** 1 – 4 من هو المتدين **
{قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ
عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ
هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ
رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ
الْوَارِثُونَ}
المؤمنون: 1-10.
يقول
الإمام الحسين بن علي (ع): "الناس عبيد الدنيا،
والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء
قلَّ الديانون".
قد نتعلق بالدين ما دام منسجمًا مع
أطماعنا ولذَّاتنا، ولكن عندما نخضع للتجربة التي نقف من خلالها بين الحق والباطل
.. بين الخير والشر .. بين الجمال والقبح، فإننا نسقط ..
أصبح
الكثير من الناس يصنفون الأفراد والمجتمعات بحسب درجة تمسكهم بالتدين الظاهري
(الطقوس)، وكلما كانت درجة التمسك بالدين الشكلي (الطقوس) كبيرًا أصبح هذا المجتمع
في عرفهم مجتمعًا متدينًا، بل لا يتردد بعضنا في جعله معيارًا للحكم على مدى تديِّن
الأشخاص ذكورًا أو إناثًا! .. ولربما بلغ الأمر ببعض المتعجلين إلى درجة القذف أو
السب والشتم، كأنْ يصف امرأةً أو رجلاً من خلال شكلهما الخارجي فقط بعدم التدين!
وعندما
يتمسك الأفراد بالدين الشكلي، ويتفاخر بأنه مجتمع متدين، فإنه يسعى بذلك إلى
الارتكاز على أنَّ الآخر الذي لا ينتهج مسلكه الشكلي للدين هو إنسان يسير إلى
الهاوية والنار.
وأي
مجتمع يؤدِّي الطقوس الدينية الشكلية، الخالية من القيم والمعاني العميقة للدين،
فإنه يؤسس لمفاهيم مغلوطة.
ومما
ساعد على انتشار ظاهرة التدين الشكلي (الطقوس)، في المسلكيات العامة لمجتمعاتنا
الإسلامية، هو تمكين الخطاب (المتزمت والمتشدد والمغالي والشعائري)، وتغلغله في
مناهج الإعلام المرئي والمسموع، بل وفي المناهج التعليمية أيضًا.
إنّ
أزمتنا الكبيرة تتمثل في فرض التدين المشبع بالفكر الأحادي من جهة، والاعتقاد
القسري من جهة أخرى، وفرضه كشكل ومظهر وشعب، بينما الأصل في الدين أن يبقى خيارَ
الفرد الحر في الحياة، وبعيدًا عن مسرحية التظاهرة الشكلية المسلوبة من المعاني
الروحانية العميقة ذي العلاقة الوجدانية الخالصة بين الإنسان وربه.
فما هو مفهو التدين ؟
التديِّن
كلمة كثر النطق بها على ألسنة الناس في العقود الأخيرة من القرن المنصرم، وقد
اختلفت مقاصد الناس ومراميهم حول ما تشير إليه هذه الكلمة، غير أنها، على أي حال،
قد صارت تُستخدم من قبل سواد عظيم منهم في معانٍ تتراوح بين الالتزام بتعاليم
الدين، والتقوى والورع، وربما تتعدى ذلك إلى كلِّ خُلُق حسن يتحلى به المرء إتباعًا
لدين والتزامًا بمنهج.
وتستوقف
هذه الكلمة على بدهيتها كلُّ من يمعن النظر في المشهد الثقافي والفكري المعاصر،
خاصة أنها -على الأغلب- لم تشع على الألسنة قبل بضعة عقود من اليوم أو تزيد.
فالصلاح،
والتقوى، والورع، وإتباع أوامر الله، ... وما إليها من الأوصاف التي تدور حول هذا
المضمار، كانت قد ذكرت في كتاب الله تعالى، وفي سنة رسوله الكريم (ص) ومن بعد ذلك
وردت على ألسنة أهل البيت والصحابة والتابعين، ثم في كتب العلماء، أما كلمة
الـ"تدين" أو وصف المرء أنه "متدين"، فكلمة نستطيع القول إنها
حديثة الظهور في الوجدان العربي.
فماذا تعني كلمة "التدين"؟
دعونا
نتوقف هنيئة مع الخلفية اللغوية لهذه الكلمة ..
حينما
نلتمس معاني هذه الكلمة وما وراءها، وطرق الكشف عن جذورها في معاجم اللغة العربية،
نرى أنها قد وردت في لسان العرب لابن منظور على النحو التالي: "يقال:
دَانَ بكذا ديانة وتَدَيَّنَ به فهو دَيِّنٌ ومُتَدَيَّنٌ، ودَيَّنْتُ الرجلَ
تَدْينًا إذا وكلته إلى دينه. والدِّين: الإسلامُ وقد دنتُ به".
