الجمعة، 9 أغسطس 2019


** أيام منى **

لما سميت مِنى بذلك؟


قال الإمام الرضا (ع): "والعلة التي من أجلها سميت مِنى مِنى، أنّ جبرئيل (ع) قال هناك لإبراهيم (ع): تَمنَّ على ربك ما شئت. فتمنى إبراهيم في نفسه أن يجعل الله مكان ابنه إسماعيل كبشاً يأمره بذبحه فداءً له، فأُعطي مناه".

ولأجل ذلك قال الإمام الصادق (ع): "إذا أخذ الناس منازلهم بمنى نادى منادٍ: لو تعلمون بفناء من حللتم لأيقنتم بالخلف بعد المغفرة".

وفي منى يتذكر الحاج موقفين للخليل إبراهيم (ع):

أحدهما: موقفه مع ولده العزيز إسماعيل حيث أراد أن يقيم فيه حكم السماء كما شاهده في رؤياه الصادقة بشأن ذبح ابنه.. وقد نجحا (ع) في هذا الامتحان الإلهي، فافتدى الله عز وجل إسماعيل بفداء عظيم.

وثانيهما: موقفه مع الشيطان الذي أراد أن يقتحم عالمه من جهة زوجته هاجر وابنه إسماعيل، فدحره إبراهيم (ع) بالحصيات السبع التي أصبحت رمزاً عبادياً في الحج الإبراهيمي لرفض الباطل والشيطان.

يقول الإمام الصادق (ع): "الحج الأكبر الوقوف بعرفة ورمي الجمار".

كان امتحان إبراهيم (ع) من أكبر الامتحانات، وكان الهدف منه إخلاء قلبه عن أيّ حبّ عدا حبّ الله عزّ وجلّ، وتكون جائزة هذا النجاح ذلك اللطف الإلهي {وَعَهِدْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ أنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكعِ السُّجُودِ}.

ولقد أعاد حفيده محمّد (ص) ذكرى نداء جده التوحيدي، وعبّر ومن معه عن إبراهيميّتهم الحنيفية بشكل ملموس ومحسوس في حجة الوداع.

يقول الإمام الصادق (ص): "إذا أخذ الناس مواطنهم بمنى نادى منادٍ من قبل الله عز وجل: إن أردتم أن أرضى فقد رضيت".

رمي الجمار:


1-  إنّ تحرك الحجاج نحو الجمار يعكس لنا صورة مواجهة الشيطان الغاوي للنفس، وهي الشيطان الباطني، وهي الشيطان الأكبر، وهي الشيطان الذي يأمر بالسوء، فالنفس أقوى أثراً وخطراً على الفرد والمجتمع، وقد عبّر القرآن الكريم عنها بأوصاف: النفس الأمَّارة بالسوء، الهوى، حب الدنيا، الجري وراء الشهوات والمحرمات.. وعبّر النبي (ص) عنها بالجهاد الأكبر، فإنّ تحكمك على نفسك وتسييرها بالنهج الصحيح الذي رسمه خالقها عز وجل تأمن من شيطان الإنس والجن ومكائده.

والطريق من المشعر هو استغفار باطني حقيقي {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ}. فأمر بالاستغفار ولا يتحقق إلا بما ذكر.

إنَّ زوّار بيته سبحانه يرجمون تلك الأعمدة المنصوبة بالأحجار وبهذا يبدون موقفهم الرافض لكلِّ شرّير وكرههم له، وكره الشر أمر معنوي وقلبي، فمن هنا يرجمون الشيطان الباطني (النفس الأمّارة، والنفس المسوِّلة، والنفس اللوامة)، وهو انعكاس للشيطان الظاهري العامل الأساس في ارتكاب المعاصي والرذائل.

ولهذا يستحب للرامي عند كل رمية أن يقول: "الله أكبر، اللهم ادحر عنِّي الشيطان...".

2-  إنّ رمـي الجمـار تجسيد لمعـنى الاستعداد والتأهـب نحـو مواجهة العدو الحقيقي للإنسان، مما يصعّد روح المقاومة والجهاد في نفوس المسلمين لمواجهة أرباب الفساد في العالم الذين هم رموز الشيطان.

