السبت، 2 نوفمبر 2019


**الإمام الحسن العسكري ومسارات التصحيح**


من أهل البيت الطاهر الإمام أبو محمد الحسن بن علي العسكري (ع)، الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت (ع)، حيث كان الأئمة من أهل البيت، منذ أمير المؤمنين (ع) إلى الإمام العسكري (ع)، كانوا يعيشون مع الناس ويبلِّغون رسالة رسول الله (ص)، من خلال:

1.   تقويم ما انحرف من تشريعات وأحكام ومفاهيم.
2.   تصحيح ما أخطأ الناس فيه من تطبيق.
3.   تأصيل المفاهيم الإسلامية المنسجمة مع روح القرآن.
4.   تمثيل القدوة التي يقتدي الناس بها؛ لأنّهم من أهل بيت النبي (ص) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

ففكرهم هو فكر الحق، وعاطفتهم هي عاطفة الحق، وعملهم هو خط الاستقامة الذي أراده الله تعالى في صراطه المستقيم.

وقد بينها الإمام العسكري (ع) بوضوح في رسالته إلى إسحاق بن إسماعيل النيسابوري، قال:

"... يَا ابْنَ إِسْمَاعِيلَ لَيْسَ تَعْمَى الْأَبْصارُ لَكنْ {تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ لِلظَّالِمِ: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً}؟ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجِلَّ: {كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى}، وَأَيُّ آيَةٍ يَا إِسْحَاقُ أَعْظَمُ مِنْ حُجَّةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى خَلْقِهِ، وَأَمِينِهِ فِي بِلَادِهِ، وَشَاهِدِهِ عَلَى عِبَادِهِ؟! مِنْ بَعْدُ مَنْ سَلَفَ مِنْ آبَائِهِ الْأَوَّلِينَ مِنَ النَّبِيِّينَ، وَآبَائِهِ الْآخِرِينَ مِنِ الْوَصِيِّينَ، عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ... إِنَّ اللهَ، بِفَضْلِهِ وَمِنْهِ، لَمَّا فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْفَرَائِضَ، لَمْ يَفْرِضْ عَلَيْكُم لِحَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْكُمْ، بَلْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ -لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ- عَلَيْكُمْ، لِيَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطِّيبِ، وَ لِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ، وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ، ولتتسابقون إِلَى رَحْمَتِهِ، وَتَتَفَاضَلُ مَنَازِلِكُمْ فِي جُنَّتِهِ..." [رجال الكشي: ح 1088، أمالي الطوسي: ص 654، علل الشرائع: ج 1 ص 249].

لا شك أنّ إيمان الناس بالقيادة الشاهدة عليهم، الحاضرة بينهم، أشد صعوبة على أنفسهم من إيمانهم بمن مضى من بينهم؛ لأنهم إذا آمنوا بالشاهد الحاضر، تطلب منهم إتباعه وطاعته والتسليم لأمره، وما أصعب الطاعة والتسليم، وبالذات إذا اختلفت الرؤى وتناقضت المصالح، ومن هنا كثرت حالات الوقف عند كثير من أتباع أئمة أهل البيت كلما مضى إمام، وقام إمام مقامه، وكثير ما كان الوقف من قبل الوكلاء الذين تجمعت عندهم أموال الحقوق، ولعب بأهوائهم ريح الرئاسة وشهوة السلطة.

وقد لحق الإمام العسكري (ع) الكثير من الأذى بسبب هؤلاء، وربما أكثر من الماضين من الأئمة، كما يظهر من حديث روي عنه يقول فيه: "مَا مُنِيَ أَحَدٌ مِنْ آبَائِي بِمِثْلِ مَا مُنِيتُ بِهِ مَنْ شَكِّ هَذِهِ الْعِصَابَةِ فِيَّ".

ماذا يمثل لنا الإمام العسكري الحسن (ع)؟


في تاريخ كل إمام من أئمة أهل البيت محطات:

المحطة الأولى: أن نقرأ تراثهم قراءة صحيحة، بحيث نقف على فهمهم للإسلام، وكيف أرادوا لنا أن نرتفع إلى المستويات العليا في الحياة، ثقافياً واجتماعياً وسياسياً؛ ليكون الإسلام متمثلاً بنا إيماناً وعملاً، ونهجاً وممارسة، وقانوناً وشريعة.

المحطة الثانية: أن نعرف أهل البيت في مراتبهم ولا نرتفع بهم إلى درجة الغلو؛ لأنّ الغلوّ يُخرج المسلم عن وعيه بإسلامه إلى زاوية حادة، ولا بد لنا أن نقف بهم حيث عرّفونا، وأن نكون معهم على أساس ما قالوه: "مَنْ كَانَ للهِ مُطِيعاً فَهُوَ لَنَا وَلِيٌّ، وَمَنْ كَانَ لِلهِ عَاصِياً فَهُوَ لَنَا عَدُوٌّ، وَمَا تُنَالُ وَلَايَتُنَا إِلَّا بِالْعَمَلِ وَالْوَرَعِ" [الكافي: ج 2 ص 74].

المحطة الثالثة: يعتبر الإمام الحسن العسكري الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت (ع)، وكان المقدَّم في مجتمعه، مع أنه لم يتجاوز مرحلة الشباب، حتى أنّه كان الناس يقومون له ويعظّمونه ويحترمونه لما له من الهيبة في القلوب والعقول، لأنّه فرض نفسه بما أعطى من علم وما اتّصف به من خلق، وبما تحرك به من سيرة، فكان المثال الحي الناطق لتعاليم الإسلام. وكان هذا الامتداد الشعبي في محبة الناس له يخيف السلطة آنذاك، ولذا كانوا يضطهدونه بين وقت وآخر، خشية أن يمتد إلى مواقعهم.

ومن بعد الإمام العسكري انطلق نموذج جديد على الشيعة، وهي الإمامة الغائبة، وكانت نتيجتها الغيبة الكبرى، إنطلاقاً من قول الإمام المهدي (ع): >وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا، فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اللهِ< .. وهكذا فتح باب الرجوع إلى العلماء الصالحين الورعين المجتهدين الواعين لخط الإسلام، المخلصين لله ولرسوله، والذين لا يبيعون دينهم بدنيا غيرهم ولا بدنياهم، والذين يستقيمون على الخط ولا تأخذهم في الله لومة لائم..

فقد روى الإمام الصادق (ع)، قال: قَالَ رَسولُ اللهِ (ص): "الْفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ مَا لَمْ يَدْخُلُوا فِي الدُّنْيَا"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا دُخُولُهُمْ فِي الدُّنْيَا؟! قَالَ: "إتِّبَاعُ السُّلْطَانِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَاحْذَرُوهُمْ عَلَى دِينِكُمْ" [الكافي: ج 1 ص 46].. أي: احذروا هؤلاء الذين يتاجرون بدينهم، والذين يبيعون دينهم للسلطان، فيعطونه الفتوى على حسب مصالحه، ويعطون الفتوى على حسب عقدهم النفسية ومصالحهم الشخصية.. فتحرزوا منهم محافظة على دينكم ولا تراجعوهم ولا تسألوهم عن دينكم لئلا يردونكم عن دينكم فتنقلبوا خاسرين..

محاصرة الإمام العسكري وسجنه:


من عادة الحكّام العباسيين عندما يتحسسون الخطر من أي شخص، ولا سيما إذا كان من بني علي (ع)، أنَّهم كانوا يضيّقون عليه وعلى أتباعه؛ لأنّهم يعرفون عمق انتماء هذا الفريق من الأمة لأئمتهم، لذلك كانوا يحاصرون حركتهم ويصادرون حريتهم ويوظِّفون المخابرات لرصد أعمالهم.

وتنفيذاً لهذه السياسة، حُوصِر الإمام العسكري (ع) في عهد الخليفة المتوكل، واعتقل مرات عدة في عهد من جاء بعده، من عهد المستعين إلى المعتز إلى المهتدي إلى عهد المعتمد.

فكان العباسيون يراقبون الإمام العسكري (ع) مراقبة شديدة؛ لأنَّهم كانوا يخافون منه على سلطانهم، كما أنَّه كان هناك شكاوى عديدة من بعض الناس المعقّدين منه.

وفي زمن المعتز، أُدخل الإمام العسكري إلى السجن، فـ"دَخَلَ الْعَبَّاسِيُّونَ عَلَى صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ، وَدَخَلَ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُنْحَرِفِينَ عَنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ -أي ناحية الأئمة من مخالفيهم- عِنْدَمَا حَبَسَ أَبَا مُحَمَّدٍ (ع) فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: وَمَا أَصْنَعُ، قَدْ وَكَّلْتُ بِهِ رَجُلَيْنِ مِنْ أَشَرِّ مَنْ قَدَرْتُ عَلَيْهِ، فَقَدْ صَارَا مِنَ الْعِبَادَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ إِلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، فَقُلْتُ لَهُمَا: مَا فِيهِ؟! فَقَالَا: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ يَصُومُ النَّهَارَ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ، لَا يَتَكَلَّمُ، وَلَا يَتَشَاغَلُ، وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَيْهِ ارْتَعَدَتْ فَرَائِصُنَا، وَيُدَاخِلُنَا مَا لَا نَمْلِكُهُ مِنْ أَنْفُسِنَا. فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ انْصَرَفُوا خَائِبِينَ" [الكافي: ج 1 ص 512].

وهذا النص يدلّ على مدى قوة التأثير الروحي الذي كان الإمام العسكري (ع) يتمتع به، وتلك هي خصوصيّة أهل البيت (ع) الذين يملكون من الملكات القدسية التي حباهم الله إياها ما يفيضون به على كلِّ الناس؛ بكل معرفتهم وروحانيتهم وخلقهم الذي يمثّلونه.

وينقل لنا التاريخ أيضاً كيف كان تأثير الإمام في السجن، ففي الرواية عن علي بن محمد عن محمد بن إسماعيل العلوي قال: "حُبِسَ أَبُو مُحَمَّدٍ (العسكري) عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أوتَامشَ، وَهُوَ أَنْصَبُ النَّاسِ وَأَشَدُّهُمْ عَلَى آلِ أَبِي طَالِبٍ، وَقِيلَ لَهُ: افْعَلْ بِهِ وَافْعَلْ، فَمَا أَقَامَ عِنْدَهُ إِلَّا يَوْماً حَتَّى وَضَعَ خَدَّيْهِ لَهُ -كنايةً عن الخضوع والتذلّل-، وَكَانَ لَا يَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَيْهِ إِجْلَالًا وَإِعْظَاماً، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، وَهُوَ أَحْسَنُ النَّاسِ بَصِيرَةً، وَأَحْسَنُهُمْ فِيهِ قَوْلًا" [الكافي: ج 1 ص 584].

لقد كان تأثير الإمام العسكري (ع) الروحيّ على هذا الرجل قوياً وصل إلى درجة استطاع فيها أن يغيّر تفكيره كله ووجدانه كله، وإذا به يتحول من عدو لدود إلى صديق حميم.

متابعة الأفكار والحوار العلمي:


ما نراه جلياً في واقعنا المعاصر؛ وبمجرد أن تختلف مع الآخر تبدأ التصفية الفكرية فضلاً عن الجسدية ولا توجد ثقافة "رأيي صحيح يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصحة"، وكأننا نملك الحقيقة المطلقة المنزلة من السماء، وهذا من أحد أسباب التقديس الأعمى للموروث الفكري والثقافي!

وهنا نتساءل: هل كان الرسول الأكرم (ص) شاكاً بدينه وبرسالته لكي يحدثنا القرآن الكريم على لسان رسوله {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}(سبأ: 24)، إنه قمة التواصل الإنساني بين الذات والآخر.

إننا نرى اليوم من يجعل لنفسه القدسية فيرفض كل من لا يتفق مع فكره، ويستخدم سلاح الفتوى الفتاك لإقصائه أو تصفيته، ويعتقد أنّ الساحة ضيقة لا تتسع للفكر المنفتح، ولكن فاته أنّ الساحة تتسع للجميع ولا يمكن محاصرة الفكرة وكلما حوصِر الفكر فسوف تصل إلى العقول أسرع.