وفي
القاموس المحيط للفيروز آبادي، لم يرد لهذه الكلمة بحد ذاتها معنى، وإنّما دارت
الأوزان الواردة في هذه المادة حول معاني الدَين الذي هو اقتراض مؤجَّل، وما يدور
حوله من أوصاف الفاعل والمفعول على اختلاف الأوزان والمعاني.
وأما
في المراجع اللغوية الحديثة، مثل المحيط، ومحيط المحيط، والوسيط،.. والتي أُعدت
جميعًا ما بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الثاني من القرن العشرين:
ورد
في محيط المحيط: "وتديَّن بالإسلام اتَّخذهُ دِينًا،.. الدَّيّن صاحب الدِّين والمتمسّك
به".
وفي
المحيط: "تَدَيَّنَ
يَتَدَيَّنُ تَدَيُّنًا: اتخذ دِينًا؛ تَدَيَّنَ بالإسلام/ تَديَّن بالنصرانية:
تشدَّد في أمر دِينه..".
ويبدو
مما أوردته المراجع الأصيلة للسان العربي أنَّ التديِّن بمعناه المألوف اليوم لم
يكن لفظًا مطروقًا وقت إنشاء تلك المراجع، إلا إذا استخدم على الوجه اللغوي المحض
لوزن تلك الكلمة: (متفعِّل)، والمرء حين يتفعل الشيء إنّما يتخذه أو يتحلى به أو
يتكلفه.. وهو ما أورده لسان العرب في "دان بكذا ديانةً وتديّن به فهو ديّن
ومتديّن"؛ فالمرء -إذا فُهمت الكلمة على هذا الوجه- حين يتدين، إنّما
يتخذ لنفسه دينًا وكفى.
وقد
نراه جليًّا كذلك على نحو ما قدمته لنا المعاجم حديثًا فإنَّ كلًا من محيط المحيط،
والمحيط قد قدمت ذات المعنى "اتخذ دينًا"، غير أنّ المحيط زاد عليها:
"تشدَّد في أمر دِينه" وهو مقتضى الوزن (تفعّل) والذي ينصرف إلى
ألفاظ توازي هذه الكلمة في المعنى مثل: "تكلّف"، و"تشدّد"..
ونحن كذلك في حياتنا اليومية نستخدم ألفاظًا مساوية لهذا اللفظ في الوزن ينصرف
جلها إلى معان أدق من تلك الأولى في مقصودها، كـ"تزوج"،
و"تأهل" و"تعنت"، فتزوج يراد بها "اتخذ زوجًا"،
وتأهل يراد بها "اتخذ أهلًا"، وتعنت يراد بها "قصد أو ابتغى
العنت".
ونستنبط
من كل ما سبق أنّ لفظة "التدين" تتسم بقدر بالغ من العمومية وتفتقر إلى
نصيب كبير من الدقة حين يستخدمها المتحدث العربي اللسان على الوجه الذي تقدم
الحديث حوله.
ولاستجلاء الموقف .. نقول: التدين -كما أفهمه- الخلاص في الدنيا
والخلاص في الآخرة لمن يؤمن به بحسب ما بعث الله من رسل، وأنزل من كتب، وخلق من
وجود، والخلاص -في هذا كله- أن لا أكون أداة للشر، وأن أقبل الخير وأرفض الشر، وأن
أتعاون على الخير ولا أتعاون مع الشر: {وَتَعَاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}
المائدة: 2. وفي الإنجيل : "الحق والحق أقول لكم: إنّ كل من
يعمل الخطيئة هو عبد للخطيئة" يوحنا: 8 : 34.
فالخلاص -إذن- في أن لا نتعاون مع الشر،
وأن لا نكون أداة عبيدًا للشر، لا أن نقتل الشرير؛ لأنّ قتل الشرير مثل كسر الكأس
بدل غسله وإعادة تنظيفه!
فهل
نقطع اليد إذا تلوثت أو ننظفها ونغسلها؟
وهل
نقطع الرأس إذا طرأ عليه التلوث؟
إذا
كان أسلوب طبيبنا في العلاج هو قتل المريض بدلًا من علاجه، وإذا كان أسلوب مثقفنا
في العلاج، هو تزيين قتل الجاهلين بدل تعليمهم وترشيدهم، وإذا كنتَ لا تضيء .. وإذا
كنتُ لا أُضيء، فكيف سيأتي الضياء؟
وإذا
كان النور الذي فيك ظلامًا فالظلام كيف يكون؟
يصف
المسيح عيسى (ع) مثقفي عصره بأوصاف كثيرة، منها: "وَيُحِبُّونَ الْمُتَّكَأَ الأَوَّلَ فِي الْوَلاَئِمِ،
وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ، وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ،
وَأَنْ يَدْعُوَهُمُ النَّاسُ: سَيِّدِي سَيِّدِي! وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تُدْعَوْا سَيِّدِي...، لَكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ
أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ
مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ، فَلاَ تَدْخُلُونَ
أَنْتُمْ، وَلاَ تَدَعُونَ الدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ، وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا
الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تَأْكُلُونَ بُيُوتَ
الأَرَامِلِ، ولِعِلَّةٍ تُطِيلُونَ صَلَوَاتِكُمْ. لِذَلِكَ تَأْخُذُونَ
دَيْنُونَةً أَعْظَمَ. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تَطُوفُونَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ
لِتَكْسَبُوا دَخِيلاً وَاحِدًا، وَمَتَى حَصَلَ
تَصْنَعُونَهُ ابْنًا لِجَهَنَّمَ أَكْثَرَ مِنْكُمْ مُضَاعَفًا" متى: 23:
6-15.
فالمشكلة
ليست في السياسي فقط، بل في المثقف، صانع الثقافة التي تصنع الأمة بكل مؤسساتها، فينبغي
أن لا نخطئ في الفهم، وعلينا أن نتحمل المسؤولية. إنَّ السياسي أداة المثقف وليس
العكس، إن لم نكشف هذا نكون كالشيطان نبرّئ أنفسنا ونتهم الآخر .. الفهم والتفهيم وظيفة
المثقف ومسؤوليته، فإذا عجزنا عن الفهم والتفهيم، فمن نلوم؟! علينا أن لا نلوم أحدًا
إلا أنفسنا..
يقول
النبي محمد (ص): "من وَجد
خيرًا فليحمد الله، ومن وجَدَ غير ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسَه". وهو
مصداق قرآني {مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ
نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} النساء:
79.
حين
نفهم هذا نصل إلى حالة من الراحة النفسية والسعادة التي لا يمكن أن نجدها عند من يُدين
الآخرين ويُبرّئ نفسه، وقد يكون وصل إلى ما يسمى بلغة القرآن (القلب السليم)، وأن
لا يبقى في القلب كراهية لأحد {يَوْمَ لا يَنْفَعُ
مَالٌ ولا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} الشعراء:
88-89.
فالمشكلة
في سلامة القلب، في سلامة المفهوم الذي في القلب؛ والسلام يبدأ من المفهوم السليم
من المعرفة الصحيحة.
وبالمعرفة
الصحيحة تحصل الطمأنينة في القلب {الَّذِينَ آمَنُوا
وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ
الْقُلُوبُ} الرعد: 28.
وحينما
تحصل المعرفة في القلب، يحلُّ السلام في القلب، ويظهر ذلك في اللسان فيسلم اللسان
عن ذكر السيئات، ويكف اليد عن الأذى، وتصير كيد ابن آدم الذي امتنع فقال: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا
بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ} المائدة: 28.
وكأنه
يقول: إنني دخلت إلى مرحلةٍ يمكن فيها أن أفهم بالكلام، وأن أقوم بعملية التفهيم،
وبذلك خرجت من العنف إلى السلام، ومن عالم الحيوان إلى عالم الإنسان، فإن لم أتمكن
من الفهم والتفهيم، فلن ألوم أحدًا ولن أحاول قتل أحد، وإنما سألوم نفسي، وسأبذل
الجهد لأصل إلى تحصيل المعرفة، ونقل المعرفة بالأسلوب المتطور، وسأدرب نفسي على
التزام هذا من جانب واحد، وقد قال لي ربي أن ألتزم هذا: {وَأَلْزَمَهُمْ
كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} الفتح:
26..
هذا هو الدين بكل إيجاز!.
والمقصود
بـ(التدين): ممارسة الدين وتحويله إلى تطبيق عملي ، وهو تعبير عن الممارسة الإنسانية والتطبيق البشري
للدين.
وكلمة
(التدين) ليست خاصة بالدين المحمدي بل تشمل النصرانية واليهودية وغيرها، فالدين هو
التسليم، وفي داخل المجتمع المسلم
هناك المتدين الذي يمارس التدين بشكل صحيح، وعنده الإحساس بشمولية التدين وأنه للحياة جميعًا،
وهناك من هو دون ذلك ولديه جانب خاص من التدين، مع تلوث وحشي في جانب آخر.
وبعض
المجتمعات لديها قصور في الفهم للتدين حيث يقع على السلوكيات أو على الشكليات
فيقولون فلان متدين لأنه ملتحي -مثلاً-، لكن الدين أوسع من هذا.
كما
نلفت إلى وجود بعض المفرطين في جوانب دينية لكنهم صالحين في جوانب أخرى، فالالتزام
أمر نسبي، وينبغي أن يضبط هذا المصطلح: مصطلح الملتزم وغير الملتزم، ومصطلح المتدين وغير المتدين فهذه دائمًا
تستخدم في غير محلها.
فالمتدين
يظل دومًا بحاجة إلى إدراك الحضور الإلهي
الدائم، الذي أكدته النبوات والرسالات الكبرى. وبعبارة أخرى، فإنَّ المتدين بحاجة
مستمرة إلى الاتصال بالله، والتواصل معه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق