الأربعاء، 18 ديسمبر 2019


4  -  4  سمات المجتمع المتدين
(كيفية تحقيق الدين المعاملة)

ربما علينا أن نسأل سؤالاً مهمًا وصريحًا:

ما هو علاقة الدين بالحياة (القانون)؟

هو الذي يبين المحرمات والواجبات .. فالقانون يتولد تلقائيًا حين يلتقي الناس، فإذا حدث أن دخل إنسان كهفًا وليس فيه أحدٌ، فإنه يُباح له أن يجلس في أي مكان شاء، ولكن إذا كان فيه مجتمع بشري متعدد، فلا يمكن أن يجلس في المكان الذي يجلس فيه الآخر، فيحرم عليه هذا المكان الذي يجلس فيه الآخر، ويكون بذلك قد تولد الحرام تلقائيًا..

كذلك الأطفال -وهم يلعبون- يضعون قانونًا للعبهم فيلتزم به الطرفان.

وحين يحدث خرق للقانون ويريد البعض أن يجلسوا على ظهور الآخرين، هنا ينبغي أن يتدخل الوعي الإنساني الاجتماعي لوضع حدٍ لانتهاك المحرم، وعندئذٍ تبرز مشكلة القانون في أعمق مستوياته؛ لأنّ القانون يفترض التزام الأطراف لحماية الأفراد الذين يقع عليهم العدوان.

والقانون بمجرد التفكير فيه، يتولد منه تلقائيًا: إلغاء العنف، وإعلان الخروج من العنف، وحل المشكلات من دون لجوء إلى العنف، فمن لا يقبل ترك العنف، لا يمكن أن يدخل في عالم القانون.

والدخول إلى القانون طوعي، ولا يكون القانون قانونًا، إن لم يطبق على كل الذين يدخلون فيه، فالمشكلة ليست في قسوة القانون أو لينه، بل المشكلة أن لا يخرج أحد على القانون وأن لا يُنْقَضَ الميثاق؛ لأنَّ قسوة القانون ولينه يمكن التدخل فيها باتفاق الداخلين فيه، والأقسى هو تطبيقه على بعض وعدم تطبيقه على آخر فهذا الظلم الذي على أساسه هلاك المجتمعات.

{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}.

إذن، معنى القانون حماية الأفراد الذين يدخلون فيه، فقد تنازلوا للقانون لكي يحميهم، وتنازلوا عن أن يلجؤوا هم لحماية أنفسهم، هذا هو معنى أن يعيش الإنسان في مجتمع، وأن يحمي المجتمع الأفراد الذين ينتمون إليه، ويفصل بينهم بالعدل، وإذا تخلّى المجتمع عن حماية أفراده يكون المجتمع قد رجع إلى شريعة الغاب. ولن يوجد قانون في مكان يعتمد فيه الناس على قوتهم، وليس على قوة القانون والمجتمع.

إذن، القانون هو إيقاف العنف ليكون الحل بالسلم، ولن تحل (الديمقراطية) في مكان يعتمد فيه الناس على قوتهم الخاصة، أو يوجد فيه أناس يؤمنون بأنّ القوة التي عندهم هي التي ستحميهم، وليست قوة القانون وقوة الفهم.

والخلاصة: حيث تسيطر القوة الجسدية فلا شريعة ولا قانون، وحيث يسيطر العلم والمعرفة والفهم والتطبيق تكون الشريعة والقانون، ولا سلطان للجسد. إذن، هل السلطة للمعرفة .. للجهاز العصبي .. أو للجهاز العضلي؟! هذا هو الفيصل بين مجتمع العنف واللاعنف، بين اللاشرعية والشرعية.

فالقانون والعنف ينفي أحدهما الآخر، فلا قانون حيث يوجد العنف، ولا عنف حيث يوجد القانون.

إنّ الديمقراطية (الشورى) هي حل المشكلات من دون عنف، وخاصة المشكلات السياسية؛ لأنه حيث تحل المشكلات بالعنف فلا ديمقراطية، وحيث توجد الديمقراطية لا تحل المشكلات بالعنف.

علينا أن نجتهد كثيرًا حتى يصير هذا الشيء -الذي هو واضح وخفي في آن واحد- واضحًا ويزول عنه الخفاء الذي يغلفه، بحيث يتحول إلى واضح وبديهي، وعلينا أن نتذكر لنتمكن من فهم الوضوح والخفاء موضوع الشمس، كم كان فهم حركة الشمس خفيًا على الناس جميعًا؟

إنّ أوضح شيء في الوجود كان أبعد شيء عن الإدراك، فكما تخفى علينا في لحظات ضياع المقياس أي القطارين هو الذي يتحرك في المحطة، كذلك يخفى علينا منشأ الحركة بين العنف والقانون، بين العضلات والجهاز العصبي..

لقد ضرب القرآن مثلاً في حركة الظل على خفاء مفهوم الحركة، وكذلك ذكر القرآن كيف ينخدع الإنسان بصوره الذهنية (أهوائه) ويتخذها إلهًا، وكأنّ صورته الذهنية هي الحقيقة، ويشبههم القرآن بالأنعام بل أضل سبيلاً؛ لأنّ الأنعام تسير حسب غرائزها لا حسب معرفة الخير والشر.. فالإنسان الذي صار عارفًا الخير من الشر إذا تخلّى عن ذلك يفسد أكثر من الأنعام، ثم يضرب مثلاً بحركة الظل، وكيف لنا أيضًا على أنّ صورنا الذهنية تخطئ في فهم أوضح شيء وهو الشمس، إلا أنّ خطأنا في الفهم لن يغير نظام الفلك، ونحن الذين سنتغير.. وكذلك لن تتغير علاقة القانون والعنف، حين نتوهم أننا لن نستطيع أن نعيش دون عنف.

إنَّ الذي يجهل تاريخ تطور المعرفة، هو الذي يمكن أن يتخذ إلهه هواه (صورة الذهنية). ولكنّ التاريخ وعواقبه هو الذي يكشف خطأ صورنا الذهنية، إنّ تاريخ المعرفة هو الشفاء من أن يتخذ الإنسان فهمه إلهًا. وحين أعلنوا -في الغرب- عن موت الله على يد الإنسان، ثم مات الإنسان بعد ذلك، يمكن القول بأنّ الله والأنبياء اللذين كانا في أذهانهم ماتا فعلاً، ووصلوا إلى العدمية مرة أخرى، وسبب موت الله والأنبياء هو غياب التاريخ، إنّ التاريخ سيبعث الله وسيبعث الإنسان.

ولكن التاريخ الدائم سيتغلب على الفساد الطارئ المؤقت .. إنَّ العالم لن يفسد إذا تصورناه فاسدًا:

{وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ} المؤمنون : 71.. {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً * أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} الفرقان: 43-45.

إنّ الدين والقانون ينبغي أن لا يتأسسا على أهواء الناس، أي صورهم الذهنية عن الدين والأنبياء، بل ينبغي أن توزن هذه الصور والأهواء بميزان تاريخ المعرفة الذي يحكمه القانون: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} الرعد: 17.

إنّ ديننا وثقافتنا لم يُبنيا على أسس متينة؛ لإنّ المؤسسات الدينية والأمم المتحدة -وهي أعلى مؤسسة سياسية عالمية- مبنية على إلغاء الدين، وإلغاء القانون وعلى عبادة القوة، عبادة العجل الذهني. والمثال على ذلك: إنّ حق (الفيتو) عارٌ على المثقفين الصامتين إنها ثمرة غرس المثقفين في العالم شاءوا أم أبوا، هذا ما قدمته أيديهم، من هنا نعلم إلى أي درجةٍ فسادُ التُرْبَة، وفساد الغرسة التي غرسها المثقفُ حيث كانت ثمرة غراس ثقافة القرن العشرين.

والسيد المسيح (ع) يقول -واضعًا لنا ميزانًا لمعرفة الخير من الشر، ولتمييز الأنبياء الصادقين عن الذئاب الخاطفة- (متى 7 : 15- 18): "احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة * من ثمارهم تعرفونهم" هل يمكن أن نعرف من هذه الثمرة ضعف الشجرة التي أثمرت هذه الثمرة الفجة التي تُعَقِّدُ المشكلات ولا تحلها؟ إنّ (الفيتو) هو دين فرعون وقانونه حيث يقول: {أنا رَبُّكُم الأعَلى} النازعات : 24، ويقول: {لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ} الشعراء: 29.

ولقد جاء في كثير من الأحاديث أنّ أئمة الإسلام كانوا يقولون: ما الدين إلا الحب. ومن ذلك ما جاء في الخصال والكافي عن الصادق (ع) أنّه قال: "وهل الدين إلا الحب" ثم تلا هذه الآية {قُلْ إِن كنتمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى}.

وموضوع الحب والفهم يمكن أن يكون مرادفًا لموضوع الإخلاص والصواب..

ويرى المتألهون أنّ الله والإنسان يتبادلان الحب {يحبهم ويحبونه} المائدة: 54، وإن كان حب الله يسبق حب الإنسان.

ولو راجعنا النصوص التأسيسية للأديان، بكل تفرعاتها، نراها تتفق جميعًا بتوجيه إتباعها نحو حب الخير للغير، مثلما يحبه المرء لنفسه، وفيما يلي نماذج لتعاليم أبرز الأديان في العالم حيال الآخر:

-       "هذا مجمل الواجبات: لا تعامل الغير بما إذا عوملت به آلمك" البراهمانية، مهبهراتا، 5: 1517.
-       "لا تؤذ الغير بسلوك تجده أنت بنفسك مؤذيًا لو سلك معك" البوذية، أودانا-فارقا، 18 : 5.
-       "هذا حقًا مثل المحبة اللطيفة: لا تعامل الغير بما لا تريد أن يعاملوك به"، [الكونفوشوسية، ديوان، 15: 23].
-       "الشيء الذي تبغضه، لا تعامل به صحبك، هذا مجمل الناموس، وكل ما تبقى شروح" [اليهودية، التلمود، شباط: 31أ].
-       "سمعتُم أنّه قيل تُحبُ قريبك وتبغض عدوَّك. وأمّا أنا فأقول لكم أَحبّوا أعداءكَم باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مُبغضيكم. وصلّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم" [إنجيل متى, 5: 43].
-       "فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوا هكذا انتم أيضًا بهم، لأنّ هذا هو الناموس والأنبياء" [إنجيل متى، 7: 12].
-       {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} فصلت: 34 - 35.
-       "لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" [حديث نبوي].

إنّ السبيل للتخلق بأخلاق الرحمن إنما يتحقق عبر إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين، وإضاءة أبعاده الأخلاقية والمعنوية والرمزية والجمالية، وتطهير التدين من كافة أشكال الكراهية.

ولا ريب في أنّ ذلك لا يعني اختزال الإنسان في مجموعة مفاهيم، وقيم مثالية، تتعالى على بشريته، وتصيّره كائنًا سماويًا مجردًا، منسلخًا عن عالمه الأرضي، مثلما تريد بعض الاتجاهات الصوفية والدعوات الرهبانية، بل يعني إنقاذ النزعة الإنسانية إيجاد حالة من التوازن والانسجام بين متطلبات جسده من حيث هو كائن بشري، وإمكانية غرس وتنمية روح التصالح مع العالم ، والتناغم مع إيقاع الكون، وتكريس حالة الانتماء للوجود، والتعاطف مع كافة الكائنات الحية والشفقة عليها، وتعزيز أخلاقية المحبة، وتدريب المشاعر والأحاسيس والعواطف على القيم النبيلة، والسعي لاكتشاف روافد ومنابع إلهام الطاقة الحيوية الايجابية في هذا العالم، والتواصل العضوي معها. وهذا يعني استيحاء صفات الرحمة والمحبة والسلام ونحوها من الرحمن، وليس صفات الموت والانتقام ونحوها من الله تعالى.

إنّ الدين يفتح لنا أبواب الحياة فليس هناك أفق مغلق على الإنسان بحيث لا يمكن أن يقتحمه..

ففي العلم: ليس هناك علم محرم.

وفي التجربة: أمرنا أن ننطلق لنكتشف الحقيقة من خلال التجربة؛ لأنّ بعض الحقائق لا نستطيع أن نكتشفها بالتأمل.

وفي السلوك: أرادنا الله أن نعيش مع الإنسان الآخر بسلام، فالحرب إنما تنطلق ضد الذين يفرضون الحرب على الإنسان ويريدون أن يصنعوا له المأساة.

وفي الأخلاق: أراد الله لنا أن نتحرك في خط السلوك لتكون لنا خصائصنا الفردية التي تحمي شخصيتنا فيما نعيشه من عناصر ذاتية، كما تحفظ لنا خصائصنا الاجتماعية فيما يراد لها أن تحمي نفسها من خلال ذلك.

ولا بد للإنسان المسلم إذا أراد أن يعيش الإسلام -كما أراد الله له ذلك-، أن يجمع في شخصيته العناصر التي ترتكز عليها الإيمان، والعناصر التي يرتكز عليها المفاهيم (التصور)، والعناصر التي يرتكز عليها السلوك (الحركة).

ولكن للأسف كلما ازدادت ثقافة الإنسان (المتدين) الواعي، كلما ازدادت غربته من قبل الطقوسيين، الذين لا يعرفون من الدين إلا طقوسه الشكلية فقط.. يقول المفكر الدكتور علي شريعتي في كتابه "الحسين وارث الأنبياء": "وعلى العكس مما يتصوره المثقفون المتغربون البعيدون عن الواقع، فإنّ المثقف الواعي المتدين الذي يبحث عن آماله وطموحاته الإنسانية في إيمانه وعقائده ونصوص ثقافته الدينية، يعيش وسط المجتمع المتدين أكثر غربةً ووحدة، لأنّ عرض الدين بشكل واعٍ يبعث على التحرك والتنوير، يغيظ -قبل كل شيء- القوى الدينية الرسمية".

الأربعاء، 11 ديسمبر 2019


** 3 – 4 التشدد الديني والتدين السطحي **


تعاني مجتمعاتنا العربية الإسلامية من موجات التشدد التي تختلف قوة من مجتمع لآخر، وتتخذ مظاهر مختلفة، وتتصدى هذه المجتمعات لمشاكل التشدد عن طريق وضع حلول عدة لها، وهذه محاولة لإلقاء الضوء على مظاهر التشدد الديني وبيان أسبابه وطرق معالجته. والمقصود هنا المبالغة والغلو في غير موضعه وفرض الرأي على الآخر وإساءة الظن به وتأثيمه، وقد يصل الأمر إلى تكفيره.. فهؤلاء متخلفون، يعيشون ذهنية مغلقة تعيش في زوايا التاريخ الدامي، ولا ينفتحون على الأفق الواسع الذي جاء به القرآن الكريم: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} البقرة: 115، بحيث يجب علينا أن نتوحد بالله أينما توجهنا.

وهذا هو منهج الإسلام الذي يقوم على اليسر ورفع الحرج والبعد عن التعسير يرفض التشدد. ونصوص القرآن والسنة تؤكدان أنَّ المرونة واليسر من العناصر الأساسية في المنهج الإسلامي وذلك لعدة اعتبارات:

1.  كون النصوص التشريعية محدودة، والمستجدات الحياتية محدودة، والمسكوت عنه من الأحكام أكثر بكثير من الأحكام المنصوص عليها، ولهذا نرى أنَّ هذه النصوص لم يكن الغرض منها أن تكون نصوص مقفلة وجامدة، بل مفتوحة على مستوى مقاصد القرآن الكريم، والمتغيرات التي تحيط بالإنسان.
2.  كون معظم النصوص ظنية الدلالة، قابلة لتعدد الآراء، وحمالة لأوجه من الفهم والاجتهاد، ولذلك نقول أن "التراث موروث ولكننا لا نحتفظ بهذا الإرث بل نحاول أن نناقشه وعلينا أن نحرّك سلوكنا في خط ما يمكن لنا أن نقبله وأن نبقيه من تراث وما يمكن أن نؤصله من حقائق العقيدة وحقائق الفكر".
3.  كون الإسلام صالح لكل زمان ومكان، لا من خلال التفسير الحرفي لتلك النصوص، بل بطريقة الرؤية الموضوعية لها واستيحاءها واستنطاقها؛ فالقراءة الحرفية للنصوص تمنع العقل المسلم من ارتياد آفاق التقدم، وهي العقبات المسؤولة عن توليد نزعات العنف والتطرف وتحجيم دور المرأة في المجتمع وتعزيز الكراهية للآخر غير المسلم. إنّ المهم كما يقول علي (ع): "ذَلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ" إنه دعوة دائمة للتساؤل والنظر والبحث وتفعيل العقل.
4.  كون الرسول (ص) جاء لرفع القيود والأغلال عن الأمة لإسراف من قبلنا في التشدد والابتداع في الدين. كل هذه الاعتبارات تحتم المرونة والتيسير وإلا وقعت الأمة في حرج شديد، ووقع الفرد المسلم في تأزم نفسي بين تكاليف دينه ومتطلبات حياته وعصره.
5.  ثم إنّ التشدد مخالف للفطرة الإنسانية ومناقض لقاعدة أساسية في الإسلام وهي أنّ الأصل في الأشياء والأفعال والتصرفات الإباحة، بينما التشدد ينطلق من قاعدة الأصل في الأشياء الحظر والحرمة.

والملاحظ في أمر التشدد مظاهر أربعة هي:


المظهر الأول: إنَّ التشدد آفة بعض المجتمعات الإسلامية قديماً، وفهمهم المغلوط للدين، وحديثاً في الجماعات المتشددة، غير أنّ تأثير التشدد قديماً كان محدوداً والفتنة كانت محصورة، بعكس ما هو ظاهر الآن من انتشار موجات التطرف في المجتمعات الإسلامية وبخاصة بين الشباب، حتى ليصل في بعض المجتمعات إلى صدام دموي بين الجماعات نفسها، وكذلك بينها وبين الأنظمة.

المظهر الثاني: إنّ التشدد لو كان محصوراً على ثوابت الدين وأحكامه الأساسية وقضايا المجتمع الرئيسية في الحرية والعدالة والشورى، وفي التنمية والتحرر، لكان أمراً محموداً ومطلوباً، أما أن يكون التشدد في الفرعيات والخلافيات والتوسع في الحظر والتحريم وشغل الناس بأمور جانبية وإثارة المعارك حول الخلافيات العقيمة كفرض النقاب، وتقصير الثياب، وحرمة التصوير، وسياقة المرأة، وعمل المرأة في المجتمع ووضعها الاجتماعي، والاختلاط، ... فهذا غير مقبول؛ لأنه يصرف الجهود في قضايا فرعية بدلاً من توجيهها لبناء المجتمع القوي المنتج.

المظهر الثالث: لو كان التشدد مقصوراً على أهله دون أن يتجاوز ذلك إلى فرضه على الآخرين لما كان الأمر مثاراً للاعتراض، بل قد يُحمل في بعض الحالات على باب الورع، وأما أن يستخدم أهل التشدد سلطتهم ونفوذهم لفرض رأيهم دون اعتبار للآخرين، بل يتجاوزون إلى التشكيك في عقائد المخالفين لهم والتفتيش في ضمائرهم، فهذا خروج عن المنهج الحق.

المظهر الرابع: وكذلك يلاحظ في أمر المتشددين أنَّ الأقوال تناقض السلوكيات والأفعال، مخالفة لتعاليم الإسلام، فتجد الغلظة والصلافة والتجهم في تعاملهم مع الآخرين، وتجدهم في مواطن الإنتاج والعمل وحقوق الناس متساهلين مفرطين.

وللتشدد أسباب وعوامل مساعدة هي:


1.  مع أنَّ معظم المتشددين عاطفتهم الدينية طاغية، فإنَّ وعيهم محدود وثقافتهم الدينية ضحلة، هي ثقافة قشرية ومظهرية، فلا فقه صحيحاً لهم في أمور الدين، ومعظمهم لم يدرس دراسة شرعية نظامية، وزادهم العلمي الثقافي مستمد من كتيبات وأشرطة تُروج في بقالات ومحلات وعلى أرصفة، ووضعها أناس غير متخصصين، ومعظمها لا قيمة علمية لها، ومشكلة هؤلاء ليست في قلة الدين، ولكن في قلة الفهم والعقل كما يقول الكاتب الإسلامي فهمي هويدي.
2.  أنَّ من بين هؤلاء من يتخذ من التشدد وسيلة للبروز الاجتماعي وطلباً للشهرة والزعامة والمرجعية، وتحقيقاً لمصالح عاجلة، وإصدار الفتاوى المعلبة التي تثير عواطف جمهور الناس ولا تغذي عقولهم وآمالهم.
3.  عدم كفاية التحصين الديني والفكري والثقافي في البيت والمجتمع والمدرسة والجامعة، وهذا يدعونا إلى إعادة النظر في مناهج التعليم والتربية والبرامج الإعلامية. فالتنشئة الاجتماعية الأولى عندنا لا تعطي الحرية الكافية للطفل للحوار، ولا تربيه على احترام الرأي الآخر.
4.  وجود الفراغ الثقافي والسياسي والاجتماعي في أوساط الشباب نتيجة عدم تنشيط وتشجيع الحوار الحر، وتوجيه الشباب نحو الانشغال بقضايا البناء والتنمية.
5.  قصور إسهامات الكفاءات العلمية والفكرية والثقافية في ملء الساحة العريضة وانسحابها من الميدان لأسباب عدة لا مجال لذكرها الآن، وهي معروفة على كل حال.
6.  ضعف مستوى بعض الدعاة نتيجة لضعف الحصيلة الثقافية المعاصرة والعلمية التي تم تزويدهم بها، فلا تسمع منهم إلا حديثاً مكرراً بعيداً عن اهتمامات الناس وهمومهم.
7.  أمراض نفسية وهي إفرازات محبطة ومقهورة سياسياً وثقافياً واجتماعياً، تشكل نوعاً من الهوس الديني، وتمثل نوعاً من ردود الفعل الغير مرضية تجاه المتغيرات المعاصرة.
8.  تعصب الحركات المتشددة لمذاهب معينة، ولأشخاص معينين يتخذونهم أئمة يأتمرون بأمرهم وآرائهم لا يحيدون عنها.

حلول ومقترحات قد تخفف من حدة المشكلة:


1.  منها ما يتصل بمسؤولية السلطات في إبعاد المتشددين عن مراكز القيادة والتوجيه والتربية والتعليم والإعلام.
2.  ومنها ما يتصل بواجب العلماء المهمومين بالإصلاح، وأهل الفكر والثقافة، في التصدي لمقولات المتشددين؛ لبيان تفاهتها حتى لا يغتر بها بعض الشباب، وكذلك لإرشاد هؤلاء المتشددين وتوجيههم إلى المفاهيم السليمة وهدايتهم إلى النهج العدل وإصلاحهم بالحوار والتناصح والإقناع.
3.  ومنها ما يتصل بمسؤولية الإعلام من زيادة الجرعات الثقافية والفكرية الممثلة بتعاليم الدين والعقل ومبادئهما وقيمهما، القائمة على الحرية والعدل والكرامة.
4.  ومنها ما يتصل بمسؤولية البيت والمدرسة والجامعة من الاهتمام بالتحصيل الديني والفكري والثقافي للشباب بتشجيع الحوار والمناقشة واحترام الرأي الآخر والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وإشاعة الروح العقلانية بهدف تكوين العقلية الواعية الناقدة.
5.  ومنها ما يتصل بضرورة وضع خطة أو إستراتيجية للتنمية الثقافية والدينية على مستوى الدولة، تساهم فيها الجهات المختلفة في المجتمع.

لقد عانى الإسلام كثيراً من الجماعات والحركات والتوجهات المتطرفة وصُنّاع الأساطير والخرافات، ومنتجي الغلو والتطرف داخل الساحة الإسلامية، فهم الخطر الداهم على الإسلام والمسلمين وعلى الأمة كلِّها والدين كلِّه، وقد عانينا من هؤلاء كثيراً في محاولاتهم المستمرة لتضليل وتفسيق وتكفير من يختلف معهم في الرأي، ونريد لأي توجه يسعى لمواجهة هؤلاء أن ينطلق من قاعدة إسلامية أصيلة يتوحد فيها الجميع، وينزل فيها المفكرون والدعاة المستنيرون والعاملون ليواجهوا كلَّ أساليب السبِّ والشتم واللعن والتكفير بحملة ثقافية إسلامية مدروسة تستهدي كلام الإمام علي (ع): "احْصُدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ".

الخميس، 5 ديسمبر 2019


** 2 - 4 أشكال التدين بحسب رؤية أفراد البشر **


من خلال ما قدمناه في الحلقة الأولى ندرك أنَّ الدين واسع، ولكن هناك جمهور من فقهاء ومحدثي هذه الأمة تريد أن تضيقه إلى أحزاب وطوائف ومذاهب وفرق .

يقول إسماعيل الْجُعْفِي: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ -أي الإمام الباقر- (ع) عَنِ الدِّينِ الَّذِي لَا يَسَعُ الْعِبَادَ جَهْلُهُ.. فَقَالَ: "الدِّينُ وَاسِعٌ، وَلَكِنَّ الْخَوَارِجَ ضَيَّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ جَهْلِهِمْ..." (الكافي: ج 2 ص 405 الحديث 6). وقوله (ع) "الدِّينُ وَاسِعٌ" يراد به أنّه لا يتحقق الخروج من دين الإسلام بقليل من العقائد والأعمال كما هو مذهب الخوارج، حيث حكموا بكفر مرتكب المعاصي وخاضوا في المسائل الدقيقة فجعلوها من أجزاء الإيمان.

وسأل كامل بن إبراهيم المدني الإمام الحسن العسكري (ع): لا يدخل الجنّة إلا من عرف معرفتي؟
قال (ع): "إذن والله يقلّ داخلها. والله، إنه ليدخلها قوم يقال لهم الحقيّة".
قلت: ومَن هم؟
قال: "قوم من حبهم لعلي بن أبي طالب (ع) يحلفون بحقّه وما يدرون ما حقه وفضله" (الغيبة، للشيخ الطوسي: ص 347).

ولقد أثرت المدرسة الفقهية، اعتماداً على نصوص الحديث، في عقول عموم المسلمين، يقول العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (ت 1402ﻫ): "اقبال عموم المسلمين على الحديث والمحدِّثين بأكثر مما تستلزمه الحاجة الحقيقية. وقد كان من الطبيعي أن يكون من بين هؤلاء المحدِّثين مجموعة من الباحثين عن الجاه والمنفعة دفَعهم إقبال الناس المتزايد على الحديث للطمع في كسب مزايا اجتماعية، فأخذوا يهيئون الحديث من أيّ مصدر كان -دونما تمحيص- وبأي مفهوم اتفق، أو أنهم بادروا إلى وضع الحديث تبعاً لميول المتنفِّذين ومقاصدهم في ذلك الوقت، مما أدّى إلى شيوع الوضع... لقد دسّت بين الحديث مجموعة من الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة وأصبحت في عداد الحديث المقبول، مما أدّى إلى أن تنفذ إلى المعارف والحقائق الإسلامية مجموعة من الخرافات، بعد أن كان رسول الله (ص) قد توفّر على ابانتها والتحذير منها. مثل هذه الأحاديث المندسّة يمكن تلمسها في أبواب الحديث المختلفة، وعلى الأخص في التفسير، وتأريخ الأنبياء وتأريخ الأمم السابقة، وباب الغزوات ووقائع صدر الإسلام. والحق؛ أننا نجد قصصاً وأموراً أخرى بين الحديث، لا يستطيع العقل السليم أن يقبلها... لقد دامت الأوضاع قروناً على هذه الحالة حتى بلغ الأمر إلى ردّ فعل معاكس حيث فقد الحديث قيمته كلياً بين المسلمين، ولم يعد له ثمة اعتبار، وإنما أدخله المسلمون في عداد الخرافات وأخذوا يصمون الحديث الصحيح بالبطلان. وهكذا انتهى المآل أن يعيش الحديث قصته بين الافراط والتفريط" (الشيعة: 77-78).

فما هي الرؤية الواضحة عند المسلمين حول معنى (المتدين) التي تردد على شفاههم كل صباح ومساء؟

الرؤية (1): بعض الناس يظن خطأ أنّ الدين مجرد عقائد للإيمان بها، وكأنّ العقائد غاية في ذاتها، وليست وسيلة لبناء الضمير الإنساني الذي هو ركيزة المجتمع ومحرك التاريخ. وما أكثر المعتقدات الخاصة والعامة في التاريخ وفي الأديان، إنما المحك هو معيار الصدق.

فالإيمان بعقيدة ما ليس مجرد قرار فردي، بل هو برهان وتصديق وأثر في الحياة الفردية والاجتماعية. وما أكثر العقائد التي ألّهت السلاطين والملوك، أو التي طالبت الناس بالخضوع والولاء لمن يقول مثل فرعون: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}.

فالإيمان هو حقيقة تتكشف في القلب، وتتحول إلى فعل وممارسة، وتعبِّر عن مستقبل أفضل للعالم. وهو بالتالي: طاقة وحركة، تصور ونظام، نظر وعمل، بحيث تحاول الأيديولوجيات والمذاهب السياسية في المجتمعات الغربية جاهدة أن تكون بديلاً عنها.

يقول تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.. إنّ الملحوظ في مفردات القضايا والظواهر التي أثارتها الآية الكريمة أمام الإنسان هو أنها تواجه الناس في حياتهم اليومية، فتلفت أنظارهم بشكل طبيعي إلى أنّ الطريق إلى معرفة الله لا يتوقف على الاستغراق في الأجواء الفلسفية المجردة التي تبتعد بالإنسان عن حياته، ليضيع في متاهات الفرضيات المتنوعة والأساليب المتضادة، ولا يخضع للانطلاق إلى أجواء بعيدة عن أجوائه المادية، بل كل ما هناك هو الالتفات إلى ما حوله من ظواهر الطبيعة ومفردات الحياة التي تحيط به.

ولذا نجد القرآن الكريم في حديثه عن ظواهر الكون، ينسب الفعل إلى الله، ولا يغفل دور الإنسان في النسبة، في ما يتعلق بالأفعال التي تتصل بإرادته بشكل مباشر، وذلك بالتعبير نفسه، كما في قوله تعالى: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}.

الرؤية (2): يظن البعض خطأ -أيضاً- أنّ الدين هو مجرد شعائر أو طقوس تُمارس فرداً أو جماعة، بحيث تكوِّن مجموعة من المظاهر الخارجية والتي هي أقرب إلى الاحتفاليات، وكما كان الحال في الحضارات القديمة .. وكلما زاد الانبهار بالطقوس عظم شأن الدين من حيث: عظمة الكنائس، وهيبة المعابد، وثراء المساجد، ورموز حسية مثل إطلاق اللحى، ومسك المسبحة، والسواك، ولبس الجلباب الأبيض، والتعطر بعطر منسوب لمكة والمدينة، واللطم، والتطبير، والزنجيل، وغيرها... وبالتالي تغليب الشكل على المضمون، والمظهر على المخبر، والخارج على الداخل.

مع أنّ الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وأنّ العمل هو العمل الصالح النافع للفرد والجماعة. لذلك جاء نداء القرآن باستمرار {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..}. ويقول الرسول (ص): "لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا، وصمتم حتى تكونوا كالأوتار، لم يقبل الله منكم إلاّ بورع".

الرؤية (3): يظن فريق ثالث أنّ الدين هو المؤسسات الدينية التي تكوّن سلطة وأحياناً واسطة بين الإنسان وربه، وهي في الغالب مؤسسات تاريخية نشأت في ظروف تاريخية محددة مثل الكنيسة في الغرب والمعبد أيام الرومان، ومشيخة الطرق الصوفية، ودور الإفتاء أيام الدولة العثمانية، والمرجعيات الدينية بعد غياب الإمام. والحقيقة أنّ الدين في القلب، علاقة مباشرة بين الإنسان والله. ولا يحتاج إلى توسط مؤسسة دينية تاريخية، سلطة بشرية في أصلها وتدّعي بعد ذلك أنها سلطة دينية في جوهرها. تسيطر أكثر مما تحرر، وتقمع أكثر مما تطور.

ولهذا ذم القرآن طريقة العلاقة العصبية بعقيدة الآباء؛ ففي قصة موسى (ع): {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}؛ قالوها "في عملية إنكارٍ للنتائج السلبيّة التي يواجهون من خلالها هزيمة كل مفاهيم الصنمية المتخلفة التي ورثوها من آبائهم، فعاشت -في داخلهم- في مواقع القداسة الجاهلة التي ترى في الماضي معنى التقديس، فلا يمكن أن يناقشه أحد، مهما كانت درجة الخطأ فيه، لأنهم لا يميزون بين العاطفة التي تحكم علاقتهم بالماضي، وبين الإيمان الذي يخضع لاعتبارات الحق المرتكز على الحجة والبرهان، ولو فكروا جيداً في المسألة، لرأوا أنّ هؤلاء الآباء هم بشر كبقية البشر، فقد يصيبون الحقيقة، وقد يخطئونها، فلا بدَّ من مناقشة فكرهم وعاداتهم وتقاليدهم، تماماً كما نناقش فكر الآخرين الذين يعيشون معنا؛ لأنّ الزمن لا يعطي للشخص أو للفكر معنى الحقيقة في حركته، بل كل ما هناك، أنه يفسح المجال للطاقة الفاعلة أن تتحرك في مجاله، لتعبر عن نفسها بما تملكه من ملامح الحق والباطل، وبذلك يصبح من حق أي إنسان يفكر بغير الطريقة التي يفكر بها الأقدمون، أن يعمل ليغيّر الفكر الذي تركوه، والبناء الذي بنوه، فليس لأحدٍ أن ينكر عليه ذلك، بل كل ما هناك أن لهم أن يناقشوه في طروحاته، كما يناقش هو الآخرين، في ما طرحوه".

الرؤية (4): يظن فريق رابع أنّ الدين هو لحظات فريدة في التاريخ، يعيش معها الناس بذاكرتهم إلى الوراء منتزعين أنفسهم من حاضرهم وتاركين مستقبلهم. ففي اليهودية يظن البعض أنها العهد أو الميثاق في صيغته الأخيرة عند موسى (ع) مع ما يتضمنه ذلك من أرض الميعاد والشعب المختار، والأرض والمدينة والمعبد، والنصر، والجيش، والمغنم، والخروج من مصر، والتوجه إلى الأرض المقدسة. هذا التصور للدين يبرر القتل والعدوان كما تفعل الصهيونية في فلسطين وكأنّ الدين بضاعة يدافع عنها صاحبها.

ويتصور المسيحيون أنّ الدين أيضاً لحظة فريدة في التاريخ، ظهور السيد المسيح عندما اجتمع الخلود والزمان في الشخص.

ويتصور المسلمون أنّ الدين -فقط- هو العودة بالذاكرة إلى أيام النبوة، والسيرة العطرة لأهل بيته، وللصحابة، والتابعين. ويؤدِّي هذا التصور إلى رد الزمان كله إلى لحظة واحدة في الماضي وإلى إيقاف التاريخ كله، مساره وتقدمه في مرحلة واحدة في الماضي وكأنّ ما يحدث الآن ليس من الدين في شيء.

الرؤية (5): يظن فريق خامس أنّ الدين هو ميدان الأسرار والغيبيات والمعجزات، وكل ما يخرج عن نطاق العقل ويسبح في المخيال الشعبي، ميدان الدهشة والعجب الذي يدفع الإنسان إلى الإيمان والاستسلام. مع أنّ الإسلام دين العقل والبرهان، والرسول المبعوث من الله بشر مثلنا يُوحى إليه، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. وعندما طلب منه إجراء المعجزات كما فعل موسى، تنزيل المطر من السماء، أو تفجير العيون من الأرض أجاب بأنّ ذلك خارج سلطة البشر بما في ذلك الرسول {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً * قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً}.

"لا شك أنّ مثل هؤلاء القوم ينطلقون من انطباعات ساذجة، ناشئة من الاستغراق في الجوانب البارزة للخصائص غير العادية أو غير المألوفة لهذه المخلوقات، التي يمنحونها هذه الصفة من دون التفات إلى أنّ الله قد يمنح بعض عباده قدرات لا يمنحها لغيرهم، لأنّ هناك دوراً محدّداً يفرض ذلك، أو لأنّ طبيعة الموقع الذي يتحرك فيه هذا المخلوق يتوقف على ذلك. فالله الذي أعطى القدرة المألوفة، هو الذي يعطي القدرة غير المألوفة، بالإضافة إلى أنّ الألفة لا تمنح الشيء الحالة الذاتية الطبيعية، ليكون المقابل لها حالة خارقة خارجة عن الطبيعة، فلو دققنا في عمق هذه الحالة أو تلك، لرأينا سرّ الإبداع والعظمة مشتركاً بينهما، في نوعية الخصائص التي يتميز بها هذا عن ذاك، ولكن الألفة تخفف عظمة الأشياء في الوجدان".

وهذا "ما يفرض علينا، في المنهج التربوي للتصور، عدم الاستغراق في الظواهر المثيرة أو إعطائها قداسة غير حقيقية، من خلال مشاعر الانبهار التي يخضع فيها الإنسان لإحساس غير طبيعي في استيحاء العظمة الخارقة من بعض الظواهر، لأنّ الجهل بعمق السرّ الحقيقي للحالة أو للظاهرة، لا يعني أن نقفز إلى وضع التقديس لنجعله الوجه البارز للمسألة أو العمق الطبيعي لها، من دون أساس للاستغراق في دائرة التهاويل الغامضة المسيطرة على الفكر والشعور".

إذن لا بدَّ للمنطق التقديسي من موازين دقيقة؛ إذ علينا أن نعطي الأشياء حجمها الطبيعي في الدائرة الإنسانية عندما تتصل المسألة بتعظيم إنسان ما، إذ لا بدّ من أن ندخل في عملية تقييم دقيقة للمنطق التقديسي من خلال الخصائص المميزة، لنعرف -جيداً- هل هي متصلة بالذات في جوانب العظمة في عالم الأسرار، أو هي متصلة بالدور في مواقع الحركة للرسالة أو للرسول أو للولي ... وبذلك نبتعد عن التضخيم الذي يقودنا إلى الغلو في الشخصية إذ نمنحها ما ليس فيها، وبالتالي إلى الانحراف في العقيدة والعمل.

بعد هذا التطواف نقول:

هذه التصورات للدين هي في الحقيقة ابتسار للدين وتضييق لمجاله، وإبعاده عن الحياة وواقع الناس، ويصبح عالماً مغلقاً على ذاته، غاية في ذاته وليس وسيلة لغاية أخرى مثل إسعاد البشر. فالدين هنا غريب عن الحياة ومغترب عنها، يدفع بالمتدين إلى خارج العالم المادي المعاش، ويصبح أداة لنسيان الهم، والعزاء والسلوى للضنك والكرب، مجرد راحة من تعب، وهدنة في حرب، ونوم بعد يقظة. يقبله العاجزون الذين لا يجدون له بديلاً، ويرفضه القادرون إلى ما هو أكثر التصاقاً بالحياة، المذاهب السياسية والتيارات الفكرية والمدارس الفنية.

إنّما الدين في الحقيقة هو نظام حياة للفرد والأسرة والمجتمع والإنسانية جمعاء. هو تصور كامل للحياة ينبثق منه نظام للمجتمع متفق مع نظام الكون. الدين وسيلة وليس غاية في ذاته، طريق لإسعاد البشر لا لتبرير الشقاء مفجر لإبداعات البشر من خلال الاجتهاد والتعبير الحر، والقدرة على الجهر بالحق وليس أداة كبت وخوف وقهر وحرمان. والدين دافعٌ على التقدم ومخططٌ للمستقبل وليس راجعاً إلى الوراء -حنيناً إلى الماضي-. فالجنة في المستقبل وليست في الماضي، والعصر الذهبي قادم ولم يتولَّ بعد.

إنّ المتأمل في الحديث المشهور "بني الإسلام على خمس" ليجد في هذه الأركان الخمسة ارتباط الدين بالحياة.

وكما يذكر الناس عادة أركان الإسلام الخمس، يذكر الفقهاء ضروريات الشريعة؛ وهي التي حصرها الشهيد الأول (المتوفى 786هـ) في أمور خمسة وسماها بالضروريات الخمس: "حفظ النفس، وحفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النسب، وحفظ المال".

والعقل أول مظهر للحياة؛ فهو أداة العلم، وهو أيضاً أساس التكليف وشرط المسؤولية، ويتجه العقل نحو كل شيء بالتحليل والنقد، والمواجهة والحوار، دون تسليم وطاعة.

وأما الدين، فهو المعيار العام الشامل الذي لا يختلف عليه البشر مثل العدل والحرية والأخوة بين البشر، فالكل لآدم وآدم من تراب، حماية للروح الإنساني من الوقوع في النسبية والشك واللاأدرية حتى العدمية، وهو ما يحدث حالياً في الوعي الغربي.

والعرض (النسب) ليس فقط عرض الأفراد؛ حماية لحقوقهم، بمعنى الحفاظ على طهارة الأنساب، بل يعني أيضاً عرض الشعوب وكرامة الأمم وكل ما ينال من قيم الشرف. فالأرض عرض في المثل الشعبي، وكرامة الأمة عرض سياسي. وحصار شعب ينال من عرضه وكرامته، وتشويه صور ثقافة ينال من عرضها في التاريخ.

ولا يعني المال، المال الخاص بل الثروة العامة، ثروات الأمم دون استغلال أو احتكار، وتوجيهها للصالح العام. ولا يعني المال السائل أي النقود بل الثروات المنظورة وغير المنظورة، على سطح الأرض وفي باطن الأرض، الزراعة والتعدين، المنقول وغير المنقول.

إذن لا عذر لمن يترك الدين لأنه بعيد عن الحياة ويلجأ إلى المذاهب السياسية لأنّ بها إجابات عن الأسئلة التي يطرحها. إنما العيب فيمن استحوذ على الدين وأبعده عن الحياة طلباً للرئاسة والسيطرة. والعيب أيضاً على من استسهل وترك الدين في يد أعدائه وذهب إلى دين آخر بديل لا يدري هل هو من صنع الأصدقاء أو من صنع الأعداء.

محرم 1447 في الصحافة الكويتية