** 2 - 4 أشكال التدين بحسب رؤية أفراد البشر **
من
خلال ما قدمناه في الحلقة الأولى ندرك أنَّ الدين واسع، ولكن هناك جمهور من فقهاء ومحدثي هذه الأمة
تريد أن تضيقه إلى أحزاب وطوائف ومذاهب وفرق .
يقول
إسماعيل الْجُعْفِي: سَأَلْتُ أَبَا
جَعْفَرٍ -أي الإمام الباقر- (ع)
عَنِ الدِّينِ الَّذِي لَا يَسَعُ الْعِبَادَ جَهْلُهُ.. فَقَالَ: "الدِّينُ وَاسِعٌ، وَلَكِنَّ الْخَوَارِجَ ضَيَّقُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ جَهْلِهِمْ..." (الكافي: ج 2 ص 405 الحديث 6). وقوله (ع) "الدِّينُ
وَاسِعٌ"
يراد به أنّه لا يتحقق الخروج من دين الإسلام بقليل من العقائد والأعمال كما هو
مذهب الخوارج، حيث حكموا بكفر مرتكب المعاصي وخاضوا في المسائل الدقيقة فجعلوها من
أجزاء الإيمان.
وسأل كامل بن إبراهيم المدني الإمام
الحسن العسكري (ع): لا يدخل الجنّة إلا من عرف معرفتي؟
قال (ع): "إذن
والله يقلّ داخلها. والله، إنه ليدخلها قوم يقال لهم الحقيّة".
قلت: ومَن هم؟
قال: "قوم
من حبهم لعلي بن أبي طالب (ع) يحلفون بحقّه وما يدرون ما حقه وفضله" (الغيبة، للشيخ الطوسي: ص 347).
ولقد
أثرت المدرسة الفقهية، اعتماداً على نصوص الحديث، في عقول عموم المسلمين، يقول
العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (ت 1402ﻫ): "اقبال عموم المسلمين
على الحديث والمحدِّثين بأكثر مما تستلزمه الحاجة الحقيقية. وقد كان من الطبيعي أن
يكون من بين هؤلاء المحدِّثين مجموعة من الباحثين عن الجاه والمنفعة دفَعهم إقبال
الناس المتزايد على الحديث للطمع في كسب مزايا اجتماعية، فأخذوا يهيئون الحديث من
أيّ مصدر كان -دونما تمحيص- وبأي مفهوم اتفق، أو أنهم بادروا إلى وضع الحديث تبعاً
لميول المتنفِّذين ومقاصدهم في ذلك الوقت، مما أدّى إلى شيوع الوضع... لقد دسّت
بين الحديث مجموعة من الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة وأصبحت في عداد الحديث
المقبول، مما أدّى إلى أن تنفذ إلى المعارف والحقائق الإسلامية مجموعة من
الخرافات، بعد أن كان رسول الله (ص) قد توفّر على ابانتها والتحذير منها. مثل هذه
الأحاديث المندسّة يمكن تلمسها في أبواب الحديث المختلفة، وعلى الأخص في التفسير،
وتأريخ الأنبياء وتأريخ الأمم السابقة، وباب الغزوات ووقائع صدر الإسلام. والحق؛
أننا نجد قصصاً وأموراً أخرى بين الحديث، لا يستطيع العقل السليم أن يقبلها... لقد
دامت الأوضاع قروناً على هذه الحالة حتى بلغ الأمر إلى ردّ فعل معاكس حيث فقد
الحديث قيمته كلياً بين المسلمين، ولم يعد له ثمة اعتبار، وإنما أدخله المسلمون في
عداد الخرافات وأخذوا يصمون الحديث الصحيح بالبطلان. وهكذا انتهى المآل أن يعيش
الحديث قصته بين الافراط والتفريط" (الشيعة: 77-78).
فما
هي الرؤية الواضحة عند المسلمين حول معنى (المتدين) التي تردد على شفاههم كل صباح
ومساء؟
الرؤية (1): بعض الناس يظن خطأ أنّ الدين مجرد عقائد للإيمان بها، وكأنّ
العقائد غاية في ذاتها، وليست وسيلة لبناء الضمير الإنساني الذي هو ركيزة المجتمع
ومحرك التاريخ. وما أكثر المعتقدات الخاصة والعامة في التاريخ وفي الأديان، إنما
المحك هو معيار الصدق.
فالإيمان
بعقيدة ما ليس مجرد قرار فردي، بل هو برهان وتصديق وأثر في الحياة الفردية
والاجتماعية. وما أكثر العقائد التي ألّهت السلاطين والملوك، أو التي طالبت الناس
بالخضوع والولاء لمن يقول مثل فرعون: {فَقَالَ أَنَا
رَبُّكُمُ الأَعْلَى}.
فالإيمان
هو حقيقة تتكشف في القلب، وتتحول إلى فعل وممارسة، وتعبِّر عن مستقبل أفضل للعالم.
وهو بالتالي: طاقة وحركة، تصور ونظام، نظر وعمل، بحيث تحاول الأيديولوجيات
والمذاهب السياسية في المجتمعات الغربية جاهدة أن تكون بديلاً عنها.
يقول
تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ
إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ
بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا
بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ
الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ
لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.. إنّ الملحوظ في مفردات القضايا والظواهر التي
أثارتها الآية الكريمة أمام الإنسان هو أنها تواجه الناس في حياتهم اليومية، فتلفت
أنظارهم بشكل طبيعي إلى أنّ الطريق إلى معرفة الله لا يتوقف على الاستغراق في
الأجواء الفلسفية المجردة التي تبتعد بالإنسان عن حياته، ليضيع في متاهات الفرضيات
المتنوعة والأساليب المتضادة، ولا يخضع للانطلاق إلى أجواء بعيدة عن أجوائه
المادية، بل كل ما هناك هو الالتفات إلى ما حوله من ظواهر الطبيعة ومفردات الحياة
التي تحيط به.
ولذا
نجد القرآن الكريم في حديثه عن ظواهر الكون، ينسب الفعل إلى الله، ولا يغفل دور
الإنسان في النسبة، في ما يتعلق بالأفعال التي تتصل بإرادته بشكل مباشر، وذلك
بالتعبير نفسه، كما في قوله تعالى: {وَاللهُ
خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}.
الرؤية (2): يظن البعض خطأ -أيضاً- أنّ الدين هو مجرد شعائر أو طقوس تُمارس
فرداً أو جماعة، بحيث تكوِّن مجموعة من المظاهر الخارجية والتي هي أقرب إلى
الاحتفاليات، وكما كان الحال في الحضارات القديمة .. وكلما زاد الانبهار بالطقوس
عظم شأن الدين من حيث: عظمة الكنائس، وهيبة المعابد، وثراء المساجد، ورموز حسية
مثل إطلاق اللحى، ومسك المسبحة، والسواك، ولبس الجلباب الأبيض، والتعطر بعطر منسوب
لمكة والمدينة، واللطم، والتطبير، والزنجيل، وغيرها... وبالتالي تغليب الشكل على
المضمون، والمظهر على المخبر، والخارج على الداخل.
مع
أنّ الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وأنّ العمل هو العمل الصالح النافع
للفرد والجماعة. لذلك جاء نداء القرآن باستمرار {إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..}. ويقول الرسول (ص): "لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا، وصمتم حتى تكونوا
كالأوتار، لم يقبل الله منكم إلاّ بورع".
الرؤية (3): يظن فريق ثالث أنّ الدين هو المؤسسات الدينية التي تكوّن سلطة
وأحياناً واسطة بين الإنسان وربه، وهي في الغالب مؤسسات تاريخية نشأت في ظروف
تاريخية محددة مثل الكنيسة في الغرب والمعبد أيام الرومان، ومشيخة الطرق الصوفية،
ودور الإفتاء أيام الدولة العثمانية، والمرجعيات الدينية بعد غياب الإمام.
والحقيقة أنّ الدين في القلب، علاقة مباشرة بين الإنسان والله. ولا يحتاج إلى توسط
مؤسسة دينية تاريخية، سلطة بشرية في أصلها وتدّعي بعد ذلك أنها سلطة دينية في
جوهرها. تسيطر أكثر مما تحرر، وتقمع أكثر مما تطور.
ولهذا
ذم القرآن طريقة العلاقة العصبية بعقيدة الآباء؛ ففي قصة موسى (ع): {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا
عَلَيْهِ آبَاءَنَا}؛ قالوها "في عملية إنكارٍ للنتائج السلبيّة التي
يواجهون من خلالها هزيمة كل مفاهيم الصنمية المتخلفة التي ورثوها من آبائهم، فعاشت
-في داخلهم- في مواقع القداسة الجاهلة التي ترى في الماضي معنى التقديس، فلا يمكن
أن يناقشه أحد، مهما كانت درجة الخطأ فيه، لأنهم لا يميزون بين العاطفة التي تحكم
علاقتهم بالماضي، وبين الإيمان الذي يخضع لاعتبارات الحق المرتكز على الحجة
والبرهان، ولو فكروا جيداً في المسألة، لرأوا أنّ هؤلاء الآباء هم بشر كبقية
البشر، فقد يصيبون الحقيقة، وقد يخطئونها، فلا بدَّ من مناقشة فكرهم وعاداتهم
وتقاليدهم، تماماً كما نناقش فكر الآخرين الذين يعيشون معنا؛ لأنّ الزمن لا يعطي
للشخص أو للفكر معنى الحقيقة في حركته، بل كل ما هناك، أنه يفسح المجال للطاقة
الفاعلة أن تتحرك في مجاله، لتعبر عن نفسها بما تملكه من ملامح الحق والباطل،
وبذلك يصبح من حق أي إنسان يفكر بغير الطريقة التي يفكر بها الأقدمون، أن يعمل
ليغيّر الفكر الذي تركوه، والبناء الذي بنوه، فليس لأحدٍ أن ينكر عليه ذلك، بل كل
ما هناك أن لهم أن يناقشوه في طروحاته، كما يناقش هو الآخرين، في ما طرحوه".
