** كلمة مختصرة في تكريم جماعة الخط
العربي بالقطيف سنة 1430 **
في الرواية المعتبرة عن أبي
بصير، عن أبي عبد الله (ع) قال: قال أمير المؤمنين (ع): "إِنَّ
اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ" [الكافي: 6/ 438].
وعن أمير المؤمنين (ع) قال
لكاتبه عبيد الله بن أبي رافِع: "أَلِقْ دَوَاتَكَ،
وَأَطِلْ جِلْفَةَ قَلَمِكَ، وَفَرِّجْ بَيْنَ السُّطُورِ، وَقَرْمِطْ بَيْنَ الْحُرُوفِ،
فَإِنَّهُ لَكَ أَجْدَرُ بِصَبَاحَةِ الْخَطِّ" [قصار الحكم: 315].
أَلِقْ دَوَاتَكَ: أي أصلح مدادها.
وَأَطِلْ جِلْفَةَ
قَلَمِكَ: الجلفة بكسر
الجيم فتحة القلم التي بها يستمد المداد.
وَفَرِّجْ
بَيْنَ السُّطُورِ: وسع بينها.
وَقَرْمِطْ
بَيْنَ الْحُرُوفِ: ضيق بينها.
بِصَبَاحَةِ
الْخَطِّ: صباحة الشيء
جماله.
وهكذا كان الإمام، يتفقد
العمال وعمال العمال، ويراقب حركاتهم الكبيرة منها والصغيرة، وينصح ويرشد.
وقال (ص): "الخط الحسن يزيد الحق وضوحاً".
وعنه (ص): "الخط الحسن للإمام جمال وللغني كمال وللفقير
مال".
وعن أحمد بن إسحاق قال: دَخَلْتُ
عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ (العسكري) (ع) فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِأَنْظُرَ إِلَى
خَطِّهِ فَأَعْرِفَهُ إِذَا وَرَدَ.
فقال: "نَعَمْ".
ثم قال: "يَا أَحْمَدُ إِنَّ الْخَطَّ سَيَخْتَلِفُ عَلَيْكَ مِنْ
بَيْنِ الْقَلَمِ الْغَلِيظِ إِلَى الْقَلَمِ الدَّقِيقِ فَلَا تَشُكَّنَّ".
ثُمَّ دَعَا بِالدَّوَاةِ
فَكَتَبَ، وَجَعَلَ يَسْتَمِدُّ إِلَى مَجْرَى الدَّوَاةِ،.. فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ
الْكِتَابَةِ أَقْبَلَ يُحَدِّثُنِي وَهُوَ يَمْسَحُ الْقَلَمَ بِمِنْدِيلِ الدَّوَاةِ
سَاعَةً [الكافي: ج 1
ص 514]
ولقد
قدم أبو حيان نصائح اختيار تحضير القصبة فيقول: "ليكن قلمك صلباً بين الدقة
والغلط، ولا تبره عند عقدة فإنَّ فيه تعقيد الأمور، ولا تكتب بقلم ملتو وذي شق غير
مستو، فان أعوزك الفارسي والبحري واضطررت إلى الأقلام النبطية، فاختر منها ما يضرب
إلى السمرة. واجعل سكينك احد من الموس، ولا تبرة به غير القلم، وتعهده بالإصلاح.
وليكن مقطك اصلب من الخشب لتخرج القطة مستوية، وابر قلمك إلى الاستواء لإشباع
الحروف، وإذا أجلت فإلى التحريف. وأجود الخط أبينه وأجود القراءة أبينها".
وكان
الحسن بن وهب يقول: "يحتاج الكاتب إلى خلال، منها تجوي بري القلم وإطالة
جلفته وتحريف قطته، وحسن التأني لامتطاء الأنامل وإرسال المدة بقدر إشباع الحروف،
والتحرز عند إفراغها من التطليس، وترك الشكل إلى الخطأ والاعجام عن التصحيف،
وتسوية الرسم والعلم بالفضل وإصابة المقطع".
وينصح
سعيد بن حميد الكاتب، ان يتبع الفنان الخطاط ما يلي: "أن يأخذ القلم في أصلح
أجزائه، وأبعد ما يمكن من موضع المداد فيه، ويعطيه من أرض القرطاس حظه، ولا يكتب
بالطرف الناقص في سنه ويضعه على قسطه، ويصوره بأحسن مقاديره، حتى لا يقع التمني
لما دونه ولا يخطر بالبال شأو ما فوقه، ويعدله في شطره ويشبهه مما يأتي في شكله و
يقرن الحرف بالحرف، على قياس ما مضى من شرطه في تقريب مساحته وتبعيد مسافته، ولا يقطع
الكلمة بحرف يفرده في غير سطره. ويسوي أضلاع خطوط كتابته ولا يحليه بما ليس من زيه
ولا يمنعه ما هو له بحقه، فتختلف حليته وتفسد تسميته".
