** في مائدة سيدتنا مريم بنت عمران **
لقد
ذكر الله سبحانه السيدة مريم بنت عمران (ع)، وامتدحها بقوله: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا
مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} الأنبياء: 91،
فأخبرتنا الآية أنها وصلت إلى سن النضوج الأنثوي، وهي عذراء محصّنة لم يمسسها بشر،
وهذا في مقام المديح.. لماذا؟
إذا
جاءنا اليوم، في القرن الحادي والعشرين، شخص يقول: إنَّ فلانة من النساء، وصلت إلى
سن العشرين مثلاً، وما تزال عذراء محصنة، فلن نرى أية غرابة في هذا الخبر؛ لأنّ
مثلها بيننا كثير جداً. لكننا إذا رجعنا إلى التاريخ، نرى أنّ السيدة مريم قد
عاصرت الحضارة الرومانية، التي اشتهرت بالدعارة، بل والإباحة الجنسية العلنية،
فنفهم أنّ ظاهرة الحصانة والعذرية في مثل ذلك المحيط، أمر يستحق المديح والتخليد.
فقد
أخبر الله سبحانه أنه تقبلها من أمها نذيرة، وأنها المتفتحة على الله في صدقها
وطهارتها؛ فهو سبحانه الذي وصفها قائلاً: {وَأَنْبَتَهَا
نَبَاتاً حَسَناً}، ويسرَّ لها أسباب القبول، وقرنها بالصالحين من عباده
تتعلم منهم الخير والعلم والدين.. لهذا قال تعالى: {وَكَفَّلَهَا
زَكَرِيَّا}..
وإنما
قدَّر الله كون زكريا كافلها لسعادتها، لتقتبس منه علماً جماً نافعاً وعملاً
صالحاً، ولأنه كان زوج خالتها، فعلى هذا كانت في حضانة خالتها.
ثم
أخبر تعالى عن سيادتها وجلالتها في محل عبادتها ورقيها المعنوي، فقال: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ
عِنْدَهَا رِزْقاً}. فلفظة "كُلَّمَا"
للتكرار، وفي هذا استيحاء: وهو أنَّ زكريا (ع) لم يدرِ حقيقة تعهدها، وإن وجد
عندها رزقاً، بل كان في كل يوم وفي كل وقت يتفقد حالها؛ لأنَّ كرامات الأولياء
ليست مما يجب أن يدوم ذلك قطعاً، فيجوز أن يظهر الله ذلك عليهم دائماً، ويجوز أن
لا يظهر، وما كان زكريا (ع) يعتمد على ذلك ويدع تفقد مريم.
نعم،
أشار الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي إلى أنه يجوز أن يراد بالرزق الرزق
الروحاني، من المعارف والحقائق والعلوم، والحكم الفائضة من عند الله؛ إذ
الاختصاص بالعندية يدل على كونها من الأرزاق اللدنية (تفسير ابن عربي: ج 1 ص
126). ولكن هذا التفسير قد يصرف اللفظ عن ظاهره بدون دليل صارف، ولأنَّ
سياق الآية يدل على أنَّ الرزق هنا هو الشيء المادي لا المعنوي.
ولكن
يرد على هذا الاختصاص بالمادي لا المعنوي، أنَّ قوله تعالى >رِزْقًا<، أتى
به مُنَكَّراً مُشِيراً إلى أنّه ليس من جنس واحد، بل من أجناس كثيرة..
فكان ذلك فيضاً من الله يأتيها من العلم والحكمة والتربية برعاية
من الله سبحانه، وهي الصدِّيقة الطاهرة، {مَّا
الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ
وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} المائدة: 75؛
ولأنَّ الرزق الذي كان يجده عندها هو أمر مخالف للأسباب الطبيعية.
والآيات
التي ذكر فيها نفخ الروح في القران في ثلاثة موارد:
1.
نفخ
الروح في آدم. ويرد مفهوم (الروح) في نصوص الوحي المنزل متعلقاً بما أودعه الله
تعالى في آدم (ع) نفخاً بعد التسوية. تأمل النصوص الآتية: يقول تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي
فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} الحجر: 29، ص: 7.
وقوله سبحانه: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن
رُّوحِهِ} السجدة: 8.
2.
نفخ
الروح في رحم مريم؛ بمعنى أن مفهوم (الروح) في نصوص الوحي يرد متعلقاً بما نفخه
الله تعالى في فرج مريم J،
فتحقق وجود عيسى (ع). تأمل النصوص الآتية: يقول الله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا
مِن رُّوحِنَا} الأنبياء: 91.
وقوله سبحانه: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي
أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} التحريم: 12.
3.
نفخ
الروح في الطَّير.
النفخ
للروح في الموردين الأول والثاني، نُسِبَ للهِ كما في قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي
فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ}، وقوله تعالى: {وَمَرْيَمَ
ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن
رُّوحِنَا...}. فالروح نُسبت في الآيتين لله (روحي) و (روحنا).
والنفخ
الثالث لعيسى وهنا يأتي التساؤل: ما هي الإشارة لكي يعطي الله نفخ العبد أن يقوم
بنفس مهمة نفخة الله في ادم ومريم؟
أم
أنَّ نفخة عيسى تختلف في جوهرها عن نفخة الله.
أم
أنَّ نفخة الايجاد لها من الجلالة ما لا تعطى لاحد بعكس نفخة الخلق (الطير)؟
إنّ
الموقف المعرفي للقرآن تأخذك جلاله وعظمته إلى مشارب ذوقية عالية ورصينة، فتشحنها.
يقول
مولانا جلال الدين الرومي: "جسمنا يشبه مريم العذراء: كل واحد منا يحمل عيسى
بداخله. لكن مالم تظهر فينا آلام المخاض فإن عيسانا لا يولد".
فمريم
هنا هي (النفس) التي، بصمتٍ، تتقبل قدرها، {وَصَدَّقَتْ
بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}، ويستعلن
للظهور بنفخة الروح من الله سبحانه.. كذلك (العاشق) -نور على نور- هو مثل (مريم)
التي حملت عيسها في بطنها، كذلك العارف الذي يعيش مصابرتها ويقينها يجعل منه
حاملاً روحياً مثلها.. كما (الأم) تروي من تحت أقدامها الجنة.. ويخرج عيسى من
مخاضها بكتابه فيرسم فيه ما تقر به عينها.. فكرامتها ممتدة في طهارتها حتى يلوح في
الأفق طهارة (فاطمة)؛ لتستلم المعين منها وترويه للعالمين ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق