السبت، 27 يوليو 2019


محدودية العقل الإنساني

يجب أن نفهم أن أحد تجليات العقل الإنساني عموماً هي محدوديته، أي أنه محدود، وأنه لا يستطيع أن يتحول إلى عقل محض، وذلك لثلاثة أسباب رئيسة:

السبب الأول: أنَّ العقل محدود على مستوى الأبعاد، أي أننا محكومون بسياقات معينة.

السبب الثاني: أنَّ العقل محدود على مستوى الثقافة، فلا يستطيع أن يفسر الأشياء إلا على وفق تمثلاته السابقة؛ فمثلاً: عندما يسلم المسيحي -مثلاً- فإنه لا شك سيحمل معه الموروث السابق، ولن ينفك عنه دفعة واحدة، وكذلك عندما يتنصر المسلم.

السبب الثالث: أنَّ العقل محدود على مستوى المعرفة، ويصفها الإمام علي C بقوله: "ولا كلّ ذي سمعٍ بسميع ولا كلّ ناظرٍ ببصير".. فهو يسعى دائماً إلى ملئ الفراغات التي يتركها بعض روايات القصص القرآني، ولهذا نراه يتجه إلى فكرة الإشباع من أي مصدر كان، فنرى المسلمين الأوائل أدخلوا الكثير من الروايات اليهودية إلى التراث القرآني، وخاصة القصص، لملئ الفراغات، ولإشباعهم المعرفي.

وتوجد قاعدة مهمة يؤكد عليها علماء الانثروبولوجيا مفادها: كما أنه ليس يوجد عرق نقي، فغالبية البشر في الوقت الحاضر يعتبرون حصيلة سلسلة طويلة ومعقدة من الاختلاط والتزاوج والهجرة، وبذلك يمكن القول إنَّ أحداً لا ينتمي إلى عرق نقي بالكامل.. عندئذ لا توجد أصالة ثقافية خالصة من كلِّ زواياها وذلك على مستوى الفكر الإنساني، بمعنى أننا نجد كلَّ مفكر ومثقف متأثراً في جانب أو أكثر من جوانب تفكيره.

ولهذا عندما درس الدكتور محمد عابد الجابري العقل العربي الأخلاقي، كنا نظن أنَّ العقل الأخلاقي هو منظومة واحدة عند البشر جميعاً، ولكن بالتأمل والدراسة تبين لنا أن العقل الأخلاقي مجموعة من القيم الأخلاقية عند الشعوب؛ ففي الموروث الفارسي تتجلى أخلاق الطاعة، وفي الموروث العربي تتجلى أخلاق المرؤة، وعند اليونان تتجلى أخلاق السعادة، وعند الصوفية تتجلى أخلاق الفناء ... وهكذا.

ومن تأمّل في أدبيات الإسلام باحثاً عن مراتب الدليل العقلي، يستشفُّ أن هناك احتفاءً به لكن مع ضوابط لمجالات استخدامه، فلا يكون غلوّاً حتى يكون مهيمناً على الكل، ولا تعطيلاً لتُلغى حجيّته ودلالته في جانب الاستدلال.

فمن جهة: نرى أنَّ تمجيد الشريعة للعقل وضرورة استخدامه للتوصل إلى الحق متعددة، منها:

أ . أنَّ العقل هو مناط التكليف، وغيابه أو نقصه مُسْقِط له.

ب . أنَّ الله سبحانه نادى الناس إلى استخدام عقولهم للتوصل إلى الحق، عن طريق التدبر والتفكر، واستخدم عباراتٍ منها: {لعلّكم تعقلون}، {لقوم يفقهون}، {لقوم يتفكّرون}، ومنها قوله عز وجل:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} آل عمران: 190 - 191.

وكل ذلك يشير إلى ضرورة العمل العقلي ودوره في الإرشاد إلى الهداية، فالعقل يتأمل الكون فيرشده إلى وجود خالق له، ويستخدم المنطق فيدرك أنَّ لكل شيءٍ غايةً، ويستنبط منه بعض صفات الله عز وجل، ويتأمّل فيه فيرى أنه من العبث خلق الخلق وتركهم هملاً دون رسالة، ويقرأ الوحي فيهتدي إلى الرسالة.

ج . أنَّ الله تعالى ذمَّ من عطّل عقله، ولم يسترشد به، وكان إمّعةً يُساق في عالم الفكر والعقيدة، مقلِّداً غيره تقليداً أعمى، فقال عز وجل:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} البقرة: 170-171.

د . أنَّ من العقل الانتفاع بالمواعظ والقصص والأمثال القرآنية، منها قوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يوسف: 111، ويقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} العنكبوت: 43.

هـ . أنَّ للعقل وظيفةً مهمّةً في استنباط الأحكام، والنظر إلى الأدلة، ونقد متون الحديث، وكلّما كان العقل المسدَّدُ أوفر وأكبر؛ كان المرء أقدر على الاجتهاد والإصابة، والاستنباط.

فالإسلام كرّم العقل وحماه، فحرّم كل ما من شأنه تعطيله وتغييبه، كالمسكرات والمخدّرات، وفي الفقه من اعتدى على أحدٍ ولو نفسيّاً حتى ذهب عقله، وجبت عليه الدّية.

ومن جهة: جعل الإسلام للعقل حدوداً، فهو مهما بلغ من الفهم والقدرة يظلُّ عاجزاً في ميادين كثيرةٍ؛ لأنه خلق لأشياء معيَّنةٍ ومحدّدةٍ إن خرج عنها، جعل صاحبه يتيه في الظلمات، ويغرق في الالتباس والتخبّط..

لقد جعل الإمام عي C للعقل قدرة محدودة على إدراك واستيعاب المفاهيم وهذا ما أكدته الدراسات والبحوث الفسلجية، لذلك ينهي الإمام C عن الخوض في أمور يصعب على العقل استيعابها والاحاطة بها لمحدودية امكاناته عن الخوض في مسائل لا طاقة له فيها فتؤدي به الى هلاكه ولذلك يقول C: "ولا تُقدر عظمة الله سبحانه على قدرِ عقلك فتكون من الهالكين".

وحفاظاً على الرأي السديد والفكرة الصائبة الصحيحة التي هي ناتج اشتغال العقل بشكل سليم واستعماله وفقاً لقدرته المحدودة يقول الامام C: "فلا تستعملوا الرأي فيما لا يُدرِكُ قعرهُ البصرُ ولا تتغلغلُ اليه الفِكَرُ".

يقول الشاطبي: "إن الله جعل للعقول في إدراكها حدّاً تنتهي إليه لا تتعدّاه، ولم يجعل لها سبيلاً إلى الإدراك في كلّ مطلوبٍ، ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون".

فالعقل محدودٌ في مداركه لا يعدوها، وينحصر في معطيات ما تمدّه به الحواسّ فلا يتجاوزها، فإن تفهّمتَ محدودية العقل في هذا الباب، فهمتَ الإسلام، وسَهُلَ عليك الخروج من مستنقعات الشّبهات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محرم 1447 في الصحافة الكويتية