الاثنين، 22 أبريل 2019



** اليوم العالمي للكتاب / القراءة ليست هواية **


ما اللغة؟ كيف نتعامل معها؟ كيف حدثت اللغة؟ أسئلة كبرى من قبيل أسئلة الخلق وكيف بدأ والإنسان وكيف عقل.

في الأصل كانت اللغة مجرد قدرة على إنتاج الأصوات ولهذا كانت في الأصل لغوًا. لم يكن البشر الأول من الناحية الفيزيولوجية قادراً على التواصل الرمزي المعقد ولكنه كان من غير شك قادراً على الصراخ والتصويت.

وتشير الحفريات إلى أنَّ بشر النياندرتال الموجود قبل الإنسان الحالي أو الآدمي لم يكن قادراً على التواصل بنظام رمزي فعَّال ومنظَّم، وربما كان هذا سبب انقراضه؛ حيث تعلل الدراسات الحفرية والأنثروبولوجية انقراض البشر السابق على الإنسان الحالي بعجزه عن التواصل اللغوي، والجميل أنَّ ابن حزم الأندلسي، يؤكد التلازم بين الوجود أو البقاء واللغة، فالعجز عن الكلام يؤدي بالضرورة لدى ابن حزم إلى العجز عن البقاء، (راجع: الإحكام في أصول الأحكام: ج ١ ص ٣٠) مع أنه بالتأكيد كان قادراً على الإشارة، وهي نوع من البيان بتعبير الجاحظ أو بتعبير العلماء ذوي النزعة التطورية.

ولعل من المنطقي أن تكون رحلة الإنسان مع اللغة قد بدأت منذ فترة بعيدة وانتقلت من مرحلة إلى أخرى في اتجاه تصاعدي متطور وتعليم الله، سبحانه، الإنسان البيان أو الإعراب لا يمكن النظر إليه على أنه تعليم وقع مرة واحدة؛ لأنَّ هذا الفهم يسقط مفهوم الخلق الكامل لآدم على قدرة آدم على التواصل باللغة.

إنَّ افتراض وقوع عملية الخلق خارج إطار التطور؛ (بمعناه القرآني وليس بالضرورة بمعناه الدارويني) تسمح باستنتاج مبسط لعملية التواصل اللغوي وهو أنَّ كمال الخلق يقتضي كمال صفات المخلوق كما نعرفها الآن من قدرة على التفكير والتواصل اللغوي...

وتعد الكتابة أهم اختراعات الإنسان على الإطلاق. ثم كانت الطباعة نقلة نوعية هائلة فى الأدوات المعرفية للإنسان؛ ومن هنا نشأت العلاقة بين الإنسان والكتاب وتطورت واتخذت شكلاً حميميًا لم ينشأ بين الإنسان وأى من اختراعاته الأخرى.

وعلى الرغم من تطور الأدوات المعرفية ، السمعية والبصرية التى اخترعها الإنسان، فإن الكتاب يظل صاحب الحظوة فى علاقته الخاصة بالإنسان لأنه يصحبه فى أي مكان، ولأنه يترك لخياله مراحًا مناسبًا من ناحية أخرى. ولكن العلاقة بين الإنسان والكتاب في العالم العربي تشهد حاليًا تراجعاً مخيفاً يوازيه تراجع مخيف فى مستوى الوعى العام وفى مستوى البناء المعرفي لدى الفرد.

وهذه الدراسة تحاول رصد الظاهرة وتفسير بعض جوانبها من خلال قراءة ما جرى. ولنبدأ القصة من أولها

هل القراءة هواية؟

لطالما كتب الكثير من التربويين عن القراءة وأهميتها وفوائدها، لكن أرى أن كتاباتنا السابقة لم تتعمق كثيراً في أهمية القراءة، فهناك مفاهيم أعمق مما يطرح يجب أن نتناولها، وهناك مفاهيم يجب أن تصحح، هذا ما أراه حسب وجهة نظري، والقراءة والكتاب والثقافة والتقدم والتطور أمور متلازمة ومفاهيم مترابطة، لذلك علينا أن لا نمل من التطرق لمثل هذه المواضيع بحجة التكرار، وعلينا أن لا نمل من طرحها لأننا نعاني من ظاهرة شح القراءة في مختلف شرائح المجتمع..

وقد ذكرت مجلة البيان الإماراتية هذا التقرير:

1-   كل 80 مواطناً عربياً يقرأون كتاباً واحداً في السنة. في المقابل، يقرأ المواطن الأوروبي نحو 35 كتاباً في السنة.
2-   يأتي دافع القراءة للترفيه أولاً بالنسبة للدول العربية بنسبة 46 %، بينما لا يبلغ دافع التماس المعلومات إلا 26 % فقط.
3-   العربي يقرأ بمعدل 6 دقائق سنوياً بينما يقرأ الأوروبي بمعدّل 200 ساعة سنوياً.
4-   معدل النشر في الدول العربية سنوياً حوالي 6500 كتاب، بينما يصل 102000 كتاب في أميركا الشمالية و42000 كتاب في أميركا اللاتينية والكاريبي.
5-   إصدارات كتب الثقافة العامة في العالم العربي لا تتجاوز الـ5000 عنوان سنوياً، وفي أميركا حوالي 300 ألف كتاب.
6-   النسخ المطبوعة من كل كتاب عربي تقارب 1000 أو 2000 وفي أميركا 50 ألف نسخة.
7-   يُترجَم سنوياً في العالم العربي خُمس ما يُترجَم في دولة اليونان الصغيرة، والحصيلة الكلية لما تُرجم إلى العربية منذ عصر الخليفة العبّاسي المأمون إلى العصر الحالي تقارب الـ10000 كتاب، وهذا العدد يساوي ما تترجمه إسبانيا في سنة واحدة.
8-   في النصف الأول من ثمانينيات القرن العشرين كان متوسط الكتب المترجمة لكل مليون مواطن عربي، على مدى خمس سنوات، هو 4.4 كتب (أقل من كتاب لكل مليون عربي في السنة) وفي هنغاريا كان الرقم 519 كتاباً لكل مليون، وفي إسبانيا 920 كتاباً لكل مليون.
9-   تبلغ مبيعات الكتب إجمالاً في كل أنحاء العالم 88 مليار دولار، وفي الولايات المتحدة الأميركية 30 مليار دولار و10 مليارات دولار في اليابان، و9 مليارات دولار في بريطانيا، ويصل نصيب العالم العربي 1% من الرقم الإجمالي للمبيعات.

عندما كنا نسأل عن هواياتنا، كنا نجيب بعدة إجابات ومن ضمنها القراءة، ولا أدري هل فعلاً نحن نقرأ بشكل مستمر وجاد حتى ندرج القراءة ضمن قائمة الهوايات؟

أم أنّ قراءة الجرائد وملاحقها الرياضية والفنية وقراءة مجلات ... نعتبرها قراءة؟
ثم هل القراءة تعتبر هواية؟

دعوني أضجركم قليلاً وأقول: هل التنفس ضمن قائمة هواياتنا؟!

إنّه سؤال غريب، أدرك ذلك تماماً!

ماذا لو سمعنا أحدهم يقول: هوايتي المفضلة هي الأكل؟!

سنضحك ونأخذ منه هذه الكلمات على أنها نكتة طريفة يريد بها أن يؤنسنا في هذا الزمان النكد أو حقيقة طريفة خصوصاً إن كان من أصحاب الأجسام الممتلئة!

بالتأكيد ستستغربون هذه الفلسفة، لماذا؟ لأنّ هذه الأمور عادات أو أفعال ضرورية طبيعية لكل إنسان ولكل كائن آخر.

وكذلك هي القراءة، أرى أنها أمر ضروري لكل إنسان تماماً كالتنفس والأكل لا غنى عنها، والقراءة أمر يتميز به الإنسان عن باقي المخلوقات ولذلك أرى أن القراءة ليست هواية أبداً.

ومن الأمور الأخرى التي يجب أن نتعمق في طرحها، هي مسألة غرس حب المعرفة في نفوسنا وفي أبنائنا، فحب المعرفة والاستطلاع والفضول العلمي والبحث والاستقراء والاستنتاج، من العادات المفيدة التي يجب غرسها في المجتمع وإحلالها محل عادات أخرى سلبية.

ولأنّ القراءة إحدى وسائل المعرفة والعلم، فمن الطبيعي أن نرى المجتمع يقبل على القراءة ما دام حب المعرفة قد غرس فيه، وإذا ما وضعنا المعرفة في مرتبة قصوى، بعد الغناء والحفلات والمظاهر والأسواق و.... الخ، فمعنى ذلك أننا ألغينا حب المعرفة تماماً من حياتنا وصارت حياتنا سلسلة من الأمور التافهة والنتيجة النهائية تساوي إنسان يعيش على هامش إنسانيته.

هل تعلمون أنني قد أضطر للذهاب مع أحد أفراد عائلتي لمكان يستوجب فيه الانتظار، كالمستشفى وغيره، فآخذ معي كتاباً للقراءة، فيكون الأمر غريباً لأنهم لم يعتادوا على أن يكون مناخنا هكذا، بينما اعتادوا أن يروا الأوربيين يقرئون في كل مكان .. ولذا فإنّ سياستي مع أطفالي تقتصر: لا ميزانية عندي للمعرفة اشتروا ما شئتم من الكتب مهما كان سعر الكتاب، وأما بالنسبة لمجالات الترفيه فلا بدّ أن تقنعوني بجدوى شرائها.

الأمر طبعاً ليس بهذه السهولة، أعني غرس حب المعرفة، لأنّ تراكم العادات السلبية على مرّ السنين يحتاج إلى سنين طويلة لتغييرها، وكذلك غرس العادات الإيجابية يحتاج إلى مجهود منظم ومخطط يسير وفق أهداف محددة، وهذا ما نفتقده في الكثير من الجهود التي تهدف إلى غرس قيم إيجابية في المجتمع.

ولو نظرنا بنظرة شمولية لواقع وأسلوب الحياة عند أهم فئة من المجتمع وهي الشباب، سنرى مظاهر عديدة سلبية وإيجابية: الإيجابي منها هي وجود القدرة لدى الشباب في تغيير الوضع إلى الأفضل.

أقول هنا: وجود القدرة، لكن أين الإرادة؟

نحن نفتقد للإرادة بسبب السلبية والأنانية، الكل ينتظر الكل حتى يصلح أمراً ما، أو يزيل عائقاً ما، قد نكتب ونتحدث عن السلبيات لكن أين الفعل الإيجابي الذي يجب أن يقوم به كل فرد تجاه المشكلة أو السلبية؟

تقولون: وما علاقة هذا بموضوع القراءة؟

أقول: بأنّ الفعل الإيجابي تجاه أي مشكلة سيؤدي إلى حل هذه المشكلة ولو كان هذا الفعل صغيراً، وبتراكم المبادرات والأفعال الإيجابية سنصل إلى حل مشاكلنا، مثلاً، بمقدور كل مجموعة من الشباب سواء كانوا في المدرسة أو الجامعة أن يشكلوا جماعة للمكتبة أو للقراءة، ومن ثم يقوموا بعمل أنشطة تسير في اتجاه تشجيع القراءة وحب الاستزادة من العلم والثقافة.

استطاعة كل شاب أن يساهم في تكوين مكتبة على مستوى المنزل أو الحي أو المسجد، في استطاعة كل فرد منا تشجيع الآخرين على القراءة بإهدائهم الكتب أو حتى بتعريفهم بعناوين الكتب.

أشكال الفعل الإيجابي تجاه هذه القضية تتنوع وتتفرع ولو حاولنا أن نذكرها فلن تنتهي لأنّ المجال في هذا واسع والآفاق رحبة، وكل شخص يستطيع أن يبدع في خدمة هذا الهدف، غرس حب المعرفة في مجموعة محددة من المجتمع.

فالقراءة أمر ضروري ولا نستطيع أن نعتبرها هواية نمارسها متى نشاء، بل هي عادة نمارسها يومياً وبشكل تلقائي، وغرس حب المعرفة عامل مساعد على حب القراءة، لأنّ القراءة وسيلة من وسائل اكتساب المعرفة، وحتى نغرس حب المعرفة في المجتمع علينا أن نحاول ونبادر بأفعال إيجابية تجاه خدمة هذا الهدف.

وينبغي أن نلفت إلى أهمية دور الأم في هذا الاتجاه، فأنّ الأم المثقفة حصن حصين من الصعب اختراق ثغوره، وأنّ المرأة التي تكون مديرة لأخطر مؤسسة اجتماعية في الحياة، وهي الأسرة إن كانت متعلمة ومثقفة ثقافة العصر استطاعت أن تنجب أبناء صالحين، ولنعم ما عبرّ به الفيلسوف روسو في مقولته الرائعة في هذا المجال، حيث يقول: "إذا أردت رجالاً فضلاء فعلموا المرأة العلم والفضيلة".

السبت، 20 أبريل 2019



** كلمة مختصرة في تكريم جماعة الخط

العربي بالقطيف سنة 1430 **


في الرواية المعتبرة عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) قال: قال أمير المؤمنين (ع): "إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ" [الكافي: 6/ 438].

وعن أمير المؤمنين (ع) قال لكاتبه عبيد الله بن أبي رافِع: "أَلِقْ دَوَاتَكَ، وَأَطِلْ جِلْفَةَ قَلَمِكَ، وَفَرِّجْ بَيْنَ السُّطُورِ، وَقَرْمِطْ بَيْنَ الْحُرُوفِ، فَإِنَّهُ لَكَ أَجْدَرُ بِصَبَاحَةِ الْخَطِّ" [قصار الحكم: 315].

أَلِقْ دَوَاتَكَ: أي أصلح مدادها.

وَأَطِلْ جِلْفَةَ قَلَمِكَ: الجلفة بكسر الجيم فتحة القلم التي بها يستمد المداد.

وَفَرِّجْ بَيْنَ السُّطُورِ: وسع بينها.

وَقَرْمِطْ بَيْنَ الْحُرُوفِ: ضيق بينها.

بِصَبَاحَةِ الْخَطِّ: صباحة الشيء جماله.

وهكذا كان الإمام، يتفقد العمال وعمال العمال، ويراقب حركاتهم الكبيرة منها والصغيرة، وينصح ويرشد.

وقال (ص): "الخط الحسن يزيد الحق وضوحاً".

وعنه (ص): "الخط الحسن للإمام جمال وللغني كمال وللفقير مال".

وعن أحمد بن إسحاق قال: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ (العسكري) (ع) فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِأَنْظُرَ إِلَى خَطِّهِ فَأَعْرِفَهُ إِذَا وَرَدَ.
فقال: "نَعَمْ".
ثم قال: "يَا أَحْمَدُ إِنَّ الْخَطَّ سَيَخْتَلِفُ عَلَيْكَ مِنْ بَيْنِ الْقَلَمِ الْغَلِيظِ إِلَى الْقَلَمِ الدَّقِيقِ فَلَا تَشُكَّنَّ".
ثُمَّ دَعَا بِالدَّوَاةِ فَكَتَبَ، وَجَعَلَ يَسْتَمِدُّ إِلَى مَجْرَى الدَّوَاةِ،.. فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْكِتَابَةِ أَقْبَلَ يُحَدِّثُنِي وَهُوَ يَمْسَحُ الْقَلَمَ بِمِنْدِيلِ الدَّوَاةِ سَاعَةً [الكافي: ج 1 ص 514]

ولقد قدم أبو حيان نصائح اختيار تحضير القصبة فيقول: "ليكن قلمك صلباً بين الدقة والغلط، ولا تبره عند عقدة فإنَّ فيه تعقيد الأمور، ولا تكتب بقلم ملتو وذي شق غير مستو، فان أعوزك الفارسي والبحري واضطررت إلى الأقلام النبطية، فاختر منها ما يضرب إلى السمرة. واجعل سكينك احد من الموس، ولا تبرة به غير القلم، وتعهده بالإصلاح. وليكن مقطك اصلب من الخشب لتخرج القطة مستوية، وابر قلمك إلى الاستواء لإشباع الحروف، وإذا أجلت فإلى التحريف. وأجود الخط أبينه وأجود القراءة أبينها".

وكان الحسن بن وهب يقول: "يحتاج الكاتب إلى خلال، منها تجوي بري القلم وإطالة جلفته وتحريف قطته، وحسن التأني لامتطاء الأنامل وإرسال المدة بقدر إشباع الحروف، والتحرز عند إفراغها من التطليس، وترك الشكل إلى الخطأ والاعجام عن التصحيف، وتسوية الرسم والعلم بالفضل وإصابة المقطع".

وينصح سعيد بن حميد الكاتب، ان يتبع الفنان الخطاط ما يلي: "أن يأخذ القلم في أصلح أجزائه، وأبعد ما يمكن من موضع المداد فيه، ويعطيه من أرض القرطاس حظه، ولا يكتب بالطرف الناقص في سنه ويضعه على قسطه، ويصوره بأحسن مقاديره، حتى لا يقع التمني لما دونه ولا يخطر بالبال شأو ما فوقه، ويعدله في شطره ويشبهه مما يأتي في شكله و يقرن الحرف بالحرف، على قياس ما مضى من شرطه في تقريب مساحته وتبعيد مسافته، ولا يقطع الكلمة بحرف يفرده في غير سطره. ويسوي أضلاع خطوط كتابته ولا يحليه بما ليس من زيه ولا يمنعه ما هو له بحقه، فتختلف حليته وتفسد تسميته".

ولأبي حيان في رسالته عن علم الكتابة، تفاصيل عن أنواع الأقلام وطرق بريها وقطها، والقلم هو الوسيلة الأساسية لفن الكتابة ولذلك وجب اختياره بدقة "خير الأقلام ما استمكن نضجه في جرمه وجف ماؤه في قشرته، وقطع بعد القاء بزره، صلب شحمه وثقل حجمه ... والقلم المحرف يكون الخط به أضعف وأحلى، والمستوي أقوى وأصفى. والمتوسط بينهما يجمع أحد حاليهما. وما كان في رأسه طول، فهو يعين اليد الخفية على سرعة الكتابة، وما قصر بخلافه".

إنّ الفنّ والجمال لا يمثّلان قيمة مطلقة في نظر الإسلام، بل يمثّلان موقعين من مواقع الإبداع الذي يطلّ بالإنسان على الله وعلى الحياة من القاعدة الروحية الأخلاقية، ولا يقترب به من الساحات التي تهتز فيها هذه القاعدة، تماماً ككل الأشياء الجميلة في الحياة التي لا بد للإنسان من أن يتذوق حلاوتها المعنوية والمادية، بالطريقة التي لا تؤدي إلى سقوطه.

إنّ النظرة إلى الحياة لا يمكن أن تتحرك من مواقع المطلق في تقييم مفرداتها ومعطياتها، لأنّ الحياة لا تختزن المطلق في وجودها، بل تنطلق من خلال الحدود الموضوعيّة في أكثر من ساحة. لذا لا بد من مواجهة كل القضايا على الطريقة النسبية التي توازن بين حدّ وحدّ، في تأثيره الإيجابي والسلبي على القضايا الكبرى في الحياة. وعلى ضوء هذا، فإنّ على الفن أو الجمال، أو المفردات الأخرى التي يحتويها الوجود، أن تكون في خدمة النظام العام للإنسان، بدلاً من أن يكون النظام في خدمتها، لأنّ ذلك يسيء إلى تناسق الفن، وجمالية الجمال.

فالخط العربي حالة إنسانية تتمظهر في كل خصائص الإنسان الذي يعيش في محور معيّن وعناصر معينة، فإننا لا نجد أية مشكلة بين العروبة والإسلام، لأنّ الإسلام يمثل هذا الدين الذي هو في عقيدة المسلمين، والذي أنزله الله على رسوله في المنطقة العربية التي هي منطقة الدعوة الأولى، والذي أراده للعرب رسالة يحملونها إلى العالم.

والقرآن انطلق في البداية لينذر أم القرى وما حولها، ولينذر المنطقة العربية. ولقد احتضن العرب الذين دخلوا في الإسلام. ومن الطبيعي أنهم أعطوه شيئاً من تجربتهم، ومن تمثّلهم له، ومن اجتهاداتهم في فهمه، ومن حركتهم في اتجاه تحريكه في وجدان العالم، حتى أنّ الإسلام استطاع أن يعرّب شعوباً أخرى، وأن يعرّب الكثيرين من العلماء والمفكرين من الشعوب الأخرى.

وفي هذا المناخ، استطاعت العروبة أن تعطي الإسلام كثيراً من حيويتها الحركية، واستطاع الإسلام أن يعطيها الكثير من خصائصه الحضارية في مفاهيمه وتشريعاته ومناهجه، واستطاع أن يمنحها امتداداً، وأن يتداخل معها، لتصنع العروبة بالإسلام الحضارة التي قيل عنها إنها أم الحضارات..

والحق أنك لا تجد أمةً من الأمم تجعل من الكتابة عنصراً جمالياً مثل أمتنا الإسلامية، فأنتَ تُعلق على جدران بيتك آيات قرآنية ليس فقط للتبرك، ولكن لجمال خطوطها وروعة تكوينها.

ولقد تلقّى العرب الكتابة الأولى، ولم يكن لديهم من أسباب الاستقرار ما يدعو إلى الابتكار في الخط الذي وصل إليهم، ولم يبلغ الخط عندهم مبلغ الفن إلا عندما أصبحت للعرب دول مستقرة تعددت فيها مراكز الثقافة ونافست هذه المراكز بعضها بعضاً على نحو ما حدث في الكوفة والبصرة والشام ومصر؛ فاتجه الفنان المسلم للخط يحسّنه ويجوّده ويبتكر أنواعاً جديدة منه.

* ملحوظة: الصورة في الأعلى هي لوحة رائعة بخط الأستاذ الماهر إبراهيم الزاير رئيس جماعة الخط الأسبق. قدمت لي باسم جماعة الخط العربي بالقطيف سنة 1422 هجرية فله ولهم مني كل الشكر.

الثلاثاء، 2 أبريل 2019


** أبناؤنا ثمرة تربيتنا / 06 **


{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان: 74].

الخامس: التوازن بين اللين والشدة:


تكريم الطفل والإحسان إليه وإشعاره بالحب والحنان وإشعاره بمكانته الاجتماعية وبأنه مقبول عند والديه وعند المجتمع، يجب أنْ لا يتعدى الحدود إلى درجة الإفراط في كل ذلك، وأن لا تُتْرك له الحرية المطلقة في أن يعمل ما يشاء، فلا بدّ من وضع منهج متوازن في التصرف معه من قبل الوالدين، فلا يتساهلا معه إلى أقصى حدود التساهل، ولا أن يعنَّف على كل شيء يرتكبه، فلا بد أن يكون اللين وتكون الشدة في حدودهما، ويكون الاعتدال بينهما هو الحاكم على الموقف منه حتى يجتاز مرحلة الطفولة بسلام واطمئنان، يميّز بين السلوك المحبوب والسلوك المنبوذ، لأنّ السنين الخمسة الأولى أو الستة من الحياة هي التي تكوّن نمط شخصيته.

وقد أكدّت الروايات على الاعتدال في التعامل مع الطفل فلا إفراط ولا تفريط.

قال الإمام الباقر (ع): "شرّ الآباء من دعاه البرّ إلى الإفراط..".

وفي هذا الصدد "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ (ص) عَنِ الأَدَبِ عِنْدَ الْغَضَبِ"؛ لأنّ الإنسان عندما يغضب لا يستطيع أن يعي الأسلوب الحكيم الذي يستطيع من خلال المفردات التي يفرضها تأديب الطفل وتوجيهه.

وكذلك نجد أنّ الإسلام حرَّم أي تصرف يتصرفه المربي إذا كان التصرف السلبي لا يمثل ضرورة في التأديب، فلا يجوز لنا أن نتكلم مع الطفل بالكلمات القاسية كالسباب والشتائم والإهانة إذ أنّ كل ذلك يؤثر سلباً على نفسيته وسلوكه؛ لأنّ الطفل إنسان محترم ويجب علينا أن نحترم شعوره أو إحساسه أو كرامته بقدر ما ينفعل في مسألة الكرامة، ولا يجوز لنا أن نمتهن ذلك كله إلا في حالات الضرورة عندما تتوقف مصلحته على ذلك الفعل.

وفي حالة ارتكاب الطفل لبعض المخالفات السلوكية، نهى الإسلام عن ضرب الطفل كوسيلة تأديبية بل الاكتفاء بالهجر وذلك لفترة (قصيرة) فقط...  فعلى الوالدين أنْ يُشعِرا الطفل بأضرار هذه المخالفة وإقناعه بالإقلاع عنها، فإذا لم ينفع الإقناع واللين يأتي دور التأنيب أو العقاب (المعنوي) دون (البدني).

والعقوبة العاطفية خيرٌ من العقوبة البدنية كما أجاب الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) حينما سُئِل عن كيفية التعامل مع الطفل فقال: "لا تضربه واهجره... ولا تطل".

فنحن في كل لقاء جميل لنا مع أبنائنا لا بد أن نتوقع أن يحدث ما يعكر صفو هذا اللحظات الهادئة، نظراً لأي تغير في سلوك الطفل:

·               قد يحدث ما يعكر الصفو بسبب (كلمة) أو (سلوك) أو أي (طارئ متوقع) أو (غير متوقع) صدر منه أو من المحيطين به..
·               وقد نكون نحن المتسببين بالدرجة الأولى دون أن نقصد، بما صدر عن أطفالنا، أو باستمرار السلوك السلبي منهم نظراً لجهلنا بمهارة إيقاف السلوك السلبي أو منع تفاقمه... ثم نعاقبهم.
·               وقد نكون نحن من استدرجهم ليرتكبوا الخطأ... في حين أنّ هذه اللحظات الجميلة يمكن أن تستمر مع قليل من التفكير وشيء من التروي، حتى وإن قطعتها بعض الخروقات المزعجة.

تقول إديل فابر، وإلين مازليش: "مشكلة العقوبة أنها لا تنفع. إنها مجرد إلهاء عن الموضوع وبدلاً من أن يشعر الولد بالأسف لما فعل ويفكر في الاسترضاء والتعويض يصبح شغله الشاغل خيالات الانتقام. بكلمة أخرى عندما نعاقب الولد فإننا في الواقع نحرمه من عملية داخلية مهمة هي (مواجهة سوء سلوكه وتصرفه)". فهل يستطيع ابننا أن يواجه سوء سلوكه وتصرفه ونحن نقمعه ونرهقه ونزيد في عتابه!..

وحين يخطئ أبناؤنا أو يتجاوزون الخطوط الحمراء لا بد أن نتدرج في تأديبهم، حتى مع تكرار السلوك الخاطئ، ويمكننا تسوية الأمور بهدوء أو ببعض النبرات الجادة والنظرات الحادة فقط...

ويمكن أن يكون هناك ثلاثة أهداف مختلفة من التعطيل، وكل واحد له أسلوبه الخاص به من أجل استخدام ناجح:

1.   وقف سوء سلوك محدد: طريقة ممتازة لإيقاف منتصف عمل الطفل. إنه يوصل رسالة قوية مفادها: "أنّ هذا التصرف غير مقبول"، "هذا التصرف يجب أن يتوقف الآن"... وغالباً ما يستخدم بنجاح كبير في إيقاف العنف الجسدي أو الضرب أو العض، إنه فعال لأنه يسمح للوالدين أن يسيطرا على الحالة فوراً...
2.   تقديم الوقت، والمكان للطفل لكي يهدأ: إنّ الهدف من استخدام وقت إيقاف اللعب بهذه الطريقة، هو أن يتعلم الأطفال كيفية السيطرة على مشاعرهم الغاضبة، إنّ هذه المهارة القيمة في الحياة ستمنع أطفالك من إساءة المعاملة... وأن يسيطروا على أنفسهم بأي طريقة تجدي نفعاً لكي تمكنهم من دخول المجتمع ثانية، والتعامل مع مشاكلهم بطريقة مثمرة.
3.   إعطاء الوالد الوقت والمكان لتهدئة نفسه: يوجد أوقات عندما نغضب من أطفالنا لدرجة أننا نريد أن نعاقبهم عقابا قاسياً.. قل باختصار: "إنني غاضب جداً منك، أحتاج إلى دقيقة للتفكير" ثم اذهب إلى غرفتك وأرح أعصابك... وهذا لا يساعدك على السيطرة على نفسك فحسب لكنه يقدم لطفلك نموذجاً جيداً يحتذى به....

وكما تقدم عندنا فقد "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ (ص) عَنِ الأَدَبِ عِنْدَ الْغَضَبِ" ولهذا فإنّ أسلوب الإبعاد المؤقت يخدم المربي والمتربي في نفس الوقت، ويعمل على تهدئة الطرفين ويمنح فرصة للتفكير فيما حدث وما ينبغي عمله لكليهما.

ولكي يؤدي الإبعاد المؤقت هدفه المرجو منه، ينبغي انتقاء المكان الأنسب في البيت لعزل الطفل وسلوكه الخاطئ، ولينزوي المربي ويتبخر غضبه في نفس الوقت، لكيلا تتفاقم الأمور إلى ما لا يحمد عقباه..

·                إنّ أفضل مكان تضع فيه الطفل يجب أن يكون مملاً وساكناً مثل غرفة السفرة، أو غرفة المغسلة... وينصح بأن لا يوضع الطفل في غرفة نومه الخاصة، فسوف يكون لديه الكثير من الألعاب وأشياء أخرى ممتعة... كما يجب أن يكون مكان العزلة آمناً بالنسبة للطفل...
·                نركز على أنّ أدنى وقت هو من (دقيقة إلى دقيقتين) لكل سنة من العمر... وينصح بأن تحدد - أنت - ما إذا كنت ستستخدم دقيقة أو دقيقتين زيادة، هذا يعتمد على مقدار غضبك كشخص كبير وليس على المخالفة..

إذن من أهم أنواع العقاب هو ما يسمى بـ الإبعاد المؤقت، ويتضمن إبعاد الطفل إثر ظهور السلوك عن المتوقع لفترات قصيرة في مكان لا يعود عليه بمدعمات اجتماعية ونفسية.

ومن مزايا هذا الأسلوب:
1.   أنّه سيساعد أولاً على إنهاء الموقف الذي يرتبط بالمشكلة أو الصراع فوراً.
2.   وبالتالي يقلل من التطورات السيئة...

شروط نجاح أسلوب الإبعاد المؤقت:


1-            تجنب الهياج الانفعالي والثورة خلال التطبيق.. لأنّ الهياج الانفعالي قد يدفع الطفل لمزيد من الانفعال وهذا الانفعال بحد ذاته يكون مدعماً إضافياً للسلوك السيئ...
2-            ينبغي تجنب الجدل والنقاش مع الطفل. إذ ينبغي أن نذكر الطفل بكل بساطة بأنه خرق قاعدة أساسية من القواعد التي تم الاتفاق عليها معه من قبل... وأنه لهذا يجب أن يذهب مثلاً إلى حجرته... لفترة دقيقتين.
3-            تجاهل كل ما يصدر عن الطفل بعد ذلك من احتجاجات أو توسلات أو أعذار.
4-            أما من حيث الوقت الذي ينبغي أن يبتعد فيه الطفل فيعتمد على الخبرة... والإبعاد لمدة دقيقتين يؤدي إلى نتائج إيجابية لدى الطفل ذي العامين...
5-            عند تطبيق أسلوب الإبعاد المؤقت يجب إعلام الطفل أنه وسيلة لإعطائه فرصة للتفكير في سوء سلوكه وليس عقاباً، كذلك يجب أن يلتزم الطفل خلال هذه الفترة بالهدوء... وإلا فمن الممكن تمديد الوقت المحدد لذلك أو مضاعفته.

ولا ننصح من ناحيتنا باستخدامه بشكل متسلط أو متكرر من قبل المشرفين والمدرسين لأننا في مثل هذه الحالات نشجع السلوك التسلطي والخضوعي ولا نعمل على إيقاف السلوك العدواني كمطلب من مطالب العلاج.

وهناك أسلوب آخر لعلاج السلوكيات الخاطئة للأبناء بشكل سلمي وهادئ، وهو التجاهل، وفيه احترام جليل لعقل الطفل ووجدانه بل ومكانته كفرد في الأسرة. ويجب على الوالدين أن يقرءوا و يتعلموا الكثير من الخصائص التي تميز المراحل العمرية التي يمر بها أبناءهم ليدركوا أنّ كثيراً من المواقف تتكرر ولا تستحق التعليق أو الملاحقة أو القضاء، وإذا كنت بعيداً عن مسرح الخلاف، ولكنك تسمع فلا تتعجل الأمور وتقترب إلا إن دعت الضرورة لذلك... فقد يسوي الأبناء الأمور بينهم دون أي تدخل منك، وربما يشعل هذا التدخل بينهم خلافاً شديداً لا يتناسق مع حجم الموقف الذي تسبب به، بل ويزيده تعقيداً وتشابكاً.

وسنتحدث عنه في حلقة قادمة إنشاء الله.

محرم 1447 في الصحافة الكويتية