في رحاب علم الإمام محمد الباقر (ع)
في
لقائنا بأي إمام من أئمة أهل البيت (ع) لا بدّ لنا من أن نحرّك تاريخهم في كلِّ
أدوار حياتنا، لأننا لا نريد أن نغيب في الماضي لنستغرق فيه؛ بل لنتحمل رسالة من
حمله عنا، فنحن قوم مسؤولون عن الحاضر وعن المستقبل بمقدار ما نستطيع أن نتحمل
مسؤولية ما نصنعه من المستقبل.
فالإسلام
هو الرسالة التي أراد الله أن يحيينا بها وأن يعطي الحياة، لكل جيل بحسب ما تحتاجه
الحياة في عناصرها كلها سواء في الجانب الفكري أو في الجانب العملي... ولذلك فإنّ
استعادتنا لذكرى أهل البيت (ع) هي استعادة لحركية الإسلام من خلال المفاهيم التي
طرحوها (ع) مما لا يختلف فيه زمان عن زمان ولا مكان عن مكان.
إغناء
الواقع الإسلامي:
والإمام
الباقر (ع) هو الذي استطاع أن يغني الواقع الإسلامي في العمق بصورة ممتدة؛ فإنّ
الظروف السياسية كانت بين وقت وآخر تضغط على الإمام فتمنعه من أن يبلّغ رسالته
كاملة غير منقوصة بفعل الاضطهاد الجسدي والمعنوي ومصادرة الحريات وما إلى ذلك، مما
منع بعض الأئمة (ع) من أن يزيدوا في عطائهم الإسلامي فيما يتضمنه الإسلام من عقائد
وقضايا ومفاهيم ومناهج ووسائل وأهدافاً، فلقد كانت مشكلتهم، أنّ السلطة الحاكمة
كانوا يعرفون ما يملكه أئمة أهل البيت (ع) من غنى فكري وروحي مما لو اطلع الناس
عليه لأقبلوا عليهم كما يقبل الظامئ على الماء.
ولذلك
كانوا كالكثير من الحكام الذين يمنعون الإنسان أن يفكر بحرية ويمنعون المفكر من أن
يعلن عن فكره بحرية، فهم يحاصرون الحرية لأنهم يخافون منها ومن الفكر عندما يعبِّر
عن نفسه فيما يتعلق بقضايا الإنسان.
وقد
عبَّر الإمام علي بن الحسين (ع) في بعض أدعيته عن هذه الحقيقة وهي أنّ قضية الظالم
ليست قضية قوة يملكها ولكنها قضية عقدة ضعف يعيشها، حيث يقول: "وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ في حُكْمِكَ ظُلُمٌ ،
وَلا في نَقِمَتِكَ عَجَلَةٌ ، وَإِنَّما يَعْجَلُ مَنْ يَخافُ الْفَوْتَ ،
وَإِنَّما يَحْتاجُ إِلَى الظُّلْمِ الضَّعيفُ ، وَقَدْ تَعالَيْتَ يا إِلهي عَنْ
ذلِكَ عُلُوّاً كَبيراً". فالظالم يخاف من المظلومين فيظلمهم حتى لا
يسقطوا موقعه في خط ظلمه.
بين
الحكمين الأموي والعباسي:
لقد
عاش الإمام محمد الباقر (ع) في أواخر الحكم الأموي وامتدت حياته إلى نهايات هذا
الحكم وبدايات الحكم العباسي، فكان الأمويون مشغولين عنه من أجل الحفاظ على ملكهم،
كما انشغل العباسيون عن ابنه الإمام الصادق من أجل تأسيس ملكهم، ولذلك اندفع
الإمامان الباقر والصادق (ع) ليغنيا الساحة الإسلامية بما وهبهما الله من علم ..
ونحن
نقرأ في تراثه وتراث ولده الإمام الصادق (ع) أنّ علمهم هو من علم رسول الله (ص)،
فالله أعطى لرسوله علم ما أراد أن يبلّغه مما يحتاجه الناس، وهم قد أخذوا من رسول
الله (ص) ذلك كلّه.
وكلنا
يعلم القصة المشهورة حيث التقى الصحابي جابر الأنصاري بالإمام الباقر (ع): محمد بن
أبي عمير، عن أبان بن عثمان، عن الصادق جعفر بن محمد C، قال: >إنَّ رسول الله 2 قال ذات يوم لجابر بن عبد الله الأنصاري: يا جابر، إنك ستبقى حتى
تلقى ولدي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، المعروف في التوراة بالباقر
فإذا لقيته فأقرئه مني السلام< (الأمالي،
الشيخ الصدوق: ص 434 ح 575).
وفي
هذا العجالة نعيش مع الإمام الباقر (ع) في خطين أساسيين:
الخط
الأول: التراث الفكري للإمام الباقر:
ونعيش
مع الإمام الباقر (ع) في القنوات التالية:
1 - نعيش
معه في دراسة تراثه (ع):
عندما
ندرس التراث الواسع الذي تركه الإمام محمد الباقر (ع) نجد أنَّ الإمام (ع) عاش فترة الحكم الأموي الذي لا
يوافق على شرعيته، ولكنه (ع) لم يكن سلبياً أمام المصالح العليا للإسلام وخاصة في
حال تعرضها للخطر:
-
فعندما هدد الروم عبد الملك بن مروان بأنهم سيصنعون طنافس وعليها شعارات مسيحية،
منع من استيراد هذه الطنافس من بلاد الروم.
-
والتاريخ يذكر كذلك قضية ضرب العملة الإسلامية، فلقد كان المسلمون يستعملون عملة
الروم، فهدده ملك الروم بأن يضرب عملة يسبّ فيها رسول الله (ص) فحار عبد الملك في
أمره وقيل له أن يستشير الإمام محمد الباقر (ع) فأشار عليه بأن يكون للمسلمين عملة
إسلامية تتضمن العناصر التي توحي بالشخصية الإسلامية للعملة، وطمأنه أن ملك الروم
لن يجرؤ على ان يضرب عملة يسيء فيها إلى الرسول (ص) وهكذا كان.
- ونقرأ
في تراث الإمام الباقر (ع) أنه جلس مع عمر بن عبد العزيز - الخليفة في ذلك الوقت -
وتحدّث معه بالموعظة والنصيحة التي خطط له من خلالها كيف يمارس حكمه وحدّد له
الخطوط العامة لشخصية المؤمن في رضاه وفي غضبه ومواقع قدرته حتى اهتزّ عمر بن عبد
العزيز - كما تقول السيرة - لهذه الموعظة وأعلن عن رد فدك إلى أهل البيت (ع).
- ونجد في
تراثه (ع) كيف كان يحرّك الإعلام الشعري في تلك المرحلة من خلال شاعره المعروف (الكميت
بن زيد) فأراد له - وقد استمع إلى مدحه لهم - أن ينظم قصيدة تساعد على إفشاء عوار الحكم
الأموي آنذاك، وهكذا كان.
-
ونجد في تراثه غزارة ما نقله عنه العلماء من مختلف الأقطار، حتى قال أبو زهرة:
"كان يقصده من أئمة الفقه والحديث كثيرون"، بل يقول عبد الله بن عطاء:
"ما رأيت العلماء عند أحدٍ قط أصغر منهم عند أبي جعفر، ولقد رأيت الحكم بن
عيينه مع جلالته في القوم بين يديه كأنه صبي بين يدي معلمه".
ويمكن
القول بكل جرأة أنّ سند أغلب روايات الشيعة ينتهي بعد أمير المؤمنين (ع) بالإمامين
الباقر والصادق (ع). وسبب ذلك يعود إلى الظرف السياسي الخاص للمجتمع آنذاك والذي
أتاح لهذين الإمامين أكثر من غيرهما فرصة نشر علوم آل محمد (ع).
وإنّ
نظرة عابرة على أسانيد الفقه والتفسير لدى الشيعة تجعلنا ندرك أن جزءً كبيراً من
الروايات في مجال الفقه والأخلاق والتفسير عند الشيعة قد نقلت عن الإمام الباقر
(ع).
ففي
الفقه أثر عنه أكثر من 5000 حديث.
وفي
التفسير أثر عنه أكثر من 1100 حديث.
ولذا
سأل الأبرش الكلبي هشام بن عبد الملك: "مَنْ هَذَا الَّذِي احْتَوَشَهُ أَهْلُ
الْعِرَاقِ وَيَسْأَلُونَهُ؟!
قَالَ: هَذَا نَبِيُّ
الْكُوفَةِ، وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنُ رَسُولِ اللهِ، وَبَاقِرُ الْعِلْمِ،
وَمُفَسِّرُ الْقُرْآنِ، فَاسْأَلْهُ مَسْأَلَةً لَا يَعْرِفْهَا.
فَأَتَاهُ وَقَالَ: يَا
ابْنَ عَلِيٍّ، قَرَأْتَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفُرْقَانَ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَإِنِّي
سَائِلُكَ عَنْ مَسَائِلَ!
قَالَ: "سَلْ فَإِنْ
كُنْتَ مُسْتَرْشِداً فَسَتَنْتَفِعُ بِمَا تَسْأَلُ عَنْهُ وَإِنْ كُنْتَ
مُتَعَنِّتاً فَتَضِلُّ بِمَا تَسْأَلُ عَنْهُ..." (المناقب: ج 4 ص 198).
ولو
أمعنا النظر في كثرة الأحاديث المنقولة في هذه الفترة، واشتهار علم الفقه والحديث
بين المحدثين في ذلك العصر، لأمكننا القول بأنّ علم الفقه لدى أهل السنة قد دخل
أساساً في مرحلة التدوين منذ هذه المرحلة فصاعداً.
فلم
يكن الفقه والحديث قبل ذلك يلقى رعاية أو اهتمام في المجتمع الإسلامي، بسبب:
- الصراعات
السياسية.
- نمط التفكير
المادي الجامح الذي استحوذ على جهاز الحكم.
- منع الخليفتين
الأول والثاني لتدوين حديث الرسول (ص).
وقد
بلغ جهل الناس ذروته عند بدء الفتوحات الإسلامية فانشغال الولاة والناس وانهماكهم
في قضايا الفتوحات والمسائل العسكرية والشؤون المالية. كان قد منعهم من الاهتمام
بالنشاطات العلمية والتربية الدينية .. فعندما قال ابن عباس في آخر شهر رمضان
بالبصرة التي كان أحد المراكز الأصلية للفتوحات، وهو يخطب على المنبر:
"اخرجوا صدقة صومكم" لم يفهم الناس معنى كلامه. لذا قال ابن عباس:
"من كان من أهل المدينة حاضراً فليقم ويوضح لهم معنى صدقة الصوم فإنهم لا
يعلمون من زكاة الفطرة الواجبة شيئاً" (الإحكام
في أصول الأحكام، ابن حزم: ج 2 ص 131).
ويقول
الدكتور علي حسن: "في أثناء عصر بني أمية الذين كانوا لا يهتمون كثيراً بأمور الدين كان
الشعب في الواقع قليل الفهم والمعرفة للفقه ومسائل الدين ولم يكن يعرف من هذه
الشؤون إلا أهل المدينة وحدهم" (نظرة
عامة في تاريخ الفقه الإسلامي: ص 110).
ولذا
كان أنس بن مالك يتأمل في زمانه ويقول: "ما أعرف شيئاً مما كان على عهد رسول الله ؟ قيل
الصلاة. قال: أليس صنعتم ما صنعتم فيها ؟".
وكل
هذا يدل على نسيان الفقه والحديث بين عامة الناس، وهو من أهم الأسباب التي دفعت
الإمامين الباقر والصادق (ع) إلى الاهتمام بالفقه، بهدف احيائه بين الناس، وصيانته
من التحريف الذي كان يحصل بالتأكيد في تدوينه وإعادة كتابته.
ولذا
قال (ع) لسلمة بن كهيل، والحكم بن عيينة: "شَرِّقَا
وغَرِّبَا فَلَا تَجِدَانِ عِلْماً صَحِيحاً إِلَّا شَيْئاً خَرَجَ مِنْ عِنْدِنَا
أَهْلَ الْبَيْتِ" (الكافي: ج 1 ص
447؛ بصائر الدرجات: ص 10 ح 4؛ رجال الكشّي: ص 209 ح 369).
وكان
يقول كذلك: "فَلْيَذْهَبِ النَّاسُ حَيْثُ شَاؤُوا
فَوَاللهِ لَيْسَ الأَمْرُ إِلَّا مِنْ هَاهُنَا" (الكافي: ج 1 ص 399).
وكان
يقول: "فَلْيَذْهَبِ الْحَسَنُ يَمِيناً وشِمَالاً
فَوَالله مَا يُوجَدُ الْعِلْمُ إِلَّا هَاهُنَا " (الكافي: ج 1 ص 51).
وقد
سئل يوماً عن الأحاديث التي ينقلها عن النبي بلا سند فقال: "إذا حدثت بالحديث ولم أسنده فسندي فيه إلى زين العابدين،
عن أبيه الحسين الشهيد، عن أبيه علي بن أبي طالب، عن رسول الله، عن جبرائيل، عن
الله تعالى" (أمالي المفيد: ص 42 ؛
إعلام الورى للطبرسي: ص 264).
* ولذا نلاحظ عدة أمور في مسيره العلمي:
أ
- كثرة مناقشاته مع المخالفين لفقه أهل البيت، واتباع بعضهم لمنهجه الفقهي.
ب
- كشف تحريف البعض لأحاديث الرسول (ص) لغرض ما يصبو إليه.
ج
- معارضته الشديدة لاستدلال أصحاب القياس.
د
- سعيه الحثيث لتحديد وعزل المعتقد الصحيح لأهل البيت (ع) في المجالات المختلفة عن
بقية الفرق.
هـ
- موقفه الشديد من الخوارج التي كانت لهم صولات في تلك الفترة، حيث وصفهم بقوله:
"إنّ الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم إنّ الدين أوسع من ذلك".
و
- مواجهته لظاهرة الغلو.
ز
- مواجهته للفكر اليهودي والاسرائيليات.
2 - نعيش
معه في أسلوبه (ع):
أمّا
كيف كان أسلوب الإمام (ع)، فكما هو أسلوب القرآن وأسلوب النبي (ص) وأسلوب الأئمة
(ع) الذي يهدف إلى تركيز المجتمع وبنائه على القاعدة الفكرية الإسلامية بحيث لا
ينحرف المجتمع عن الخط الإسلامي الأصيل في غلّو هنا أو عداوة هناك، حتى في المسألة
التي تتصل بأهل البيت (ع).
حيث
رأى أنّ فرصة تسلّمه للحكم لم تكن واقعية آنذاك، ولكنه كان يرى أنَّ مسؤوليته تقع
في خارج الحكم وتجلى بناء المجتمع على قاعدة ثابتة منفتحة واسعة توازي مسؤوليته
عندما يحكم.
وهكذا
كان الإمام علي (ع) فلم يتوقف عطاؤه عندما كان خارج الخلافة لأنه كان يشعر أنه
مسؤول عن الإسلام خارج الحكم كما هو مسؤول عنه في داخل الحكم لأنّ عليه أن يحفظ
الإسلام .. "فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن
أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم هذه التي إنما
هي متاع أيام قلائل يزول منها ما زال كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب فنهضت
حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدين وتنهنه".
3 - نعيش معه في
مواجهته الغلوّ:
كما
أراد الإمام (ع) أن يركّز القاعدة الفكرية وأن يخطط للخطط العملية التفصيلية في
حركة القيم من خلال علاقات المجتمع بنفسه أو علاقاته ببعضه البعض.
فنقرأ
في البداية كيف كان يخاطب الشيعة، فقد كان يخاف على التشيع أن يدخل في دائرة
الغلوّ انطلاقاً من أنَّ الحب عندما يزداد فإنه قد يتجاوز الحدود، ولذلك أراد أن
يركز القاعدة على أساس التوازن الذي أراده الإسلام.
فعن
أبي جعفر (أي الباقر) (ع) قال: "يَا مَعْشَرَ
الشِّيعَةِ شِيعَةِ آلِ مُحَمَّدٍ كُونُوا النُّمْرُقَةَ الْوُسْطَى، يَرْجِعُ
إِلَيْكُمُ الْغَالِي ويَلْحَقُ بِكُمُ التَّالِي".
فَقَالَ
لَه رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، يُقَالُ لَه سَعْدٌ: جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا الْغَالِي؟
قَالَ:
"قَوْمٌ يَقُولُونَ فِينَا مَا لَا نَقُولُه فِي
أَنْفُسِنَا، فَلَيْسَ أُولَئِكَ مِنَّا ولَسْنَا مِنْهُمْ".
قَالَ:
فَمَا التَّالِي؟
قَالَ:
"الْمُرْتَادُ يُرِيدُ الْخَيْرَ يُبَلِّغُه
الْخَيْرَ يُؤْجَرُ عَلَيْه".
ثُمَّ
أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ: "واللهِ مَا مَعَنَا
مِنَ اللهِ بَرَاءَةٌ، ولَا بَيْنَنَا وبَيْنَ اللهِ قَرَابَةٌ، ولَا لَنَا عَلَى
اللَّه حُجَّةٌ، ولَا نَتَقَرَّبُ إِلَى الله إِلَّا بِالطَّاعَةِ، فَمَنْ كَانَ
مِنْكُمْ مُطِيعاً لِله تَنْفَعُه وَلَايَتُنَا، ومَنْ كَانَ مِنْكُمْ عَاصِياً
لِله لَمْ تَنْفَعْه وَلَايَتُنَا. وَيْحَكُمْ لَا تَغْتَرُّوا! وَيْحَكُمْ لَا
تَغْتَرُّوا!" (الكافي: ج 2 ص 75-76؛ ).
فالطاعة
هي التي يتقرب بها الأنبياء إلى الله لأنهم يؤدون رسالته ولأنهك يتحركون في الحياة
على أساس تجسيد الرسالة في أنفسهم وفي الناس. وهكذا الأولياء والأئمة {بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون}
[الأنبياء:26 -27].
فالولاية
قاعدة لقبول العمل ولكنها ترتكز على خط الإسلام والإيمان والتقوى.
وفي
حديث آخر حدّث به الإمام (ع) جابر بن عبد الله الأنصاري قال: " يَا جَابِرُ
أيَكْتَفِي مَنِ انْتَحَلَ التَّشَيُّعَ ( 2 ) أَنْ يَقُولَ بِحُبِّنَا أَهْلَ
الْبَيْتِ فَوَاللَّه مَا شِيعَتُنَا إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللَّه وأَطَاعَه ومَا
كَانُوا يُعْرَفُونَ يَا جَابِرُ إِلَّا بِالتَّوَاضُعِ والتَّخَشُّعِ
والأَمَانَةِ وكَثْرَةِ ذِكْرِ اللَّه والصَّوْمِ والصَّلَاةِ والْبِرِّ
بِالْوَالِدَيْنِ والتَّعَاهُدِ لِلْجِيرَانِ مِنَ الْفُقَرَاءِ وأَهْلِ
الْمَسْكَنَةِ والْغَارِمِينَ والأَيْتَامِ وصِدْقِ الْحَدِيثِ وتِلَاوَةِ
الْقُرْآنِ وكَفِّ الأَلْسُنِ عَنِ النَّاسِ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ وكَانُوا
أُمَنَاءَ عَشَائِرِهِمْ فِي الأَشْيَاءِ قَالَ جَابِرٌ فَقُلْتُ يَا ابْنَ
رَسُولِ اللَّه مَا نَعْرِفُ الْيَوْمَ أَحَداً بِهَذِه الصِّفَةِ فَقَالَ يَا
جَابِرُ لَا تَذْهَبَنَّ بِكَ الْمَذَاهِبُ حَسْبُ الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ أُحِبُّ
عَلِيّاً وأَتَوَلَّاه ثُمَّ لَا يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ فَعَّالاً فَلَوْ قَالَ
إِنِّي أُحِبُّ رَسُولَ اللَّه - فَرَسُولُ اللَّه ص خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ ع ثُمَّ
لَا يَتَّبِعُ سِيرَتَه ولَا يَعْمَلُ بِسُنَّتِه مَا نَفَعَه حُبُّه إِيَّاه
شَيْئاً فَاتَّقُوا اللَّه واعْمَلُوا لِمَا عِنْدَ اللَّه لَيْسَ بَيْنَ اللَّه
وبَيْنَ أَحَدٍ قَرَابَةٌ أَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ
وأَكْرَمُهُمْ عَلَيْه أَتْقَاهُمْ وأَعْمَلُهُمْ بِطَاعَتِه يَا جَابِرُ واللَّه
مَا يُتَقَرَّبُ إِلَى اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى إِلَّا بِالطَّاعَةِ ومَا مَعَنَا
بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ ( 1 ) ولَا عَلَى اللَّه لأَحَدٍ مِنْ حُجَّةٍ مَنْ كَانَ
لِلَّه مُطِيعاً فَهُوَ لَنَا وَلِيٌّ ومَنْ كَانَ لِلَّه عَاصِياً فَهُوَ لَنَا
عَدُوٌّ ومَا تُنَالُ وَلَايَتُنَا إِلَّا بِالْعَمَلِ والْوَرَعِ" (الكافي: ج 2 ص 74-75؛ أمالي الصدوق:
ح 724 المجلس 91 ح 3؛ أمالي الطوسي: ص 735 المجلس 46 ح 1؛ صفات الشيعة: ص 11 ح 22).
هذا
هو الخط الذي أراد أن يركّزه الإمام الباقر(ع) بحيث يستقيم الناس عليه حتى لا يكون
التشيع شيئاً زائداً عن الإسلام بل ينطلق من عمقه ويتحرك في خطه وينفتح على الدعوة
إلى الإسلام في كلّ ما قاله الله وما صدق الرواة فيه عن رسول الله (ص).
ويقول
(ع) في هذا السياق لمحمد بن مسلم: "لا تذهب بكم فوالله ما شيعتنا إلا من أطاع
الله عزّ وجل". لأننا نتحرك في خط طاعة الله ولا نتحرك بعيداً عن هذا الخط.
4 - نعيش
معه في رأيه السياسي:
بقي
الإمام (ع) غير واثق بثبات البعض، وخاصة من أهل العراق، ومدى إخلاصهم وثباتهم.
فرغم جميع ما كانوا يبدونه من حب وموالاة وما كان يبدو عليهم من رغبة عميقة في
استقبال تعاليم أهل البيت (ع) ونشرها، إلا أنّ إعلان الوفاء ذلك لم يكن من اليسير
الاطمئنان إليه لأسباب متعددة، فإنَّ للوفاء موازين لا يقدر على استيفائها إلا
القليل من الناس ..
فقد
نقل الشيخ المفيد بإسناده، عن بُريد العجلي قال: قِيلَ لِأَبِي جَعْفَرٍ (ع) إِنَّ
أَصْحَابَنَا بِالْكُوفَةِ لَجَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ فَلَوْ أَمَرْتَهُمْ
لَأَطَاعُوكَ وَاتَّبَعُوكَ ؟ قَالَ: >يَجِيءُ
أَحَدُكُمْ إِلَى كِيسِ أَخِيهِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ حَاجَتَهُ؟< فَقَالَ:
لَا، فَقَالَ: >هُمْ بِدِمَائِهِمْ أَبْخَلُ<
(الاختصاص: 24).
بينما
نلاحظه (ع) يثني على شيعته المتواجدين في مكة على قلتهم الشديدة. وكان من جملتهم عبد الله بن ميمون .. فقد سأله أبو جعفر (ع): يا
ابن ميمون كم أنتم بمكة؟ قلت: نحن أربعة، قال: إنكم نور في ظلمات الأرض< (رجال الكشّي: ص 245 رقم 452 و ص 389 رقم 731).
* وهناك حديث ينقله ابن أبي الحديد في (شرح النهج: ج 11 ص 44) عن الباقر يعكس لنا أسلوب تحليل الباقر (ع) للأوضاع
السياسية في تلك الحقبة الزمنية وتتضمن إشارة إلى تشدد الخلفاء الأمويين ضد الشيعة
الذين كانوا يكثرون في العراق بالخصوص؛ لكثرتهم.
أن أبا جعفر محمد بن علي
الباقر (ع) قال لبعض أصحابه: "ما لقينا من ظلم قريش إيانا، وتظاهرهم علينا،
وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس، إنّ رسول الله (ص) قبض وقد أخبر أنّا أولى الناس
بالناس، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه، واحتجت على الأنصار بحقنا
وحجتنا، ثم تداولتها قريش واحد بعد واحد، حتى رجعت إلينا فنكثت بيعتنا، ونصبت
الحرب لنا، ولم يزل صاحب الأمر في صعود وكئود، حتى قتل، فبويع الحسن ابنه، وعوهد،
ثم غدر به، وأسلم، ووثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه، ونهبت عسكره،
وعولجت خلاليل أمهات أولاده، فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل
بيته وهم قليل، حق قليل، ثم بايع الحسين (ع) من أهل العراق عشرون ألفاً، ثم غدروا
به، وخرجوا عليه، وبيعته في أعناقهم، وقتلوه، ثم لم نزل أهل البيت نستذل ونستضام
ونقصى ونمتهن ونحرم ونقتل ونخاف، ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا، ووجد
الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء
وعمال السوء في كل بلدة، فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنا ما لم
نقله وما لم نفعله؛ ليبغضونا إلى الناس وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية، بعد موت
الحسن (ع)، فقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة، وكان من يذكر
بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله، أو هدمت داره، ثم لم يزل البلاء يشتد
ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد، قاتل الحسين (ع)، ثم جاء الحجاج فقتلهم كل
قتلة، وأخذهم بكل ظنة تهمة، حتى أنّ الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن
يقال له شيعة علي وحتى صار الرجل الذي يُذكر بالخير، ولعله يكون ورعاً صدوقاً يحدث
بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئاً
منها، ولا كانت ولا وقعت وهو يحسب أنها حق لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ولا
بقلة ورع".
ولهذا كان (ع) يقول: "من بلي من شيعتنا ببلاء فصبر كتب الله له أجر ألف
شهيد" (عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 239) يعكس مدى
الضغوط التي كانت تمارس ضد الشيعة، ومدى الجهود التي كان الإمام يبذلها لاقناعهم
بالتحمل والتزام الصبر.
ولا يعني ذلك أنّ أئمة
الشيعة لم يتخذوا أي موقف ازاء غطرسة الحكام المتسلطين. فجميع الشيعة وحتى
الأمويين كانوا يدركون جيداً أنّ قادة الشيعة يطالبون بالخلافة، وأنهم كانوا يرون
الخلافة حقاً لهم وأنّ قريشاً أخذتها منهم عنوة.
ويقول C لمحمد بن مسلم: "وَكَذَلِكَ وَاللهِ يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَصْبَحَ مِنْ هَذِهِ
الْأُمَّةِ لَا إِمَامَ لَهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ظَاهِرٌ عَادِلٌ، أَصْبَحَ
ضَالًّا تَائِهاً، وَإِنْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ مَاتَ مِيتَةَ كُفْرٍ
وَنِفَاقٍ، وَاعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ أَئِمَّةَ الْجَوْرِ وَأَتْبَاعَهُمْ
لَمَعْزُولُونَ عَنْ دِينِ اللهِ، قَدْ ضَلُّوا وَأَضَلُّوا فَأَعْمَالُهُمُ
الَّتِي يَعْمَلُونَهَا كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ
لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ
الْبَعِيدُ".
ولهذا كان الشيعة يمتنعون
من التعاون مع الحكام إلا في بعض الحالات الاستثنائية التي يسمح فيها بذلك لأسباب
خاصة لكن هذه المسألة لم تتخذ دوماً طابع المواجهة أو العنف.
وبناء على هذا فإنّ
المعارضة والدعوة إلى عدم التعاون والمواجهة السلبية كانت من المواقف الواضحة
والبارزة للإمام الباقر (ع).
جاء عقبة بن بشير الأسدي إلى الباقر (ع) فقال: إني من
الحسب الضخم من قومي، وإن قومي كان لهم عريف فهلك، فأرادوا أن يعرفوني عليهم فما
ترى لي؟
فقال أبو جعفر (ع): "تمن
علينا بحسبك! إنَّ الله تعالى رفع بالإيمان من كان الناس سموه وضيعاً، إذا كان
مؤمناً، ووضع بالكفر من كان يسمونه شريفاً، إذا كان كافراً، فليس لأحد على أحد فضل
إلا بتقوى الله. وأما قولك: إنّ قومي كان لهم عريف فهلك فأرادوا أن يعرفوني عليهم،
فإن كنت تكره الجنة وتبغضها فتعرف على قومك، يأخذ سلطان جائر بامرئ مسلم يسفك دمه
فتشركهم في دمه، وعسى أن لا تنال من دنياهم شيئاً" (رجال الكشي: ج 2 ص 459 رقم 358).
وكان (ع) يحث الناس بصورة مختلفة على الاعتراض على تصرفات
الحكام ونصيحتهم، وقد ورد عنه (ع): " مَن مَشى إلى سُلطانٍ جائرٍ
فأمَرَهُ بِتَقوَى اللهِ ووَعَظَهُ وخَوَّفَهُ، كانَ لَهُ مِثلُ أجرِ الثَّقَلَينِ
مِنَ الجِنِّ والإنسِ ومِثلُ أعمالِهِم" (مستطرفات
السرائر: ص 141 ح 1).
وقد روى أبو بكر الحضرمي فقال: لَمَّا حُمِلَ أَبُو جَعْفَرٍ (ع) إِلَى الشَّامِ إِلَى هِشَامِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ وَصَارَ بِبَابِهِ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ وَمَنْ كَانَ
بِحَضْرَتِهِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ: إِذَا رَأَيْتُمُونِي قَدْ وَبَّخْتُ
مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ، ثُمَّ رَأَيْتُمُونِي قَدْ سَكَتُّ، فَلْيُقْبِلْ
عَلَيْهِ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ فَلْيُوَبِّخْهُ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُؤْذَنَ
لَهُ.
فَلَمَّا
دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ (ع) قَالَ بِيَدِهِ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ"، فَعَمَّهُمْ جَمِيعاً بِالسَّلَامِ، ثُمَّ جَلَسَ، فَازْدَادَ هِشَامٌ
عَلَيْهِ حَنَقاً بِتَرْكِهِ السَّلَامَ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ وَجُلُوسِهِ
بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَأَقْبَلَ يُوَبِّخُهُ، وَيَقُولُ فِيمَا يَقُولُ لَهُ: يَا
مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ، لَا يَزَالُ الرَّجُلُ مِنْكُمْ قَدْ شَقَّ عَصَا
الْمُسْلِمِينَ وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ الْإِمَامُ سَفَهاً
وَقِلَّةَ عِلْمٍ، وَوَبَّخَهُ بِمَا أَرَادَ أَنْ يُوَبِّخَهُ.
فَلَمَّا
سَكَتَ أَقْبَلَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ رَجُلٌ بَعْدَ رَجُلٍ يُوَبِّخُهُ حَتَّى
انْقَضَى آخِرُهُمْ.
فَلَمَّا
سَكَتَ الْقَوْمُ نَهَضَ (ع) قَائِماً ثُمَّ قَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ أَيْنَ تَذْهَبُونَ وَأَيْنَ
يُرَادُ بِكُمْ بِنَا هَدَى اللهُ أَوَّلَكُمْ، وَبِنَا يَخْتِمُ آخِرَكُمْ،
فَإِنْ يَكُنْ لَكُمْ مُلْكٌ مُعَجَّلٌ فَإِنَّ لَنَا مُلْكاً مُؤَجَّلًا،
وَلَيْسَ بَعْدَ مُلْكِنَا مُلْكٌ؛ لِأَنَّا أَهْلُ الْعَاقِبَةِ، يَقُولُ اللهُ
عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}".
فَأَمَرَ
بِهِ إِلَى الْحَبْسِ. فَلَمَّا صَارَ إِلَى الْحَبْسِ تَكَلَّمَ فَلَمْ يَبْقَ
فِي الْحَبْسِ رَجُلٌ إِلَّا تَرَشَّفَهُ وَحَنَّ إِلَيْهِ، فَجَاءَ صَاحِبُ
الْحَبْسِ إِلَى هِشَامٍ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي خَائِفٌ
عَلَيْكَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَنْ يَحُولُوا بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَجْلِسِكَ هَذَا.
ثُمَّ أَخْبَرَهُ بِخَبَرِهِ. فَأَمَرَ بِهِ فَحُمِلَ عَلَى الْبَرِيدِ هُوَ
وَأَصْحَابُهُ لِيُرَدُّوا إِلَى الْمَدِينَةِ (الكافي:
ج 1 ص 471-472).
5 - نعيش
معه في مواجهته للفكر اليهودي:
وكان
كعب الأحبار أول المروّجين له على نطاق واسع، والذي ظلت مدرسته قائمة تجذب إليها
أولئك الذي أغراهم الدخول إلى عالم الأساطير والبحث في التاريخ
"المجهول" لما قبل الإسلام ..
وقد ظهرت تأثيرات هؤلاء
على الثقافة الإسلامية بصورة أحاديث موضوعة تسمى بالإسرائيليات، يختص القسم الأعظم
منها بالتفسير وسرد تاريخ الأنبياء السابقين، كما
يتجلى على الخصوص لدى كل من اليعقوبي والطبري، وبالخصوص في نطاق ما وضعوه في
مقدمات تواريخهم، حيث تتسع لقصص الأنبياء المتقدمين، وهو ما يندرج في باب
الإسرائيليات.
وقد
تركت المساعي العلمية اليهودية في داخل المجتمع الإسلامي تأثيرات مقلقة في المسائل
الفقهية والكلامية أيضاً، وهذه القضية على درجة من الوضوح في التاريخ بحيث لا يبقى
معها إبهام أو ترديد.
وكانت قضية مواجهة الأفكار
اليهودية، وتفنيد الأحاديث الموضوعة والملفقة من قبل اليهود، قضية تستأثر بقسم مهم
من برنامج عمل أئمة أهل البيت (ع) وعلى أكثر من صعيد، وعلى الخصوص في موسم الحج
الذي يكثر فيه لقاء المسلمين مع بعضهم البعض، ومن الشواهد على هذا:
وفي
الصحيح قال زرارة بن أعين: كُنْتُ قَاعِداً إِلَى جَنْبِ أَبِي جَعْفَرٍ C وهُوَ
مُحْتَبٍ مُسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: "أَمَا
إِنَّ النَّظَرَ إِلَيْهَا عِبَادَةٌ".
فَجَاءَه
رَجُلٌ مِنْ بَجِيلَةَ، يُقَالُ لَه عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ، فَقَالَ لأَبِي جَعْفَرٍ
C: إِنَّ كَعْبَ الأَحْبَارِ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْكَعْبَةَ
تَسْجُدُ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي كُلِّ غَدَاةٍ.
فَقَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ C: "فَمَا تَقُولُ فِيمَا قَالَ
كَعْبٌ؟".
فَقَالَ:
صَدَقَ الْقَوْلُ مَا قَالَ كَعْبٌ.
فَقَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ C: "كَذَبْتَ وكَذَبَ كَعْبُ
الأَحْبَارِ مَعَكَ"، وغَضِبَ.
قَالَ
زُرَارَةُ: مَا رَأَيْتُه اسْتَقْبَلَ أَحَداً بِقَوْلِ كَذَبْتَ غَيْرَه.
ثُمَّ
قَالَ C: "مَا خَلَقَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ
بُقْعَةً فِي الأَرْضِ أَحَبَّ إِلَيْه مِنْهَا"، ثُمَّ أَوْمَأَ بِيَدِه
نَحْوَ الْكَعْبَةِ، "ولَا أَكْرَمَ عَلَى اللهِ عَزَّ وجَلَّ مِنْهَا؛ لَهَا
حَرَّمَ اللهُ الأَشْهُرَ الْحُرُمَ فِي كِتَابِه يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
والأَرْضَ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ لِلْحَجِّ؛ شَوَّالٌ وذُو الْقَعْدَةِ وذُو
الْحِجَّةِ وشَهْرٌ مُفْرَدٌ لِلْعُمْرَةِ وهُوَ رَجَبٌ" (الكافي: ج 4 ص 239-240؛
تفسير العيّاشي: ج 2 ص 88 ح 57؛ الفقيه: ج 2 ص 243 ح 2305 و ص 457 ح 2961؛ الوافي:
ج 12 ص 37 ح 11457).
ولقد سار أئمة أهل البيت
على نفس المنوال أيضاً وأطلقوا بعض العبارات المهمة في مواجهة الفكر اليهودي، مثل:
"لا تشبّهوا باليهود"؛ من أجل قطع تلك الصلة الثقافية التي ظهرت إلى
الوجود بين المسلمين واليهود والتي كادت أن تؤدي إلى حرف الثقافة الإسلامية الأصيلة
والغنية.
الخط
الثاني: التراث الاجتماعي:
6- نعيش معه
في رسم العلاقة بين المؤمنين:
وكان
يؤكد (ع) على علاقة المؤمنين في المجتمع في الدرجة العليا التي يصبح فيها المجتمع
كالجسد الواحد.
فقد
سأله بعض أصحابه وهو سعيد بن الحسن قال: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (ع): "أيَجِيءُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيه فَيُدْخِلُ يَدَه فِي
كِيسِه فَيَأْخُذُ حَاجَتَه فَلَا يَدْفَعُه".
فَقُلْتُ:
مَا أَعْرِفُ ذَلِكَ فِينَا!!
فَقَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ (ع): "فَلَا شَيْءَ إِذاً".
أي أين إيمانكم إذاً ؟ وأين الوحدة الإيمانية بين المؤمنين؟! وأين الجسد الواحد
الذي يمثله المجتمع المؤمن ؟!.
قُلْتُ:
فَالْهَلَاكُ إِذاً؟!
فَقَالَ:
"إِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يُعْطَوْا أَحْلَامَهُمْ
بَعْدُ" (الكافي: ج 2 ص
173-174؛ المؤمن: ص 44 ح 103؛ الوافي: ج 5 ص 564 ح 2582).. أي لم تكمل عقولهم بعد ولا يزال إيمانهم غير ناضج، فهم بحاجة إلى تعميق
للإيمان أكثر وإلى وعي لمسؤولية الإيمان في العلاقة بين المؤمنين أكثر.
من
وصايا الإمام الباقر:
أ - الأخلاق
صلب الإيمان:
وكان
(ع) يريد من المؤمنين ان يشعروا أنَّ قصة الأخلاق تتصل بالإيمان اتصالاً وثيقاً،
فمن حسنت أخلاقه كمل إيمانه ومن ساءت أخلاقه كان إيمانه ناقصاً، فبمقدار ما تكون
حسن الأخلاق أكثر بمقدار ما تكون مؤمناً أكثر..
وهذا
ما جاءت به الكلمة عن الإمام: "إِنَّ أَكْمَلَ
الْمُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً" (الكافي: ج 2 ص 99؛ أمالي الطوسي: ص 139 المجلس 5 ح 40؛ كفاية الأثر: ص 250؛
تحف العقول: ص 47؛ أمالي الصدوق: ص 20 المجلس 6).
لأنَّ الله يؤكد الأخوة الإيمانية بين المؤمنين{إنّما
المؤمنون إخوة} [الحجرات: 10].
ولذلك
فإنّ المسألة تفرض أن يعيش الإنسان امتداد الأخوة في العلاقات بكل العناصر التي
تتمثل فيها الأخوة في إيجابية الإنسان مع الإنسان الآخر وحتى مع غير المؤمنين،
فالله يصف عظمة الرسول (ص) في أنه على خلق عظيم وأنه كان رقيق القلب لطيف اللسان
وكان الرؤوف الرحيم وكان الإنسان الذي يتألم من حوله إذا تألم، وكان يحرص على من
حوله عندما يسيرون في خط الضياع.
ب - قابلوا
الناس بوجوه باسمة:
كان
(ع) يحدث الناس بذلك، وكان يريد للناس في المجتمع عندما يلتقون ببعضهم البعض أن لا
يكون لقاؤهم بوجه عابس أو كئيب لأنّ وجهك في تقاطيعه الإيجابية أو السلبية يترك
تأثيرا إيجابيا أو سلبياً على الذي تلتقي به، فإذا كنت ضاحكاً منبسطة أساريرك فإن
ذلك يمثل إشراقة تدخل قلب الذي تلتقيه، بحيث تشرق بسمته في قلبك قبل أن تشرق في
عينيك، لذلك كان من صفات رسول الله (ص) أنه كان لا يُرى إلا مبتسماً وهذا ما تحدثت
عنه (الفرزدق) في مدحه للإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) الذي عاش العبادة
كما لم يعشها احد بعد رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع):
يغضى حياء ويغضى من
مهابته فلا يك-لّم إلا حين يبتسم
كان
المبتسم دائماً بل كان حتى في حزنه بذكرى كربلاء وحزنه بين يدي الله يبتسم في قلب
الحزن بكربلاء وفي قلب الخوف بين يدي الله، لأنه كان يشعر أنه في العمق من طاعة
الله وفي القرب القريب منه.
لذلك
قال (ع) وهو يروي عن رسول الله (ص) قال: " أَتَى رَسُولَ اللهِ (ص) رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللهِ أَوْصِنِي، فَكَانَ فِيمَا أَوْصَاه أَنْ قَالَ: ألْق أَخَاكَ بِوَجْهٍ
مُنْبَسِطٍ" (الكافي: ج 2 ص 103؛ الزهد: ص 81 ح 45؛ تحف العقول: ص 41؛ الوافي: ج 4 ص
427 ح 2253).
ج - تأكيده
على الصدق:
وكان
يريد للناس أن يكونوا الصادقين، كما كان يريد للمحدثين الذين كانوا يقصدونه ليرووا
الحديث عنه، أن يصدقوا فيما ينقلونه وأن لا يكذبوا انطلاقاً من شهوة للفكرة التي
يكذبون فيها، او من خلال عقدة، أو أنّ الناس يرتاحون للكذب، كما يكذب البعض من
المبلّغين والمرشدين عندما ينقلون أحاديث ليس لها أي أساس من الحق لا لشيء إلا
لأنّ الناس تحب الكذبة فيما تحبه وفيما تبغضه. ومن هنا فقد كثر الكذّابة على رسول
الله (ص) وكثر الكذّابة على أئمة أهل البيت (ع).
فعن
عمرو بن أبي المقدام قال: قَالَ لِي أَبُو
جَعْفَرٍ (ع) فِي أَوَّلِ دَخْلَةٍ دَخَلْتُ عَلَيْه: "تَعَلَّمُوا
الصِّدْقَ قَبْلَ الْحَدِيثِ" (الكافي:
ج 2 ص 104؛ ).
فقبل
ان تصبح فقيهاً أو خطيباً أو واعظاً أو مبلغاً أو سياسياً أو شخصية اجتماعية في
حركة المجتمع، تعلّم أن تكون صادقاً حتى تعطي الناس الصدق؛ لأنك عندما تملك موقعاً
يحترمه الناس فإن خطورتك عندما تكون كاذباً أكثر؛ لأنّ كذبك سوف يكون محترماً
عندهم فيكون الفكر الذي يفكرون فيه والحياة التي يحيونها.
وعن
الربيع بن سعد قال: قَالَ قَالَ لِي أَبُو جَعْفَرٍ (ع): "يَا رَبِيعُ إِنَّ
الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكْتُبَه اللَّه صِدِّيقاً " (الكافي: ج 2 ص 105). فيحشره مع الصديقين،
وأية درجة يبلغها الإنسان أعظم من درجة الصديقين؟! والقضية تحتاج إلى ان تكون
صادقاً مع نفسك ومع ربك ومع الناس فيما تتحدث به إليهم.
د - كظم
الغيظ:
كان
(ع) يريد للناس، وهم يختلفون ويتنازعون عادة ويعيشون بعض النوازع النفسية السلبية
ضد بعضهم البعض، أن لا يفجّروا غيظهم، لمن اغتاظوا منه، وكان يريد للصدر أن يتسع
وأن يكون الإنسان حليماً عندما يواجه الغيظ ممن أغاضه، وكان يريد للإنسان - من
خلال الخط القرآني - أن يسيطر على انفعالاته السلبية فلا يدع انفعالاته تدفعه إلى
كلمة سلبية قد يندم عليها أو إلى عمل غير مسؤول قد يعيش التأنيب عليه.
وكان
(ع) يقول: "مَنْ كَظَمَ غَيْظاً وهُوَ يَقْدِرُ
عَلَى إِمْضَائِه". أي قادر على أن يفجّر بكلمة أو بضربة أو يقوم بأي
عمل يشفي فيه غيظه "حَشَا اللَّه قَلْبَه أَمْناً
وإِيمَاناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (الكافي:
ج 2 ص 110؛ الفقيه: ج 4 ص 352 ضمن الحديث الطويل 5762؛ تفسير القمّي: ج 2 ص 277). فعلينا أن نتوازن بين هذا الانفعال الذي نعيشه عندما نكظم غيظاً وبين
الأمن والإيمان الذي يمنحنا الله ونحن في أشد الحاجة إليه.
فعندما
نريد الانحراف عن الخط الأخلاقي أو الخط الشرعي لنستحضر النتائج الذاتية التي نحصل
عليها من خلال هذا الإنحراف، والنتائج الكبرى التي نحصل عليها إذا امتنعنا عن ذلك.
ولذلك تر القرآن يركّز دائماً على الآخرة وعلى يوم القيامة حتى يدخل الإنسان في
عملية مقارنة بين الدنيا وبين الآخرة.
هـ - خط
الرفق:
وكان
(ع) يريد للناس في هذا الخط أن يعيشوا الرفق ولا يعيشوا العنف، فعندما نعيش مشاكل
كثيرة ونحتاج إلى حل فقد نستطيع أن نحلّها بالعنف ونختصر الوقت في ذلك، وقد نستطيع
أن نحلّها بالرفق واللين والأسلوب السلمي ولكن ذلك يحتاج إلى صبر ووقت .. ولكن
الإمام الباقر (ع) يقول: "إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ
رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ ويُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى
الْعُنْفِ" (الكافي: ج 2 ص 119؛ الزهد:
ص 91 ح 69).
فالرفق
صفة الله، والله يحب الرفق من عباده، ويحب الرفقاء بالناس، وإذا كنت تريد أن تحلّ
مشكلة يحب الله لك أن تحلّها ويجزيك بالثواب عن حلّها، فإذا حللتها بالرفق فإن
الله يعطيك من الثواب أكثر مما لو حللتها بالعنف..
فعن
أبي جعفر (ع) قال: "قال رسول الله (ص): إِنَّ
الرِّفْقَ لَمْ يُوضَعْ عَلى شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا زَانَهُ، وَلَمْ يُرْفَعْ عَنْهُ
قَطُّ إِلَّا شَانَهُ" (الكافي:
ج 4 ص 709؛ الجعفريّات: ص 149؛ تحف العقول: ص 47).
وفي
الصحيح عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) قَالَ:
إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ كَانَ يَقُولُ: مَا
كُنْتُ أَرَى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (ع) يَدَعُ خَلَفاً أَفْضَلَ مِنْهُ
حَتَّى رَأَيْتُ ابْنَهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ (ع) فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِظَهُ
فَوَعَظَنِي. فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: بِأَيِّ شَيْءٍ وَعَظَكَ؟ قَالَ: خَرَجْتُ
إِلَى بَعْضِ نَوَاحِي الْمَدِينَةِ فِي سَاعَةٍ حَارَّةٍ فَلَقِيَنِي أَبُو
جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَكَانَ رَجُلًا بَادِناً ثَقِيلًا، وَهُوَ
مُتَّكِئٌ عَلَى غُلَامَيْنِ أَسْوَدَيْنِ أَوْ مَوْلَيَيْنِ فَقُلْتُ فِي
نَفْسِي: سُبْحَانَ اللهِ، شَيْخٌ مِنْ أَشْيَاخِ قُرَيْشٍ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ
عَلَى هَذِهِ الْحَالِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا، أَمَا لَأَعِظَنَّهُ، فَدَنَوْتُ
مِنْهُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ بِنَهْرٍ وَهُوَ
يَتَصَابُّ عَرَقاً، فَقُلْتُ: أَصْلَحَكَ اللهُ شَيْخٌ مِنْ أَشْيَاخِ قُرَيْشٍ
فِي هَذِهِ السَّاعَةِ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا أَرَأَيْتَ
لَوْ جَاءَ أَجَلُكَ وَأَنْتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مَا كُنْتَ تَصْنَعُ ؟
فَقَالَ: لَوْ جَاءَنِي الْمَوْتُ وَأَنَا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ جَاءَنِي وَأَنَا
فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَكُفُّ بِهَا نَفْسِي وَعِيَالِي عَنْكَ
وَعَنِ النَّاسِ وَإِنَّمَا كُنْتُ أَخَافُ أَنْ لَوْ جَاءَنِي الْمَوْتُ وَأَنَا
عَلَى مَعْصِيَةٍ مِنْ مَعَاصِي اللهِ. فَقُلْتُ. صَدَقْتَ يَرْحَمُكَ اللهُ
أَرَدْتُ أَنْ أَعِظَكَ فَوَعَظْتَنِي. [الكافي:
ج 5 ص 74].
و - قولوا
الحسنى:
وكان
يريد للناس عندما يتحدثون مع الناس ويطلقون كلماتهم أن يفكروا بالكلمة التي
يتكلمون بها مع الآخر، فهل أنت مستعد أن يتكلّم الآخر معك بكلمة مماثلة ؟ فكر
بالكلمة عندما تطلقها اتجاه الآخر.
إنّ
الإمام (ع) يستوحي ذلك من آية قرآنية، قال في قول الله عزّ وجل {وقولا للناس حُسناً } [البقرة:83]. قال (ع): "قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال فيكم".
فكما تحب أن يخاطبك الناس خاطبهم وقل الكلمة التي تحب أن يقولها الناس لك.