (عليه السلام) وأهل بيته بعد رحيله.

أخرج الحاكم في مستدركه: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال لعلي: "أما أنّك ستلقى بعدي جهداً، قال: في سلامة من ديني؟ قال: في سلامة من دينك". (مستدرك الحاكم: ج 3 ص 151 حديث 4677؛ المصنّف لابن أبي شيبة: ج 7 ص 503 حديث 54).

وأخرج أبو يعلى أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال لعلي (عليه السلام): "ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها إلا من بعدي، قال: قلت: يا رسول الله في سلامة من ديني؟ قال: في سلامة من دينك" (مسند أبي يعلى: ج 1 ص 459؛ فضائل الصحابة لابن حنبل: ج 2 ص 651 حديث 1109؛ المناقب للموفق الخوارزمي: ص 65؛ تاريخ دمشق: ج 42 ص 322؛ الرياض النضرة: ج 2 ص 210).

وفي كلام آخر للنبي (صلى الله عليه وآله): "يا علي إنّك ستبتلي بعدي فلا تقاتلن". (كنز الدقائق للمناوي: ص 188).

وهذه الروايات تعرب عن أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان عالماً بتضافر الأمّة على هضم حقوق الإمام (عليه السلام) ولذلك أوصاه بالصبر والمثابرة دون أن يتعرض للقوم بعنف.

السلام على المحدثة العليمة:

لقد مرَّ علينا ما جاء في الكافي بسند صحيح أنَّ السيدة الزهراء (عليها السلام) قد جاءها الملاك يحدثها بعد موت أبيها (صلى الله عليه وآله).. ففي الكافي بسند صحيح عن أبي عبيدة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "... إِنَّ فَاطِمَةَ (عليها السلام) مَكَثَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) خَمْسَةً وسَبْعِينَ يَوْماً، وكَانَ دَخَلَهَا حُزْنٌ شَدِيدٌ عَلَى أَبِيهَا، وكَانَ يَأْتِيهَا جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) فَيُحْسِنُ عَزَاءَهَا عَلَى أَبِيهَا، ويُطَيِّبُ نَفْسَهَا، ويُخْبِرُهَا عَنْ أَبِيهَا ومَكَانِه، ويُخْبِرُهَا بِمَا يَكُونُ بَعْدَهَا فِي ذُرِّيَّتِهَا، وكَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) يَكْتُبُ ذَلِكَ" (الكافي: ج 1 ص 506؛ مشرعة البحار: ج 2 ص 137؛ مرآة العقول: ج 5 ص 314. وأنظر: بصائر الدرجات: ص 153 حديث 6).

ونعتقد أنَّ بعض البشر من غير الأنبياء (عليهم السلام) قد يحدثهم الملاك، وليس هذا من الغلو؛ فقد ورد في القرآن الكريم جملة من الآيات تشير إلى ذلك، ومنها:

قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (آل عمران: 42-43).

وقال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (آل عمران: 45).

فالآيات صريحة في أنَّ الملائكة كانت تُحدِّث السيدة مريم (عليها السلام) رغم أنَّها لم تكن نبيَّاً بإجماع المسلمين.

وممَّن نصَّ القرآنُ الكريم على أنَّ الملائكة حدَّثتهم رغم أنَّهم لم يكونوا من الأنبياء هي السيِّدة سارة زوجة النبيِّ إبراهيم (عليه السلام)؛ قال تعالى، يحكي قصة الملائكة الذين حلَّوا ضيوفاً عند إبراهيم (عليه السلام): ﴿وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} (هود: 69-73).

فرغم أنَّ السيدة سارة لم تكن نبياً إلا أنَّ هذه الآيات تنصُّ على أنَّ الملائكة حدَّثتها وأنبأتها عن أمورٍ كانت في غيب الله جلَّ وعلا، فهي قد أخبرتها عن أنَّها تُرزق بمولودٍ فيكون ذكراً اسمُه إسحاق، كما أخبرتها أنَّه يكون وراء إسحاقَ يعقوب.

ويعتقد الشيعة الإمامية أنَّ الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) من آل الرسول (صلى الله عليه وآله) محدَّثون (أنظر: الكافي: باب أنَّ الأئمة (عليهم السلام) محدَّثون: ج 1 ص 270؛ بصائر الدرجات: باب في الأئمة أنهم محدَّثون مفهمون: ص 339؛ الخصال: ص 480 حديث 47 و 49؛ عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص 60 حديث 24؛ كمال الدين وتمام النعمة: ص 305 باب 27 حديث 19 و باب 33 حديث 15). كما يعتقدون في سيدة نساء العالمين السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أنَّها محدَّثة (الكافي: ج 1 ص 329 و 341؛ بصائر الدرجات: ص 392؛ علل الشرائع: ج 1 ص 183)، وليس ذلك من الغلوِّ في شيء، إذ هو مقام لا يختصُّ به الأنبياء (عليهم السلام)؛ وبه قال العلامة الشيخ ابن عاشور: " وقد يحصل لغير الأنبياء ولكنه غير مطرد ولا منضبط مع أنه واقع" (تفسير التحرير والتنوير: ج 25 ص 196).

وقال العلامة الشيخ محمد آصف المحسني: "فالذي تحصّل لنا أنّ الإمام يحدّثه الملك من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو لا يرى شخص الملك؛ لا في اليقظة ولا في النوم، وإنّما يسمع صوته" (صراط الحق في المعارف الإسلامية والأصول الاعتقادية: ج 3 ص 154).

وقد نصَّ على ذلك القرآن الكريم ورواياتٌ كثيرة وردت من طرقنا بل ومن طرق أهل السنة أيضاً.

أمَّا ما ورد في روايات أهل السنة فرواياتٌ عديدة فيها ما هو صحيح السند بحسب ضوابطهم:

منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنْ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ" (صحيح البخاري: ج 5 ص 412).

ومنها: ما أخرجه البخاري أيضاً في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال النبيُّ (صلى الله عليه وآله): "لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رِجَالٌ يُكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ" (صحيح البخاري: ج 6 ص 100).

ومنها: ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عائشة عن النبيِّ (صلى الله عليه وآله): "قد كان يكون في الأمم قبلكم محدَّثون" (صحيح مسلم: ج 7 ص 115).

ومنها: ما رواه الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين في مناقب عمران بن الحصين بسنده عن مطرف بن عبد الله عن عمران بن حصين أنَّه قال: اعلم يا مطرف أنه كان تُسلِّم الملائكة عليَّ عند رأسي وعند البيت وعند باب الحجر فلمَّا اكتويتُ ذهب ذلك فلمَّا برئ كلَّمه، قال: اعلم يا مطرف انه عاد إليَّ الذي أفقد، اكتم عليَّ يا مطرف حتى أموت (المستدرك: ج 3 ص 472).

وروى البيهقي في السنن الكبرى بسنده عن مطرف بن عبد الله الشخير يحدث عمران بن حصين: .. وأنَّه كان يُسلَّم عليَّ فلمَّا اكتويتُ انقطع عنِّي، فلما تركتُ عاد إليَّ يعني الملائكة. قال أخرجه مسلم في الصحيح من حديث شعبة، وبهذا لمعنى رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن مطرف (السنن الكبرى: ج 5 ص 14).

وأفاد النووي في كتابه شرح مسلم (شرح مسلم للنووي: ج 8 ص 206): "ومعنى الحديث أنَّ عمران بن الحصين كانت به بواسير فكان يصبر على المهمَّات وكانت الملائكة تُسلِّم عليه فاكتوى فانقطع سلامُهم عليه ثم ترك الكيَّ فعاد سلامهم عليه".

وأفاد الذهبي في تذكرة الحفاظ (تذكرة الحفاظ: ج 1 ص 29) في ترجمة عمران بن حصين: "وكان ممَّن يسلِّم عليه الملائكة، مات سنة اثنين وخمسين، وكان به داء الناصور فاكتوى لأجله: فقال: اكتوينا فما أفلحتُ ولا أنجحت، وروينا أنَّه لمَّا اكتوى انقطع عنه التسليم مدةً ثم عاد إليه".

وأفاد الطبراني في المعجم الكبير (المعجم الكبير للطبراني: ج 18 ص 107) بسنده عن قتادة أنَّ الملائكة كانت تصافح عمران بن حصين حتى اكتوى.

وأفاد جلال الدين السيوطي في تنوير الحلك، قال: "وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن يحيى بن سعيد القطان قال: ما قدم علينا البصرة من الصحابة أفضل من عمران بن حصين، أتتْ عليه الملائكة ثلاثون سنة تسلِّم عليه من جوانب بيته" (تنوير الحلك: ص 4).

وأفاد ابن حجر في الإصابة: "وأخرج الطبراني وابن منده بسندٍ صحيح عن ابن سيرين قال: لم يكن تقدم على عمران أحد من الصحابة ممن نزل البصرة، وقال أبو عمر: كان من فضلاء الصحابة وفقهائهم يقول عنه أهل البصرة انه كان يرى الحَفَظَة وكانت تُكلِّمه حتى اكتوى"  (الإصابة: ج 4 ص 585).

وذكر الصالحي الشامي في كتابه سبل الهدى والرشاد: وكان يراهم -الملائكة- عياناً (سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 10 ص 45).

ومنها: ما أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده عن حذيفة بن اليمان انه أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: بينما أنا أصلِّي إذ سمعتُ متكلِّماً يقول: اللهم لك الحمد كلُّه، ولك الملك كلُّه، بيدك الخير كلُّه، إليك يرجع الأمر كلُّه علانية وسرُّه، فأهلٌ انْ تُحمد، إنَّك على كلِّ شيءٍ قدير ..، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): "ذلك ملَك أتاك يُعلِّمك تحميد ربك" (مسند أحمد بن حنبل: ج 5 ص 396).

وثمة رواياتٌ أخرى عديدة وردت من طرق العامة صريحة في أنَّ الملائكة كانت تُحدِّث غير الأنبياء.

وحينئذٍ نتساءل: ما هو المحذور في أن يلتزم الشيعة الإمامية بأنَّ الأئمة (عليهم السلام) من أهل البيت (عليهم السلام) كانت تُحدِّثهم الملائكة بعد أن نصَّت الروايات المعتبرة عندنا أنَّهم قد مُنحوا هذا المقام من الله تعالى؟!

ونختم برواية رواها الكليني في الكافي بسنده عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: "إنَّ علياً (ع) كان محدَّثاً"، فقلتُ: فتقول نبي؟ قال: فحرَّك بيده هكذا ثم قال (عليه السلام): "أو كصاحبِ سليمان أو كصاحب موسى أو كذي القرنين أَوَ ما بلغكم انَّه قال: وفيكم مثلُه" (الكافي: ج 1 ص 269).

وروى بسنده عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قال: قلتُ: ما منزلتكم؟ ومن تُشبهون ممن مضى؟ قال (عليه السلام): "صاحب موسى وذو القرنين كانا عالمين ولم يكونا نبيين" (الكافي: ج 1 ص 269؛ تفسير العياشي: ج 2 ص 340).

والمقصود من صاحب سليمان هو آصف بن برخيا الذي حكى عنه القرآن في قوله: ﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي﴾ (النمل: 40)، فصاحب سليمان جاء بعرش بلقيس من أرض سبأ إلى الشام قبل انْ يرتدَّ إلى سُليمان طرفه، ولم يكن صاحب سليمان نبيَّاً وإنما كان وليَّاً من أولياء الله تعالى.

والمقصود من صاحب موسى هو الخضر الذي قال الله تعالى عنه: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾ (الكهف: 65) إلى أن قال: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} (الكهف: 82).

وأما ذو القرنين فهو مَن ذكره القرآن بقوله: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} (الكهف: 84).

فهؤلاء الثلاثة لم يكونوا أنبياء ولكنَّ الله تعالى منحهم من فيض كرمه فظهرت الخوارق على أيديهم بإذنه جلَّ وعلا، وحينئذٍ كيف يُستوحش في انْ يجعلَ الله تعالى في أمةِ خاتم الأنبياء (عليهم السلام) وأفضلهم مَن يكونون مثلهم أو يزيدون.

وأمّا فاطمة عليها السلام فكونها محدّثة ظاهر؛ لأنّ المحدّثة من أسمائها (عليها السلام) كما ورد في الأخبار وذكره نقلة الآثار، فقد روى في الأمالي والخصال ما ذكرنا سابقاً: قال الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): "لِفاطِمَةَ سَلامُ اللهِ عَلَيها تِسعَةُ أسماء عِندَ اللهِ عزّ وجلّ: فَاطِمَةُ، وَالصِّديقَةُ، والمُبارِكَةُ، والطّاهِرَةُ، والزَّكيَّةُ، والرَّضيَّةُ، والمَرضيَّةُ، والُمحَدَّثَةُ، والزَّهراءُ" (أمالي الصدوق: ص 688 حديث 688؛ الخصال: ص 414 حديث 3؛ علل الشرائع: ج 1 ص 178 حديث 3؛ دلائل الإمامة: ص 79 حديث 19؛ روضة الواعظين: ص 148؛ إعلام الورى: ج 1 ص 290؛ بحار الأنوار: ج 43 ص 10 حديث 1).

وروى في العلل بإسناده المعتبر عن إسحاق بن جعفر بن محمد بن عيسى بن زيد بن عليّ قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: "سمّيت فاطمة "عليها السلام" محدّثة لأنَّ الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران فتقول: يا فاطمة ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ} يا فاطمة {اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} فتحدّثهم ويحدّثونها" (علل الشرائع: ج 1 ص 182 حديث 1؛ دلائل الإمامة: ص 10؛ تفسير نور الثقلين: ج 1 ص 337 حديث 131).

فـ(السَّلاَمُ عَلَيْكِ أيَّتُهَا الصّدّيقة الشّهيدة، السَّلاَمُ عَلَيْكِ أيَّتُهَا الرّضيّة المرضيّة، السَّلاَمُ عَلَيْكِ أيَّتُهَا الْفَاضِلَةُ الزَّكِيَّةُ، السَّلاَمُ عَلَيْكِ أيَّتُهَا الْحَوْراءُ الإنْسِيَّةُ، السَّلاَمُ عَلَيْكِ أيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ، السَّلاَمُ عَلَيْكِ أيَّتُهَا الْمُحَدَّثَةُ الْعَلِيمَةُ، السَّلاَمُ عَلَيْكِ أيَّتُهَا الْمَظْلُومَةُ الْمَغْصُوبَةُ) (من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص 573؛ تهذيب الأحكام: ج 6 ص 10؛ مصباح المتهجد: ص 712).

 

الثلاثاء، 24 أكتوبر 2023


 

فلسطين وعي وحركة ومشاعر

قبل ثلاثة عقود من الزمان ربما كانت الصورة قاتمة بالنسبة لآمالنا وطموحنا في عودة فلسطين إلى أحضانا العرب والمسلمين، وقد نشعر حينذاك أنَّ الواقع يحاصرنا من كل جهة ويبدد أحلامنا.. ولكنَّ المقاومة في فلسطين، بكل فصائلها، أثبتت، في كلِّ فترة، أنها حملت في طياتها نقطتين مضيئتين لم تنطفئ: أحدهما: الأمل الكبير والمشرق بالمستقبل، وثانيهما: واقعية الهزيمة للعدو لا بد أن تأتي، وخصوصاً عندما تنمو قدراتنا وإمكاناتنا المستقبلية؛ عملاً بقوله عزَّ وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}.

وإذا كانت التهاويل الإعلامية السياسية تزعجنا وقتها، وتتحدى تطلعاتنا كأمة نحو النصر لتوحي إلينا بالكثير من روحية الهزيمة، فإنَّ الوحي القرآني كان معنا، وفي وجداننا، وهو الذي كان وما يزال يربط الحياة بالإيمان بالله، ويربط القوة بحركة هذا الإيمان عقلاً وقلباً وشعوراً.

وبعد السابع من أكتوبر جاء طوفان الأقصى، جاء الأمل منفتحاً بالحركة على آفاق الفجر الإلهي الموعود، من أجل الحرية أمام كلِّ المستكبرين الذين يستعبدون الناس.. وهذا ما يمنحنا الكثير من الصمود العقلي والروحي والشعوري.

الاثنين، 23 أكتوبر 2023

اليهود وحركة النفاق رؤية قرآنية (الصراع اليهودي الإسلامي)

... النفاق انحراف خُلقي خطير في حياة الفرد، وفي حياة الأمم، وهو وجود حركي مضاد في داخل المجتمع الإسلامي، فهو الخط الذي يكيد للإسلام وللحركات الإصلاحية في المجتمع بسبب ازدواجية المظاهر وتلونها حسب ما تتحرك فيه مسيرة الإصلاح.

ولهذا يختلف كيد المنافق عن كيد الكافر، فإنّ الكافر لا يُسمح له أن يتصرف ضد الإسلام بحرية؛ لأنّ الحاجز الديني الداخلي يدفع إلى الرفض السريع -اللاشعوري- تبعًا للخط العام الذي يرفض الخط الكافر، على خلاف الذين يعلنون الإسلام ظاهرًا، فإنّهم يملكون شرعية المسلم في حماية المجتمع له، فيندفعون في الساحة، ويتوجهون للعمل من منطلق هذا الإيحاء، ومثلهم مثل من يمسك العصا من الوسط.

ومن هنا نُدرك خطورة النفاق على الأمة، بل أكثر أضرار الأمة نتيجة تحرك هذا الخط المنحرف، وقد استعانت المخابرات الاستعمارية بطاقات المسلمين للتجسس على مقدرات الشعوب الإسلامية.

يقول أمير المؤمنين (ع): "ولقد قال لي رسول الله (ص): إنّي لا أخاف على أمتي مؤمنًا ولا مشركًا، أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، وأما المشرك فيقمعه الله بشركه، ولكني أخاف عليكم كل منافق الجنان، عالم اللسان، يقول ما تعرفون، ويفعل ما تنكرون" (نهج البلاغة: الخطبة 266).

ولقد عرّى القرآن الكريم حقيقة المنافقين، وكشف أساليبهم وأوصافهم، وشدّد على محاربتهم بالوسائل الناجحة، وقد ذكرهم في أكثر من ثلاث عشرة سورة، وفيما يقرب من خمسين آية، صنّف فيها أكاذيبهم، ومساوئ أخلاقهم، وخداعهم، ودسائسهم، والفتن التي افتعلوها ضد الإسلام، فلم ينل المشركون واليهود والنصارى من دين الله ما نالوه، وكفى تخصيص القرآن لهم بأنّهم العدو الحقيقي {هُمُ الْعدُوُّ فَأحْذَرْهُمْ} (المنافقون: 4).

ويشير القرآن الكريم إلى واقع اليهود العملي المنحرف الذي كان يعيشونه في عصر دعوة النبي محمد (ص)؛ فقد جعلوا من أنفسهم حماة الدين والشريعة، وقادة البشر إلى الخير، وذلك من خلال الدور الذي فرضوه لأنفسهم، ولكنهم كانوا خائنين في ممارساتهم العملية، فكانوا بمنـزلة الذين ينسون مسؤولية حساب أنفسهم، فلا يعيشون قلق المصير في الدنيا والآخرة، بينما نراهم يثيرون القلق والتخويف والمسؤولية عند الناس في حياتهم العامة، وهذا ما جاء في قوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النّاس بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ (البقرة: 44).

لقد كان اليهود عبئًا ثقيلًا على كل مجتمع حلوا فيه، منذ عهد الأنبياء الأوائل كما حكى بذلك القرآن الكريم: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران: 183). وما قاله الإنجيل على لسان السيد المسيح (ع): "يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا" (متى: 23 : 37).

ويقول مارتن لوثر 18 فبراير 1546م): "من ذا الذي يمنع اليهود من أن يعودوا إلى أرضهم في يهوذا؟ لا أحد. بل وإننا على أتم استعداد لأن نزودهم بكل ما قد يحتاجونه في رحلتهم، لمجرد أن نتخلص منهم. فهم عبء ثقيل علينا ومصيبة حلّت بنا" (المسيحية والتوراة: ص 11، عن "اليهود وأكاذيبهم").

ويقول الرئيس الأمريكي جون آدمز (ت 4 يوليو 1826): "إنني أتمنى من كل قلبي أن يمكن اليهود من العودة إلى يهوذا ليعيشوا فيها كأمة مستقلة وأعرب عن الأمل في أنهم متى باتت لهم دولتهم المستقلة ورفع عنهم الاضطهاد، قد يتخلصون مما اتصفت به طبائعهم من حدة وشراسة وغير ذلك من السمات الشاذة، بل وربما تحولوا مع الزمن إلى مسيحيين ليبراليين من دعاة توحيد العبادات" (م . س: ص 133، عن [Grose, “Israel in the Mind of America” , P . 8]).

ومن هنا ينطلق القرآن، ليكون هو الذي يفتح عيون الناس على الحقيقة؛ ويحدِّد ملامح هؤلاء اليهود، وليكشف أساليبهم المتلونة، وليخلق وعيًا إسلاميًا في طرق المواجهة الواعية، ولا يختلط عليها العدو مع الصديق، ولا يشتبه عليها أسلوب التعامل مع الأعداء بأسلوب التعامل مع الأصدقاء {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا السَّبِيلَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً * مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (النساء: 44-46).

فكان ديدنهم في كلِّ حوار مع الرسول محمد (ص) بل مع كل أنبيائهم استخدام أدوات التعجيز، حيث يصفهم القرآن بقوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا} (النساء: 153).

وقد ثبت في تاريخ السيرة النبوية الشريفة، "أنَّ النبي (ص) عامل اليهود بكل طوائفهم المقيمين حول المدينة أفضل معاملة، فقد أدخلهم في المعاهدة العامة الّتي عقدها بين طوائف أهل المدينة، وربطهم بالواقع الاجتماعي للمجتمع المسلم، وعاهدهم على الامتناع عن حربه ومساعدة أعدائه، ليحصلوا في مقابل ذلك على الأمن على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وليتمتّعوا ـ في نطاق هذه المعاهدة ـ بالحريات الكاملة. وقد جرت الحياة بينهم وبين المسلمين على هذا الخط، فلم يحدث بينهم وبين المجتمع المسلم أيّ إشكال إلا ما يحدث في داخل أي مجتمع من السلبيات الجزئية الطارئة بين أفراده، ولكنَّهم نقضوا ذلك كلّه، واتجهوا إلى خطِّ الخيانة، واتفقوا مع قريش وحلفائها من العرب على حرب المسلمين".

ولهذا وصفهم القرآن بوصف دقيق في معرض الحديث عن المنافقين حيث قال تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} (البقرة: 14). فقد قال المفسرون أنّ المراد من الشياطين هم اليهود (مجمع البيان: ج 1 ص 107). والمراد من الشيطان هنا هو الرأس المدبر الذي يحيك المؤامرات والدسائس.

وفي آية أخرى يوصف الله عزّ وجلّ العلاقة بين اليهود والمنافقين بـ(الأخوة) {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} (الحشر: 11)، وهذا التعبير يوضح لنا طبيعة العلاقة الحميمة جدًا بين المنافقين وبين اليهود.

ولقد امتد أثر اليهود فعمدوا إلى:

1 - خلط الحق بالباطل وإخفاء الحقائق عن الناس مع علمهم بالحق. يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (آل عمران: 71). فإنّ ما يقومون به من لبس الحق بالباطل لإخفائه وكتمانه وتضييعه في غمار الباطل، على علم وعن عمد وفي قصد.. هو أمر مستنكر قبيح!.. هو الأمر الذي درجوا عليه من وقتها حتى اللحظة الحاضرة.. فهذا طريقهم على مدار التاريخ.

2 - حياكة الدسائس لضعف الدين الإسلامي ويصور لنا القرآن بعض دسائسهم الماكرة، حيث يقول تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} (آل عمران: 72-73) فقد "تواطأ اثنا عشر حبرًا من يهود خيبر وقرى عرينة، وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد، واكفروا به في آخر النهار وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدًا ليس بذلك وظهر لنا كذبه وبطلان دينه، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم، وقالوا: إنهم أهل كتاب وهم أعلم به منا، فيرجعون عن دينهم إلى دينكمم" (أسباب النزول: ص 102).

ولا شك أنّ اظهارهم الإسلام ثم الرجوع عنه، يوقع بعض ضعاف النفوس والعقول وغير المتثبتين من حقيقة دينهم وطبيعته .. يوقعهم في بلبلة واضطراب. وبخاصة العرب الأميين، الذين كانوا يظنون أنّ أهل الكتاب أعرف منهم بطبيعة الديانات والكتب. فإن رأوهم يؤمنون ثم يرتدون، حسبوا أنهم إنما ارتدوا بسبب اطلاعهم على خبيئة ونقص في هذا الدين. وتأرجحوا بين اتجاهين فلم يكن لهم ثبات على حال.

وما تزال هذه الخدعة تتخذ حتى اليوم. في شتى الصور التي تناسب تطور الملابسات والناس في كل جيل .. ولقد يئس أعداء المسلمين أن تنطلي اليوم هذه الخدعة، فلجأت القوى المناهضة للإسلام في العالم إلى طرق شتى، كلها تقوم على تلك الخدعة القديمة.

إنّ لهذه القوى اليوم في أنحاء العالم الإسلامي جيشًا جرارًا من العملاء في صورة أساتذة وفلاسفة ودكاترة وباحثين -وأحيانًا كتاب وشعراء وفنانين وصحفيين- يحملون أسماء المسلمين، لأنهم انحدروا من سلالة مسلمة! وبعضهم من علماء المسلمين!

هذا الجيش من العملاء موجه لخلخلة العقيدة في النفوس بشتى الأساليب، في صورة بحث وعلم وأدب وفن وصحافة. وتوهين قواعدها من الأساس. والتهوين من شأن العقيدة والشريعة سواء.

وأخطر أدوات النفاق هو استلاب الألفاظ من معانيها الصحيحة إلى معنى مغاير ككلمة (الاستعمار) الذي له مدلول جيد في الاستعمال وهو طلب العمران، ثم أستعمل مرادفًا للغزو. والذي ينطبق اليوم على رقعة كبيرة من العالم الثالث، والتي يستغل ثرواتها المستعمر الأجنبي.

فقد كان احتلال الدول العظمى للدول الإسلامية غزوًا للعقول أيضًا عن طريق الإرساليات التنصيرية لدعم وجود الإدارة الاستعمارية. وقد كانت الإدارة الاستعمارية تحارب الإسلام في أرضه حربًا مباشرًا باستخدام حيل وأساليب مقنعة.

ففي مصر لم يتورع الإنجليز عن هدم أربعة عشر (14) مسجدًا في مدينة القاهرة بحجة تجميل المدينة (كفاح دين، للشيخ محمد الغزالي: ص 168).

وارتكز العمل التنصيري على ثلاث أدوات أساسية: المدرسة (التعليم) - الكتاب - العمل الإنساني. وكان النشاط التعليمي التنصيري مركزًا على الأطفال خاصة للنأي بهم عن منابع الإسلام وإبعادهم عن الفطرة التي ولدوا عليها (يقول المبشّر جون موت: "إنّ الأثر المفسد للإسلام يبدأ باكرًا جدًا ومن أجل ذلك يجب حمل الأطفال الصغار إلى المسيح قبل بلوغ سن الرشد وقبل أن تأخذ طبائعهم أشكالها الإسلامية". (الغزو الفكري / عبد الستار فتح الله سعيد: ص 69)).

وها هو فلاح كيني يلخص لنا حصاد حركة التنصير في ظل الاستعمار، فقد توجه إلى أحد رجال الدين البيض المستوطنين قائلًا: "إني أذكر جيدًا حينما جئتم إلى هذه الأرض. كنا نحن نملكها، ونزرعها وترعى عليها حيواناتنا. كانت الأرض في يدنا وكنتم تبنون كنائس صغيرة، وفي يدكم الكتاب المقدس (الإنجيل) تعرضون به علينا الهداية.. وها هي ذي الأيام تمضي، والموقف كما ترى ونرى الآن: انقلبت الأوضاع، فأصبحت الأرض في يدكم وأصبح الكتاب المقدس في يدنا، ولا نريد أكثر من أن يأخذ كل واحد حقه ويسترجع ماله!" (العرب وأفريقيا، محيي الدين صابر: ص 49).

القرآن وأسلوب العمل مع المنافقين:

ليس يوجد تناغم بين المؤمن والمنافق، بل بينهما حواجز في السمات الشخصية نفسية كانت أو سلوكية. وهذه الحواجز قد أقرها الكتاب الكريم في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ} (الحديد: 13-14).

(النظر) إذا تعدى بـ(إلى) كان بمعنى إلقاء البصر نحو الشيء.

وإذا تعدى بـ(في) كان بمعنى التأمل والتدبر.

وإذا تعدى بنفسه - أي بدون حرف جر - أفاد معنى التأخير والانتظار (مفردات القرآن: ص 518 - 519).

والسياق في الآية يفيد أنّ المنفقين أحاطتهم ظلمة في يوم القيامة، وقد طلب منهم ومن المؤمنين التقدم إلى دار قرارهم، ولكن يقع التغاير في النتيجة، فبينما نرى المؤمنين يسيرون بنورهم الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم فيبصرون طريقهم ويهتدون إلى محل إقامتهم، نرى المنافقين يتخبطون في تيه الظلام المغشي حولهم لا يهتدون سبيلهم فيتأخرون عن اللحوق بالمؤمنين، فيسأل المنافقون المؤمنين الانتظار حتى يلحقوا بهم ويأخذوا جذوة من نورهم ليستضيئوا به في طريقهم.

وهذا التعبير من باب إثارة الفكرة التي تضع الأشياء وجهًا لوجه أمام الحقيقة الصارخة .. فليس هناك نور في الواجهة التي يواجهونها بل لا بدّ أن يبحثوا وراءهم ليلتمسوا النور هناك في دار الدنيا - وهو تعبير على سبيل الاستهزاء - فيأتي الخطاب: ارجعوا إلى دار الدنيا التي تركتموها وراء ظهوركم وعملتم فيها ما عملتم من النفاق والتمسوا من أعمالكم تلك النور.

ولكن أنّا يفيد صرخاتكم وقد ضرب الله بينكم وبين المؤمنين بابًا، وهو يشبه حال المنافقين في الدنيا فقد كانوا فيها بين المؤمنين لهم اتصال بهم وارتباط، وهم مع ذلك محجوبون عنهم بحجاب فكما كانوا في الدنيا صيرهم الله عزّ وجلّ في الآخرة.

فإنّ هذه الآية الكريمة ترسم البون الشاسع بين خط المؤمن وخط المنافق وأنّ الله عزّ وجلّ وضع آيات تصلح أن تكون عناوين بارزة لسلوكنا مع هذه الفئة المنحرفة:

الآية الأولى: قال تعال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (البقرة: 104-106).

هذه الآيات تعكس بصراحة صورة المنافق في كل زمان ومكان، الذي يبيع نفسه لخط الشيطان، ونستفيد من أجوائها عدة أمور:

أ - الحرص على إعطاء الآخرين الثقة والتأييد والدعم من خلال المواقف لا من خلال الكلمات والمظاهر.

ب - أن نلاحق هذين النموذجين في حركة الواقع من أجل أن نتابع خط النفاق بالرفض والمواجهة من أجل إزاحته من واجهة الصورة لتخليص الناس من فساده.. بينما نتابع الخط الأول بالتأييد والدعم.

ج - أن نتمثل في وعينا المبادئ السلبية من الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل .. لنجعل منها أساسًا للتعامل السلبي مع كل البرامج السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية.

د - عدم تركيز العاطفة في معنى الحب أو عدم الحب بل هما ركيزتان للخط الإيجابي والسلبي من العمل.

الآية الثانية: قال تعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} (النساء: 91).

هذه الآية الكريمة جاءت عقيب آية تذكر الكفار جاء في مقطع منها: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} (النساء: 90) ..

والسؤال: لماذا عبر القرآن الكريم بقوله {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ} في الكفار، وبقوله: {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ} في المنافقين؟!

والجواب في شقين:

أحدهما: إشارة إلى أنّ المنافقين غير مأمونين في مواعدتهم وموادعتهم بدليل أنه تعالى قال في آية الكفار: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ}، ولم يقل ذلك في آية المنافقين.

وثانيهما: أنّه عبر بالشرط المنفي {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ} الذي يفيد تنبيه المؤمنين على أن يكونوا على حذر منهم.

ونستوحي من هذه الآية عدة دروس:

1 - أن يتعمق العاملون في دراسة النماذج البشرية الموجودة في الساحة من الفئات المنافقة، فلا يستسلموا للأجواء الحميمة وتقديم التنازلات لمجرد أنّ هناك هدفًا في هداية الناس ينبغي للمسلم أن يستهدفه .. بل لا بدّ من دراسة تاريخ هؤلاء في سلوكهم العملي والتعرف على حركتهم في الحاضر.

2 - أن يخرج العمل الإسلامي من منطق السذاجة المنطلقة من حالة الطهارة الروحية البريئة التي يعيشها العاملون، فيتحركون في الفراغ ويبذلون الجهد الضائع.

3 - على المؤمنين أخذ الحذر والحيطة في علاقتهم بالفئات التي تحمل هذا التفكير وتعمل لهذا الهدف، سوأ كان ذلك على مستوى أحزاب الكفر والضلال، أو على مستوى الأفراد والجماعات المنافقة، فلا يتخذوا منهم أولياء .. {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} (النساء: 89).

فعلى العاملين أن يعاملوهم معاملة الأعداء من حيث الحذر في الموقف والعلاقة والمعاملة.. ليأمنوا شرهم ويحفظوا الناس من الوقوع في حبائلهم.

4 - أن ندرس حالة الحياديين فنميز بين الذين يحملون الحياد كموقف ينطلق من قناعاتهم النفسية فنحترم حيادهم تبعًا لمصلحة الإسلام والمسلمين وحالة الصراع بيننا وبين الفئات المعادية .. وبين الذين يلعبون بالحياد كورقة يحصلون فيها على امتيازاته من حيث الأمن الذي يمنحهم حرية الحركة في اللعب على أكثر من جهة.

النفاق في المدينة:

لم يكن النفاق قد برز كمعسكر عند دخول الرسول الأكرم (ص) إلى المدينة المنورة وتكوين السلطة الدينية، كما لم يكن بارزًا أثناء معركة بدر الكبرى، فلقد كان معسكر الشرك واضحًا في واضحًا بزعامة عبد الله بن أبي بن أبي سلول وحلفائه من اليهود.

نعم، ظهرت بعض أفراد من اليهود قامت بمهمة التجسس لصالح حلفائهم فأظهروا الإسلام وبطنوا الكفر، وقد ذكرهم القرآن الكريم بقوله: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (آل عمران: 72).

ولقد برز النفاق كمعسكر بعد معركة بدر الكبرى وانتصار المسلمين الساحق فيها. أي: بعد أن استحكم الإسلام، وأصبح أعداؤه من الضعف بحيث يصعب عليهم التجاهر في عدائهم، لهذا اختاروا أن يواصلوا خططهم من خلال إظهار الإسلام واستبطان الكفر، فانخرطوا ظاهرًا في صفوف المسلمين، بينما ظلوا محافظين على كفرهم في باطنهم.

لقد كان لبدر الأثر الكبير في إظهار حالة النفاق، حيث قال عبد الله بن أبي -بعد انتصار المسلمين-: "هذا أمر قد توجه"، أي استقر فلا مطمع في إزالته، ولا طريق إلى زعزعة المسلمين إلا عن طريق النفاق.

فمن بين من عرف بالنفاق من المدينة: عبد الله بن أبي بن أبي سلول - جلاس بن سويد - الحارث بن سويد - زوى بن الحارث - بنتل بن الحارث - مربع بن قيظي - أوس بن قيظي - حاطب بن أمية بن رافع - بشير بن أبيرق أبو طعمة قزمان...

ومن بين من عرف بالنفاق من أحبار يهود المدينة: زيد بن اللصيت - رافع بن حريملة - رفاعة بن زيد بن التابوت - سويد بن الحارث - سعد بن حنيف - نعمان بن أوفى بن عمرو - عثمان بن أوفى - سلسلة بن يرهام - كنانة بن صوريا (السيرة النبوية: ج 1 ص 519 - 528).

المنافقون في غزوة بني قينقاع:

قال الواقدي: لما قدم رسول الله (ص) المدينة، وادعته يهود كلها، وكتب بينه وبينها كتابًا، وألحق رسول الله (ص) كل قوم بحلفائهم، وجعل بينه وبينهم أمانًا، وشرط عليهم شروطًا، فكان فيما شرط إلا يظاهروا عليه عدوًا. فلما أصاب رسول الله (ص) أصحاب بدر، وقدم المدينةّ.

بغت يهود، وقطعت ما كان بينها وبين رسول الله (ص) من العهد، فأرسل رسول الله (ص) إليهم فجمعهم، ثم قال: "يا معشر يهود أسلموا فوالله إنكم لتعلمون أني رسول الله قبل أن يوقع الله بكم مثل وقعة قريش".

فقالوا: يا محمد لا يغرّنك من لقيت، إنك قهرت قومًا أغمارًا، وإنا والله أصحاب الحرب، ولئن قاتلنا لتعلمن أنك لم تقاتل مثلنا.

فبينا هم على ما هم عليه من إظهار العداوة ونبذ العهد جاءت امرأة نزيعة (المرأة التي تزوج في غير قومها فتنقل) من العرب تحت رجل من الأنصار إلى سوق بني قينقاع، فجلست عند صائغ في حلى لها، فجاء رجل من يهود بني قينقاع من ورائها ولا تشعر فخلّ (خلّ: جمع بين طرفي الشيء) درعها إلى ظهرها بشوكة، فلما قامت المرأة بدت عورتها، فضحكوا منها. فقام إليه رجل من المسلمين فأتبعه فقتله، فاجتمعت بنو قينقاع وتحايشوا (جاؤوه من حواليه) فقتلوا الرجل، ونبذوا العهد إلى النبي (ص) وحاربوا وتحصنوا في حصنهم، فسار إليهم رسول الله (ص)، فكانوا أول من سار إليه رسول الله (ص)، وأجلى يهود قينقاع، وكانوا أول يهود حاربت (المغازي: ج 1 ص 176 - 178).

كما أنّ هناك أسباب غير مباشرة، وهو: تجسس اليهود على المسلمين لصالح المشركين، ونقلهم المعلومات عن نيات المسلمين وحركاتهم إلى قريش، وإظهار عداوتهم بوضوح للمسلمين.

وفي نص الواقدي تلوح أمور:

أ - إنّ العمل البطولي الذي قام به المسلمون في بدر رفعت من معنوياتهم وبرزت عزة المؤمنين.

ب - إنّ يهود بني قينقاع أظهروا حسدهم وبغضهم لنصر المسلمين الساحق، مما جعل هذا الحسد يتحول إلى تحد سافر من قبلهم. وقد ظهر هذا واضحًا في مقولتهم: "إنك قهرت قومًا أغمارًا ولئن قاتلنا لتعلمن أنك لم تقاتل مثلنا".

ج - لقد كان هذا التحول إيذانًا بظهور أثار الخيانة من قبل بني قينقاع - وهم أصحاب القوة والعدد من بين يهود والتي لا يستهان بها -.

د - كانت المواجهة والجلاء هو الحل الوحيد ليكون درسًا قاسيًا حتى يتعظ به قبائل يهود الأخرى -بنو النضير وبنو قريظة- ولكي تتحطم العنجهية اليهودية أمام صلابة المسلمين. ونزلت الآية الكريمة {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} (آل عمران: 12-13)، كرسالة شديدة اللهجة موجهة إلى يهود ومواليهم في أن يلزموا حدودهم وينكفئوا على أعقابهم.

فحاصرهم المسلمون في قلاعهم خمسة عشر يومًا، حتى اضطروهم على التسليم على أنّ لهم أموالهم، وأنّ لهم النساء والذرية، فأمر بهم فكتفوا.

ثم كلمه فيهم حليفهم عبد الله بن أبي، وألح في ذلك قائلًا: أربعمائة حاسر وثلاثمائة ذارع منعوني من الأحمر والأسود وتحصدوهم في غداة واحدة؟

فقال رسول الله: "هم لك".

وأمر بهم أن يجلوا عن المدينة. وتولى أمر ذلك عبادة بن الصامت، فلحقوا بأذرعات، وتولى قبض أموالهم محمد بن مسلمة، فقسمت بين الصحابة بعد إخراج الخمس للرسول (ص) (المغازي: ج 1 ص 177-178، والطبقات الكبرى: ج 2 ص 92). وبهذا تخلص المسلمون من هذا (الرتل الخامس) الذي كان يعيش بين ظهرانيهم فينقل أخبارهم ويكشف أسرارهم.

وكان عبادة بن الصامت قد تبرأ من حلفهم عندما حاربوا الرسول (ص)، وفيه وفي عب-د الله بن أبي نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (المائدة: 51).

ولا شك أنّ عمل الرسول الأكرم (ص) مع عبد الله بن أبي تنطوي على حكمة بالغة، وهي أن تظل العدالة بين الناس في مأمن من التلاعب، لكي لا يتخذ الحاكم الأدلة الوجدانية أو الاستنتاجية وحدها ذريعة إلى الإضرار ببعض الناس بدون وجه حق (فقه السيرة، للبوطي: ص 82 - 83).

المنافقون في معركة أحد:

أرادت قريش أن تثأر لنفسها مما فعله المسلمون بها في معركة بدر وأن تسترد كرامتها وشرفها أمام العرب، فخرجت برجالها ومواليها وأحابيشها، فكانوا ألفين وتسعمائة. منهم: سبعمائة ذارع، ومعهم مائتا فرس وثلاثة آلاف بعير، وقد استصحب أكثر زعماء قريش معهم نساءهم للتشجيع ورفع المعنويات، وكان عدد النساء من قريش خمس عشرة امرأة (الطبقات الكبرى: ج 2 ص 37). بينما قوات المسلمين تسعمائة وخمسون رجلًا، وخمسون فارسًا فقط.

وكان رأي النبي (ص) وجمع من أصحابه عدم الخروج من المدينة ومحاربة قريش داخلها (السيرة النبوية: ج 2 ص 63، وتاريخ الخميس: ج 1 ص 421 - 422، وتاريخ الطبري: ج 2 ص 188 - 190، والسيرة الحلبية: ج 2 ص 218 - 219، والكامل في التاريخ: ج 2 ص 150، والبداية والنهاية: ج 4 ص 12 - 13، والمغازي: ج 1 ص 25 - 26)، وهكذا أشار عليه عبد الله بن أبي أيضًا قائلًا: "يا رسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قطّ إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول لله، فإن أقاموا أقاموا بشرّ محبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا" (السيرة النبوية: ج 2 ص 63).

ولم يكن في رأي ابن أبي - هذا - خدعة لصالح المشركين، فقد كان أبو سفيان يخشى أن يلزم أهل يثرب صياصيهم، ولا يخرجوا منها (المغازي: ج 1 ص 205).

وكان رأي أكثر المسلمين الرغبة في الخروج وملاقاة قريش خارج المدينة، ونزل النبي على رغبتهم (المغازي: ج 1 ص 205).

ونحن لا نستغرب من أمر عبد الله بن أبي حيث أنّه وافق رأي الرسول (ص) بل وأصر على البقاء في المدينة حيث لم يكن باستطاعته الخوض مع المسلمين في هذه الحرب ومقابلة هذا العدد الكبير من جيش قريش، وإنّ خوضه الحرب معناه: أن يقتل من قومه أعداد كبيرة، وما كان التخلي عنهم سهلًا ميسورًا، وهم عدته وقوته أمام المسلمين.

قال ابن هشام: "... دخل رسول الله (ص) بيته، فلبس لامته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ... فخرج رسول الله (ص) في ألف من أصحابه ... حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة وأحد، انخزل عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني، ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس. فرجع بمن اتّبعه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، أخو بني سلمة، يقول: يا قوم، أذكركم الله إلا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم، لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنّه يكون قتال ..." (المغازي: ج 1 ص 205).

وكادت بنو سلمة - من الخزرج - وبنو حارثة - من الأوس - أن تنخذل مع المنافقين لولا أنّ الله ثبتهم مع المؤمنين (فتح الباري: ج 5 ص 233 ح 4051، وصحيح مسلم: ج 4 ص 1948 ح 2505، وتفسير الطبري: ج 7 ص 166).

ولقد كان لهذا الانفصال أثره في تصدع الصف الداخلي -والذي هو مقدم على حرب عنيفة- فقد كانت هذه الخيانة أحد الأسباب الرئيسية لتهيؤ بعض المسلمين نفسيًا للزيمة في المعركة.

ثم إنّ الرسول (ص) منع أن يشاركه اليهود في حربه، فقد رأى (ص) "كتيبة خشناء (حسنة التسليح).

فقال: "من هؤلاء؟".

قالوا: هذا عبد الله بن أبي بن سلول في ستمائة من مواليه من اليهود من أهل قينقاع، وهم رهط عبد الله بن سلام.

فقال (ص): "وقد أسلموا".

قالوا: لا يا رسول الله.

فقال: "قولوا لهم فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين" (المغازي: ج 1 ص 215 - 216).

لقد كان موقف النبي (ص) حاسمًا وواضحًا، ولقد ردّ حلفاء عبد الله بن أبي، فلا يمكن أن يقف مع الصف الإسلامي تكتل محاذ لم يعلنوا انضمامهم للصف الإسلامي - رغم حاجة الرسول (ص) إلى العدد حيث يواجه ثلاثة آلاف بألف مقاتل - والأخطر من ذلك أنهم حلفاء عبد الله بن أبي..

وقد أشار الله عزّ وجلّ إلى الأثر السيء من مواقف المنافقين في العديد من الآيات:

{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (التوبة: 47).

{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} (هود: 113).

وهذا يبين لنا أنّ قمة تجمع وخطر المنافقين برز يوم أحد، ولكنّ المسلمين استفادوا استفادة عظيمة، وهي: افتضاح أمر هذا المعسكر حيث برز بأشخاصهم وأعيانهم.

وأعلن القرآن رأيه الواضح فيهم:

{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران: 167-168).

{إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء: 145-146).

وبذلك تمت المفاصلة بين المنافقين وبين المؤمنين، وغدت الجماعة المؤمنة تنظر إليهم بعين الحذر والتربص.

المنافقون في غزوة بني النضير:

مهما اختلفت الروايات في شأن تفصيل أحداث هذه الغزوة إلا أنّ المحدثين اتفقوا على أنّ السبب الرئيس هو اقدام يهود بني النضير على قتل الرسول الأكرم (ص) (المصنف: ج 5 ص 359 - 360، ومستدرك الحاكم: ج 2 ص 483، ودلائل البيهقي: ج 3 ص 180 - 181، وسنن أبي داود: ج 3 ص 404 - 406 ح 3004، وفتح الباري: ج 15 ص 203).

وتسبب ذلك في قرار لوحد حد لممارساتهم الإجرامية، فكان القرار طردهم من المدينة خلال عشرة أيام، فمن رأوه بعد ذلك ضربت عنقه (المصنف: ج 5 ص 359 - 360، ومستدرك الحاكم: ج 2 ص 483، ودلائل البيهقي: ج 3 ص 180 - 181، وسنن أبي داود: ج 3 ص 404 - 406 ح 3004، وفتح الباري: ج 15 ص 203).

وعندما استعدوا للخروج حرضهم عبد الله بن أبي بن سلول على عدم الخضوع ومناهم بالوقوف إلى جانبهم، فأعلنوا العصيان، فحاصرهم المسلمون.

ويحدثنا القرآن الكريم عن هذه الحادثة: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} (الحشر: 11 - 12).

"استطاع المنافقون أن يثبّتوا الموقف اليهودي الذي كان يرى ضرورة المواجهة للنبي، وعدم الخضوع لقرار الجلاء، في مقابل الموقف اليهودي الآخر الذي يرى ضرورة الانسجام مع القرار، لأنّ شروطه في البداية قد تكون أخفّ من شروطه في المرحلة الثانية، ولأنّهم لا يستطيعون الانتصار في المواجهة ما داموا وحدهم في القتال، لأن اليهود الآخرين لم يكونوا معهم".

ولقد أكدّ الله عزّ وجلّ كذب المنافقين بصورة ديناميكية:

{لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ}.

{وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ}.

{وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ}.

{ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ}.

إنّ هذه الصورة تختلف عما كانت عليه في الغزوات السابقة، فلئن كان التحدي سافرًا في أحد، فلقد تواروا وراحوا يعملون في الخفاء، إذ لم يعد يملكون القوة على المواجهة والتحدي...

فأسقط القرآن بهذه الآيات أقنعتهم المزيفة مما جعلهم يعيشون الرعب والهلع، إذ لم يبق لهم إلا خيطًا رفيعًا واهيًا من التظاهر بالإسلام. ولن يفيدهم إلا التوبة النصوح لله سبحانه وتعالى.

وكان نتيجة هذه الأماني المزيفة اندحار يهود بني النضير واجلاءهم عن المدينة المنورة.

المنافقون يوم الأحزاب:

أرادت قريش هذه المرة أن تحسم الصراع مع المسلمين لصالحها، فحشدت له أكبر قوة ممكنة حيث لجأت إلى التحالف مع كل من له مصلحة في القضاء على المسلمين.

ووجدوا أكبر ضالة لهم في يهود بني النضير الدين أجلوا عن المدينة، ووجد اليهود ضالتهم في قريش، فقد التقت أهدافهما في القضاء على المسلمين.

وخرجت مع قريش وبني النضير: بنو وائل، وغطفان، وبنو أسد، وبنو سليم، وبنو كنانة، وبنو فزارة، وأشجع، وبنو مرة... وذكر أنّ عددهم عشرة آلاف بينما المسلمون ثلاثة آلاف (المغازي: ج 2 ص 443).

وكان للمنافقين في يوم الأحزاب دور بارز أيضًا، فقد كان الحديث عنهم في القرآن الكريم طويلًا، يتناسب وحجم دورهم ويمكن أن نصنّف هذا الدور إلى ثلاثة أصناف:

الأول: المنافقون:

حيث يقول تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (الأحزاب: 12) ، إنّ هذا القول لا يخرج إلا في أجواء مخنوقة إلا نّ القرآن الكريم سجل مؤامرتهم بدقة.

الثاني: المخوفون:

حيث يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا *  قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (الأحزاب: 13-17).

لقد كان ثمة حالة من الترقب والخوف الذين هيمنت على الأجواء ولقد لعبت إثارات المنافقين وشائعاتهم في إثارة مشاعر الخوف، الأمر الذي بث روح الانهزام في قلوب ضعاف النفوس (المغازي: ج 2 ص 468، وتاريخ الخميس: ج 1 ص 485، ومناقب آل أبي طالب: ج 1 ص 198).

قال علي بن إبراهيم القمي: "لما طال على أصحاب رسول الله (ص) الأمر، واشتد عليهم الحصار. وكانوا في وقت برد شديد، وأصابتهم مجاعة، وخافوا من اليهود خوفًا شديدًا، وتكلم المنافقون بما حكى الله عنهم، ولم يبق أحد من أصحاب رسول الله (ص) إلا نافق إلا القليل.

وقد كان رسول الله (ص) أخبر أصحابه: أنّ العرب تتحزب ويجيئون من فوق. وتغذر اليهود ونخافهم من أسفل، وإنّه ليصيبهم جهد شديد، ولكن تكون العاقبة عليهم.

فلما جاءت قريش، وغدرت اليهود قال المنافقون: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا.. وكان قوم لهم دور في أطراف المدينة. فقالوا: يا رسول الله، تأذن لنا أن نرجع إلى دورنا، فإنها في أطراف المدينة، وهي عورة، ونخاف اليهود أن يغيروا عليها.

وقال قوم: هلموا فلنهرب، ونصير في البادية، ونستجير بالأعراب، فإنّ الذي كان يعدنا محمد كان باطلًا كله" (تفسير القمي: ج 2 ص 186).

ومن يقرأ كتاب الله العزيز يقف كيف فضح اليهود وكشف الأساليب المتبعة من قبلهم، من قبيل الخديعة وكتمان الحق، والابتعاد عن البر والفضيلة وإشاعة الرذيلة والتآمر على الأنبياء وقتلهم وما إلى ذلك من أساليب الخداع والتزوير ومخالفتهم المتكررة للعهود والمواثيق، وهذا ما يتكرر اليوم أيضًا أمام مسمع من العالم الإسلامي والعربي.

محرم 1447 في الصحافة الكويتية