الاثنين، 18 نوفمبر 2019


**الأنثى السكن المجهول**


إنَّ أدوات التواصل أو الحوار أصيل بين الكائنات، بما في ذلك الإنسان، وفي بداية التكوين، كان الجسد لغة في أصل الكون. ولغة الجسد عادة لا تكذب.. يقول الإمام الباقر (ع): "أَيُّمَا رَجُلٍ غَضِبَ عَلَى ذِي رَحِمَ فَلْيَدْنُ مِنْهُ فَلْيَمَسّهُ فَإِنّ الرّحِمَ إِذَا مُسّتْ سَكَنَتْ" (الكافي: ج 2 ص 302).

وحيثما كانت الأنثى كان الذكر معها في كل شؤون حياتيهما، فكان الجسد لغة التكوين الأولى، والتعبير الوثيق عن التواصل الأكيد بين الذكر والأنثى.

فالعلاقة بين الجسد والحب وطيدة، وفي هذا حكمة إلهية بالغة، فالحب الحقيقي بين الإلفين يجعل ممارسة الجسد أكثر متعة، وبالمقابل فإنّ ممارسة الجسد توطد الحب بين الطرفين وتجعله أكثر دفئاً وحناناً، وقد يظن ظان أنّ الممارسة الجسدية يطفئ نار الشوق، وهذا غير صحيح إلا إذا كانت غاية الحب هي الجسد والمتعة فحسب، فحينئذ يكون الوصل بمثابة الماء الذي يطفئ نار الحب ويجعلها رماداً.

فعندما يدخل الحب ضمن دائرة الجسد، فهذا حبّ شبقي جسدي متوتر يرتدي شكل الحبّ وليس جوهره، وهو في آخر الأمر عبودية جسدية وليس حرية. ولكن عندما يدخل الجسد ضمن دائرة الحب الحقيقي يكون حرية عميقة.

فالحب هو الذي يجعل العلاقة الجسدية بين الرجل والمرأة تزدهر، وبدون الحب لا تكون أكثر من عملية إفراغ للتوتر الناجم عن الحاجة الجسدية لدى الطرفين.

إذن "الحبّ هو المحور الأساسي التي تدور بفلكه كلّ القيم الروحية، وكل سعادات الأرض الدنيوية، فإذا فقد هذا العنصر المهم، فقدت كل القيم الأخلاقية، وازدادت سعة الشر في النفوس البشرية" (المرأة والجنس، الدكتورة نوال السعداوي: ص 141).

وبسبب هذه العلاقة الوطيدة ما بين الحب والجسد فإنّ الكثير من الزيجات الفاشلة ترجع إما لانعدام الحب بين الزوجين، وما يترتب عليه من سوء العلاقة الجسدية بينهما، وإما لخلل في العلاقة الجسدية يجعل الحب بينهما يفتر شيئاً فشيئاً حتى ينقلب إلى كراهية، ويغدو الاستمرار في الزواج أمراً مستحيلاً!

وهذا التعبير يمكن الوقوف عليه عندما ندرس مادة (س ك ن) في النص القرآني في العديد من المواضع، وما يمكن أن تحيل عليه من دلالة تشد الذكر إلى الأنثى، وتشد الأنثى إلى الذكر.. فمادة (س ك ن) وردت في النص القرآني لتحيلك على المعاني التالية:

الأول: الطمأنينة: قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ التوبة: 103.

الثاني: الأمن والطمأنينة: قال تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} التوبة: 26.

الثالث: الأمن والاستقرار والراحة في المكان: قال تعالى: ﴿وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا﴾ النحل: 80.

الرابع: السكون والهدوء والاستقرار والراحة في الزمان: قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ يونس: 67. وقال تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} الأنعام: 96.

الخامس: الأنثى (الزوجة): قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ الروم: 21.

إنَّ مختلف الاستعمالات الواردة في الآيات السابقة تؤكد الانسجام التام الذي يمكن أن يحصل بين الذكر والأنثى، فكل واحد منهما يمثل بالنسبة إلى الآخر: الراحة، والأمن، والطمأنينة، والهدوء، وهو يمثل (سكناً)، بما يحمله هذا اللفظ من دلالة على: الاطمئنان، والراحة، والأمن.

قال ابن منظور في لسان العرب: >السَّكَنُ: المرأَةُ؛ لأَنها يُسْكَنُ إليها...  والسَّكَنُ: كل ما سَكَنْتَ إليه واطمأْنَنت به من أَهل وغيره<.

وهذه الحالات من الأمن والراحة تتوافر لدى الذكر والأنثى عندما يسكن الواحد منهما إلى الآخر، ويتوحدان في الجسد، ويكون الجسد بينهما أداة التواصل والتفاعل والمتعة. وفي هذه الحالة تنتفي الحواجز والحدود والفوارق بين الذكر والأنثى.. ويتحدد في ذلك النص القرآني حكاية عن أصل التكوين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} النساء: 1.

ويوضح هذا المعنى بشكل جلي، قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} البقرة: 187. فاللباس يحفظ الجسم من الحر والبرد، ويستر عيوب الجسد، وهو زينة للإنسان.. كذلك الزوجان يحفظ كل منهما الآخر من الانحراف والعيوب، ويوفر كل منهما سبل الراحة والطمأنينة للآخر، وكل منهما زينة للآخر.. فليس هناك أجمل من هذا التعبير بكل ما توجبه عبارة (اللباس) من معاني الستر والوقاية والدفء والملاصقة والزينة والجمال.

فالنص القرآني يرجع طبيعة العلاقة بين الأنثى والذكر إلى جانبين معاً: التكامل والمتعة، ولهذا نجد أنّ أعمال البدن ليس مشروعاً فحسب طبقاً لمشيئته تعالى وانسجاماً مع النظام الكوني، بل إنّه في الأساس آية من آيات الله الكبرى وعلامة على قدرته.

ولهذا جاء النص القرآني {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} الأعراف: 189، ليحمل إشارة مهمة تبرز منزلة خلق المرأة بالنسبة للرجل، فهذه الآية تؤكد الغاية من خلق الأنثى من الذكر {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}، فمن الذكر خلقت الأنثى ليسكن إليها، ولولا الأنثى لعاش الذكر عالماً من الوحشة والألم.

والمثير للانتباه أنَّ النص القرآني خصَّ آدم (الرجل) دون حواء (الأنثى) في خطابي النهي والاغراء؛ ففي سورة طه يوجّه التحذير إلى آدم وحده، من فتنة الشيطان وإغوائه، وما يمكن أن يكون سبباً لإخراج الذكر والأنثى من الجنة: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} طه: 117.

وكذلك وسوس الشيطان إلى آدم وحده، حيث تأثر بإغراء الشيطان، فأغرى زوجته بالأكل: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} طه: 120-121. فعبء الخرق يتحمله آدم (الرجل) دون حواء الأنثى؛ لهذا جاء النص {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}، وكان عقاب ذلك هبوطه والشيطان إلى الأرض عدوين لدودين: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} طه: 123.