وهناك قصة ينقلها ابن شهرآشوب أنّ الكندي: "أخذ في تأليف تناقض القرآن وشغل نفسه بذلك وتفرد به في منزله، وإنّ بعض تلامذته دخل يوماً على الحسن العسكري، فقال له أبو محمد C: أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عما أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟
فقال التلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟

فقال له أبو محمد (ع): "أتؤدي إليه ما ألقيه إليك؟".

قال: نعم.

قال: "فصر إليه وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله فإذا وقعت الأنسة في ذلك، فقل: قد حضرني مسألة أسألك عنها، فإنه يستدعي ذلك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلم بالقرآن - أي الذي يوحي لك بهذه الأفكار -، هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم به غير المعاني التي قد ظننت أنّك قد ذهبت إليها؟ فإنّه سيقول: إنه من الجائز، لأنّه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك، لعلّه قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه فيكون واضعاً لغير معانيه" -(لقد أراد الإمام العسكري أن ينبه الفيلسوف الكندي إلى أنّ اللغة العربية مرنة متحرّكة، فقد يفهم بعض الناس الكلام على أنه الحقيقة وهو من المجاز، وقد يفهم أن المراد هو المعنى اللغوي والمقصود هو المعنى الكنائي)-.

فصار الرجل إلى الكندي، وتلطف إلى أن ألقى إليه هذه المسألة، فقال له: أعد علي، فأعاد عليه، فتفكر في نفسه ورأى أنّ ذلك محتمل في اللغة وسائغ في النظر.. فقال: أقسمت عليك إلا أخبرتني من أين لك؟

فقال: إنه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك.

فقال: كلا ما مثلك من اهتدى إلى هذا، ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرفني من أين لك هذا؟

فقال: أمرني به أبو محمد (ع).

فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا الأمر إلا من ذلك البيت. ثم إنه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألّفه< (مناقب آل أبي طالب: ج 3 ص 459).

وفي القصة حقيقتان مهمتان:

الأولى: في حوارك مع الطرف الآخر عليك أن تدخل قلبه لتستطيع أن تدخل عقله، وهذا أسلوب من أساليب الحوار في القرآن، وهو أنك إذا أردت أن تدخل في حوار فكري مع شخص آخر تختلف معه لتقنعه بما أنت فيه، أو لتناقشه فيما هو فيه، فعليك أولاً أن تفتح قلبه بالكلمة الحلوة والإطلالة الحلوة والأسلوب الحلو، لا أن تكفّره وتزندقه وتجهّله {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} و {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

الثانية: إنّ عظمة أهل البيت (ع) أنهم لا ينكرون على الذين يختلفون معهم صفاتهم الإيجابية، خلافاً لما هو دائر بيننا، فإذا اختلفنا مع شخص فلا نتحدث عنه بخير ولو بنسبة واحد بالمائة، فمع أنّ الكندي ألف كتاباً في تناقض القرآن وهو أمر خطير يمس الكتاب التشريعي الإلهي، لكنّ الإمام (ع) يقول لتلميذه إنه سيقول لك من الجائز، لأنه رجل مفكر ولأنه رجل منسجم مع نفسه، فإذا جئته بفكرة معقولة فإنها سوف تدخل عقله ولا يتعصّب في رفضها ويتشبّث بقناعاته.

من نهج الإمام ووصاياه:


الإمام العسكري (ع) إمام لم يتخطَّ سن الشباب، لأنه مات حسبما ينقل المؤرخون مسموماً، ولكنه قد ملأ مرحلته في الواقع الإسلامي علماً، فقد روى عنه الكثيرون من العلماء وتلمذوا عليه، وكانوا يرجعون إليه، وقد كانت منزلته في المجتمع حتى عند رجال السلطة التي تضاده، منزلة كبيرة لم تحصل لأحد من الناس آنذاك حتى للكبار من بني هاشم.

ونحن في ذكرى وفاة الإمام الحسن العسكري (ع)، نحاول أن نقرأ وصيته الأخيرة لشيعته:

"أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالْوَرَعِ فِي دِينِكُمْ، وَالِاجْتِهَادِ لِلهِ، وَصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكُمْ عَلَيْهَا مِن بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، وَطُولِ السُّجُودِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ فَبِهَذَا جَاءَ مُحَمَّدٌ (ص)، صَلُّوا فِي عَشَائِرِهِمْ، وَاشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ، وَعُودُوا مَرْضَاهُمْ، وَأَدُّوا حُقُوقَهُمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذَا وَرِعَ فِي دِينِهِ، وَصَدَقَ في حَدِيثِهِ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَحَسُنَ خُلُقُهُ مَعَ النَّاسِ، قِيلَ: هَذَا شِيعيٌ فَيَسُرُّنِي ذَلِكَ، اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا زَيْناً، وَلَا تَكُونُوا شَيْناً، جُرُّوا إِلَيْنَا كُلَّ مَوَدَّةٍ، وَادْفَعُوا عَنَّا كُلَّ قَبِيحٍ، فَإِنَّهُ مَا قِيلَ فِينَا مِنْ حُسْنٍ فَنَحْنُ أَهْلُهُ، وَمَا قِيلَ فِينَا مِنْ سُوءٍ فَما نَحْنُ كَذَلِكَ‏، لَنَا حَقٌّ فِي كِتَابِ اللهِ وَقَرَابَةٍ مِنْ رَسُولِ اللهِ، وَتَطْهِيرٍ مِنَ اللهِ لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ غَيْرُنَا إِلَّا كَذَّابٌ، أَكْثِرُوا ذِكْرَ اللهِ، وَذِكْرَ الْمَوْتِ، وَتِلَاوَةَ الْقُرْآنِ، وَالصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ... احْفَظُوا مَا أَوَصِيَّتُكُمُ بِهِ، وَأَسْتَوْدِعُكُمُ اللهُ، وَأَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامُ".

هذه الوصية المهمة تناولت الكثير من التعاليم الإسلامية المهمة ، والتي نحتاج إليها في هذا العصر، وفي كلِّ عصر:

1.    تقوى الله هي الغاية التي لا بدَّ للمسلم أن يبلغها في قوله وعمله وعلاقاته، لأنّها زاده إلى رضوان الله.
2.    الورع بأن تبتعد عن كل حرام فلا تفعله، وأن تلتزم بكل واجب لتأتمر بأوامره.
3.    الاجتهاد لله في توحيده وطاعته والإخلاص في عبادته.
4.    الصدق هو علامة الإيمان، و "لا يكذب الإنسان وهو مؤمن"، فإذا كان الإنسان ممن يأخذ بالكذب في حديثه وأوضاعه خرج من الإيمان.
5.    الأمانة على أموال الناس وعلى أعمالهم، فإنّ رسول الله (ص) انطلق ليؤكد شخصيته الرسالية قبل أن يُبعث بالرسالة، فكان الصادق الأمين، حتى غلب ذلك على اسمه.. وقد ورد عن الإمام الصادق (ص) عندما قال له بعض أصحابه: إنّي أريد أن أكون قريباً إليك، فقال: "أنظر إلى ما بلغ به عليّ عند رسول الله من المكانة فافعله، فإنّ علياً بلغ ما بلغه عند رسول الله بالصدق والأمانة". فارتفعت منزلة علي عند رسول الله (ص) بصدقه وأمانته.. إنَّ أخبث الوسائل التي يقع فيها الناس هي وسيلة الإغراء والمساومة التي يضيع معهما الأمانة على الدين والدنيا، فكثيرون يتخلون عن مواقفهم، وحراكاتهم النضالية بسبب حفنة من المال، أو منصب أو وظيفة، أو حظوة عند سلطان.. وما أحقر هذا الثمن مهما كان كبيراً في نظر هؤلاء الضعفاء المهزوزين... أيُّ قيمة لمال ملوث يُشترى به الدين والضمير؟!
6.    يريد منا الإمام (ع) أن نطيل سجودنا لله؛ لأنه المظهر الحي لإظهار العبودية لله، وقد ورد أنَّ أقرب ما يكون الإنسان إلى ربه وهو ساجد، ولذلك اسجدوا لله ولا تسجدوا لأي إنسان حتى لو كان في أعلى مراتب القرب إلى الله؛ لأنَّ الإنسان عبد لله والسجود هو من خصوصيات العبادة لله، وإذا كان القرآن الكريم قد تحدث عن سجود الملائكة لآدم (ع)، فإنّه ليس سجوداً لآدم، ولكنه سجود لله تعظيماً لخلقه لآدم، وهكذا عندما سجد يعقوب (ع) وزوجته ليوسف (ع)، فإنّه لم يكن سجوداً ليوسف (ع) ولكنه كان سجوداً لله تعالى على ما أعطاه لهم وليوسف من النعم.
7.    ثم اندفع الإمام (ع) ليتحدث بمثل ما كان يتحدث به الإمام الصادق (ع)، ليبين كيف يجب أن تكون علاقتنا بالآخرين ممن ينتمون للمذاهب الإسلامية الأخرى، من خلال تطبيق (حُسْنِ الْجِوَارِ):
8.    "صَلُّوا فِي عَشَائِرِهِمْ" أي معهم.
9.    "وَاشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ، وَعُودُوا مَرْضَاهُمْ، وَأَدُّوا حُقُوقَهُمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذَا وَرِعَ فِي دِينِهِ، وَصَدَقَ في حَدِيثِهِ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَحَسُنَ خُلُقُهُ مَعَ النَّاسِ، قِيلَ: هَذَا شِيعيٌ فَيَسُرُّنِي ذَلِكَ": وكأنّ الإمام يريد أن يقول لنا: إنّ الشيعي هو الإنسان الورع في الدين، الصادق في الحديث، المؤدِّي للأمانة، حسن الخلق مع الناس، بحيث ينفتح على الناس كلهم بالخلق الحسن، ويدخل في قلوبهم من خلال أخلاقه الحسنة.
10.          "اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا زَيْناً، وَلَا تَكُونُوا شَيْناً" لا تكونوا في أخلاقكم ومعاملاتكم ومظاهركم والتزاماتكم الدينية عيباً علينا.
11.          "جُرُّوا إِلَيْنَا كُلَّ مَوَدَّةٍ": اجعلوا الناس يحبوننا عندما تحدثونهم عن محاسن أخلاقنا وكلامنا وسيرتنا، في خط الاعتدال بعيداً عن كل خط الغلو والسباب والشتائم.
12.          "وَادْفَعُوا عَنَّا كُلَّ قَبِيحٍ، فَإِنَّهُ مَا قِيلَ فِينَا مِنْ حُسْنٍ فَنَحْنُ أَهْلُهُ، وَمَا قِيلَ فِينَا مِنْ سُوءٍ فَما نَحْنُ كَذَلِكَ‏.." ادرسوا سيرتنا وتراثنا وما نحن فيه، وتحدثوا فيه إلى الناس، ليعرفوا حقيقة أمرنا بعيداً عن كذب الكذّابين، أو ما ينسبه إلينا الحاقدون.
13.          "لَنَا حَقٌّ فِي كِتَابِ اللهِ وَقَرَابَةٍ مِنْ رَسُولِ اللهِ، وَتَطْهِيرٍ مِنَ اللهِ لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ غَيْرُنَا إِلَّا كَذَّابٌ".
14.          "أَكْثِرُوا ذِكْرَ اللهِ" لأنّ الإنسان إذا ذكر الله في كل حالاته، منعه هذا الذكر عن معصية الله ودفعه إلى طاعته.
15.          "وَذِكْرَ الْمَوْتِ"؛ لأنَّ الإنسان إذا ذكر الموت ذهب الصدأ عن قلبه، وقد ورد عن رسول الله (ص): "إنّ القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد"، قيل: يا رسول الله، وما جلاؤها؟ قال: "قراءة القرآن وذكر الموت".
16.          "وَتِلَاوَةَ الْقُرْآنِ، وَالصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ... احْفَظُوا مَا أَوَصِيَّتُكُمُ بِهِ، وَأَسْتَوْدِعُكُمُ اللهُ، وَأَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامُ".

{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} والسلام عليك أيها الإمام الزكي، يوم وُلدت، ويوم استُشهدت، ويوم تُبعث حيّاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محرم 1447 في الصحافة الكويتية