3-  إنّ الحاج في مِنى يكرّر الرمي ثلاث مرات، وهذا تمثيل صادق لجهاد الخليل إبراهيم (ع) ضدّ وساوس الشيطان الذي ظهر له ثلاث مرات في طريقه إلى الله، وهو مصمّم على أن يثني إبراهيم عن عزمه في ساحة الجهاد الأكبر، وكلّما ظهر له رماه بالحجر، مما يجعل محتوى هذه الشعيرة يتوضح ويتجلى.

وأنتم -معاشر المؤمنين- تعيشون في ساحة جهاد ضدّ وساوس الشيطان، وإن لم ترموا هذا الشيطان وتبعدوه عنكم المرة تلو الأخرى فلن تنتصروا أبداً، ولا يزال الشيطان يتربص بكم ما لم تكرّروا رجمه باطناً وظاهراً.

يقول الإمام الباقر (ع): "إنّ رجلاً أتى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله إنني نافقت.

فقال: والله ما نافقت، ولو نافقت ما أتيتني تعلمني ما الذي رابك؟ أظن العدو الحاضر أتاك فقال لك: من خلقك؟ فقلت: الله خلقني، فقال لك: من خلق الله.

قال: إي والذي بعثك بالحق لكان كذا.

فقال: إنّ الشيطان أتاكم من قبل الأعمال فلم يقوَ عليكم، فأتاكم من هذا الوجه لكي يستزلكم، فإذا كان كذلك فليذكر أحدكم الله وحده".

4-  إنّ الرمي في مِنى وما يحتويه من رفع شعار الرفض والصمود أمام مزالق ودروب الشياطين.

لقد جمع الإمام الحسين (ع) بني هاشم ورجالهم ونساءهم ومواليهم وشيعتهم مَن حجّ منهم ومن لم يحج، ولم يدع أحداً من أصحاب رسول الله (ص) ومن أبنائهم والتابعين، ومن الأنصار المعروفين بالصلاح والنسك إلا جمعهم.

فاجتمع عليه بمنى أكثر من ألف رجل، فقام الحسين (ع) فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أمّا بعد: فإنّ الطاغية قد صنع بنا وبشيعتنا ما قد علمتم ورأيتم وشهدتم وبلغكم، وإنّي أريد أن أسألكم عن أشياء فإن صدقت فصدقوني، وإن كذبت فكذبوني، اسمعوا مقالتي واكتموا قولي، ثم أرجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ومَن أمنتموه ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون، فإنّي أخاف أن يندرس هذا الحق ويذهب، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون...".

5-  أما عن سبب تحديده بالسبع حصيات؛ لأنّ الشهوات حصرت في سبعة أمور ذكرتها الآية الشريفة في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ}.

ويمكن جعل الجمار عبارة عن تعرض الشيطان لبني آدم ومحاولة إغوائه وإضلاله ورمي الجمرة عبارة عن صده والتبري منه ومخالفته.

ويمكن تصوير الرمي عبارة عن استعداد الفرد وتأهبه لمواجهة العدو الذي يحدق به في كل زمان ومكان.

ثم إنّ تكرر الرمي ثلاثة أيّام في كل يوم عدة مرات يؤكد لنا صدق المواجهة والتبري منه وانه يلاحقنا لأجل غوايتنا.

الذبح والإضحية والحلق والتقصير:


ترتبط الإضحية بقصة إبراهيم وابنه إسماعيل (ع) ومحاولة تضحية الأب بابنه في سبيل الله. ففي الذبح إشارة إلى اجتياز كل شيء في سبيل التوجّه إلى الله، وهو مظهر لإخلاء القلب من كل شيء عدا ذكر الله، وهذا ما أشارت إليه الآية المباركة: {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التقْوَى مِنْكُم}.

فإنّ الله غني عنها وعنكم، لأنّه خالقها وخالقكم، فلم يتعبدكم بنحرها لترجع منفعتها إليه، تماماً كما هو الحال في العبادات كلها، التي لن يرجع منها شيء إليه، لأنّه الرب الغني عن عباده، الذي لا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضرّه معصية من عصاه، ولكن يناله التقوى منكم.. والتقوى حالة يتحسسها الإنسان من خلاله في قلبه وروحه، لجهة وعي المسؤولية وتجسيدها حركة في الواقع، في شعور عظيم بالحضور الإلهي الذي يحيط بكل ما حوله ومن حوله.

حيث حددت الهدف منها، وهو أن يجتاز المسلمون مراحل التقوى ليبلغوا الكمال ويتقربوا إلى الله.

ويزيد ذلك وضوحاً ما ورد عن الإمام الصادق (ع) حيث قال: "إذا اشتريت هديك فاستقبل به القبلة وانحره أو اذبحه، وقل: وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم منك ولك، بسم الله وبالله والله أكبر، اللهم تقبّل منِّي...".

والشطر الكبير من هذا الدعاء هو جزء من آداب الاستقبال في الصلاة مما يجعل الإضحية من المظاهر الجلية لعبادة الحج، حيث يتجلى فيها الحاج تسليمه المطلق للحق تبارك وتعالى.

قال علي (ع) قال: سمعت رسول الله (ص) يخطب يوم النحر، وهو يقول: "هذا يوم الثج والعج، فالثج: ما تهريقون فيه من الدماء، فمن صدقت نيته كان أول قطرة له كفارة لكل ذنب، والعج : الدعاء، فعِجّوا إلى الله، فوالذي نفس محمد بيده لا ينصرف من هذا الموضع أحد إلا مغفوراً له، إلا صاحبَ كبيرة مصرّاً عليها لا يُحدِّث نفسه بالإقلاع عنها".

وفي المحاسن عن بشير بن زيد: قال رسول الله (ص) لفاطمة (ع): "اشهدي ذبح ذبيحتك، فإنّ أوّل قطرة منها يكفِّر الله بها كلّ ذنب عليك، وكل خطيئة عليك"..

والحيوانية بطبيعتها تمثل الغرائز بشهواتها البهيمية، ففي الذبح رمز إلى فصل الحيوانية عن الإنسانية، من خلال الانقياد التام لهذه العبادة التي يستصغرها الحاج، إلاّ أنّها تمثل عبادة محضة تضمحل أمامها كل مفردات الهوى والأنا.

أمّا الحلق والتقصير فهما إيذان بالابتهاج، فالحاج قد أدَّى هذه المقامات تحت نظر الرحمة الإلهية، وابتهاج بأن جعل نهاية مطافه عيداً لهم حيث تطهروا من الأدناس ومن تبعة بني آدم، وخرجوا من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم إنّه يوم الانطلاق إلى عالم جديد في رحلته القادمة إلى المعرفة الإلهية الحقة.

اللهم نوّر قلوب القاصدين إليك بحبك، وحرر أفئدتهم من جميع الارتباطات المتعلقة بغيرك، واشرح صدورهم لتفهم منازل رحمتك "واجعل باقي عمري في الحج والعمرة ابتغاء وجهك يا رب العالمين".

"اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى نُسُكِكَ، وَسَلِّمْنِي لَهُ، وَسَلِّمْهُ لِي، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْعَلِيلِ الذَّلِيلِ الْمُعْتَرِفِ بِذَنْبِهِ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي، وَأَنْ تَرْجِعَنِي بِحَاجَتِي. اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَالْبَلَدُ بَلَدُكَ، وَالْبَيْتُ بَيْتُكَ، جِئْتُ أَطْلُبُ رَحْمَتَكَ، وَأَؤُمُّ طَاعَتَكَ، مُتَّبِعاً لِأَمْرِكَ، رَاضِياً بِقَدَرِكَ، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمُضْطَرِّ إِلَيْكَ، الْمُطِيعِ لِأَمْرِكَ، الْمُشْفِقِ مِنْ عَذَابِكَ، الْخَائِفِ لِعُقُوبَتِكَ، أَنْ تُبَلِّغَنِي عَفْوَكَ، وَتُجِيرَنِي مِنَ النَّارِ بِرَحْمَتِكَ".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محرم 1447 في الصحافة الكويتية