ولأبي
حيان في رسالته عن علم الكتابة، تفاصيل عن أنواع الأقلام وطرق بريها وقطها، والقلم
هو الوسيلة الأساسية لفن الكتابة ولذلك وجب اختياره بدقة "خير الأقلام ما
استمكن نضجه في جرمه وجف ماؤه في قشرته، وقطع بعد القاء بزره، صلب شحمه وثقل حجمه
... والقلم المحرف يكون الخط به أضعف وأحلى، والمستوي أقوى وأصفى. والمتوسط بينهما
يجمع أحد حاليهما. وما كان في رأسه طول، فهو يعين اليد الخفية على سرعة الكتابة،
وما قصر بخلافه".
إنّ الفنّ والجمال لا يمثّلان
قيمة مطلقة في نظر الإسلام، بل يمثّلان موقعين من مواقع الإبداع الذي يطلّ
بالإنسان على الله وعلى الحياة من القاعدة الروحية الأخلاقية، ولا يقترب به من الساحات
التي تهتز فيها هذه القاعدة، تماماً ككل الأشياء الجميلة في الحياة التي لا
بد للإنسان من أن يتذوق حلاوتها المعنوية والمادية، بالطريقة التي لا تؤدي إلى سقوطه.
إنّ النظرة إلى الحياة
لا يمكن أن تتحرك من مواقع المطلق في تقييم مفرداتها ومعطياتها، لأنّ الحياة لا
تختزن المطلق في وجودها، بل تنطلق من خلال الحدود
الموضوعيّة في أكثر من ساحة. لذا لا بد من مواجهة كل
القضايا على الطريقة النسبية التي توازن بين حدّ وحدّ، في تأثيره الإيجابي
والسلبي على القضايا الكبرى في الحياة. وعلى ضوء هذا، فإنّ على الفن أو الجمال، أو
المفردات الأخرى التي يحتويها الوجود، أن تكون في خدمة النظام العام للإنسان، بدلاً
من أن يكون النظام في خدمتها، لأنّ ذلك يسيء إلى تناسق الفن، وجمالية الجمال.
فالخط العربي حالة
إنسانية تتمظهر في كل خصائص الإنسان الذي يعيش في محور معيّن وعناصر معينة، فإننا
لا نجد أية مشكلة بين العروبة والإسلام، لأنّ الإسلام يمثل هذا الدين الذي هو في
عقيدة المسلمين، والذي أنزله الله على رسوله في المنطقة العربية التي هي منطقة
الدعوة الأولى، والذي أراده للعرب رسالة يحملونها إلى العالم.
والقرآن انطلق في
البداية لينذر أم القرى وما حولها، ولينذر المنطقة العربية. ولقد احتضن العرب
الذين دخلوا في الإسلام. ومن الطبيعي أنهم أعطوه شيئاً من تجربتهم، ومن تمثّلهم
له، ومن اجتهاداتهم في فهمه، ومن حركتهم في اتجاه تحريكه في وجدان العالم، حتى أنّ
الإسلام استطاع أن يعرّب شعوباً أخرى، وأن يعرّب الكثيرين من العلماء والمفكرين من
الشعوب الأخرى.
وفي هذا المناخ، استطاعت
العروبة أن تعطي الإسلام كثيراً من حيويتها الحركية، واستطاع الإسلام أن يعطيها
الكثير من خصائصه الحضارية في مفاهيمه وتشريعاته ومناهجه، واستطاع أن يمنحها
امتداداً، وأن يتداخل معها، لتصنع العروبة بالإسلام الحضارة التي قيل عنها إنها أم
الحضارات..
والحق
أنك لا تجد أمةً من الأمم تجعل من الكتابة عنصراً جمالياً مثل أمتنا الإسلامية،
فأنتَ تُعلق على جدران بيتك آيات قرآنية ليس فقط للتبرك، ولكن لجمال خطوطها وروعة
تكوينها.
ولقد تلقّى العرب الكتابة الأولى،
ولم يكن لديهم من أسباب الاستقرار ما يدعو إلى الابتكار في الخط الذي وصل إليهم،
ولم يبلغ الخط عندهم مبلغ الفن إلا عندما أصبحت للعرب دول مستقرة تعددت فيها مراكز
الثقافة ونافست هذه المراكز بعضها بعضاً على نحو ما حدث في الكوفة والبصرة والشام
ومصر؛ فاتجه الفنان المسلم للخط يحسّنه ويجوّده ويبتكر أنواعاً جديدة منه.
* ملحوظة: الصورة في الأعلى هي لوحة رائعة بخط الأستاذ الماهر إبراهيم الزاير رئيس جماعة الخط الأسبق. قدمت لي باسم جماعة الخط العربي بالقطيف سنة 1422 هجرية فله ولهم مني كل الشكر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق