4 -
4 سمات المجتمع المتدين
(كيفية تحقيق الدين المعاملة)
ربما
علينا أن نسأل سؤالاً مهمًا وصريحًا:
ما هو علاقة الدين بالحياة (القانون)؟
هو
الذي يبين المحرمات والواجبات .. فالقانون يتولد تلقائيًا حين يلتقي الناس، فإذا
حدث أن دخل إنسان كهفًا وليس فيه أحدٌ، فإنه يُباح له أن يجلس في أي مكان شاء،
ولكن إذا كان فيه مجتمع بشري متعدد، فلا يمكن أن يجلس في المكان الذي يجلس فيه
الآخر، فيحرم عليه هذا المكان الذي يجلس فيه الآخر، ويكون بذلك قد تولد الحرام
تلقائيًا..
كذلك
الأطفال -وهم يلعبون- يضعون قانونًا للعبهم فيلتزم به الطرفان.
وحين
يحدث خرق للقانون ويريد البعض أن يجلسوا على ظهور الآخرين، هنا ينبغي أن يتدخل
الوعي الإنساني الاجتماعي لوضع حدٍ لانتهاك المحرم، وعندئذٍ تبرز مشكلة القانون في
أعمق مستوياته؛ لأنّ القانون يفترض التزام الأطراف لحماية الأفراد الذين يقع عليهم
العدوان.
والقانون
بمجرد التفكير فيه، يتولد منه تلقائيًا: إلغاء العنف، وإعلان الخروج من العنف، وحل
المشكلات من دون لجوء إلى العنف، فمن لا يقبل ترك العنف، لا يمكن أن يدخل في عالم
القانون.
والدخول
إلى القانون طوعي، ولا يكون القانون قانونًا، إن لم يطبق على كل الذين يدخلون فيه،
فالمشكلة ليست في قسوة القانون أو لينه، بل المشكلة أن لا يخرج أحد على القانون
وأن لا يُنْقَضَ الميثاق؛ لأنَّ قسوة القانون ولينه يمكن التدخل فيها باتفاق
الداخلين فيه، والأقسى هو تطبيقه على بعض وعدم تطبيقه على آخر فهذا الظلم الذي على
أساسه هلاك المجتمعات.
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي
أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى
إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}.
إذن،
معنى القانون حماية الأفراد الذين يدخلون فيه، فقد تنازلوا للقانون لكي يحميهم،
وتنازلوا عن أن يلجؤوا هم لحماية أنفسهم، هذا هو معنى أن يعيش الإنسان في مجتمع، وأن
يحمي المجتمع الأفراد الذين ينتمون إليه، ويفصل بينهم بالعدل، وإذا تخلّى المجتمع
عن حماية أفراده يكون المجتمع قد رجع إلى شريعة الغاب. ولن يوجد قانون في مكان
يعتمد فيه الناس على قوتهم، وليس على قوة القانون والمجتمع.
إذن،
القانون هو إيقاف العنف ليكون الحل بالسلم، ولن تحل (الديمقراطية) في مكان يعتمد
فيه الناس على قوتهم الخاصة، أو يوجد فيه أناس يؤمنون بأنّ القوة التي عندهم هي
التي ستحميهم، وليست قوة القانون وقوة الفهم.
والخلاصة: حيث تسيطر القوة الجسدية فلا شريعة ولا قانون، وحيث يسيطر
العلم والمعرفة والفهم والتطبيق تكون الشريعة والقانون، ولا سلطان للجسد. إذن، هل
السلطة للمعرفة .. للجهاز العصبي .. أو للجهاز العضلي؟! هذا هو الفيصل بين مجتمع
العنف واللاعنف، بين اللاشرعية والشرعية.
فالقانون
والعنف ينفي أحدهما الآخر، فلا قانون حيث يوجد العنف، ولا عنف حيث يوجد القانون.
إنّ
الديمقراطية (الشورى) هي حل المشكلات من دون عنف، وخاصة المشكلات السياسية؛ لأنه
حيث تحل المشكلات بالعنف فلا ديمقراطية، وحيث توجد الديمقراطية لا تحل المشكلات
بالعنف.
علينا
أن نجتهد كثيرًا حتى يصير هذا الشيء -الذي هو واضح وخفي في آن واحد- واضحًا ويزول
عنه الخفاء الذي يغلفه، بحيث يتحول إلى واضح وبديهي، وعلينا أن نتذكر لنتمكن من
فهم الوضوح والخفاء موضوع الشمس، كم كان فهم حركة الشمس خفيًا على الناس جميعًا؟
إنّ
أوضح شيء في الوجود كان أبعد شيء عن الإدراك، فكما تخفى علينا في لحظات ضياع
المقياس أي القطارين هو الذي يتحرك في المحطة، كذلك يخفى علينا منشأ الحركة بين
العنف والقانون، بين العضلات والجهاز العصبي..
لقد
ضرب القرآن مثلاً في حركة الظل على خفاء مفهوم الحركة، وكذلك ذكر القرآن كيف ينخدع
الإنسان بصوره الذهنية (أهوائه) ويتخذها إلهًا، وكأنّ صورته الذهنية هي الحقيقة،
ويشبههم القرآن بالأنعام بل أضل سبيلاً؛ لأنّ الأنعام تسير حسب غرائزها لا حسب
معرفة الخير والشر.. فالإنسان الذي صار عارفًا الخير من الشر إذا تخلّى عن ذلك
يفسد أكثر من الأنعام، ثم يضرب مثلاً بحركة الظل، وكيف لنا أيضًا على أنّ صورنا
الذهنية تخطئ في فهم أوضح شيء وهو الشمس، إلا أنّ خطأنا في الفهم لن يغير نظام
الفلك، ونحن الذين سنتغير.. وكذلك لن تتغير علاقة القانون والعنف، حين نتوهم أننا
لن نستطيع أن نعيش دون عنف.
إنَّ
الذي يجهل تاريخ تطور المعرفة، هو الذي يمكن أن يتخذ إلهه هواه (صورة الذهنية).
ولكنّ التاريخ وعواقبه هو الذي يكشف خطأ صورنا الذهنية، إنّ تاريخ المعرفة هو
الشفاء من أن يتخذ الإنسان فهمه إلهًا. وحين أعلنوا -في الغرب- عن موت الله على يد
الإنسان، ثم مات الإنسان بعد ذلك، يمكن القول بأنّ الله والأنبياء اللذين كانا في
أذهانهم ماتا فعلاً، ووصلوا إلى العدمية مرة أخرى، وسبب موت الله والأنبياء هو
غياب التاريخ، إنّ التاريخ سيبعث الله وسيبعث الإنسان.
ولكن
التاريخ الدائم سيتغلب على الفساد الطارئ المؤقت .. إنَّ العالم لن يفسد إذا
تصورناه فاسدًا:
{وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ
وَالأرْضُ}
المؤمنون : 71.. {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ
إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ
أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَامِ بَلْ
هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً * أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ
شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} الفرقان: 43-45.
إنّ
الدين والقانون ينبغي أن لا يتأسسا على أهواء الناس، أي صورهم الذهنية عن الدين
والأنبياء، بل ينبغي أن توزن هذه الصور والأهواء بميزان تاريخ المعرفة الذي يحكمه القانون:
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا
يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} الرعد: 17.
إنّ
ديننا وثقافتنا لم يُبنيا على أسس متينة؛ لإنّ المؤسسات الدينية والأمم المتحدة
-وهي أعلى مؤسسة سياسية عالمية- مبنية على إلغاء الدين، وإلغاء القانون وعلى عبادة
القوة، عبادة العجل الذهني. والمثال على ذلك: إنّ حق (الفيتو) عارٌ على المثقفين
الصامتين إنها ثمرة غرس المثقفين في العالم شاءوا أم أبوا، هذا ما قدمته أيديهم،
من هنا نعلم إلى أي درجةٍ فسادُ التُرْبَة، وفساد الغرسة التي غرسها المثقفُ حيث
كانت ثمرة غراس ثقافة القرن العشرين.
والسيد
المسيح (ع) يقول -واضعًا لنا ميزانًا لمعرفة الخير من الشر، ولتمييز الأنبياء
الصادقين عن الذئاب الخاطفة- (متى 7 : 15- 18): "احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب
الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة * من ثمارهم تعرفونهم" هل يمكن أن نعرف من هذه
الثمرة ضعف الشجرة التي أثمرت هذه الثمرة الفجة التي تُعَقِّدُ المشكلات ولا
تحلها؟ إنّ (الفيتو) هو دين فرعون وقانونه حيث يقول: {أنا
رَبُّكُم الأعَلى} النازعات : 24، ويقول: {لَئِنْ
اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ} الشعراء: 29.
ولقد
جاء في كثير من الأحاديث أنّ أئمة الإسلام كانوا يقولون: ما الدين إلا الحب.
ومن ذلك ما جاء في الخصال والكافي عن الصادق (ع) أنّه قال: "وهل الدين إلا الحب" ثم تلا هذه الآية {قُلْ إِن كنتمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى}.
وموضوع
الحب والفهم يمكن أن يكون مرادفًا لموضوع الإخلاص والصواب..
ويرى المتألهون أنّ الله والإنسان
يتبادلان الحب {يحبهم ويحبونه}
المائدة: 54، وإن كان حب الله يسبق حب الإنسان.
ولو راجعنا النصوص التأسيسية للأديان، بكل
تفرعاتها، نراها تتفق جميعًا بتوجيه إتباعها
نحو حب الخير للغير، مثلما يحبه المرء لنفسه، وفيما يلي نماذج لتعاليم أبرز الأديان في العالم حيال
الآخر:
-
"هذا مجمل الواجبات:
لا تعامل الغير بما إذا عوملت به آلمك" البراهمانية، مهبهراتا، 5: 1517.
-
"لا تؤذ الغير
بسلوك تجده أنت بنفسك مؤذيًا لو سلك معك" البوذية، أودانا-فارقا، 18 : 5.
-
"هذا حقًا مثل
المحبة اللطيفة: لا تعامل الغير بما لا تريد أن يعاملوك به"، [الكونفوشوسية، ديوان، 15: 23].
- "الشيء الذي تبغضه، لا تعامل به صحبك، هذا مجمل
الناموس، وكل ما تبقى شروح" [اليهودية، التلمود، شباط:
31أ].
-
"سمعتُم أنّه قيل
تُحبُ قريبك وتبغض عدوَّك. وأمّا أنا فأقول لكم أَحبّوا أعداءكَم باركوا
لاعنيكم. أحسنوا إلى مُبغضيكم. وصلّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم" [إنجيل متى, 5: 43].
-
"فكل ما تريدون أن
يفعل الناس بكم، افعلوا هكذا انتم أيضًا بهم، لأنّ هذا هو الناموس والأنبياء" [إنجيل متى، 7: 12].
-
{وَلا تَسْتَوِي
الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا
إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} فصلت: 34 - 35.
-
"لا يكون المؤمن
مؤمنًا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" [حديث
نبوي].
إنّ السبيل للتخلق بأخلاق الرحمن إنما يتحقق عبر إنقاذ النزعة الإنسانية
في الدين، وإضاءة أبعاده الأخلاقية والمعنوية والرمزية
والجمالية، وتطهير التدين من كافة أشكال الكراهية.
ولا ريب في أنّ ذلك لا يعني اختزال الإنسان
في مجموعة مفاهيم، وقيم مثالية، تتعالى على بشريته، وتصيّره كائنًا سماويًا مجردًا،
منسلخًا عن عالمه الأرضي، مثلما تريد بعض الاتجاهات
الصوفية والدعوات الرهبانية، بل يعني إنقاذ النزعة الإنسانية إيجاد حالة من
التوازن والانسجام بين متطلبات جسده من حيث هو كائن بشري، وإمكانية غرس وتنمية روح
التصالح مع العالم ، والتناغم مع إيقاع الكون، وتكريس حالة الانتماء للوجود،
والتعاطف مع كافة الكائنات الحية والشفقة عليها، وتعزيز أخلاقية المحبة، وتدريب
المشاعر والأحاسيس والعواطف على القيم النبيلة، والسعي لاكتشاف روافد ومنابع إلهام الطاقة الحيوية الايجابية في هذا
العالم، والتواصل العضوي معها. وهذا يعني استيحاء صفات الرحمة والمحبة والسلام
ونحوها من الرحمن، وليس صفات الموت والانتقام ونحوها من الله تعالى.
إنّ الدين
يفتح لنا أبواب الحياة فليس هناك أفق مغلق على الإنسان بحيث لا يمكن أن يقتحمه..
ففي العلم: ليس هناك علم محرم.
وفي التجربة: أمرنا أن ننطلق لنكتشف
الحقيقة من خلال التجربة؛ لأنّ بعض الحقائق لا نستطيع أن نكتشفها بالتأمل.
وفي السلوك: أرادنا الله أن نعيش مع الإنسان
الآخر بسلام، فالحرب إنما تنطلق ضد الذين يفرضون الحرب على الإنسان ويريدون أن
يصنعوا له المأساة.
وفي الأخلاق: أراد الله لنا أن نتحرك
في خط السلوك لتكون لنا خصائصنا الفردية التي تحمي شخصيتنا فيما نعيشه من عناصر
ذاتية، كما تحفظ لنا خصائصنا الاجتماعية فيما يراد لها أن تحمي نفسها من خلال ذلك.
ولا بد
للإنسان المسلم إذا أراد أن يعيش الإسلام -كما أراد الله له ذلك-، أن يجمع في
شخصيته العناصر التي ترتكز عليها الإيمان، والعناصر التي يرتكز عليها المفاهيم
(التصور)، والعناصر التي يرتكز عليها السلوك (الحركة).
ولكن
للأسف كلما ازدادت ثقافة الإنسان (المتدين) الواعي، كلما ازدادت غربته من قبل
الطقوسيين، الذين لا يعرفون من الدين إلا طقوسه الشكلية فقط.. يقول المفكر الدكتور علي
شريعتي في كتابه "الحسين وارث الأنبياء": "وعلى العكس مما يتصوره
المثقفون المتغربون البعيدون عن الواقع، فإنّ المثقف الواعي المتدين الذي يبحث عن
آماله وطموحاته الإنسانية في إيمانه وعقائده ونصوص ثقافته الدينية، يعيش وسط
المجتمع المتدين أكثر غربةً ووحدة، لأنّ عرض الدين بشكل واعٍ يبعث على التحرك
والتنوير، يغيظ -قبل كل شيء- القوى الدينية الرسمية".