الاثنين، 18 نوفمبر 2019


**الأنثى السكن المجهول**


إنَّ أدوات التواصل أو الحوار أصيل بين الكائنات، بما في ذلك الإنسان، وفي بداية التكوين، كان الجسد لغة في أصل الكون. ولغة الجسد عادة لا تكذب.. يقول الإمام الباقر (ع): "أَيُّمَا رَجُلٍ غَضِبَ عَلَى ذِي رَحِمَ فَلْيَدْنُ مِنْهُ فَلْيَمَسّهُ فَإِنّ الرّحِمَ إِذَا مُسّتْ سَكَنَتْ" (الكافي: ج 2 ص 302).

وحيثما كانت الأنثى كان الذكر معها في كل شؤون حياتيهما، فكان الجسد لغة التكوين الأولى، والتعبير الوثيق عن التواصل الأكيد بين الذكر والأنثى.

فالعلاقة بين الجسد والحب وطيدة، وفي هذا حكمة إلهية بالغة، فالحب الحقيقي بين الإلفين يجعل ممارسة الجسد أكثر متعة، وبالمقابل فإنّ ممارسة الجسد توطد الحب بين الطرفين وتجعله أكثر دفئاً وحناناً، وقد يظن ظان أنّ الممارسة الجسدية يطفئ نار الشوق، وهذا غير صحيح إلا إذا كانت غاية الحب هي الجسد والمتعة فحسب، فحينئذ يكون الوصل بمثابة الماء الذي يطفئ نار الحب ويجعلها رماداً.

فعندما يدخل الحب ضمن دائرة الجسد، فهذا حبّ شبقي جسدي متوتر يرتدي شكل الحبّ وليس جوهره، وهو في آخر الأمر عبودية جسدية وليس حرية. ولكن عندما يدخل الجسد ضمن دائرة الحب الحقيقي يكون حرية عميقة.

فالحب هو الذي يجعل العلاقة الجسدية بين الرجل والمرأة تزدهر، وبدون الحب لا تكون أكثر من عملية إفراغ للتوتر الناجم عن الحاجة الجسدية لدى الطرفين.

إذن "الحبّ هو المحور الأساسي التي تدور بفلكه كلّ القيم الروحية، وكل سعادات الأرض الدنيوية، فإذا فقد هذا العنصر المهم، فقدت كل القيم الأخلاقية، وازدادت سعة الشر في النفوس البشرية" (المرأة والجنس، الدكتورة نوال السعداوي: ص 141).

وبسبب هذه العلاقة الوطيدة ما بين الحب والجسد فإنّ الكثير من الزيجات الفاشلة ترجع إما لانعدام الحب بين الزوجين، وما يترتب عليه من سوء العلاقة الجسدية بينهما، وإما لخلل في العلاقة الجسدية يجعل الحب بينهما يفتر شيئاً فشيئاً حتى ينقلب إلى كراهية، ويغدو الاستمرار في الزواج أمراً مستحيلاً!

وهذا التعبير يمكن الوقوف عليه عندما ندرس مادة (س ك ن) في النص القرآني في العديد من المواضع، وما يمكن أن تحيل عليه من دلالة تشد الذكر إلى الأنثى، وتشد الأنثى إلى الذكر.. فمادة (س ك ن) وردت في النص القرآني لتحيلك على المعاني التالية:

الأول: الطمأنينة: قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ التوبة: 103.

الثاني: الأمن والطمأنينة: قال تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} التوبة: 26.

الثالث: الأمن والاستقرار والراحة في المكان: قال تعالى: ﴿وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا﴾ النحل: 80.

الرابع: السكون والهدوء والاستقرار والراحة في الزمان: قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ يونس: 67. وقال تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} الأنعام: 96.

الخامس: الأنثى (الزوجة): قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ الروم: 21.

إنَّ مختلف الاستعمالات الواردة في الآيات السابقة تؤكد الانسجام التام الذي يمكن أن يحصل بين الذكر والأنثى، فكل واحد منهما يمثل بالنسبة إلى الآخر: الراحة، والأمن، والطمأنينة، والهدوء، وهو يمثل (سكناً)، بما يحمله هذا اللفظ من دلالة على: الاطمئنان، والراحة، والأمن.

قال ابن منظور في لسان العرب: >السَّكَنُ: المرأَةُ؛ لأَنها يُسْكَنُ إليها...  والسَّكَنُ: كل ما سَكَنْتَ إليه واطمأْنَنت به من أَهل وغيره<.

وهذه الحالات من الأمن والراحة تتوافر لدى الذكر والأنثى عندما يسكن الواحد منهما إلى الآخر، ويتوحدان في الجسد، ويكون الجسد بينهما أداة التواصل والتفاعل والمتعة. وفي هذه الحالة تنتفي الحواجز والحدود والفوارق بين الذكر والأنثى.. ويتحدد في ذلك النص القرآني حكاية عن أصل التكوين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} النساء: 1.

ويوضح هذا المعنى بشكل جلي، قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} البقرة: 187. فاللباس يحفظ الجسم من الحر والبرد، ويستر عيوب الجسد، وهو زينة للإنسان.. كذلك الزوجان يحفظ كل منهما الآخر من الانحراف والعيوب، ويوفر كل منهما سبل الراحة والطمأنينة للآخر، وكل منهما زينة للآخر.. فليس هناك أجمل من هذا التعبير بكل ما توجبه عبارة (اللباس) من معاني الستر والوقاية والدفء والملاصقة والزينة والجمال.

فالنص القرآني يرجع طبيعة العلاقة بين الأنثى والذكر إلى جانبين معاً: التكامل والمتعة، ولهذا نجد أنّ أعمال البدن ليس مشروعاً فحسب طبقاً لمشيئته تعالى وانسجاماً مع النظام الكوني، بل إنّه في الأساس آية من آيات الله الكبرى وعلامة على قدرته.

ولهذا جاء النص القرآني {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} الأعراف: 189، ليحمل إشارة مهمة تبرز منزلة خلق المرأة بالنسبة للرجل، فهذه الآية تؤكد الغاية من خلق الأنثى من الذكر {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}، فمن الذكر خلقت الأنثى ليسكن إليها، ولولا الأنثى لعاش الذكر عالماً من الوحشة والألم.

والمثير للانتباه أنَّ النص القرآني خصَّ آدم (الرجل) دون حواء (الأنثى) في خطابي النهي والاغراء؛ ففي سورة طه يوجّه التحذير إلى آدم وحده، من فتنة الشيطان وإغوائه، وما يمكن أن يكون سبباً لإخراج الذكر والأنثى من الجنة: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} طه: 117.

وكذلك وسوس الشيطان إلى آدم وحده، حيث تأثر بإغراء الشيطان، فأغرى زوجته بالأكل: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} طه: 120-121. فعبء الخرق يتحمله آدم (الرجل) دون حواء الأنثى؛ لهذا جاء النص {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}، وكان عقاب ذلك هبوطه والشيطان إلى الأرض عدوين لدودين: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} طه: 123.

ونتيجة لنفاسة الأنثى فإنها لم تخلق من مادة مستقلة، كما هو الحال في خلق الرجل، وإنما خلقت من جسم آدم، فيكون جسد آدم مادة خلقٍ استعملها الخالق لينشئ منها كائناً مستقلاً هو الأنثى، أي أنَّ خلق حواء كان من مادة حية، لأنها اقتطعت من جسد آدم، وقد تكون هذه المادة أنفس من المادة التي خلق منها الذكر، ولهذا نقرأ في النص القرآني افتخار إبليس على خلق آدم وحده دون المساس لحواء؛ لأنه خلق من مارج من نار، في حين خلق آدم من تراب: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} الأعراف: 12.

ولهذا قال جلال الدين المولوي (ت 1273م): "إنما المرأة من نور الله.. فهي ليست مجرد حبيبة، أو حتى مخلوقة، بل إنها خلاّقة".

وقال محيي الدين بن عربي (ت 1240م): "كل مكان لا يُؤنّث لا يُعوّل عليه".

ومنها اقتبس أدونيس قولته المشهورة: "المكان إذا أنثناه صار مكانة".

فالمكان الذي لا يحتفي بالمرأة يفقد مكانته وقيمته وإشعاعه، فهي  من يضيف المكانة للمكان بلا منازع، وعدا ذلك يظلّ هذا الأخير باهتاً ناقصاً موحشاً؛ ولهذا خلق حواء (الأنثى) لتضيف إلى التكوين نفاسة وارتقاء .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محرم 1447 في الصحافة الكويتية