الرؤية (4): يظن فريق رابع أنّ الدين هو لحظات فريدة في التاريخ، يعيش معها
الناس بذاكرتهم إلى الوراء منتزعين أنفسهم من حاضرهم وتاركين مستقبلهم. ففي
اليهودية يظن البعض أنها العهد أو الميثاق في صيغته الأخيرة عند موسى (ع) مع ما
يتضمنه ذلك من أرض الميعاد والشعب المختار، والأرض والمدينة والمعبد، والنصر،
والجيش، والمغنم، والخروج من مصر، والتوجه إلى الأرض المقدسة. هذا التصور للدين
يبرر القتل والعدوان كما تفعل الصهيونية في فلسطين وكأنّ الدين بضاعة يدافع عنها
صاحبها.
ويتصور
المسيحيون أنّ الدين أيضاً لحظة فريدة في التاريخ، ظهور السيد المسيح عندما اجتمع
الخلود والزمان في الشخص.
ويتصور
المسلمون أنّ الدين -فقط- هو العودة بالذاكرة إلى أيام النبوة، والسيرة العطرة لأهل
بيته، وللصحابة، والتابعين. ويؤدِّي هذا التصور إلى رد الزمان كله إلى لحظة واحدة
في الماضي وإلى إيقاف التاريخ كله، مساره وتقدمه في مرحلة واحدة في الماضي وكأنّ
ما يحدث الآن ليس من الدين في شيء.
الرؤية (5): يظن فريق خامس أنّ الدين هو ميدان الأسرار والغيبيات
والمعجزات، وكل ما يخرج عن نطاق العقل ويسبح في المخيال الشعبي، ميدان الدهشة
والعجب الذي يدفع الإنسان إلى الإيمان والاستسلام. مع أنّ الإسلام دين العقل
والبرهان، والرسول المبعوث من الله بشر مثلنا يُوحى إليه، يأكل الطعام ويمشي في
الأسواق. وعندما طلب منه إجراء المعجزات كما فعل موسى، تنزيل المطر من السماء، أو
تفجير العيون من الأرض أجاب بأنّ ذلك خارج سلطة البشر بما في ذلك الرسول {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ
الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ
فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا
زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً *
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن
نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ
رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن
يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا
رَّسُولاً * قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ
لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً}.
"لا
شك أنّ مثل هؤلاء القوم ينطلقون من انطباعات ساذجة، ناشئة من الاستغراق في الجوانب
البارزة للخصائص غير العادية أو غير المألوفة لهذه المخلوقات، التي يمنحونها هذه
الصفة من دون التفات إلى أنّ الله قد يمنح بعض عباده قدرات لا يمنحها لغيرهم، لأنّ
هناك دوراً محدّداً يفرض ذلك، أو لأنّ طبيعة الموقع الذي يتحرك فيه هذا المخلوق
يتوقف على ذلك. فالله الذي أعطى القدرة المألوفة، هو الذي يعطي القدرة غير
المألوفة، بالإضافة إلى أنّ الألفة لا تمنح الشيء الحالة الذاتية الطبيعية، ليكون
المقابل لها حالة خارقة خارجة عن الطبيعة، فلو دققنا في عمق هذه الحالة أو تلك،
لرأينا سرّ الإبداع والعظمة مشتركاً بينهما، في نوعية الخصائص التي يتميز بها هذا
عن ذاك، ولكن الألفة تخفف عظمة الأشياء في الوجدان".
وهذا
"ما يفرض علينا، في المنهج التربوي للتصور، عدم الاستغراق في الظواهر المثيرة
أو إعطائها قداسة غير حقيقية، من خلال مشاعر الانبهار التي يخضع فيها الإنسان
لإحساس غير طبيعي في استيحاء العظمة الخارقة من بعض الظواهر، لأنّ الجهل بعمق
السرّ الحقيقي للحالة أو للظاهرة، لا يعني أن نقفز إلى وضع التقديس لنجعله الوجه
البارز للمسألة أو العمق الطبيعي لها، من دون أساس للاستغراق في دائرة التهاويل
الغامضة المسيطرة على الفكر والشعور".
إذن
لا بدَّ للمنطق التقديسي من موازين دقيقة؛ إذ علينا أن نعطي الأشياء حجمها الطبيعي
في الدائرة الإنسانية عندما تتصل المسألة بتعظيم إنسان ما، إذ لا بدّ من أن ندخل
في عملية تقييم دقيقة للمنطق التقديسي من خلال الخصائص المميزة، لنعرف -جيداً- هل
هي متصلة بالذات في جوانب العظمة في عالم الأسرار، أو هي متصلة بالدور في مواقع
الحركة للرسالة أو للرسول أو للولي ... وبذلك نبتعد عن التضخيم الذي يقودنا إلى
الغلو في الشخصية إذ نمنحها ما ليس فيها، وبالتالي إلى الانحراف في العقيدة
والعمل.
بعد هذا التطواف نقول:
هذه
التصورات للدين هي في الحقيقة ابتسار للدين وتضييق لمجاله، وإبعاده عن الحياة
وواقع الناس، ويصبح عالماً مغلقاً على ذاته، غاية في ذاته وليس وسيلة لغاية أخرى
مثل إسعاد البشر. فالدين هنا غريب عن الحياة ومغترب عنها، يدفع بالمتدين إلى خارج
العالم المادي المعاش، ويصبح أداة لنسيان الهم، والعزاء والسلوى للضنك والكرب،
مجرد راحة من تعب، وهدنة في حرب، ونوم بعد يقظة. يقبله العاجزون الذين لا يجدون له
بديلاً، ويرفضه القادرون إلى ما هو أكثر التصاقاً بالحياة، المذاهب السياسية
والتيارات الفكرية والمدارس الفنية.
إنّما
الدين في الحقيقة هو نظام حياة للفرد والأسرة والمجتمع والإنسانية جمعاء. هو تصور
كامل للحياة ينبثق منه نظام للمجتمع متفق مع نظام الكون. الدين وسيلة وليس غاية في
ذاته، طريق لإسعاد البشر لا لتبرير الشقاء مفجر لإبداعات البشر من خلال الاجتهاد
والتعبير الحر، والقدرة على الجهر بالحق وليس أداة كبت وخوف وقهر وحرمان. والدين
دافعٌ على التقدم ومخططٌ للمستقبل وليس راجعاً إلى الوراء -حنيناً إلى الماضي-.
فالجنة في المستقبل وليست في الماضي، والعصر الذهبي قادم ولم يتولَّ بعد.
إنّ
المتأمل في الحديث المشهور "بني الإسلام على خمس" ليجد في هذه الأركان
الخمسة ارتباط الدين بالحياة.
وكما
يذكر الناس عادة أركان الإسلام الخمس، يذكر الفقهاء ضروريات الشريعة؛ وهي التي
حصرها الشهيد الأول (المتوفى 786هـ) في أمور خمسة وسماها بالضروريات الخمس: "حفظ النفس، وحفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النسب، وحفظ
المال".
والعقل
أول مظهر للحياة؛ فهو أداة العلم، وهو أيضاً أساس التكليف وشرط المسؤولية، ويتجه
العقل نحو كل شيء بالتحليل والنقد، والمواجهة والحوار، دون تسليم وطاعة.
وأما
الدين، فهو المعيار العام الشامل الذي لا يختلف عليه البشر مثل العدل والحرية
والأخوة بين البشر، فالكل لآدم وآدم من تراب، حماية للروح الإنساني من الوقوع في
النسبية والشك واللاأدرية حتى العدمية، وهو ما يحدث حالياً في الوعي الغربي.
والعرض
(النسب) ليس فقط عرض الأفراد؛ حماية لحقوقهم، بمعنى الحفاظ على طهارة الأنساب، بل
يعني أيضاً عرض الشعوب وكرامة الأمم وكل ما ينال من قيم الشرف. فالأرض عرض في
المثل الشعبي، وكرامة الأمة عرض سياسي. وحصار شعب ينال من عرضه وكرامته، وتشويه
صور ثقافة ينال من عرضها في التاريخ.
ولا
يعني المال، المال الخاص بل الثروة العامة، ثروات الأمم دون استغلال أو احتكار،
وتوجيهها للصالح العام. ولا يعني المال السائل أي النقود بل الثروات المنظورة وغير
المنظورة، على سطح الأرض وفي باطن الأرض، الزراعة والتعدين، المنقول وغير المنقول.
إذن
لا عذر لمن يترك الدين لأنه بعيد عن الحياة ويلجأ إلى المذاهب السياسية لأنّ بها
إجابات عن الأسئلة التي يطرحها. إنما العيب فيمن استحوذ على الدين وأبعده عن
الحياة طلباً للرئاسة والسيطرة. والعيب أيضاً على من استسهل وترك الدين في يد
أعدائه وذهب إلى دين آخر بديل لا يدري هل هو من صنع الأصدقاء أو من صنع الأعداء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق