الأحد، 29 سبتمبر 2024


 

ميزان النصر في القرآن الكريم

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7).

ما هو دور المؤمن، وما هي مسؤولياته تجاه الإيمان بالله؟

هل هو الاستسلام للجو العبادي الروحي المحض؟ أم هو السير في خط مواجهة التحديات الصعبة التي تثيرها معركة الإيمان والكفر في طول خط التحديات المتتالية؟

علينا أولاً أن نعلم أنَّ الروح ليست مجرد حالةٍ مزاجية، بل هي -في العمق- موقف متصل بقوة الله وعظمته..

ولنقف على حقيقة الموقف من خلال ميزان النصر في المفهوم القرآني..

مفهوم النصر:

من أسماء الله الحسنى (الناصر) (النصير)، وفي اللغة: نَصَرهُ يَنصُرُهُ نَصْراً؛ إذا أعانه على عَدُوِّه. والنَّصيرُ: النَّاصر، والجمع: الأنْصار. واسْتَنصَرهُ على عدوِّه، أي: سأله أنْ ينصره عليه. وانْتصر منه: انتقم. وقال الراغب: النَّصْرُ والنُّصرة: العَوْنُ.

وورد اسمه (النَّاصر) مرة واحدة في القرآن بصيغة الجمع، في قوله تعالى: {بَلِ اللهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} (آل عمران: 150).

أما (النَّصير) فقد ورد أربع مرات، هي: قوله تعالى: {وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الأنفال: 40). وقوله تعالى: {وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللهِ نَصِيراً} (النساء: 45). وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج: 78). وقوله تعالى: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} (الفرقان: 31).

ثمّ إنّ النصرة إذا استعمل بحرف (على): فيدلّ على الاستيلاء والغلبة، كما في: {وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ}. وإذا استعمل بحرف (من): فيدلّ على الجانب والجهة، كما في: {وَنَصَرْناه ُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} أي ونصرناه في هذه الجهة ومن هذه الحيثيّة؛ {مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ}. وإذا استعمل مطلقاً وبدون قيد: يدلّ على مطلق النصرة، كما في: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ}، {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ}، {وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً}.. والمراد من نصر الله {إِنْ تَنْصُرُوا} هو النصر في إجراء برنامجه ودينه والاتباع عن رسوله وعن أحكامه والعمل بما أخروا به وإشاعة الشعائر.

ولا يخفى أنّ النصر لله تعالى: ليس من جهة احتياج من الله تعالى إلى الناس، وإنّما هو مثل سائر العبادات، ويرجع أثره اليه واليهم، فإنّ نتيجته النصر من الله وتثبيت الأقدام. وهذا معنى عرفي متداول في الكلام، يقول الكفّار: {قالُوا حَرِّقُوه ُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ}، ثمّ إنّ حقيقة النصر كسائر الأفعال إنّما يتحقّق في الخارج تحت أمره تعالى وبإرادته وتقديره وبالوسائط المخلوقة منه، فانّه المبدأ لكلّ فعل، واليه المرجع في كلّ أمر، وهو القائم على كلّ نفس. قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وهذا المعنى يتجلَّى في الخارج في العالم ما وراء المادّة، فانّه مالك يوم الدين، وكلّ في ذلك اليوم تحت حكومته ومالكيّته التامّة.

والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صورة معينة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم، ولكن صور النصر شتى، وقد يلتبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة.. فإبراهيم الخليل C، وهو يلقى في النار فلا يرجع عن إيمانه ولا عن الدعوة إليه.. أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟.

فكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر إيمانه ودعوته، ولو عاش ألف عام كما نصرها باستشهاده.

لقد انتصر محمد 2 في حياته؛ لأنَّ هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذا الإيمان بحقيقته الكاملة في الأرض، فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه الدعوة 2 في حياته، ليحققها في صورتها الكاملة، ولتتحد الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية وفق تقدير الله وترتيبه.

معالم النصر في القرآن الكريم:

أولاً: لا يكون النصر إلا من عند الله:

{وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فهو الذي يهيئ له أسبابه، بعيداً عن قضية الكثرة والقلة، وعن العدة العسكرية والمادية في السلاح والمال، وهو الذي ينصرهم بعزته التي لا تغلب، وبحكمته التي لا تتبدل..

{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} ضعفاء لا تملكون أية فرصة عاديةٍ للقوة والعزة.

ومن هنا ندرك أنّ الكثرة لا توجب النصر فقد قال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لقد كان المشركون في ما تقوله بعض الروايات اثني عشر ألفاً، حتى قال بعضهم حين رأى هذا الجمع الغفير من الناس: لن نغلب اليوم عن قلّة.. فاستسلموا لهذه القوة العددية، وأغفلوا الجوانب الأخرى من القوة، فكانت الهزيمة بعد ساعة عندما خرجت عليهم كتائب هوازن من كلّ ناحية، وانهزمت بنو سليم وكانوا في المقدمة، وانهزم مَن وراءهم، وخلّى الله تعالى بينهم وبين عدوهم..

ولكنّ الله أرادها درساً للعبرة، ولم يردها هزيمة نهائية..

نعم، لقد نصركم الله في مواطن كثيرة تقابلتم فيها مع أعدائكم وأنتم قلة قليلة، وهم كثرة كثيرة، ومع هذا نصركم الله {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} حيث كنتم متوكلين على الله، معتمدين عليه ممتثلين أمر الله ورسوله، معتقدين أنَّ النصر من عند الله، وأنه {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249)، {إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7). أما إذا أعجبتكم كثرتكم، وظننتم أنكم لا تَغلبون عن قلة وضعف -كما حصل منكم يوم حنين- فقد ترككم ربكم لأنفسكم فلم تُغنِ كثرتكم عنكم شيئاً من قضاء الله، وضاقت عليكم الأرض بما اتسعت من الخوف ثم وليتم مدبرين؛ وكانت الدائرة عليكم في أول المعركة حتى فرَّ كثير من الناس، ولم يلو أحد على أحد، وثبت رسول الله 2 وعلي C ومعهما القلة القليلة، فقال 2 للعباس بن عبد المطلب وكان جهورياً صيّتاً: اصعد هذا الظرب فنادِ: يا معشر المهاجرين والأنصار، يا أصحاب سورة البقرة، يا أهل بيعة الشجرة، إلى أين تفرون، هذا رسول الله .. فلمّا سمع المسلمون صوت العباس تراجعوا، وقالوا: لبيك، وتبادر الأنصار خاصة، وقاتلوا المشركين حتى قال رسول الله 2: الآن حمي الوطيس. ونزل النصر من عند الله تعالى وانهزمت هوازن هزيمة منكرة.

ثانياً: لا ظفر إلا بالله وحده:

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} وهذا هو خط الإيمان الذي يريد الله من المؤمن أن يعيشه في فكره وشعوره، في كل حالات النصر والنجاح، في حركة الحياة وفي ساحة الصراع، وذلك بأن لا يعتقد في نفسه القوة الذاتية المستقلة عن الله، في ما يمده به من عناصر القوة، بل يعتقد بأنه يتصرف عن أمره، ويتقلب في تدبيره، ويتحرك بقوته، فإذا قتل العدو فإنما يقتله بنصر الله وقوته التي أمده بها، لا بمعنى إلغاء الاختيار والإرادة الإنسانية في الفعل، بل بمعنى إلغاء الذاتية المستقلة للإنسان في أعماله، في ما تنطلق به من عوامل القوة.

وكان النبي 2 يَقُولُ إِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي (أي: عوني) وَنَصِيرِي، بِكَ أَحُولُ، وَبِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أُقَاتِلُ" .

و"الحَوْل" معناه في كلام العرب: الحِيلة، يقال: ما للرجل حولٌ؛ وما له مَحالة، ومنه قولك: لا حَولَ ولا قوةَ إلا بالله، أي: لا حيلةَ في دَفْع سُوءٍ، ولا قوةَ في دَرْك خيرٍ؛ إلا بالله. وقد يكون معناه: المنْعُ والدَّفْع، مِنْ قولك: حالَ بين الشَّيئين، إذا منَعَ أحدهما عن الآخر، يقول: لا أمْنَع، ولا أدْفع إلا بك.

وكان 2 يقول: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَعَزَّ جُنْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَغَلَبَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، فلَا شَيْءَ بَعْدَهُ ".

ثالثاً: ليس هناك مقايسة بين نصرة الله ونصرة الناس:

من الخصائص التي تميز بها المبدأ الإسلامي، موقفه الواضح والصلب من الجبت والطاغوت، السرطان الرهيب الذي يعمل جاهداً لفرض هيمنته وبسط نفوذه، وتمكين إرادته، وغرس مخالبه القذرة في أجسام الشعوب المستضعفة، والأمم المغلوبة.

لقد كان الصراع والمواجهة خطاً ثابتاً في منهج الرسالات الإلهية إزاء الطاغوت، وهو منهج القرآن الذي خطه لرسوله الكريم، حيث يدعو منهجه 2 لتخليص الناس من عبودية العباد والشهوات إلى عبودية الله سبحانه، ومن منطق هيمنة الإنسان القوي على الضعيف إلى منطق إقامة الحق والعدل.

يقول علي C: " أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالى- بَعَثَ مُحَمَّداً 2 بِالْحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ عِبَادِهِ إِلى عِبَادَتِهِ، وَمِنْ عُهُودِ عِبَادِهِ إِلى عُهُودِهِ، وَمِنْ طَاعَةِ عِبَادِهِ إِلى طَاعَتِهِ، وَمِنْ وَلَايَةِ عِبَادِهِ إِلى وَلَايَتِهِ..." (نهج البلاغة: الخطبة 147؛ الكافي: ج 8 ص 386؛ تحف العقول: ص 227).

لذلك أعلنها الله سبحانه صريحة مدوية على لسان رسله G جميعاً، وأعلنها قوية وصارمة، عبر مختلف العصور {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.

ولذا يعطينا الله سبحانه درساً واضحاً من خلال تحريف أهل الكتاب لهذا الخط النبوي، فيقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} فما قيمة أن يلتفَّ الناس من حوله، أو يهتفوا باسمه، أو يتجمعوا لنصرته؟ فإنّه يعيش الوحشة التي تفترس أمنه الداخلي.

أما الإنسان الذي يشعر أنّه مع الله، أو أنّه قريب إليه، يشعر بأنّه قوي كبير بالله، حتى لو لم يكن هناك من أحد حوله، أو كان الناس كلهم ضده. وهذا ما أوصى به أمير المؤمنين C ولده: "لَا يُؤْنِسَنَّكَ إِلَّا الْحَقُّ، ولَا يُوحِشَنَّكَ إِلَّا الْبَاطِلُ".. كلّ ذلك يوقفنا على مدى الفرق بين نصرة الناس ونصرة الله.

رابعاً: نصرة الله للمؤمنين لا تكون بصفة تكوينية:

فإنّه تعالى يقول {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} عبر توفير الفرص الملائمة للدفاع والنصر، وليس معنى ذلك أنّ الله قد التزم على نفسه نصر المؤمنين بصورة تكوينية، بحيث يصبح نصرهم أمراً حاسماً ومباشراً تماماً كما يخلق الله الأشياء بشكل مباشر، بل معنى ذلك هو اهتمامه تعالى بأمرهم من موقع محبته ورعايته لهم، بحيث يلطف لطفاً خفياً لا يلطف به غيرهم، وهو تعبير عن الحب عملياً بالدفاع عنهم مقابل موقف الرفض من الكافرين الخائنين لأمانة الله على مستوى الإيمان.

ولهذا يقول تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} من خلال ما يهيئه من وسائل النصر من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب، وما يثيره في داخل نفسه من عوامل القوة الروحية، مما قد يحقق كثيراً من شروط النصر، على المستوى المادي والمعنوي ..

فالله سبحانه يجعل المفتاح بأيدينا، والكرة في مرمانا على حد تعبير أهل العصر. إن نَصرْنا الله نَصَرَنا مهما كانت قوة عدونا، وكثرته، وشدة بأسه، وتطور أسلحته، ومن كان الله معه فلا يخاف بخساً ولا رَهَقَاً، ولا يخاف دركاً ولا يخشى. كما قال موسى C لما قال له قومه وقد نظروا إلى جند فرعون وقد غشيهم: {فَلَمّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىَ إِنّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاّ إِنّ مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ} (الشعراء: 25-26).

وعلى كلّ حال، فإنّ النصر الإلهي مهما اختلفت وسائله، فإنه لا يبتعد عن السنن الإلهية المودعة في الكون بالطريقة المألوفة، أو غير المألوفة، في ما يأخذ به الإنسان من أسباب النصر التي هي في عمقها الكوني والإنساني من الله الذي خلق الأسباب والمسببات، سواء كانت بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة.

ومن هنا فقد لخصت بعض الآيات القرآنية العناوين الأساسية لنصرة الله في الأرض حيث يقول تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} فهي نظرة إلى موقع الإيمان المسؤول الذي يتحرك من خطة دقيقة قوامها الإخلاص لله في العبادة، والمسؤولية تجاه الإنسان في روحية العطاء، ومواجهة الواقع بإقامة الحق وإزهاق الباطل، لما يمثله الأمر بالمعروف من الأمر بالحق في حركة الفكر، على مستوى النظرية والتطبيق، ولما يمثله النهي عن المنكر من رفض للمنكر، على مستوى الخط والممارسة.. في المجالات العامة والخاصة.

هؤلاء الذين يعيشون المسؤولية في مواقع العطاء هم الذين ينصرهم الله بنصره، لأنّ في انتصارهم انتصاراً للرسالات، وحماية للإنسان من كلّ القوى الشريرة التي تدمر إنسانيته، وتنحرف به عن الاتجاه الصحيح.

خامساً: المسلم لا يعيش مسؤوليته إلا من خلال التربص بإحدى الحسنيين النصر أو الشهادة:

{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} فلا ينبغي للإنسان المسلم أن يرتكس في أحضان الهزيمة، فقد ألمحت الشريعة إلى أنّ النصر أو الشهادة مطلبان جهاديان.

فإنّ النصر إذا حصل كان التجسيد الحيّ للنتائج الإيجابية على مستوى الحياة الدنيا، أما إذا كانت النتيجة هي الشهادة، فإنّها تمثل الفرح الروحي الذي يؤدي بنا إلى الحصول على لطف الله وثوابه في الآخرة، فليست هناك مشكلة، بل هي الحسنة على كل حال.

لقد أوْضَح الله تعالى لعباده: أنه لا ناصرَ لهم دُونه، ولا معينَ لهم سواه، وذلك في آياتٍ كثيرة، لتتوجه قلوبُهم له، وأكفُّهم بالضَّراعة إليه.

قال سبحانه: {ومَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (البقرة: 107)، وقد تكرّرت في القرآن تأكيداً لهذا المعنى.

وقال سبحانه: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ} (الملك: 20).

وقال: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (آل عمران: 126).

وأيقن بذلك عباده المؤمنون؛ فقال نوحٌ C لقومه، حين عابوا عليه اتباع الفقراء والضُّعفاء لدَعْوته، وأمروه بطردهم: {وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (هود: 30).

وقال صالح C: {فمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} (هود: 63).

وقال الرجل المؤمن مِنْ قوم فرعون، مُذكِّراً قومه بعاقبة كُفْرهم، وإعْراضهم عن الإيمان بالله ورسوله: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللهِ إِنْ جَاءنَا} (غافر: 29).

وقال تعالى عن قوم نوح C: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللهِ أَنصَاراً} (نوح: 25).

ولما خَسَف الله تعالى بقارون؛ المخْتَال الفَخُور الكفور، قال: {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ} (القصص: 81).

وكذا لمّا أحاطَ الله عزّ وجل بمال الرجل؛ الذي كَفَر بربّه وبالبعث، وأتلفَ بستانه {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} (الكهف: 42).

ثم قال تعالى: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً} (الكهف: 43).

ولما ثَقُلت على أصحابِ رسولِ الله 2 شروط الحُدَيْبية؛ وكان ما كان استفهم عن مقاله، فقال 2: "إِنِّي رَسُولُ اللهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي".

  

شروط النصر في القرآن الكريم:

والقرآن الكريم يبين لنا شروط الانتصار في الآيات المباركة التالية من سورة الشورى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَاجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ} (الشورى: 38-43).

فالسياق القرآني يوحي الينا في آية {وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} أنَّ هذه هي شروط النصر، فإذا أردنا أن نحقق الانتصار فعلينا أن نطبق ونوفر شروطه بدقة، وهذه هي الشروط كما تبينها الآيات القرآنية السابقة:

1- الاستجابة لنداء الحق:

{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ}، فالله تعالى قد دعانا إلى دار ضيافته وهي الجنة، والداعي إلى هذه الدار هم الرسل G.

2- إقامة الصلاة:

{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ}، فهناك فرق بين إقامة الصلاة ومجرد الصلاة، فإقامتها تعني أداءها بشروطها، وفي آية أخرى من سورة (الروم) يحدد تعالى معنى إقامة الصلاة في قوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: 31-32).

فمن شروط إقامة الصلاة تحقيق الوحدة، والصلاة هي البوتقة التي تصهر المجتمع، وتحقق الانسجام فيه، فتصوغ شخصية الانسان الداخلية، وشخصيته الاجتماعية.

وإذا ما دققنا مرة أخرى في الآية الكريمة السابقة اكتشفنا أنَّ إقامتنا للصلاة ستعطينا ضمانة للوحدة التي تبعدنا عن الشرك الذي يتجلى في الاختلاف في الدين، فالصلاة هي معراج المؤمن، وهي التي ترفعه من الماديات الضيقة، والخلافات الجانبية، والأهواء والشهوات والرذائل، وترفعه إلى مقام العبودية لله حيث لا نجد في هذا المقام أي أثر للخلاف والشقاق.

3- الشورى:

{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، فلو كانت العلاقة داخل التجمعات الاسلامية علاقة الشورى، لزالت الاختلافات والنزاعات، والشورى تعني أن تبحث أنت عن آراء الآخرين، ولا تنتظر أن يأتوا لك بها، فالإسلام يقرر أنَّ من واجب كل إنسان أن يبدي رأيه إذا رأى أنه هو الصحيح، لأنَّ الساكت عن الحق شيطان اخرس، كما أنه يؤكد أنَّ من واجب الإنسان المسلم أيضاً أن يرى ما عند الآخرين من آراء، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} (آل عمران: 159).

فإن لم تكن حالة الشورى سائدة على علاقاتنا فلنعمل على خلقها من جديد، فيد الله مع الجماعة، وأعلم الناس من جمع علم الناس إلى علمه، وأعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله.

4- الانفاق:

{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}، إنَّ التجمع الإيماني يفيض بالعطاء لأنَّ كلَّ فرد من أفراده لا يعيش ذاته واهواءه، فالكل يسعى لكي يعطي ما يملكه للآخرين.

ثم يقول تعالى بعد ذلك: {وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}.. فالمؤمنون هم الذين يكونون هذا التجمع الذي تسوده الاستجابة لله، وإقامة الصلاة، والشورى، والانفاق، وهذا التجمع سيصبح كالبنيان المرصوص الذي يقاوم كل معتد وكل باغ، ولا يقر له قرار حتى يحقق النصر النهائي.

هذا هو الوجه المشرق الذي ينبغي أن يتطلع إليه المؤمن في هذه الحياة، فلا موقع لشماتة من نواجه به نتائج الفشل، لأننا إن فعلنا ذلك نظرنا إلى الأمور من زاويتها المظلمة التي تتصل بطريق اليأس من روح الله.

"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَحَصِّنْ ثُغُورَ الْمُسْلِمِينَ بِعِزَّتِكَ، وَأَيِّدْ حُمَاتَهَا بِقُوَّتِكَ، وَأَسْبِغْ عَطَايَاهُمْ مِنْ جِدَتِكَ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَكَثِّرْ عِدَّتَهُمْ، وَاشْحَذْ أَسْلِحَتَهُمْ، وَاحْرُسْ حَوْزَتَهُمْ، وَامْنَعْ حَوْمَتَهُمْ، وَأَلِّفْ جَمْعَهُمْ، وَدَبِّرْ أَمْرَهُمْ، وَوَاتِرْ بَيْنَ مِيَرِهِمْ، وَتَوَحَّدْ بِكِفَايَةِ مُؤَنِهِمْ، وَاعْضُدْهُمْ بِالنَّصْرِ، وَأَعِنْهُمْ بِالصَّبْرِ، وَالْطُفْ لَهُمْ فِي الْمَكْرِ...".

 

 

الخميس، 20 يونيو 2024


اللغة العربية كائن حي

العربية ليست مجرد لغة، بل هي لسان وكائن حي.

وأعني بأنها كائن حي لا كما يذهب البعض، أنها فكرة تدعو إلى ربط مصير تطور اللغة بمصير تطور الإنسان الناطق بها، وبالتالي ربطها بمصير المجتمع الذي يعيش فيه ذلك الإنسان.

وإنما قصدت أنها لغة تولد وتنمو، ثم تتطور بشكل دوري، تماماً كدورة الحياة التي يمر بها الكائن الحي.

ولهذا ذهب أبو علي >إلى أنَّ هذه اللغة وقعت طبقة واحدة كالرقم تضعه على المرقوم والميسم يباشر به صفحة الموسوم لا يحكم لشيء منه بتقدم في الزمان؛ وإن اختلفت بما فيه من الصنعة القوة والضعف في الأحوال< (الخصائص لابن جني: ج 2 ص 40).

ومن أمثلة كونها كائناً حياً تطور معالم الحروف فيها من صوت ساكن إلى متحرك ينبض بالحيوية.

فمثلاً: حرف (الميم) نجده حرفاً سماوياً، فكل ما يرتبط بالسماء متعلق بالميم، ومنه جاء: السماء، النجوم، القمر، الغيوم، الملائكة، حتى الأم لأنها سماوية عاطفية، نجد الميم فيها في كل اللغات.

وكذلك (الراء) فإنك تجده حرفاً أرضياً، ومنه جاء: أرض، قبر، حفر، تراب، حجر، صخر، الرمل، البحر، البشر، الثرى.

وعندما تذهب إلى حرف (الحاء) تجده حرارياً أي ذات طاقة، يراد منه الشيء المحبب والحسن والصالح، ومنه جاء: حليب، قمح، حرارة، حب، حريق، حمى، حرية، حق، صحة، حر، حمأة، حك، حس، حمص، حمس، حمي، حمر.. واللون الأحمر دليل الحرارة والجحيم ذروتها. ومن الغريب أنك تسمع الأجنبي -غير العربي- عندما تلسعه الحرارة يقول: أح أح.

وحرف (الخاء) يدل على الشيء المكروه للإنسان والسوء والغير صالح، ومنه: دخان، مخدر، خمر، خنزير، خيانة، خداع.

وحرف (الغين) يعطي معنى الغياب.. ومنه: غاب، غرق، غام، غمر، غلف، غفل، غمض، غمز، غمق، غار، غسق، غبش... ولهذا قيل: غضب؛ لأنَّ الغضب يغيب العقل وهذا من أحد وجوه عبقرية اللغة وربطها بين المبنى والمعنى.

وحرف (القاف) يفيد القطع، ومنه: قص، قض، قرط، قضم، قصف، قرف، قرض، قنص، قطع، قضى... والقضاء حكم قاطع.

وحرف (الكاف) غالباً ما يفيد بمعنى الاحتواء.. فمعظم الكلمات التي تبدأ بالكاف تشير اليه بشكل من الأشكال، ومنه: كهف، كفل، كنف، كفن، كرش، كبشة، كمشة، كوب، كوز، كور، كوخ، كرة، كيس، كساء، كتاب..

وبحسب المصادر والمراجع ومعاجم اللغة العربية، فإنَّ عدد كلمات اللغة العربية يبلغ 12.302.912 كلمة دون تكرار، ومقارنة باللغة الإنجليزية فإنَّ عدد كلمات اللغة العربية يعادل 25 ضعفاً لعدد كلمات الإنجليزية التي تتكون من 600 ألف كلمة. 

الاثنين، 8 أبريل 2024

 

** زكاة الفطرة وحكمتها **

وتسمى بزكاة الأبدان، وهي: التي تجب على كل مسلم في عيد الفطر.

عن أبي بصير وزرارة جميعًا، قالا: قال أبو عبد الله (ع): >إنّ من تمام الصوم إعطاء الزكاة -يعني الفطرة- كما أنّ الصلاة على النبي (ص) من تمام الصلاة؛ لأنّه من صام ولم يؤدِّ الزكاة فلا صوم له إذا تركها متعمدًا، ولا صلاة له إذا ترك الصلاة على النبي (ص) إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد بدأ بها قبل الصلاة فقال: {قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلى}< (وسائل الشيعة: ج 9 ص 318 أبواب زكاة الفطرة ب 1 ح 5).

وعن الصادق (ع) قال: >من ختم صيامه بقول صالح أو عمل صالح تقبّل الله منه صيامه<.

فقيل: يا بن رسول الله ما القول الصالح؟

قال: >شهادة أن لا إله إلاّ الله، والعمل الصالح إخراج الفطرة< (المصدر نفسه: ح 7).

وقال ابن عباس: >فرض رسول الله (ص) زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين< (مستدرك الصحيحين: ج 1 ص 409).

فالروايات ترشدنا إلى حكمتين مهمتين:

أحدهما: متعلقة بالصائم:

وهي أنَّ الصائم قد لا يتوفّق إلى الصيام الكامل مع ما قد يشوبه من لغو القول، ورفث الكلام. والمراد من الصيام الكامل -إضافة إلى عدم الأكل والشرب- هو الورع عن محارم الله عن طريق صوم الجوارح واللسان، كما يصوم البطن.

ولأجل أن يصل الصائم إلى فرحة لقاء الله بأخذ جائزته يوم عيد الفطر جاءت هذه الصدقة الواجبة تغسل ما علق من مظاهر سلبية في نفس الصائم ولبِّه.

ولهذا أشارت الآية الكريمة إلى التزكية التي هي تطهير عام للقلب من الرذائل، ولا تزول هذه الرذائل إلاّ بالأعمال الصالحة، التي هي أساس فلاح الإنسان {قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكاهَا}.

فالعبادة عمومًا ناقصة أمام الله عز وجل؛ لأنها لم تؤد حق طاعته ومقدار عظمته، والمطلوب من بذل العبودية تجاهه.. وهذا الشهر المبارك، الذي يقول عنه في الدعاء: >إننا قد أديناه مع اعتراف بالتقصير وإقرار بالتضييع<.

 ومن هنا أمكن لزكاة الفطرة أن تكون سدًا لتلك الثغرة، إما بعنوان ملء الفراغ الحاصل، أو التسبيب إلى غفران ذلك التقصير، أو بعنوان إضافة تضحية المال إلى تضحية البدن؛ لتكون التضحية أتم وأكمل وأشمل.

وثانيهما: متعلقة بالمجتمع:

حيث إنّ هذا اليوم -أي: يوم عيد الفطر- هو يوم تنشر فيه المحبة وتشيع فيه الأُلفة والمسرّة بين جميع الناس، فينبغي تعميم السرور على كل أبناء الأمة. وأي سرور وألفة من أن يرى الفقير نفسه قد شارك الموسرين أفراحهم بما يغنيه عن الحاجة وذل السؤال، ويشعره بأنّ المجتمع لم يهمل أمره.

وعند إعطاء هذه الزكاة إلى الفقير، تحصل عدة أمور: إدخال السرور على قلب المؤمن، والتسبيب إلى مشاركته في السرور مع الآخرين، والتسبيب إلى إظهار الفرح عمليًا.

ولا ريب أنَّ أحد مظاهر قيامنا بالعبادة هو شكر المنعم وزكاة الفطرة من العبادات، فتكون مصداقًا من الشكر لله عز وجل.

تعريفها:

وهي مقدار من المال يجب دفعه عن كلِّ نفس في وقت محدّد من اليوم الأول من شهر شوال الواقع فيه عيد >الفطر<، الذي أخذت اسمها منه، وقد يُقال لها: (زكاة الأبدان) مقابل: (زكاة الأموال).

عمّن تدفع الفطرة:

1 . الأفراد الذين تجب نفقتهم عليه من أسرته، ممن ينفق عليهم فعلًا، كزوجته وأولاده وأبويه.

2. الأقارب الذين يعيشون في بيته وتحت كنفه ممن تكفَّل بالإنفاق عليهم، كأخته وأخيه ونحوهما.

3. مطلق عياله وإن كان غائبًا، فإنَّ من غاب في سفر ونحوه ولو لفترة طويلة تبقى فطرته واجبة على من يعوله ما دام في عياله ومن أفراد أسرته.

4. الخدم الذين يعيشون في بيته ويكونون في رعايته وكنفه.. ولا يشمل الخادم الموظف الذي يسكن مستقلًا عنه حتى لو تواجد عنده معظم النهار، إلاَّ أن يبيت عنده ليلة العيد ويكون في ضيافته، فيكون ممن يدخل تحت عنوان >الضيف<.

5. من يكون في ضيافته ويبيت عنده بحيث يصدق عرفًا أنه نازل في ضيافته من أقاربه وأصدقائه وغيرهم ممن يستضيفهم لأي سبب؛ ولا بُدَّ من قدومه عليه قبل هلال ليلة العيد، وإن كان الأحوط وجوبًا كفاية نزوله عليه بعد الغروب من ليلة العيد في اعتباره من ضيوفه. والمهم في صدق الضيافة المبيت ولو لم يأكل عنده، فلا يشمل من يدعوهم للطعام والسهر عنده ليلة العيد إذا لم يبيتوا عنده.

مقدار الفطرة:

يجب أن تكون الفطرة مما يعد قوتًا وغذاءً، مثل القمح ومشتقاته كالطحين والبرغل، والشعير والتمر والزبيب والحليب ومشتقاته والأرز والذرة ونحو ذلك.

ويجوز دفع قيمة الفطرة من النقد، وتلاحظ القيمة عند أداء الفطرة وإخراجها، كما تلاحظ القيمة في بلد الإخراج لا في بلد المكلّف.

والمقدار الواجب ثلاثة كيلوات تقريبا عن كلّ نفس.  ولا بُدَّ من كونها من جنس واحد عن كلّ نفس، فلا يجزي دفع كيلو ونصف مثلًا من القمح وكيلو ونصف من التمر عن نفس واحدة، نعم يصح لذي العيال أن يدفع جنسًا مختلفًا عن كلّ نفس من أفراد عائلته، فيدفع عن نفسه تمرًا، وعن زوجته حنطة، وعن ولده أرزًا، وهكذا.

وقت دفع الفطرة:

تجوز المبادرة إلى دفع زكاة الفطرة خلال أيام شهر رمضان المبارك، أو في ليلة العيد، ولكن الأحوط استحبابًا -حينئذ- دفعها إلى الفقير بعنوان الدين ثم احتسابها عليه زكاة صبيحة يوم العيد.

ولا يجب في إخراجها دفعها إلى الفقير مباشرة، بل يجوز عزلها جانبًا في وقتها وتأخير الدفع ولو أيامًا إلى أن يوصلها إلى المستحق ما دام التأخير لسبب وجيه معتبر عند العقلاء، كالوصول إلى الفقير أو أداء بعض الواجبات الشخصية، أو نحو ذلك مما يشغل الإنسان عادةً في أيام العيد.

فإذا لم يدفعها في وقتها ولم يعزلها حتى حل وقت الظهر من يوم العيد فالأحوط وجوبًا الإتيان بها بعد ذلك بقصد القربة المطلقة بدون لحاظ وجوبها عليه.

أيها الصائم ..

إذا أردتَ أن تفرح فافرح بفضل الله عليك، وافرح برحمة الله عليك، فإنّ ذلك يعني أنّ الله يحبك وأن يرضاك وأنه يفتح أبواب رحمته عليك، وأنه يحتضنك في مصيرك بكل حنانه وعطفه ولطفه.

ولذلك اختصر أمير المؤمنين (ع) فرح العيد في هذا الاتجاه: "إنما هُوَ عِيدٌ لِمَنْ قَبِلَ اللَّهُ صِيَامَهُ وَ شَكَرَ قِيَامَهُ وَ كُلُّ يَوْمٍ لَا يُعْصَى اللَّهُ فِيهِ فَهُوَ عِيدٌ".

فالمؤمن حتى لو كان في أشد حالات الألم، وحتى لو كان في عمق المشاكل، وحتى لو حاصرته الحياة بكل ضغوطها ومشاكلها، وكان الله راضياً عنه، فتلك هي السعادة التي عاشها (ص) ورجلاه تدميان من الحجارة التي رماه بها أوباش الطائف، وهو يسمع شتائمهم وسبابهم .. إلا أنه قال: >إن لم يكن منك غضب علي فلا أبالي<.

وعن جابر، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (ص): "إِذَا كَانَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ نَادَى مُنَادٍ: أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ اغْدُوا إِلَى جَوَائِزِكُمْ".

ثُمَّ قَالَ: "يَا جَابِرُ جَوَائِزُ اللهِ لَيْسَتْ بِجَوَائِزِ هَؤُلَاءِ الْمُلُوكِ".

ثُمَّ قَالَ: "هُوَ يَوْمُ الْجَوَائِزِ".

وعن محمد بن عجلان قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (ع) يَقُولُ: "كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (ع) إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ لَا يَضْرِبُ عَبْداً لَهُ وَ لَا أَمَةً ... وَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ جِنَايَاتِهِمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَ يَعْفُو عَنْهُمْ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنَ الشَّهْرِ، ثُمَّ يَقُولُ: اذْهَبُوا فَقَدْ عَفَوْتُ عَنْكُمْ، وَأَعْتَقْتُ رِقَابَكُمْ".

قَالَ: "وَمَا مِنْ سَنَةٍ إِلا وَكَانَ يُعْتِقُ فِيهَا فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ مَا بَيْنَ الْعِشْرِينَ رَأْساً إِلَى أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ للهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ عِنْدَ الإِفْطَارِ سَبْعِينَ أَلْفَ أَلْفِ عَتِيقٍ مِنَ النَّارِ كُلٌّ قَدِ اسْتَوْجَبَ النَّارَ، فَإِذَا كَانَ آخِرُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أَعْتَقَ فِيهَا مِثْلَ مَا أَعْتَقَ فِي جَمِيعِهِ وَإِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَرَانِيَ اللَّهُ وَقَدْ أَعْتَقْتُ رِقَاباً فِي مِلْكِي فِي دَارِ الدُّنْيَا رَجَاءَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَتِي مِنَ النَّارِ.

هذا هو الفرح كل الفرح، وعلينا أن نعيشه عقلاً وقلباً وحركة وحياة حتى نحصل على تلك الهمسة الروحية ونحن نودع هذه الحياة {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}.

لذلك، فإنّ علينا أن نجلس بين يدي الله، بقلوبنا وعقولنا، حتى نستذكر كل ذنوبنا، ويقول الإنسان لربه بعد أن يفتح عقله له: يا ربِّ إني تائب من كل فكر الباطل، ويفتح قلبه له ليقول: يا ربِّ إني تائب من كل عاطفة الباطل، ويفتح حياته له ليقول: يا ربّ إني تائب من كل قول الباطل وعمل الباطل وعلاقات الباطل وموقف الباطل، لأنّ الشهر الذي كنا فيه هو فرصة، "فإنّ الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم".

 

 

محرم 1447 في الصحافة الكويتية