ونتيجة لنفاسة الأنثى فإنها لم تخلق من مادة مستقلة، كما هو الحال في خلق الرجل، وإنما خلقت من جسم آدم، فيكون جسد آدم مادة خلقٍ استعملها الخالق لينشئ منها كائناً مستقلاً هو الأنثى، أي أنَّ خلق حواء كان من مادة حية، لأنها اقتطعت من جسد آدم، وقد تكون هذه المادة أنفس من المادة التي خلق منها الذكر، ولهذا نقرأ في النص القرآني افتخار إبليس على خلق آدم وحده دون المساس لحواء؛ لأنه خلق من مارج من نار، في حين خلق آدم من تراب: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} الأعراف: 12.

ولهذا قال جلال الدين المولوي (ت 1273م): "إنما المرأة من نور الله.. فهي ليست مجرد حبيبة، أو حتى مخلوقة، بل إنها خلاّقة".

وقال محيي الدين بن عربي (ت 1240م): "كل مكان لا يُؤنّث لا يُعوّل عليه".

ومنها اقتبس أدونيس قولته المشهورة: "المكان إذا أنثناه صار مكانة".

فالمكان الذي لا يحتفي بالمرأة يفقد مكانته وقيمته وإشعاعه، فهي  من يضيف المكانة للمكان بلا منازع، وعدا ذلك يظلّ هذا الأخير باهتاً ناقصاً موحشاً؛ ولهذا خلق حواء (الأنثى) لتضيف إلى التكوين نفاسة وارتقاء .

الاثنين، 11 نوفمبر 2019



**إنما بعثت معلماً (دور المعلم والمتعلم)**

في أسبوع ميلاد رسول الله (ص) من كلِّ عام علينا أن نسترجع دور المعلم والمتعلم ، وأن نستلهم من تعاليمه (ص) التي تركها للإنسان الأخلاق والتربية والسلوك ؛ لعلنا نخرج من نفق الجهل والتجاهل .
حسين علي المصطفى

يقول حجة الإسلام الغزالي: "إنَّ صناعة التعليم هي أشرفُ الصناعات التي يستطيع الإنسانُ أن يحترفها، وإنَّ الغرض من التربية هي الفضيلة والتقرُّب إلى الله"؛ فهو رسالة وفن يهدف إلى إيصال الكلمة والمعلومة، وبثّ الروح الإنسانية عند الناشئة.

ونحن على دراية تامة بوجود عناوين مختلفة ومفصلة في رسالة التعليم، ولكن ليس دور المدرسة أن تملأ عقل الطالب بالمواد العلمية والتنظيمية والتثقيفية فقط، بل دورها يتناول العقل بحد ذاته..

فهل المهم أن يتحول عقل الإنسان إلى مكتبة؟ .. كلا، بل يتحول عقله إلى قدرة حركية للحياة ومن أجل الحياة. وعلى المدرسة أن تربي العقل؛ لأنَّ دورها هي صناعة الإنسان، وأن تصنع عقله في المستوى الذي يتحرك فيه جدل الحوار والنقاش وإثارة علامات الاستفهام ومحاولة الإجابة عنها، والدخول في حوار مع الآخر حولها.. فالعقل مهمته القدرة على استيلاد الفكر عبر الحوار والنقاش.

إنَّ القاعدة التي جاء بها الإسلام أنَّ العقل هو الأساس؛ وبه نعرف حقائق الأشياء، ونعرف طريق الحياة في ما يتصل بأوضاعنا العامّة والخاصّة. فالحديث الصحيح الوارد عند السنّة والشيعة: "لَمَّا خَلَقَ اللهُ الْعَقْلَ اسْتَنْطَقَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَقْبِلْ، فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ، فَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا خَلَقْتُ خَلْقاً هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ، وَلَا أَكْمَلْتُكَ إِلَّا فِي مَنْ أُحِبُّ، أَمَا إِنِّي إِيَّاكَ آمُرُ وَإِيَّاكَ أَنْهَى، وَإِيَّاكَ أُعَاقِبُ، وَإِيَّاكَ أُثِيبُ" (الكافي: ج 1 ص 26، ومجمع الزوائد: ج 8 ص 28، والمعجم الأوسط: ج 2 ص 235 ح 1845).

وهذا الحديث المشهور، يتردد صداه في كتب المسلمين ليدل على قيمة العقل عند الله عز وجل.

وقد سأل ابن السِّكِّيت الإمام علي الهادي (ع): مَا الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ الْيَوْمَ؟ فقال (ع): "الْعَقْلُ؛ يَعْرَفُ بِهِ الصَّادِقَ عَلَى اللهِ فَيُصَدِّقُهُ، وَالْكَاذِبَ عَلَى اللهِ فَيُكَذِّبُهُ".

من هنا فإنَّ القرآن الكريم يثبت معلمية رسول الله (ص)؛ حيث قال الله تعالى في نصه الصريح: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (الجمعة: 2)، {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 151).

كما جاءت هذه الصفة في كلمات سيد الخلق (ص)؛ ومِن ذلك أنه خرج يوماً على أصحابِه فوجدهم يقرؤون القرآن ويتعلَّمون، فكان مما قال لهم: "وإنما بُعِثت مُعلماً" (سنن ابن ماجة: حديث 229)، وقال (ص): "إنَّ الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً وميسِّراً" (صحيح مسلم: حديث 1478).

ويقول معاوية بن الحكم في وصف رسول الله (ص): "ما رأيت معلِّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه" (صحيح مسلم: حديث 537).

وممن خصه الرسول (ص) بالعلم الكبير ابن عمه علياً (ص)، حيث قال: "علمني رسول الله ألف باب من العلم ينفتح لي من كل باب ألف باب".

ويفصِّل (ع) كيفية تعليم الرسول (ص) له، فيقول: "وَقَدْ كُنْتُ أَدْخُلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ (ص) كُلَّ يَوْمٍ دَخْلَةً، وَكُلَّ لَيْلَةٍ دَخْلَةً، فَيُخَلِّينِي فِيهَا أَدُورُ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ، وَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ (ص) أَنَّهُ لَمْ يَصْنَعْ ذَلِكَ بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ غَيْرِي، فَرُبَّمَا كَانَ فِي بَيْتِي يَأْتِينِي رَسُولُ اللهِ (ص)، أَكْثَرُ ذَلِكَ فِي بَيْتِي، وَكُنْتُ إِذَا دَخَلْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ مَنَازِلِهِ أَخْلَانِي، وَأَقَامَ عَنِّي نِسَاءَهُ فَلَا يَبْقَى عِنْدَهُ غَيْرِي، وَإِذَا أَتَانِي لِلْخَلْوَةِ مَعِي فِي مَنْزِلِي لَمْ تَقُمْ عَنِّي فَاطِمَةُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ بَنِيَّ" (الكافي: ج 1 ص 116، الخصال: ج 1 ص 257 حديث 131).

