الثلاثاء، 24 مارس 2020


التوازن بين الحاجات والمصالح

{أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}.

ما هي قيمة الإسلام ؟

قيمته أنه جاء في تشريعاته ومفاهيمه من أجل أن يعمق إنسانية الإنسان، وأن يحقق له التوازن بين حاجاته ومصالحه؛ فلا تطغى حاجاته ولا تسقط مصالحه.
إنّ الإسلام يفتح لنا أبواب الحياة فليس هناك أفق مغلق على الإنسان بحيث لا يمكن أن يقتحمه..

ففي العلم: ليس هناك علم محرم.

وفي التجربة: أمرنا أن ننطلق لنكتشف الحقيقة من خلال التجربة؛ لأنّ بعض الحقائق لا نستطيع أن نكتشفها بالتأمل.

وفي السلوك: أرادنا الله أن نعيش مع الإنسان الآخر بسلام، فالحرب إنما تنطلق ضد الذين يفرضون الحرب على الإنسان ويريدون أن يصنعوا له المأساة.

وفي الأخلاق: أراد الله لنا أن نتحرك في خط السلوك لتكون لنا خصائصنا الفردية التي تحمي شخصيتنا فيما نعيشه من عناصر ذاتية، كما تحفظ لنا خصائصنا الاجتماعية فيما يراد لها أن تحمي نفسها من خلال ذلك.

ولا بد للإنسان المسلم إذا أراد أن يعيش الإسلام -كما أراد الله له ذلك-، أن يجمع في شخصيته العناصر التي ترتكز عليها العقيدة، والعناصر التي يرتكز عليها المفاهيم (التصور)، والعناصر التي يرتكز عليها السلوك (الحركة).

التوازن في هدي القرآن الكريم:

سنسلط الضوء على الآيات التي ذكرناها سابقًا، وهي قوله سبحانه: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}.

{أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ} في ما خلقناه له من وسيلة البصر التي يستطيع أن يتعرف فيها المرئيات، فيزداد بذلك علما وخبرةً في ما يختزنه من مفردات المعرفة التي تتحول إلى فكرٍ يبدع فكرًا من خلال حركة العقل في تنظيم هذه المعلومات، وفي استنتاج العلم الجديد منها، كما يستطيع -من خلالها- أن يهتدي إلى طريقه في كل الأوضاع والأجواء والمواقع؟!

{وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} يستعين بها على النطق، ليوصل أفكاره إلى الآخرين باللغة التي ألهمه الله إياها، وبالصوت الذي وهبه الله له، ليستطيع، من خلاله، إدارة حركة التفاهم الذي يسهّل للناس سبل العيش، ويحوّل الوجودات الفردية إلى وجود اجتماعي متكامل يتبادل الخبرات والأفكار والحاجات من خلال عملية النطق التي يتحرك بها اللسان، وتنطق بها الشفتان.

{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ} أي الطريقين: طريق الخير وطريق الشرّ، بمعنى أننا منحناه الهداية العقلية التي يتمكن من خلالها من معرفة الخير والشرّ، ليدخل في عملية التفكير في المقارنة بينهما، وفي اختيار أي واحدٍ منهما لحياته، ليلتزمه في موقفه كخطٍ عملي للحياة، وليتحرك من أجل الدعوة إليه، فيتحمل مسؤوليته في الالتزام، وفي الدعوة، وفي حركة الصراع.

وقد ذكر صاحب الميزان ملاحظةً دقيقةً في استفادة المفهوم الجامع بين هذه الآيات الثلاث فقال: "وفي الآيات الثلاث حجّةٌ على قوله: {أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ} أي على أنه تعالى يرى أعمال عباده، ويعلم ما في ضمائرهم من وجوه الأعمال، ويميز الخير من الشرّ والحسنة من السيئة. محصلها: أنّ الله سبحانه هو الذي يعرّف المرئيات للإنسان بوسيلةٍ عينيّةٍ، وكيف يتصور أن يعرّفه أمرًا وهو لا يعرفه؟ وهو الذي يدل الإنسان على ما في الضمير بواسطة الكلام، وهل يعقل أن يكشف له عمّا هو في حجابٍ عنه؟ وهو الذي يعلّم الإنسان ويميّز له الخير والشرّ بالإلهام، وهل يمكن معه، أن يكون هو نفسه لا يعلم به ولا يميزه؟ فهو تعالى يرى ما عمله الإنسان ويعلم ما ينويه بعمله، ويميّز كونه خيرًا أو شرًّا، وحسنةً أو سيّئةً" [الميزان: ج 20 ص 332].

ونلاحظ على هذا الكلام، أنّ إبطال قوله: {أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ} فـ(الصورة لا تكذب)، وحينئذ لا يحتاج إلى أيّة حجةٍ استدلاليةٍ، لأنه يمثل بداهة الفكرة لمن يعرف أنَّ الله هو الذي يطّلع على شؤون عباده، سواء كان ذلك في الموقع السرّي أو العلني.

والظاهر أنَّ هذه الآيات واردةٌ في مواجهة حالة الغرور التي يعيشها هذا الإنسان، في طريقته في كلامه وحركته وموقفه، وفي تمرده على خالقه، وثقته الكبيرة بنفسه، بعيدًا عن ارتباطه بالله، ليعرِّفه بأنه -سبحانه- هو الذي خلق له العينين اللتين يبصر بهما، ولولاهما لم يعرف شيئًا، وأنه هو الذي خلق له اللسان والشفتين التي ينطق بها، ولولاها لم يستطع النطق، وأنه هو الذي أعطاه العقل الذي يميز به بين الخير والشر، ولولاه لم يُدرك شيئًا، فكيف يدّعي لنفسه هذا الموقع، ويغفل مقام ربه ومضمون عبوديته له أمام ربوبيته المطلقة؟ كيف يفسر ذلك؟!

أخطاء يجب التنبيه عليها:

من خلال هدي هذه الآيات الكريمة نشاهد أنّ كثيرًا من الناس يقعون في أخطاء متنوعة، ونذكر منها بعضها:

1 . على مستوى الاعتقاد:


يتجه البعض إلى القول بـ"أنّ الله لم يكتب للإنسان التقوى والهداية" وهذا الكلام غير صحيح.. والصحيح أن يقال: إنّ الله هيّأ أسباب الهداية له، وهداه النجدين، وألهم نفسه فجورها وتقواها، وجعل له الوسائل التي تحصّنه من الغواية والضلال من الرسالات والشرائع والرسل والعقل.

نعم، توجد بعض الآيات مثل قوله تعالى: {إنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، وقوله: {لّوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النّاسَ جَمِيعًا}. وهذه الآيات المذكورة لا تدل على سلب اختيار الإنسان ولكن تدل على أنه لو اختار سبيل الهدى فالله يشاء له الهدى، وأنّ الله لو شاء لجعل الناس كلهم مهتدين، لكنه بنى الحياة على أساس التكليف بالأسباب ليصل الإنسان الى كماله الطبيعي.

2. على مستوى الفكر:


إنّ مسألة الإيمان ليست من المسائل التي يمكن أن تخضع للضغط. أنا قد أستطيع أن أضغط عليك، أن أحبسك في زنزانة، ولكني لا أستطيع أن أحرك أي مفصل من مفاصل عقلك لأضغط عليه بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر.

فمسألة الإيمان تتصل بالإنسان نفسه، ولا يمكن لإنسان أن يكره إنسانًا على إيمان أو كفر، ولهذا لاحظنا التعبير القرآني {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ} [البقرة:256]. إنّ المسألة هي أنّ طريق الرشد واضح وطريق الغي واضح، وعلى الإنسان أن يواجه هذين الطريقين ليختار مصيره من خلال اختياره للخط الذي يتحرك فيه، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3] و{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ}.

أن يقول إنسان: "لقد أُكرهت على الكفر" أو "أُكرهت على الإيمان" هو منطق لا معنى له؛ وقد خاطب الله رسوله (ص) بقوله: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]. إنه لا يملك أن يكره الناس على الإيمان، ولا يملك أن يكره الناس على أي شيء، ولذلك أعفى الله نبيه من كل مسؤولية كفر الكافرين الذين دعاهم إلى الإيمان، والذين بلغهم رسالات الله؛ لأنّ النبي (ص) لا يملك عقل الناس، إنما يملك الكلمة التي تتحرك نحو العقل، ويملك الجوّ الذي يحيط بالعقل، ويملك العناصر التي يمكن أن تفتح آفاق العقل. أما العقل في ذاته فلا يملكه إلا خالقه، أما الأنبياء فإنهم لا يملكون عقول الناس بحيث يستطيعون أن يحولوها بعيدًا عن الكلمة وبعيدًا عن النظرة واللمسة والجو وما إلى ذلك من العناصر التي تترك تأثيرها على الإنسان.

إننا نلاحظ أنّ مسألة الإكراه في الدين ليست مسألة واردة في حساب الواقع بقطع النظر عن الجانب التشريعي، قد يقول قائل إننا نرى أنّ هناك ضغطًا على الناس لكي يسلموا، فالضغط بدء في صدر الدعوة الإسلامية، فقد جرى الضغط على الذين اسلموا أن لا يكفروا، أليس ذلك إكراهًا في الدين؟ هذا ليس إكراهًا في الدين، هذا إكراه في فرض النظام وإكراه في فرض السلطة، لأنّ أية قوة تريد إرساء قواعدها وفرض نظامها، فإنّ من الطبيعي أن تخضع كل الناس الذين يعيشون في دائرة هذا النظام لكل مفردات النظام.

ماذا تفعل كلّ الحكومات أمام المواطنين الذين يتمردون على النظام؟! إنها تواجههم بالعنف إذا لم ينفع الرفق، لتكرههم على ما لا يريدون، بل لتطبّق عليهم ما يصلح أمرهم وما يصلح الناس؛ كما هو حاصل اليوم في عصر الوباء بفايروس كورونا، فعلى الدولة مهمة قصوى في إرغام مواطنيها والحجر عليهم ومنع التجول وما أشبه ذلك ..

فما يتحدّث عنه من عنف لإخضاع الإنسان للسلطة في الإسلام، إنما يمثل خطًا يتفق مع كل الخطوط الموجودة في العالم عندما يراد لسلطة فكر أن تنتشر، وعندما يراد لنظام أن يتركز، ولذلك فرق الإسلام بين الإسلام والإيمان، فاعتبر أن الإسلام هو الخضوع للنظام والخضوع للخط، بينما الإيمان هو القناعة الفكرية والروحية {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]. إنه لم يفرض عليهم الإيمان؛ لأنَّ هذا مستحيل من جهته، ولكنه هيّأ الأجواء لينطلقوا ليكونو مسلمين منسجمين مع الخط العام ومنسجمين مع النظام العام.

3. على مستوى التربية:


نقرأ في (نهج البلاغة) للإمام علي (ع) كلمة يقول فيها: "إنّ المرأة شرّ كلها وشرّ ما فيها أنّه لا بدّ منها"!!

وأشكّ، بل أقطه أنها ليست للإمام علي (ع)، والسبب في ذلك هو أنّ النبي (ص) والإمام علي (ع) والأئمة (ع) قالوا جميعًا: "ما خالف كتاب الله فهو زخرف". فكيف تكون المرأة شرًّا كلها؟ والله تعالى يقول: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ}.

فالإنسان لم يخلق شريرًا في أصل خلقته، بل خلق على {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30].. فكيف تكون المرأة شرًا كلها؟!
فهل فكرها شر؟!

وهل عاطفتها شر؟!

وهل أعمالها شر؟!

وهي تمارس عباداتها، هل عباداتها شر؟!

ثم إذا كانت المرأة شرًا كلها فكيف يعاقبها الله تبارك وتعالى إذا كان خلقها من الشرّ؟ ألا تحتج المرأة بالقول: أنت خلقتني من الشر كله فلمَ تعاقبني على فعل الشر وهو مودع في أصل خلقتي التي لا دخل لي فيها؟!

ثم ما معنى "وشرّ ما فيها أنه لا بدّ منها". وهل ذلك من جهة النسل؟!

فالرجل كذلك طرف في عملية التناسل، فكيف يكون الإنسان الذي يمثل ضرورة شرًا كله؟!

إن الشمس -مثلاً- ضرورة للحياة فهل شرّ ما فيها أنه لا بدَّ منها حتى تبقى الحياة والماء كذلك؟!

وفي المحصلة كلمة غامضة، وركيكة، وغير مفهومة، وإذا كان هناك من يقول إن هذه الكلمة واردة في امرأة بعينها، فهذا لا يصح أيضًا، لأنَّ الكلمة واردة على نحو الإطلاق، أي تشمل النساء جميعًا.

وقد اطلعت في كتاب (بهجة المجالس) أن هذه الكلمة هي في الحقيقة للمأمون العباسي، ولذا فإننا نربأ بعلي (ع) أن يتكلّم بهذه الطريقة، وهو الذي أكرم المرأة أيّما إكرام وأحسن إليها أيما إحسان، وهو العارف أيضًا أن في النساء من تفوق الرجال أدبًا وعلمًا وعملاً، وأن في الرجال من هم في غاية الشر. إنها ليست لعلي (ع)؛ لأنه يدرك أنَّ جدل الأنوثة والذكورة في المرأة والرجل بالتساوي هو أس الأنوثة المعافاة والرجولة المعافاة، وأس التوازن الاجتماعي والإنساني.

إذن من هنا يجب علينا أن نعي أنَّ الدين يهدف إلى التأثير في الإنسان، لا في الله، ولذلك نلاحظ أنَّ بناء العبادات -مثلاً- المقصود بها التأثير في الإنسان، من خلال إعادة التوازن الروحي الذاتي، وإعادة ضبط الضمير، وتأكيد الطابع المتناهي للحياة الدنيا، عبر ربط الإنسان بالعالم الأرحب، عالم المطلق والأبدية.

والسر في ذلك أنَّ الإسلام يقوم على توحيد الله دون سواه، والإيمان بأنَّ كلَّ ما عداه متغير متعدد، والناس مختلفون في ألوانهم وأعراقهم ومللهم، وهذا ما يحقق توازن الحياة على الأرض، وأي مجتمع أحادي مصيره الهلاك، وما يجمع الناس على اختلاف عقائدهم هو القيم الإنسانية والحنيفية في التشريع.

ولذا نلاحظ أنَّ الميثاق النبوي الذي أقامه النبي (ص) يقوم على أساس الدولة المدنية، التي تقوم على مبدأ التعددية، وضمان المساواة بين جميع أفراد الشعب بغض النظرعن كل الاعتبارات القومية والدينية، و ضمان حرية التشكلات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محرم 1447 في الصحافة الكويتية