الجمعة، 15 مارس 2019

في رحاب الإمام الجواد / المواجهة الخطرة بعد الإمام الرضا

السلام على "هادي الأمة، ووارث الأئمة، وخازن الرحمة، وينبوع الحكمة، وقائد البركة، وعديل القرآن في الطاعة، وواحد الأوصياء في الإخلاص والعبادة. وحجتك العليا، ومثلك الأعلى، وكلمتك الحسنى، الداعي إليك، والدال عليك، الذي نصبته علماً لعبادك، ومترجماً لكتابك، وصادعاً بأمرك، وناصراً لدينك، وحجةً على خلقك، ونوراً تخرق به الظلم، وقدوةً تدرك بها الهداية، وشفيعاً تنال به الجنة..." (مصباح الزائر: ص 396)..

بهذه الكلمات الجميلة يقف الإنسان أمام قبر الإمام الجواد (ع) مستلهماً لغة الفتح الإلهي ليقذف بنفسه وروحه إلى عالم النقاء والحكمة، إلى ركن الإيمان والرحمة...

ولد (ع) في شهر رجب من سنة 195هـ.

وللإمام المهدي (ع) دعاء منسوب له؛ يقرأ في كل يوم من رجب أوله: " اللهم إني أسألك بالمولود في رجب، محمد بن علي الثاني وابنه علي بن محمد المنتجب، وأتقرب بهما إليك خير القرب …"(الصحيفة المهدية، الشيخ ابراهيم الكاشاني، ص 191).

ونتساءل لماذا دعا فقط بهذين الإمامين (ع)، في حين أنَّ أمير المؤمنين والباقر (ع) مولدين في رجب أيضا ولم يقترن اسمهما باسمهما؟

والجواب على هذا التساؤل يقتضي عدة أمور:

1 ـ إنَّ تخصيص بعض الأئمة في بعض الأدعية أو في بعض مقامات الزيارة ليس بشيء جديد أو مستحدث في خصوص الدعاء السابق، بل هناك روايات عديدة تؤكد على ذلك ومنها: الروايات التي تشير إلى فضل زيارة الإمام الرضا (ع)، وأنها أفضل من زيارة الحسين (ع).

كما في رواية علي بن مهزيار قال: "قلت لأبي جعفر (ع): جعلت فداك زيارة الرضا (ع) أفضل أم زيارة أبي عبد الله الحسين (ع)؟
قال: "زيارة أبي أفضل وذلك أن أبا عبد الله (ع) يزوره كل الناس، وأبي لا يزوره إلا الخواص من الشيعة" (تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، 6/18 حديث 165).

فمن خلال هذا الحديث نلاحظ:

أ ـ أن العناية بزيارة الرضا (ع) وفضلها عللت بالبعد والغربة وما فيها أيضا من بدل الأموال الطائلة، فكانت زيارته (ع) تقتصر على الميسورين أو الأبدال من الشيعة.

ب ـ أنَّ أرض خراسان وأكثر مناطق العجم في ذلك الزمان كانوا من المخالفين لأهل البيت (ع)، وأن التشيع ورد إليها بعد عصور بعيدة عن عصور الأئمة (ع).

ج ـ أن ظاهرة الوقف التي استفحلت زمن الرضا (ع) والتي تعتبر أعنف مظاهر الانشقاق إذ أريد منها نسف معتقد الإمامية.. كل ذلك أكدت غربة الإمام (ع) ولأجل إزاحة ستار الغربة أكد الأئمة على زيارته وفضلها.

2 ـ كما نلاحظ أن مثل هذا الفضل ناله أناس أتقياء أبرار إلا أنهم ليسوا من أهل العصمة. فعن محمد بن يحيى العطار، عمن دخل على أبي الحسن علي بن محمد الهادي (ع) من أهل الري قال: "دخلت على أبي الحسن العسكري فقال: أين كنت؟
فقلت: زرت الحسين (ع).
فقال: "أما إنك لو زرت قبر عبد العظيم عندكم لكنت كمن زار الحسين بن علي عليه السلام"( كامل الزيارات، ابن قولويه، ص 324).

3 ـ فاهتمام الإمام المهدي (ع) راجع إلى عدة عوامل:

أ ـ صغر الإمامين الجواد والهادي (ع) فمجموع حياتيهما خمس وخمسون سنة.
ب ـ ترسب ظاهرة الوقف والتي أرادت أن تقضي على إمامة الجواد (ع) في مهدها.
ج ـ تطويق الإمام الجواد (ع) بحيث بقي مراقباً من قبل السلطات العباسية طيلة سبعة عشر عاماً في بغداد. وإرسال الإمام الهادي من قبل المتوكل إلى سامراء حيث كانت آنذاك ثكنة عسكرية للدولة العباسية.       

 

ظروف ولادته (ع):

لقد حفّت ولادة هذا الإمام العظيم محن كثيرة واجهها والده الإمام الرضا (ع) بصبر وجلد حيث كان موقف الكثير من الشيعة هو التوجس من أن يموت الرضا (ع) دون أن يولد له مولود يكون خليفة عنه وهو قد جاوز الأربعين عاماً.

واستغل الطامعون من الواقفية هذا الموقف فوجهوا سهامهم ضد الإمام الرضا (ع) في عدة مقولات:

ý  عن الحسين بن بشار قال: "كتب ابن قياما إلى أبي الحسن (ع) كتاباً يقول فيه: كيف تكون إماماً وليس لك ولد؟ فأجابه أبو الحسن الرضا (ع) شبه المغضب: "وما علمك أنه لا يكون لي ولد والله لا تمضي الأيام والليالي حتى يرزقني الله ولداً ذكراً يفرق بين الحق والباطل" (الكافي، الشيخ الكليني، ج1 ص 320).

ý  وعن ابن قياما نفسه قال: "دخلت على علي بن موسى (ع) فقلت له: أيكون إمامان؟
قال: "لا إلا وأحدهما صامت".
فقلت له: هو ذا أنت ليس لك صامت، ولم يكن ولد له أبو جعفر (ع) بعد.
فقال لي: "والله ليجعلن الله مني ما يثبت به الحق وأهله، ويمحق به الباطل وأهله ..." (الكافي، الشيخ الكليني، ج1 ص 321).


ý  وعن الحسين بن بشار، قال: "استأذنت أنا والحسين بن قياما، على الرضا (ع) في صوبا فأذن لنا، قال: افرغوا من حاجتكم.
قال له الحسين: تخلوا الأرض من أن يكون فيها إمام؟
فقال (ع): لا.
قال: فيكون فيها اثنان؟
قال (ع): لا، إلا واحد صامت لا يتكلم.
قال: فقد علمت أنك لست بإمام.
قال: ومن أين علمت؟
قال: إنه ليس لك ولد، وإنما هي في العقب.
فقال له: "فوالله لا تمضي الأيام والليالي، حتى يولد ذكر من صلبي، يقوم مثل مقامي يحيي الحق ويمحي الباطل" (رجال الكشي: رقم 427).


وما كانت هذه المواقف من الواقفية إلا موقفاً متعنتاً وخاصة أنّ هناك روايات مهدت لولادة الإمام تلويحاً وتصريحاً:

ý  فهذا أبو بصير، وهو من أصحاب الإمام الصادق (ع)، يقول: "دخلت إليه ـ أي الصادق (ع) ـ ومعي غلام خماسي لم يبلغ، فقال لي: كيف أنتم إذا احتج عليكم بمثل سنه [أو قال: سيلي عليكم بمثل سنه]" (الكافي، ج1 ص 383).


ý  وهذا محمد بن سنان، وهو من أصحاب الإمام الكاظم (ع)، يقول: "دخلت على أبي الحسن (ع)، قبل أن يحمل إلى العراق بسنة وعلي ابنه (ع) بين يديه، فقال لي: يا محمد.
فقلت: لبيك.
قال: إنه سيكون في هذه السنة حركة فلا تجزع منها، ثم أطرق ونكت بيده في الأرض ورفع رأسه إلي وهو يقول: {ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء}.
قلت: وما ذاك جعلت فداك؟
قال: من ظلم ابني هذا حقه وجحد إمامته من بعد محمد (ص).
فعلمت أنه قد نعى إلي نفسه، ودل على ابنه، فقلت: والله لئن مد الله في عمري لأسلمنّ له حقه، ولأقرنّ له وأشهد أنه من بعدك حجة الله تعالى على خلقه والداعي إلى دينه.
فقال: يا محمد يمد الله في عمرك وتدعوا إلى إمامته وإمامة من يقوم مقامه من بعده.
فقلت::من ذاك جعلت فداك؟
قال: محمد ابنه.
قال: قلت له: الرضا والتسليم... (الكافي، ج1 ص 319 - الغيبة، الشيخ الطوسي، ص 32).

وبعد فترة من الزمن، يولد للرضا (ع) وليده المبارك الجواد (ع)، ويراه الإمام الرضا (ع)، فيقول لأصحابه فرحاً مسروراً بهذه النعمة الإلهية: " قد ولد شبيه موسى بن عمران، فالق البحار، وشبيه عيسى بن مريم قدست أمٌ ولدته، قد خُلِقت طاهرة مطهرة " (بحار الأنوار، 50/15).

وتنقضي أيامٌ على ولادته المباركة، ويأتي موسم الحج وعمر الإمام خمسة أشهر تقريباً فيقرر الإمام الرضا (ع) أن يحج إلى بيت الله الحرام وأخذ معه ابنه العزيز، وما كان للإمام إن يفعل ذلك لولا إن رأى ضرورة في ذلك وهو رفع الشبهة عن قلوب الشاكين، ويعرفهم عن قرب ابنه وخليفته من بعده وخاصة أن عمر الإمام (ع) ناهز الخامسة والأربعين من عمره.

ولكن هل زالت الشكوك فعلاً؟

وهل ارتفع الريب؟

كلا .. بل زادت الشكوك والظنون، وكثر الارتياب، وخاصة في أهل بيته، فقد كان المولود شديد السمرة، بينما كان الرضا (ع) على عكس ذلك، فداخلهم الشك والريبة في نسبة هذا المولود لأبيه.

يقول علي بن جعفر العريضي في شأن هذه القضية:

"قال له أخوته ونحن أيضا: ما كان فينا إمام قط حائل اللون (أي متغير اللون أو أسود).
فقال لهم الرضا (ع): هو ابني.
قالوا: فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قضى بالقافة(أي الذين يعرفون الآثار والأشباه ويحكمون بالنسب) فبيننا وبينك القافة.
قال: ابعثوا أنتم إليهم فأما أنا فلا، ولا تعلموهم لما دعوتموهم ولتكونوا في بيوتكم.
فلما جاءوا أقعدونا في البستان، واصطف عمومته وإخوته وأخواته، وأخذوا الرضا (ع) وألبسوه جبة صوف وقلنسوة منها، ووضعوا على عنقه مسحاة، وقالوا له: ادخل البستان كأنك تعمل فيه.
ثم جاءوا بأبي جعفر (ع) فقالوا: ألحقوا هذا الغلام بأبيه.
فقالوا: ليس له هاهنا أب ولكن هذا عم أبيه، وهذا عم أبيه وهذا عمه، وهذه عمته، وإن يكن له هاهنا أب فهو صاحب البستان، فإن قدميه وقدميه واحدة.
فلما رجع أبو الحسن (ع) قالوا: هذا أبوه.
قال علي بن جعفر: فقمت فمصصت ريق أبي جعفر (ع)، ثم قلت له: أشهد أنك إمامي عند الله..." (الكافي، 1/322).

وعاش الإمام الجواد (ع) بصحبة والده. وما كان طفولته إلا برنامجاً عملياً للهدف الأكبر بعيداً عن اللهو واللعب.

يقول علي بن حسان الواسطي: حملت معي إليه (للإمام الجواد) من الآلة التي للصبيان بعصا من فضة، وقلت أتحف مولاي أبا جعفر (ع)..، فدخلت وسلمت فردّ عليّ السلام، وفي وجهه الكراهة. ولم يأمرني بالجلوس. فدنوت منه، وفرغت ما كان في كمي بين يديه. فنظر إلي نظرة مغضب، ثم رمى يميناً وشمالاً، ثم قال: ما لهذا خلقني الله، ما أنا واللعب؟!
فاستعفيته، فعفا عني، فخرجت (بحار الأنوار، 50/57).

وكان والده (ع) يبجله ويعظمه، فلا يناديه إلا بالكنية.

عن أبي الحسين بن محمد بن أبي عباد كاتب الرضا (ع): ما كان عليه السلام يذكر محمداً ابنه إلا بكنيته يقول: كتب إليّ أبو جعفر (ع) وكنت أكتب إلى أبي جعفر (ع) وهو صبي بالمدينة، فيخاطبه بالتعظيم ... (عيون الأخبار، الصدوق، 2/240).

ولقد أكد الرضا (ع) على إمامة ولده في أكثر من أربعين موطناً ليكون بذلك إعلاناً قاطعاً واضحاً للشيعة بأن محمد الجواد (ع) هو الإمام المفترض طاعته بعد الإمام الرضا (ع).

وسمعه على ذلك جمع من أصحابه ورواته، منهم:

معمر بن خلاد، وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، والحسن بن الجهم، وأبو يحيى الصنعاني، وصفوان بن يحيى، وإسماعيل بن إبراهيم، ومحمد بن سنان، ومحمد بن عيسى، وأبو محمد المحمودي، والحسين بن بشار، وعلي بن مهزيار، وبنان بن نافع، وكلثم بن عمران، وزكريا بن آدم، ومحمد بن علي بن جعفر، وحنان بن سدير، ومحمد بن بزيع … وغيرهم.

وبعد هذا .. هل توقفت تلكم التشكيكات والاطرابات في أذهان الشيعة؟!

يقول الطبري الإمامي: "ولما بلغ عمره ست سنين وشهور، قتل المأمون أباه وبقيت الطائفة في حيرة. واختلفت الكلمة بين الناس، واستصغر سن أبي جعفر، وتحير الشيعة في سائر الأمصار" (دلائل الإمامة، ابن رستم الطبري، ص 204).

ولم تكن هذه الشبهة مصدرها أوهام العامة من الشيعة بل كانت هذه الشبهة تدور في عقول فحول العلماء آنذاك.

فصفوان بن يحيى البجلي، وهو من أجلة أصحاب الأئمة (ع)، لا يتعقل أن يكون إمام المسلمين طفلاً صغيراً. حيث يقول صفوان: "قلت للرضا (ع): قد كنا نسألك قبل أن يهبك الله أبا جعفر (ع) فكنت تقول يهب الله لي غلاماً، فقد وهبه الله لك، فأقر عيوننا، فلا أرانا الله يومك فإن كان كون فإلى من؟
فأشار بيده إلى أبي جعفر (ع) وهو قائم بين يديه.
فقلت جعلت فداك هذا ابن ثلاث سنين؟!
فقال: "وما يضره من ذلك فقد قام عيسى (ع) بالحجة وهو ابن ثلاث سنين" (الكافي، 1/321).

ولقد تأجج الموقف وتصاعد في الاجتماع الذي عقده مجموعة من خيرة أصحاب الأئمة وفضلاء الشيعة في منزل عبد الرحمن بن الحجاج في (بركة زلزل) للتباحث والتشاور في أمر الإمامة بعد وفاة الرضا (ع)، وكان يونس بن عبد الرحمن رأس المشككين والمرتابين في إمامة الجواد (ع) حيث قال: "دعوا البكاء، من لهذا الأمر؟ وإلى من نقصد بالمسائل إلى أن يكبر هذا؟، يعني أبا جعفر (ع).

فقام إليه الريان بن الصلت، ووضع يده في حلقه، ولم يزل يلطمه ويقول له: أنت تظهر الإيمان لنا، وتبطن الشك والشرك، إن كان أمره من الله، فلو أنه كان ابن يوم واحد، لكان بمنزلة الشيخ وقوته، وإن لم يكن من عند الله فلو عمر ألف سنة فهو واحد من الناس. هذا مما ينبغي إن يفكر فيه؟

فأقبلت الشيعة عليه تعذله وتوبخه (بحار الأنوار، 50/99).

وهذا الحدث يبين لنا مدى القلق الذي انتاب خير الأصحاب. ويزيد الأمر سوءاً واضطراباً اتجاه مجموعة من الشيعة إلى القول بإمامة أحمد بن موسى بن جعفر. حيث استصغروا الجواد، وقالوا: لا يجوز الإمام إلا بالغاً.

يقول النوبختي: "وكان سبب الفرقتين اللتين ائتمت واحدة منهما بأحمد بن موسى، ورجعت الأخرى إلى القول بالوقف: أن أبا الحسن الرضا (ع) توفي، وابنه محمد ابن سبع سنين، فاستصبوه، واستصغروه، وقالوا: لا يجوز الإمام إلا بالغاً" (فرق الشيعة، النوبختي، ص 97).

ولكن كل تلك الشكوك والريب تناثرت، وتبخرت، ورجعت الشيعة إلى القول بإمامة الجواد (ع) وذلك لعدة أسباب:

1 ـ طرح الأسئلة الكثيرة عليه ليقف الناس على مقدار علمه ومعرفته، حتى ليقول النص: " استأذن على أبي جعفر (ع) قوم من أهل النواحي، من الشيعة، فأذن لهم، فدخلوا. فسألوه في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة، فأجاب، وله عشر سنين " (الكافي، 1/496. والرواية حسنة أو صحيحة.. ولا نستبعد أن يكون هذا العدد فيه شيء من المبالغة لإظهار نسبة الكثرة هنا. وأما المجلس الواحد فالظاهر أن القوم أخذوا يسألون الإمام (ع) مدة من الزمان في محل واحد لم يتحولوا عنه إلى غيره، ولربما كانت المدة أياما).

وفي موسم الحج: " اجتمع من فقهاء بغداد والأمصار وعلمائهم ثمانون رجلاً، فخرجوا إلى الحج، وقصدوا المدينة ليشاهدوا أبا جعفر، ...". ثم تذكر الرواية ما أوردوا عليه من مسائل وأمور لاستكشاف حقيقة إمامته (بحار الأنوار 50/99).

2 ـ دفاع مجموعة من أهل بيته وذويه عنه، وعلى رأسهم عم أبيه علي بن جعفر (ع).

فعن محمد بن الحسن بن عمار قال: "كنت عند علي بن جعفر بن محمد جالساً بالمدينة، وكنت أقمت عنده سنتين أكتب عنه ما يسمع من أخيه، إذ دخل عليه أبو جعفر محمد بن علي الرضا (ع) المسجد، فوثب علي بن جعفر بلا حذاء ولا رداء، فقبل يده وعظمه.
فقال له أبو جعفر (ع): يا عم اجلس رحمك الله.
فقال: يا سيدي كيف أجلس وأنت قائم.
فلما رجع علي بن جعفر إلى مجلسه، جعل أصحابه يوبخونه ويقولون: أنت عم أبيه، وأنت تفعل به هذا الفعل؟
فقال: اسكتوا إذا كان الله عز وجل –وقبض على لحيته- لم يؤهل هذه الشيبة، وأهلّ هذا الفتى، ووضعه حيث وضعه، أنكر فضله؟! نعوذ بالله مما تقولون، بل أنا له عبد" (الكافي 1/322).

3 ـ نشر بعض أجلاء أصحاب ما سمعوا من أبيه (ع) في النص على خلافته وإمامته للمسلمين. كالحسن بن الجهم، وصفوان بن يحيى، ومحمد بن سنان، وأحمد بن أبي نصر البزنطي، ويحيى بن حبيب الزيات، وغيرهم.

4 ـ كراماته ومناقبه وفضائله التي جرت على يديه (ع) واشتهرت عند الأصحاب وحدث بها: إبراهيم بن هاشم القمي، ومحمد بن علي الهاشمي، والمعلى بن محمد، وداود بن القاسم الجعفري، وأمية بن علي، والحسين بن أحمد التميمي، ومحمد بن حمزة الهاشمي، والريان بن الصلت، وصفوان بن يحيى، وعبد الرحمن بن الحجاج، وغيرهم.

5 ـ المناظرات والمجالس المشهورة والتي عقدت للإمام (ع) مع أصحاب المذاهب الأخرى. وكانت تلك المجالس تعقد في بلاط الخليفة العباسي المأمون، وكان عددها تزيد على عشرة مجالس وفيها عجز الفقهاء والعلماء أن يتغلبوا على الجواد (ع).
وينتشر صيت الغلام المبارك، ويعلي الله ببركته راية الإمامية، ويتحقق بذلك مقولة والده الإمام (ع): " هذا المولود الذي لم يولد مولود أعظم على شيعتنا بركة منه" (روضة الواعظين، ابن الفتال، ص 203).

لقد أراد الإمام الرضا (ع) بهذه الكلمة الوجيزة أن يذكرنا بما سيقاسيه ولده من مواقف مؤلمة. وبولادته أيضا انقطع كذب الواقفية، وفندت أباطيلهم وزيفهم، وأعادت بولادته الحياة إلى هيكل الإمامة، وارتفعت معنويات الشيعة به.

وربما تكون هذه البركة لأنّ الله عز وجل سربله بسربال الإمامة وهو صغير السن، فأقامه معجزة في ذلك العصر الذي يعتبر بحق عصر الازدهار العلمي والفلسفي والكلامي، {هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه}.

الروافد العملية في حياة الجواد (ع):
أولاً: نشر العلوم:
لقد اتخذ الإمام الجواد (ع) المدينة المنورة مركزاً لنشر علوم أهل البيت (ع) حتى السنة التي توفي فيها أبوه الإمام الرضا (ع) سنة 203هـ.

فكان أصحاب أبيه وتلامذته، يقصدونه لأخذ العلم من تحت منبره.
ثم انتقل إلى بغداد بطلب من الخلية العباسي المأمون، وأنزله بالقرب من داره، وزوجه ابنته أم الفضل.

يقول المؤرخ ابن طيفور البغدادي: "خرج أمير المؤمنين من الشماسية إلى البردان يوم الخميس، صلاة الظهر، لستٍ بقين من المحرم، سنة خمس عشرة ومائتين، وهو اليوم الرابع والعشرين من آذار. ثم سار حتى أتى تكريت. وفيها قدم محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب من المدينة، في صفر ليلة الجمعة..

فخرج من بغداد حتى لقي أمير المؤمنين بتكريت، فأجازه، وأمره أن يدخل عليه امرأته، ابنة أمير المؤمنين، فأدخلت عليه في دار أحمد بن يوسف، التي على شاطئ دجلة، فأقام بها، فلما كان أيام الحج خرج بأهله وعياله، حتى أتى مكة، ثم أتى منزله بالمدينة، فأقام به.." (بغداد، ابن طيفور، ص 142 - التاريخ الذي ذكره ابن طيفور في سنة استقدام الإمام لا نطمئن له لأمور:
1 ـ أن الإمام (ع) عقد له على أم الفضل في زمن والده (ع).
2 ـ عجلة المأمون في أمر استقدامه من المدينة إلى بغداد.
3 ـ احتال المأمون على الإمام (ع) بكل حيلة قبل أن يسلم إليه ابنته، الأمر الذي يعني أن ذلك يحتاج إلي  شيء من الوقت من أجل تنفيذه.
4 ـ إن محاولة إبقاء الإمام في بغداد لسوف تكون مفيدة للمأمون، بحيث يجعل الإمام تحت رقابته، وسهل معها رصد تحركاته ومواقفه).


وبقي (ع) في بغداد يمارس نشاطه فيها تعليماً، وإفتاءاً، ورعايةً لشؤون الشيعة حتى سنة 220هـ، وهي سنة وفاته.

ولقد لعب صغر سن الإمام (ع) دوره في كثرة ظهور مجالس المناظرات، فقد ضاق العباسيون ذرعاً مما كان ينقله لهم ولاتهم، وعيونهم، في البلدان التي يكثر فيها الشيعة، من أبناء ظهور المذاهب، وانتشاره رويداً رويداً في الأصقاع بسبب كثرة الرواة، والفقهاء من اتباع مدرسة أهل البيت (ع)، وانتشارهم للدعوة في البلاد الإسلامية.

فكان المأمون يريد أن يلعب مع الإمام الجواد (ع) نفس اللعبة التي لعبها مع الإمام الرضا (ع)، فـ " كان يجلب على الإمام (ع) من متكلمي الفرق، وأهل الأهواء المضلة كل من سمع به، حرصاً على انقطاع الرضا (ع) عن الحجة مع واحد منهم" (عيون الأخبار، ج1 ص 191).

ويقول أبو الصلت: "جلب عليه المتكلمين من البلدان، طمعاً في أن يقطعه واحد منهم، فيسقط محله عند العلماء، وبسببهم يشتهر نقصه عند العامة، ..." (عيون الأخبار، ج2 ص 128).

ولكن هذه المحاولات باءت كلها بفشل ذريع، حيث تهاوى أمامه فطاحل الفقهاء والعلماء آنذاك، مما أربك المأمون وجعله يجتر فضائله المتتالية.

ومع كل هذا الحصار، فقد حضر تحت يديه ما يقرب من سبعة وخمسين ومائتين طالب علم، ينهلون من فكره ومن معينه الخصب.

فبعضهم كان يكتب ما يدونه الإمام (ع) ويمليه على تلامذة، كما هو حال أحمد بن عبد الله بن عيسى القمي، حيث روى نسخة عن الإمام الجواد (ع) (رجال النجاشي، 1/252، رقم 250).

وبعضهم كان يؤلف ويصنف الكتب وعدد المؤلفين من تلامذته ثمانية وثلاثون مؤلفاً، وكان بعضهم مكثراً .. ومن هؤلاء:
  ·  أحمد بن محمد بن خالد البرقي، ألف 100 كتاب.
  ·  الحسين بن سعيد الأهوازي، ألف 30 كتابا.
  ·  علي بن مهزيار، ألف 33 كتابا.
  ·  صفوان بن يحيى البجلي، ألف 30 كتابا.
  ·  الفضل بن شاذان، ألف 180 كتابا.
  ·  محمد بن أبي عمير، ألف 90 كتابا.

التوسع والاستقطاب:


أراد الإمام الجواد (ع) لمدرسة أهل البيت أن تأخذ أبعاداً واسعةً، وتلتقي أفقها في أذهان المسلمين، الذين خدرتهم أجهزة الإعلام المضاد لفكر أهل البيت (ع).

فكان على القيادة أن تقوم بالتوسع الجماهيري، والانتشار في ساحات جديدة، واستقطاب شخصيات جديدة ذات كفاءات عالية إلى هذا التجمع.

 ولم تكن مدرسته الفكرية خاضعة لمريديه فقط، بل تأثرت مجموعات أخرى بعلمه وفكره، ومنهم:
1 ـ أبو عبد الله الخرساني، وكان مخالفاً.
2 ـ محمد بن الحسن بن شمون، وكان واقفياً.
3 ـ القاسم بن عبد الرحمن، وكان زيدياً.
4 ـ علي بن خالد، وكان زيدياً.
5 ـ علي بن أسباط، وكان فطحياً.
6 ـ إبراهيم بن محمد الهمداني، وكان مخالفاً.
... وغيرهم.

محاربة الانحرافات الفكرية:

كان التسلل إلى مستوى القواعد هو دأب أعداء أهل البيت في عصر كل إمام، ولقد واجه الإمام الجواد (ع) نوعين من الأعداء في هذا المجال:

1 ـ أعداء مخالفون لخط الولاية:

وهم المتمثلون في علماء البلاط العباسي، وعلى رأسهم أحمد بن أبي دؤاد القاضي، الذي واجه الإمام (ع) في أكثر من موقف، كشف فيها الإمام (ع) جهل هذا القاضي، وتلاعبه بالشريعة لأجل مصالح الدولة العباسية، حتى لو أدى ذلك إلى قتل الأبرياء، أو إقامة الحدود في غير موطنها الشرعي.

ومن هذه المجالس المشهودة: أن مجموعة قبضت عليهم بتهمة أنهم يقطعون على الحجاج السابلة، فأفتى ابن أبي دؤاد بقتلهم، لقوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا ...}.

ووجّه الخليفة المعتصم الفتوى إلى الإمام (ع)، فقال (ع): "إنهم قد أضلوا فيما أفتوا به، والذي يجب أن ينظر في هؤلاء الذين قطعوا الطريق، فإن كانوا أخافوا السبيل فقط، ولم يقتلوا أحدا، ولم يأخذوا مالا، بإيداعهم الحبس. وإن كانوا أخافوا السبيل، وقتلوا النفس، وخذوا المال، أمر بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبهم بعد ذلك ...".

وكان (ع) يعلم خطر هذه الفئة، وإن كانت ظاهرة للعيان في عدائها لخط أهل البيت، إلا أنه لابد من معرفة ما يدور في كواليسهم من مخططات وتدبيرات، فوظّف (ع) محمد بن أحمد بن حماد المحمودي وجعله عيناً له عليهم، ويحضر مجالسهم، ويتعرف على ما يدبرونه من أمور.

2 ـ أعداء متلبسون بخط الولاية:

وتتمثل هذه الفئة في المنحرفين المندسين بين طلبة الإمام (ع) وأصحابه، أمثال: جعفر بن واقد، وهاشم بن أبي هاشم، الحسن بن علي بن أبي عثمان (سجادة)، عمر بن الفرج الرخجي، محمد بن عبد الله بن مهران الكرخي، محمد بن الفضل الصيرفي وغيرهم.

وكان جعفر بن واقد، وهاشم بن أبي هاشم من أشد هؤلاء حيث لعنهما الإمام، وتبرأ منهما، بل أهدر دمهما، وأمر إسحاق الأنباري بقتلهما، لأنهما كانا يتظاهرا للناس أنهما يدعوان إلى مذهب أهل البيت، ولكنهما يدسان في الأحاديث.

عن علي بن مهزيار قال: سمعت أبا جعفر الثاني (ع) يقول وقد ذكر عنده أبو الخطاب: لعن الله أبا الخطاب، و لعن أصحابه، ولعن الشاكين في لعنه، ولعن من قد وقف في ذلك وشك فيه.
ثم قال: هذا أبو الغمر، وجعفر بن واقد، وهاشم بن أبي هاشم، استأكلوا بنا الناس، فصاروا دعاة، يدعون الناس إلى ما دعا إليه أبو الخطاب لعنه الله ولعنهم معه، ولعن من قَبِل ذلك منهم، يا علي لا تتحرجن من لعنهم لعنهم الله فان الله قد لعنهم، ..." (رجال الكشي، رقم: 1012).

وعن إسحاق الأنباري قال: "قال لي أبو جعفر الثاني (ع): ما فعل أبو السمهري لعنه الله؟ يكذب علينا، ويزعم انه وابن أبي الزرقاء دعاة إلينا، أشهدكم أني أبرأ إلى الله عز وجل منهما، إنهما فتانان ملعونان. يا إسحاق، أرحني منها يرح الله نفسك في الجنة.
فقلت له: جعلت فداك يحل قتلها؟
فقال: انهما فتانان فيفتنان الناس، ويعملان في خيط رقبتي ورقبة موالي، فدمهما هدر للمسلمين، وإياك والفتك، فإن الإسلام قد قيد الفتك، وأشفق إن قتلته ظاهرا أن تسأل: لم قتلته، ولا تجد السبيل إلى تثبيت حجته …" (رجال الكشي، رقم 1013).

وكان (ع) يأمر تلاميذه بأن يكتبوا ردوداً على بعض أصحاب الأفكار المبتدعة، وكما هو الحال في تلميذه علي بن مهزيار، الذي ألف كتاباً، يردّ فيه على علي بن أسباط الفطحي.

محرم 1447 في الصحافة الكويتية