وعندما نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (الجمعة: 2)، ندرك أنها لخصت الهدف من بعثة الأنبياء: "التربية من خلال تهذيب وتزكية النفس. والتعليم وإيصال الفرد إلى الحقائق".. وبدون هذين الجناحين لا يمكن للأمَّة أن تتطور وتترقى.. فتمثل هذه الآية المنهج الفكري والأخلاقي للرسول المعلم:

1- أن يستمعوا إلى الآيات ويتفهموها، وينفتحوا من خلالها على الأبعاد الواسعة للمفاهيم العامة التي تفلسف لهم نظرية الإسلام عن حركة الكون والحياة، وتقودهم إلى التعرف على المدخل إلى مواقع التغيير في صنع الإنسان الجديد.
2- النفاذ إلى أعماق المشاعر لتطهيرها من كل الرواسب التي عششت فيها من خلال عصور التخلف، ليكون الإنسان النقي الصافي، الذي ينمو في مشاعره وأفكاره وروحيته بين يدي الله خالصة من الشوائب التي تعطل عملية النمو.
3- إنّ دور الرسول هو تحريك المفاهيم الإسلامية في عملية التغيير للأمة في ما توحي به كلمة (التزكية)، من أجل أن يكون إنساناً فاعلاً ينمو ويتطور في اتجاه الخير والبركة للحياة.
4- التعليم على وفق ما يمثله القرآن من مضمون فكري وشرعي ومنهجي، وفي ما توحي به كلمة (الحكمة) من تحريك للمضمون في خط التطبيق، بحيث يتحول الإنسان إلى شخص يفكر بواقعية وحكمة، فيزن الأمور بموازينها، ويضع الأشياء في مواضعها.
5- لقد كان العرب قبل الإسلام يعيشون جهلاً وتخلفاً وعصبيات ضيقة. ولكن ليس معنى ذلك أنّهم لا يملكون شيئاً من الأخلاق والعادات الجيدة، إلا أنهم لم ينطلقوا في ذلك من قاعدة فكرية أو روحية واسعة من خلال نظرة شاملة للإنسان في دوره في الحياة وموقعه من الله، ودوره في رفض التخلف، مما سهل للتفاهات الفكرية أن تنفذ إلى المجتمع الجاهلي، وان تحكم وعيه الضلالات والأهواء.

قال الإمام علي (ع): "مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ، وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ، وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالْإِجْلَالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ" (نهج البلاغة: قصار الحكم 73).

وعندما نأتي إلى المعاجم اللغوية فيما يتعلق بتفسير مفردة "التربية" نخرج بعدة مفردات تفسيرية، منها: الزيادة، النشؤ والترعرع، الإصلاح، تولي أمره، القيام بالتدبير... من خلال هذه التفسيرات نرى أنّ للتربية عدة عناصر:

1.   المحافظة على النشؤ ورعايته.
2.   تنمية مواهبه واستعداداته.
3.   توجيه المواهب نحو صلاحها.
4.   التدرج في هذه العملية.
فالتربية الصحيحة تساعد على: تشكيل الإرادة - اكتشاف الطاقات - التعرف على القابليات والميول - التزويد بالمهارات التي تجعل الإنسان قادراً على التعامل مع الواقع..

وهي ليست قيماً نظرية مثالية، وإنما هي خلاصة شريعة نزلت حسب الوقائع والأحداث واستجابت لمشاكل الناس وقضاياهم، وليست فكراً يبتغي المدينة الفاضلة التي لا وجود فيها للشر، بل هي واقعية في مراميها وأهدافها (القيم الإسلامية في المناهج الدراسية، خالد الصمدي: ص 31).

فالتربية هي "عملية إعداد وتنشئة وبناء وإصلاح وتوجيه وإعداد عملي للإنسان". بعيداً عن تعويد الإنسان على أي شيء؛ لأنّ الإنسان إذا اعتاد على شيء سيخضع لحكومته، ولا يمكنه تركه، وعندئذ يقدم عليه لا بحكم العقل ولا بحكم الإرادة الخلقية، ولا بحكم كونه عملاً جيداً أو غير جيد، وإنما يفعله بحكم العادة، ولو تركه فسيضطرب. يقول الإمام الحسن (ع): "العَادَاتُ قاهِراتٌ، فَمَنِ اعتادَ شَيئاً في سِرِّهِ وَخَلَواتِهِ فَضَحَهُ في عَلَانِيَتِهِ وَعِنْدَ الملأِ" (تنبيه الخواطر: ج 2 ص 113).

قال التوحيدي -معلقاً-: "وهذا صحيح؛ لأنَّ حقيقة العادة في الشيء المعهود عوده بعد عوده، فهي-أعني العادة- الاستمرار الذي يقهر من اعتاده، والخلوة حال، والعلانية حال، والعادة بجريانها تهجم في الحالين ولا تفرق، ولهذا ما قيل: العادة هي الطبيعة الثانية، كأنَّ الطبيعة عادة، ولكنها الأولى بالجبلّة، والعادة طبيعة ولكنّها الأخرى بحسن الاختيار أو بسوء الاختيار" (الامتاع والمؤانسة: ج 1 ص 217).

وأجاد الشاعر العربي الكبير معروف الرصافي حينما قال:

كُلُّ   ابْنِ    آدَمَ  مَقْهُورٌ   بِعَادَاتِ

لهُنَّ يَنْقَادُ  فِي   كُلِّ   الْإِرَادَاتِ
يَجْرِي  عَلَيْهِنَّ  فِيمَا  يَبْتَغِيهِ   وَلاَ

يَنْفَكُّ  عَنْهُنَّ حَتَّى  فِي الْمَلَذَّاتِ
قَدْ يَسْتَلِذُّ الْفَتَى مَا اعْتَادَ مِنْ ضَرَرٍ

حَتَّى يَرَى فِي تَعَاطِيهِ الْمَسَرَّاتِ
عَادَاتُ كُلِّ امْرِئٍ  تَأْبَى عَلَيْهِ  بِأَنْ

تَكُونَ حَـاجَـاتُـهُ   إِلاَّ  كَثِــيرَاتِ
إِنِّي لَفِي أَسْرِ حَاجَاتِي وَمِنْ  عَجَبٍ

تَعَوُّدِي مَـا بِـهِ تَـزْدَادُ حَـاجَـاتِي

ويقول الإمام جعفر الصادق (ع): "لَا تَنْظُرُوا إِلَى طُولِ رُكُوعِ الرَّجُلِ وَسُجُودِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ اعْتَادَهُ، فَلَوْ تَرَكَهُ اسْتَوْحَشَ ذَلِكَ، وَلَكِنِ انْظُرُوا إِلَى صِدْقِ حَدِيثِهِ وَأَدَاءِ أَمَانَتِهِ". وهذا النص يدل على أنّ التعود، يفقد القيمة الأخلاقية للعمل، ولا يمكن أن يكون ملاكاً للإنسانية والإيمان.

فالتربويون يروون أنّ "التعويد" يجعل من الإنسان "آلة"، ويقتل روح الإبداع فيه ويسلبه اختياره وحريته وإرادته.. يقول ايمانويل كانط: "كلَّما كثرت عادات البشر قلَّت حريته واستقلاله"، والمراد هنا طبعاً "حرية العقل".

ولكن علينا أن لا نخلط بين شيئين من العادة: العادة الفعلية (وهي أن لا يقع الإنسان تحت تأثير عامل خارجي، ولكنه يقدم على الفعل من باب التكرار والممارسة)، وبين العادة الانفعالية (التي تقع تحت تأثير عامل خارجي كتدخين السيجارة والتقيد بالطعام في وقت محدد بالضبط)..

وأما السلوك هو أُسلوبٌ أو طريقَةٌ تَحكُمُ تصرُفَاتِ البشرِ والكائناتِ الحيَّة الأخرى.. ويمكن أن يقال في تعريفه: هو مجموعة من الأنماط الحياتية التي يعيشها الفرد مع نفسه، ومع أسرته، ومع المجتمع في كافة المجالات.

وهذا التعريف شامل لجميع أنواع السلوك (سلوك اجتماعي، وسلوك اقتصادي، وسلوك سياسي).

إذن المسألة التربوية هي الرحم الذي تتخلق فيه الأجنة بكل طاقاتها وقدراتها بشكل سليم. ولذا كان اهتمام الدول المتقدمة والمذاهب الفلسفية والاجتماعية ومن قبلها الشرائع الإلهية بالغاً في تربية الإنسان وإعداده.

أولاً: المكوِّن المعرفي:


فالمعرفة بوابة تحديد الطريق، وهي المدخل لتحديد القيمة التي لا تكتمل إلا بمكوِّناتها الثلاثة: المعرفي، والوجداني، والأدائي. وهذا يتطلب تعليماً وتثقيفاً للمراحل العمرية المختلفة بما يتناسب معها. ولمعرفة مكوِّنات البناء المعرفي والشامل تأمل الشكل الآتي:




فالمعرفة هي غذاء الإنسان لإنماء قواه العقلية والإدراكية والانفعالية والوجدانية وأداءه المهاري، والمعرفة هي وسيلة الإنسان في هذه الحياة، لكي يتأمل آيات الله في الكون، وآيات الله في النفس، بل هي آليات الإنسان الثقافية، في عبادة الله وإقامة النماذج الحضارية، الفكرية والاجتماعية والتقنية، التي تمكنه من تطويع المواد الطبيعية لصالح الإنسان والمجتمع والتقدم في آفاق الحضارة.

وعن محمد بن أبي عمير، رفعه، عن النبي (ص): "بَعضُكُم أَكثَرُ صَلاةً مِنْ بَعضٍ، وَبَعضُكُم أَكثَرُ حَجّاً مِنْ بَعضٍ، وَبَعضُكُم أَكثَرُ صَدَقَةً مِنْ بَعضٍ، وَبَعضُكُم أَكثَرُ صِياماً مِنْ بَعضٍ، وَأَفْضَلُكُم أَفْضَلُ مَعرِفَةً" (بحار الأنوار: ج 3 ص 14).. وهو يصرح بدور المعرفة في الفضيلة.

وقال الإمام الحسين (ع): "دِراسَةُ الْعِلْمِ لِقاحُ الْمَعْرِفَةِ، وَطُولُ التَّجارُبِ زِيادَةٌ فِي الْعَقْلِ" (ميزان الحكمة: ج 3 ص 1871)..

وهذا المكوِّن يعتمد على ركيزتين:

1. الاهتمام بتربية العقل:


فهو مناط التكليف وهو معدن الرجال، والاهتمام بتربيته باعتباره مناط التفكير العلمي الذي يعتبر أساس كل شيء في الحياة، ومن الوسائل التي يمكن تحقيقها لتربية العقل:

(أ) التأمل العقلي:

ميَّز الله تعالى الإنسان عن سائر المخلوقات بالعقل واعتبر الإسلام العقل أداة التفكير والفهم ومعياراً للحكم على كثير من القضايا في إطار الحرية والتحرر من الخوف وفي إطار القيم الإنسانية التي هي الضمان الوحيد لضبط منطقه وحركته وما يصدر عنه من تعبير لفظي.

والعقل هو مشروع معرفي عظيم؛ فهو الموجِّه والمرشد لسلوك طريق الخير واجتناب طريق الشر؛ لأنَّ نظرة الإسلام للخير والشر، تقوم على بيان النتيجة النهائية لكل منهما قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها} (الشمس: 3-6) وذلك حتى تتحقق للإنسان حريته الكاملة في الاختيار.

عن الإمام الحسين (ع)، عن أبيه علي (ع)، قال رسول الله (ص): "إنَّ اللهَ خَلَقَ الْعَقْلَ مِنْ نُورٍ مَخْزُونٍ مَكْنُونٍ، فِي سَابِقِ عِلْمِهِ، الَّذِي لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ نَبِيٌّ مُرْسَلُ، وَلَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، فَجَعَلَ الْعِلْمَ نَفْسَهُ، وَالْفَهْمَ رُوحَهُ، وَالزُّهْدَ رَأْسَهُ، وَالْحَيَاءَ عَيْنَيْهِ، وَالحِكْمَةَ لِسَانَهُ، وَالرَّأْفَةَ فَمَهُ، وَالرَّحْمَةَ قَلْبَهُ. ثُمَّ حَشَّاهُ وَقَوَّاهُ بِعَشَرَةِ أَشْيَاءَ: بِالْيَقِينِ، والإِيمانِ، وَالصِّدْقِ، وَالسَّكِينَةِ، والإِخْلَاصِ، وَالرِّفْقِ، وَالْعَطِيَّةِ، وَالْقُنُوعِ، وَالتَّسْلِيمِ، وَالشُّكْرِ. ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلٍ: أَدْبِرْ، فَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَقْبِلْ، فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: تَكَلَّمْ. فَقَالَ: الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ ضِدٌّ وَلَا نِدٌّ، وَلَا شَبِيهٌ وَلَا كُفْؤٌ، وَلَا عَدِيلٌ وَلَا مِثْلٌ، الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ لِعَظَمَتِهِ خَاضِعٌ ذَلِيلٌ. فَقَالَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا خَلَقْتُ خَلْقاً أَحْسَنَ مِنْكَ، وَلَا أَطْوَعَ لي مِنْكَ، وَلَا أَرْفَعَ مِنْكَ، وَلَا أَشْرَفَ مِنْكَ، وَلَا أَعَزَّ مِنْكَ، بِكَ أُوَحَّدُ، وَبِكَ أُعْبَدُ، وَبِكَ أُدْعَى، وَبِكَ أُرْتَجَى، وَبِكَ أُبْتَغَى، وَبِكَ أُخَافُ، وَبِكَ أُحْذَرُ، وَبِكَ الثَّوَابُ، وَبِكَ الْعِقَابُ. فَخَرَّ الْعَقْلُ عِنْدَ ذَلِكَ سَاجِداً، فَكَانَ فِي سُجُودِهِ أَلْفَ عَامٍ. فَقَالَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَسَلْ تُعْطَى، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَرَفَعَ الْعَقْلُ رَأْسَهُ فَقَالَ: إِلَهِي أَسْأَلُكَ أَنْ تُشَفِّعَنِي فِيمَنْ خَلَقْتَنِي فِيهِ، فَقَالَ اللهُ جَلَّ جَلَالُهُ لِمَلَائِكَتِهِ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ شَفَّعْتُهُ فِيمَنْ خَلَقْتُهُ فِيهِ" (علل الشرائع: ص 113 حديث 10؛ الخصال: ص 427 حديث 2؛ معاني الأخبار: ص 312 حديث 1).

فالحديث يرشد إلى أن نصون الطاقة العقلية، وأن لا تتبدد وراء الغيبيات التي لا سبيل للعقل البشري أن يتحكم فيها. فتنمية المهارات العقلية، وتربية العقل تربية واعية، وإثارة العقل، وتمرينه على التفكير والتدبر والإبداع والابتكار، هو الطريق نحو صياغة عقل مبدع.

وجاء في الأثر: تذاكروا العقل عند معاوية، فقال الإمام الحسين (ع): "لَا يَكْمُلُ الْعَقْلُ إِلَّا بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ" (نزهة الناظر: ص 83) .. لقد قال (ع) ذلك في مجلس معاوية، و"كأنّه أراد أن يقول للنّاس: لا تعتبروا كلَّ من يملك اللعبة السياسية أو الاجتماعية عاقلاً، بل انظروا إلى نتائج لعبته، وإلى نتائج حركته الثقافية، فإذا رأيتموه ينتج الباطل، فاعرفوا أنّها شيطنة وليست عقلاً؛ لأنّ العقل هو الذي يتجرّد من الهوامش كلّها، والأهواء والعصبيات كلّها، ليلتقي بالحقيقة من أقرب طريق". ولذلك، كلّ فكر ينطلق من خلال العصبيّات والأهواء، ليس عقلاً، فقد يكون جهلاً مركّباً، وقد يكون شيطنة.

ويقول الحسين (ع): "إِذا وَرَدَتْ عَلَى الْعاقِلِ مَلَمَّةٌ قَمَعَ الْحُزْنَ بِالْحَزْمِ، وقَرَعَ الْعَقْلَ بِالاْحْتِيالِ" (التذكرة الحمدونية: ج 1 ص 99). والاحتيال: الحذق وجودة النظر والقدرة على التصرف.. ويفسِّر علي (ع) الحزم: "الْحَزْمُ: النَّظَرُ فِي الْعَوَاقِبِ، وَمُشَاوَرَةُ ذَوِي الْعُقُولِ" (ميزان الحكمة: ج 1 ص 605)..

وفي تفسير قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 35)، قال ابن عباس: "ذوو الحزم" (تفسير القرطبي: ج 1 ص 203).. وفي قوله: {ولم نجد له عزماً} (طه: 115)، قال الثعالبي: "أكثر المفسرين على أنَّ العزم هنا الحزم"(الجواهر الحسان في تفسير القرآن: ج 1 ص 66).

(ب) العلم:

الإسلام يؤكد قيمة العلم، فهو الحاكم الضابط لكل شيء مما يقع تحت إمكانية إدراك الحس أو في مقدور العقل أن يدركه.

يقول الإمام الحسين (ع): "الْعِلْمُ لِقاحُ الْمَعْرِفَةِ، وَطُولُ التَّجارُبِ زِيادَةٌ فِي الْعَقْلِ" (ميزان الحكمة: ج 3 ص 1871).

فالعلم يكون سبباً في المعرفة ودخلاً فيها. فمسيرة العلم لا تعرف التوقف في الحياة، كما قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْني عِلْماً} (طه: 114). وتنطلق التجارب مع كلِّ حركة تطوّر في الحياة، ليبقى الإنسان في حركة تصاعديّة في الخط الذي يكون معه حاضراً في كلِّ موقع من مواقع العلم، فاعلاً فيها من موقع التجربة والخبرة..

فالمعرفة هي هذه الحالة الإنسانية التي تعطيك الانفتاح على الحياة وعلى الحقائق وأنَّ العلم بمفرداته يلقِّح المعرفة لينتج منها ما يتقدم به الإنسان ويرتفع به.. وكلّما جرَّبت أكثر فإنّك تستطيع أن تكبر حجم عقلك، ولكن هناك فرقاً، بين تجربةٍ تمارسها وأنت غافل وبين تجربة تمارسها وأنت واعٍ، فأن تعي تجربتك يعني أن تفهمها بأن تجعلها موضوع دراسة وأن تجعلها وسيلةً من وسائل التفكير وأن تكون تجربتك إحدى مصادر عقلك وإحدى مصادر المعرفة، ولذلك حاولوا أن تفكروا وحاولوا أن تجربوا وأن تنطلقوا بتجربتكم لتكون مصدر فكرٍ ومصدر وعي في حركتكم في الحياة.

يقول الحسين (ع): "إِذا وَرَدَتْ عَلَى الْعاقِلِ مَلَمَّةٌ قَمَعَ الْحُزْنَ بِالْحَزْمِ، وقَرَعَ الْعَقْلَ بِالاْحْتِيالِ" (التذكرة الحمدونية: ج 1 ص 99).. فالمعنى الإداري "للحزم" هو "التخطيط" = "التدبير الإداري" أي أنك لا تستطيع أن تصل إلى النتائج إلا إذا وضعت أهدافك وتصوراتك وخطط عملك. مما يستوحي منه الإنسان جملة من الأمور: النظر في العواقب - التعرّف على نتائج العمل - وضع التصورات المستقبلية - مشاورة العقول وأصحاب الخبرة والكفاءة.

والتخطيط الجيد يشكِّل 50% من تحقيق العمل. وندرك من خلال كلامه (ع) أمور:

1.   أهمية تربية العقل وتنميته من خلال الاستفادة من التجارب والعبر والصفات السابقة وذلك لما لنضج العقل من اثر فعال في حياة الإنسان والمجتمع.
2.   أهمية تربية العقل للمشاركة في الشورى، وأهميته في مجال القضاء، فالرأي مهم فيما لم يكن فيه حكم من المنهج القرآني النبوي، أو لم يرد في قضاء الأئمة.
3.   أهمية تدريب العقل على التأمل والتدبر والتفكر والمراجعة ومعرفة الحق والفهم الجيد فيه.
4.   التأكيد في تربية العقل على الجدال الحسن والسؤال والإجابة والتلقين والاستنساخ والحفظ والرواية.

2 . التوازن بين الحاجات والمصالح:


قيمة الإسلام أنه جاء في تشريعاته ومفاهيمه من أن يحقق له التوازن بين الحاجات والمصالح؛ فلا تطغى حاجاته ولا تسقط مصالحه.

ففي العلم: ليس هناك علمٌ محرَّم. قال الحسين (ع): "الْعِلْمُ لِقاحُ الْمَعْرِفَةِ".

وفي التجربة: أُمرنا أن ننطلق لنكتشف الحقيقة من خلال التجربة؛ لأنّ بعض الحقائق لا نستطيع أن نكتشفها بالتأمل؛ يقول الحسين (ع): "طُولُ التَّجارُبِ زِيادَةٌ فِي الْعَقْلِ".

وفي السلوك: أُمرنا أن نعيش مع الإنسان الآخر بسلام، فالحرب إنما تنطلق ضد الذين يفرضون الحرب على الإنسان ويريدون أن يصنعوا له المأساة. يقول الحسين (ع): "إِنَّ شيعَتَنا مَنْ سَلِمَتْ قُلُوبُهُمْ مِنْ كُلِّ غَشٍّ وَغِلٍّ وَدَغَل" (بحار الأنوار: ج 65 ص 156).

وفي التربية: أُمرنا أن نتحرك -في خط السلوك- لتكون لنا خصائصنا الفردية التي تحمي شخصيتنا، كما تحفظ لنا خصائصنا الاجتماعية. قال الحسين (ع): "مَا مِنْ شيعَتِنا إِلاّ صِدّيقٌ شَهيدٌ". قال: قلت: جعلت فداك، أنّى يكون ذلك وعامّتهم يموتون على فراشهم؟! فقال: "أَما تَتْلُو كِتابَ اللهِ في الْحَديدِ: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ}" (ميزان الحكمة: ج 2 ص 1517).

ولا بد للإنسان إذا أراد أن يعيش الإسلام، أن يجمع في شخصيته العناصر التي ترتكز عليها: العقيدة، والتي ترتكز عليها المفاهيم (التصور)، والتي ترتكز عليها السلوك (الحركة).

ولذا تلاحظ أنَّ خصوم الإمام الحسين (ع) أول ما يثير انتباههم فيه (الكارزما)، يقول عصام بن المصطلق: "دخلتُ الكوفةَ، فأتيتُ المسجدَ فرأيتُ الحسينَ بنَ عليٍّ جَالساً فيه، فأعجبني سَمْتُهُ ورُواهُ..." (تاريخ دمشق: ج 43 ص 224 حديث 5078).

وهذا التوازن يخبر عنه الإمام الحسين (ع): "ثَلاثُ خِصالٍ مَنْ كُنَّ فيه استَكمَلَ خِصالَ الإيمانِ: الَّذِي إِذَا رَضِيَ لَمْ يُدْخِلْهُ رِضَاهُ فِي إِثْمٍ ولا بَاطِلٍ، وإِذَا غَضِبَ لَمْ يُخْرِجْهُ غَضَبُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ، وإِذَا قَدَرَ لَمْ يَتَعاطَ ما لَيس لَهُ" (الخصال: ص 105 حديث 66).

وسُئِلَ أميرُ المؤمنينَ عليُ بنُ أبي طالب (ع): مَا ثَباتُ الإِيمانِ؟ فقال: "الوَرَعُ، فَقيلَ لَهُ: مَا زَوالُهُ؟ قَالَ: الطَّمَعُ" (أمالي الصدوق: ص 238 حديث 11).

وقال النبي الأكرم (ص): "مَثَلُ الَّذِي يُصِيبُ الْمَالَ مِنَ الْحَرَامِ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهِ، لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُ إِلَّا كَمَا يُتَقَبَّلُ مِنَ الزَّانِيَةِ الَّتِي تَزْنِي ثُمَّ تَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْمَرْضَى" (ميزان الحكمة: ج 4 ص 2840).

ويقول الإمام علي (ع): "الْعَقْلُ وَالشَّهْوَةُ ضِدَّانِ، وَمُؤَيِّدُ الْعَقْلِ الْعِلْمُ، وَمُزَيِّنُ الشَّهْوَةِ الْهَوَى، وَالنَّفْسُ مُتَنَازَعَةٌ بَيْنَهُمَا. فَأَيُّهُمَا قَهَرَ كَانَتْ فِي جَانِبِهِ".

فالنفس تتكون عندها القوة على أحد الاتجاهين، وبذلك تتكون وتقوى خلال تلك الحالة القوة العقلية؛ وذلك بالتعلم والمعرفة أكثر، فإنّ هذه القوى تكون أقدر على لجم القوة الشهوية؛ إذ يعد الهوى المؤثر في تزيين الشهوة..

فهذه الكلمة تصور حالة الصراع النفسي بين العقل والشهوة في الأمور التي يدرك العقل فسادها أو صلاحها، والميزان في هذا هو في التمييز بين المصلحة التي يأخذ بها والمفسدة التي يدعها، مقارنة بالشهوة التي تثيرها غريزة الإنسان في جسده وأحاسيسه.. وهنا يبدأ الصراع القوي في حركة الإرادة التي قد تقوى فتأخذ جانب (العقل)، وقد تضعف فتأخذ جانب (الشهوة).

بمعنى أنّ هناك طرفين يتجاذبان الكائن الآدمي في بحثه عن اللذة واجتنابه عن الألم، هما: (العقل والشهوة) (الخير والشر) (الموضوعية والذاتية)، أو (الأوامر والنواهي الشرعية).

هذا التركيب الثنائي الذي يرثه الفرد فطرياً: جانب (وجداني)، ويقابله جانب (إدراكي) هو الوعي بمبادئ كل من (العقل) و(الشهوة)، بمعنى أنّ الشخص حينما رُكّب فيه (الاستعداد) على ممارسة الخير أو الشرّ: قد رُكّب فيه أيضاً (إدراك) كلٍ من الخير والشر، حتى تصبح ممارسته للسلوك خاضعة لعملية (اختيار) وليس لعملية (إجبار) مما يترتب على ذلك تحمل مسؤولية السلوك الذي يمارسه.

وقد أشار النص القرآني الكريم إلى هذا الجانب (الإدراكي) بوضوح عبر قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}. ومعنى (إلهامها الفجور والتقوى) هو الإدراك لمبادئ الشهوة (الفجور) والعقل (التقوى).

يقول البروفيسور محمد منير سعد الدين: "وتحديد القيم الكبرى هي التي تخلق التوازن في تعامل الإنسان مع خالقه والناس والمحيط، ويمكننا أن نحدد هذه القيم الكبرى بحسب علاقات الإنسان الثلاث: فقيمة التوحيد قيمة كبرى تتفرع عنها قيم العبودية كلها بجزئياتها وتفاصليها: كقيمة التقوى، وطاعة الأوامر واجتناب النواهي.. وقيمة الحكمة قيمة كبرى تحكم تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان، تتفرع عنها قيم التعاون والتآزر والتآخي، والإيثار والتكافل والتواضع، وما في حكم ذلك من قيم تنظم العلاقات بين الناس. وقيمة التسخير قيمة كبرى تتفرع عنها قيم تعامل الإنسان مع بيئته ومحيطه من الأمم الأخرى غير الإنسان" (القيم والسلوك: ص 35).

ثانياً: المكوِّن العملي:


1. طبيعة المعلم:


عندما نفتش في ما بين أيدينا من النصوص فإنها قد لا تسعفنا بطريق مباشر في أنّ نجد شرحاً بالصورة التي نأمل فيها ونتوقعها لتعريف التربية، لكننا نستطيع بعمليات استدلال واستنباط أن نجد عدداً غير هيّن من النصوص التي تتضمن بعض الدلالات والمعاني التي من شأنها -في المجموع العام- أن تشير إلى مفهوم يقرب العملية التربوية.

فخلو الإنسان من المعارف حال ولادته يفيد معنى الاكتساب بمرور الخيرات والأحداث عبر حياة الإنسان وان هذا الاكتساب لا يجيء سهلاً هيناً وإنما يقتضي عمليات مجاهدة وبحث حيث أن الحقيقية لا تستبان لأول وهلة.

وروي: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ عَلَّمَ وَلَدَ الْحُسَيْنِ (ع) الْحَمْدَ، فَلَمَّا قَرَأَهَا عَلَى أَبِيهِ أَعْطَاهُ (ع) أَلْفَ دِينَارٍ وَأَلْفَ حُلَّةٍ. وَحَشَا فَاهُ دُرّاً. فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: "وَأَيْنَ يَقَعُ هَذَا مِنْ عَطَائِهِ؟!"، يَعْنِي تَعْلِيمَهُ (مستدرك الوسائل: ج 1 ص 290).

وَأَنْشَدَ الإمام علي (ع) يَقُولُ:
إِذَا جَادَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكَ فَجُدْ بِهَا            عَلَى النَّاسِ طُرّاً قَبْلَ أَنْ تَتَفَلَّتِ
فَلَا الْجُودُ يُفْنِيهَا إِذَا هِيَ أَقْبَلَتْ                وَلَا الْبُخْلُ يُبْقِيهَا إِذا مَا تَوَلَّتِ

وهذه تعكس حرص الإسلام ببيان أهمية العمل بما نعلم؛ يروي الإمام الرضا (ع)،  عن آبائه (ع)، قال: قال أمير المؤمنين (ع): "الدُّنْيَا كُلُّهَا جَهْلٌ إِلَّا مَوَاضِعَ الْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ كُلُّهُ حُجَّةٌ إِلَّا مَا عُمِلَ بِهِ، وَالْعَمَلُ كُلُّهُ رِيَاءٌ إِلَّا مَا كَانَ مُخْلِصاً، وَالْإِخْلَاصُ عَلَى خَطَرٍ حَتَّى يَنْظُرَ الْعَبْدُ بِمَا يَخْتِمُ بِهِ" (التوحيد: ص 371 حديث 10؛ بحار الأنوار: ج 67 ص 242).

ويقول (ع): "الْعِلْمُ مَقْرُونٌ بِالْعَمَلِ فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ، وَالْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ عَنْهُ" (نهج البلاغة: الحكمة 363).

2. طبيعة المتعلم:


تتأثر العملية التربوية بطبيعة المتعلم وما ينتج عنها من سلوك، وطبيعة المتعلم خيّرة والشر عارض عليها، يقول تعالى: {فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (الروم: 30).

قال الإمام علي (ع): "إلهي خَلَقْتَ لِي جِسْماً، وَجَعَلْتَ فِيهِ آلَاتٍ أُطِيعُكَ بِهَا وأعصيك وَأَغْضَبَكَ بِهَا وأرضيك" (دستور معالم الحكم: ص 172؛ بحار الأنوار: ج 91 ص 107). فلا الوسط البيئي والاجتماعي والعوامل الوراثية لوحدها تستطيع أن توجه سلوك المتعلم، فتأثير البيئة ليس كافياً بمفرده لفعل الخير أو الشر، ويتضح هذا جلياً في موقف امرأتي نوح ولوط، وامرأة فرعون فالأوليان كفرتا، وزوجاهما كانا رسولين مؤمنين، والثالثة أسلمت، على الرغم من أنّ زوجها كان كافراً.

قال تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ أَمِنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (التحريم: 10-11).

فطبيعة المتعلم هي نتاج عوامل الوراثة والبيئة والوسط الاجتماعي وهذا ما أكدته الدراسة الحديثة في علم النفس وأصبح البحث يجري الآن في بيان مقدار أثر كل منهما في طبيعة الإنسان؛ وهذا ما نسمعه من من كلمات علي (ع) في وصيته: "فَإِنَّكَ أَوَّلُ مَا خُلِقْتَ بِهِ جَاهِلًا، ثُمَّ عُلِّمْتَ، وَمَا أَكْثَرَ مَا تَجْهَلُ مِنَ الْأَمْرِ، وَيَتَحَيَّرُ فِيهِ رَأْيُكَ، وَيَضِلُّ فِيهِ بَصَرُكَ، ثُمَّ تُبْصِرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ" (نهج البلاغة: كتاب 31).

بهذا يتبين أنّ الإمام (ع)، يقر بمرونة الطبيعة الإنسانية وقابليتها للتشكيل قال تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ} (النحل: 78).

ولا بد من تعاضد أثر كل من البيئة والوراثة والوسط الاجتماعي لكي يظهر السلوك المعين. وقد أكد الإمام (ع) على أهمية استخدام الإنسان لاستعداداته الفطرية بعد الفهم، قال علي (ع) في وصيته: "فَإِنْ أَبَتْ نَفْسُكَ أَنْ تَقْبَلَ ذَلِكَ دُونَ أَنْ تَعْلَمَ كَمَا عَلِمُوا، فَلْيَكُنْ طَلَبُكَ ذَلِكَ بِتَفَهُّمٍ وَتَعَلُّمٍ لَا بِتَوَرُّطِ الشُّبُهَاتِ وَعُلَقِ الْخُصُومَاتِ" (نهج البلاغة: كتاب 31).

وقال الإمام علي (ع) مؤكداً نفس هذا المعنى: "فَإِنْ أَيْقَنْتَ أَنْ قَدْ صَفَا قَلْبُكَ فَخَشَعَ، وَتَمَّ رَأْيُكَ فَاجْتَمَعَ، وَكَانَ هَمُّكَ فِي ذَلِكَ هَمّاً وَاحِداً، فَانْظُرْ فِيمَا فَسَّرْتُ لَكَ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ لَكَ مَا تُحِبُّ مِنْ نَفْسِكَ وَفَرَاغِ نَظَرِكَ وَفِكْرِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَخْبِطُ الْعَشْوَاءَ وَتَتَوَرَّطُ الظَّلْمَاءَ" (نهج البلاغة: كتاب 31).

وقد أخذت التربية الحديثة بمبدأ التعليم الذاتي الذي يقوم على استخدام الإنسان لقدراته وإمكانياته واستعداداته الذاتية وطبيعته.

ويذهب الإمام علي (ع) إلى ضرورة إعطاء المتعلم الثقة بنفسه؛ حتى يتمكن من استغلال طاقاته الذاتية إلى ما فيه فائدته، وأن يعامل غيره بحسب ما يتوقعه من الآخرين من معاملة.

قال الإمام علي (ع): "يَا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ؛ فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلَا تَظْلِمْ كَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ" (كتاب 31).

3. اهتمامه بتنقية التراث الثقافي ونقله للناشئين:


إنَّ عملية التنقية والتصفية والنقل تعد من أهم العمليات التربوية التي غالباً ما تحدث بعد النظر في خبرات الأجيال السابقة مع الأخذ بالعظة والعبرة فيما آل إليه حالها، وذلك حتى لا تضل الأجيال الجديدة، أو تجد مشقة في اختيار الخبرات النافعة لها.

وقد أكدَّ الإمام الحسين (ع) على ذلك فقال: "لَوْ أنَّ العالِمَ كلّما قَالَ أحسَنَ وأصابَ لأوشَكَ أن يُجَنّ من العُجْبِ، وإنّما العالمُ مَن يَكثُر صوابُه" (إحقاق الحق: ج 11 ص 590).

وقال أيضاً: "مِنْ دَلائِلِ العَالِم انتقَادُهُ لِحَديثِه، وَعِلمُهُ بِحقَائِقِ فُنونِ النظَرِ" (تحف العقول: ص 248).

وهذا هو منهج أمير المؤمنين (ع)، الذي أبدع حينما تكلم عن عملية تنقية التراث الثقافي من الشوائب وتقديمه للناشئين بعد ذلك: "أَيْ بُنَيَّ إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ نَخِيلَهُ، وَتَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ، وَصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ، وَرَأَيْتُ حَيْثُ عَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِي الْوَالِدَ الشَّفِيقَ، وَأَجْمَعْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَدَبِكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ، وَأَنْتَ مُقْبِلُ الْعُمُرِ، وَمُقْتَبَلُ الدَّهْرِ، ذُو نِيَّةٍ سَلِيمَةٍ، وَنَفْسٍ صَافِيَةٍ" (نهج البلاغة: كتاب 31). وهو يشير إلى أنّ التراث الثقافي ليس كله نافعاً للأجيال الناشئة. وواجب المربي حينئذ تنقية هذا التراث من الشوائب قبل تقديمه للمتعلم..

وأكدَّ (ع) على ذلك في وصيته بقوله: "ثُمَّ أَشْفَقْتُ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْكَ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ مِثْلَ الَّذِي الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ فَكَانَ إِحْكَامُ ذَلِكَ عَلَى مَا كَرِهْتُ مِنْ تَنْبِيهِكَ لَهُ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلَامِكَ إِلَى أَمْرٍ لَا آمَنُ عَلَيْكَ بِهِ الْهَلَكَةَ وَرَجَوْتُ أَنْ يُوَفِّقَكَ اللهُ فِيهِ لِرُشْدِكَ وَأَنْ يَهْدِيَكَ لِقَصْدِكَ" (نهج البلاغة: كتاب 29).

ويرى الإمام الحسين (ع) أنّ ما يجب أن نعلمه للأجيال القرآن الكريم؛ وأنه الطريق الذي يحبّه الله عز وجل: "يا حَمَلَةَ الْقُرْآنِ، إِنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ يَذْكُرُونَكُمْ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَتَحَبَّبُوا إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِتَوْقِيرِ كِتَابِهِ، يَزِدْكُمْ حُبًّا، وَيُحْبِبْكُمْ إِلَى عِبَادِهِ".
بل إنَّ إباه علياً (ع) يحذِّر المسلمين من فتنة التخلِّي عن كتاب الله أو التهاون في الأخذ بتعاليمه وهديه، فيقول: "وَإِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ أَخْفَى مِنَ الْحَقِّ، وَلَا أَظْهَرَ مِنَ الْبَاطِلِ، وَلَا أَكْثَرَ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ سِلْعَةٌ أَبْوَرَ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَلَا أَنْفَقَ مِنْهُ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلَا فِي الْبِلَادِ شَيْءٌ أَنْكَرَ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَلَا أَعْرَفَ مِنَ الْمُنْكَرِ؛ فَقَدْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَمَلَتُهُ، وَتَنَاسَاهُ حَفَظَتُهُ، فَالْكِتَابُ يَوْمَئِذٍ وَأَهْلُهُ طَرِيدَانِ مَنْفِيَّانِ، وَصَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ، لَا يُؤْوِيهِمَا مُؤْوٍ، فَالْكِتَابُ وَأَهْلُهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي النَّاسِ وَلَيْسَا فِيهِمْ، وَمَعَهُمْ وَلَيْسَا مَعَهُمْ؛ لِأَنَّ الضَّلَالَةَ لَا تُوَافِقُ الْهُدَى، وَإِنِ اجْتَمَعَا فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْفُرْقَةِ، وَافْتَرَقُوا عَلَى الْجَمَاعَةِ، كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكِتَابِ وَلَيْسَ الْكِتَابُ إِمَامَهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلَّا اسْمُهُ، وَلَا يَعْرِفُونَ إِلَّا خَطَّهُ وَزَبْرَهُ، وَمِنْ قَبْلُ مَا مَثَّلُوا بِالصَّالِحِينَ كُلَّ مُثْلَةٍ، وَسَمَّوْا صِدْقَهُمْ عَلَى اللهِ فِرْيَةً، وَجَعَلُوا فِي الْحَسَنَةِ عُقُوبَةَ السَّيِّئَةِ، وَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِطُولِ آمَالِهِمْ وَتَغَيُّبِ آجَالِهِمْ، حَتَّى نَزَلَ بِهِمُ الْمَوْعُودُ الَّذي تُرَدُّ عَنْهُ الْمَعْذِرَةُ، وَتُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ، وَتَحُلُّ مَعَهُ الْقَارِعَةُ وَالنِّقْمَةُ" (نهج البلاغة: الخطبة 147؛ الكافي: ج 8 ص 386-387 ح 586).

يقول البروفيسور محمد منير سعد الدين: "إنَّ العالم العربي ومن ورائه العالم الإسلامي، قد تخلف منذ زمن غير قصير عن القيم الإسلامية الأصيلة وارتد إلى قيم الأطوار الماضية التي سبقت مجيئ الإسلام، وهي قيم لا تؤهله بحال لعبور الطور العالمي الذي يتعمق يوماً بعد يوم ويفرض على المجتمعات البشرية أن تتبنى قيماً ذات طابع عالمي كذلك إذا رغبت في استمرار البقاء والنماء. هذا في الوقت الذي يتعرض فيه العالم الإسلامي كله إلى تدفق ضخم من القيم الوافدة من الخارج، خاصة قيم الحضارة الغربية الحديثة. يضاف إلى تلك القيم التي أفرزتها الأفهام المتباينة والتفسيرات المتعددة خلال التاريخ الإسلامي، وهذه كلها تشكل خليطاً مضطرباً يترك آثاره الخطيرة في تخلف العالم العربي والإسلامي وضعفه" (القيم والسلوك: ص 33).

في أسبوع ميلاد رسول الله (ص) من كلِّ عام علينا أن نسترجع دور المعلم والمتعلم وأن نستلهم من تعاليمه (ص) التي تركها للإنسان الأخلاق والتربية والسلوك؛ لعلنا نخرج من نفق الجهل والتجاهل .

محرم 1447 في الصحافة الكويتية