الجمعة، 16 أكتوبر 2020


**متى نعيش داخل العصر؟**

 

يقول الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): "العالِمُ بزمانهِ لا تَهجُمُ عليه اللوابِسُ"..

 

فالإنسان الذي يعيش عصره، ويعيش أحداثه، ويستطيع أن يحللها، حينئذ لا تدخل عليه الشبهات، ولا تلتبس عليه الأمور، ولا تختلط عليه الأوراق، ولا تهجم عليه المفاجئات.

 

وعلينا أن نواكب كلَّ جديد، على المستوى الفكري والاجتماعي والقانوني وغيرها... بشرط أن تكون مواكبتنا لها مواكبة واعية ناقدة، فــ"الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ، لَا يَزِيدُه سُرْعَةُ السَّيْرِ إِلَّا بُعْدًا".

 

فإذا لم تعِ مفاتيح العصر ومنجزاته، وتلمَّ بأزماته المختلفة، فإنك لن تستطيع المساهمة في صناعة المستقبل، ولن تسهم في إيجاد حلول لمشكلاته، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "حَسْبُ الْمَرْءِ مِنْ عِرْفانِهِ عِلْمُهُ بِزَمانِهِ".

 

وهذا المنهج لا يختص بالمسلمين، بل هو منهج عابر للقارات، وهو منهج إنساني إبداعي لمن يريد أن يعيش داخل إطار العصر، ومنه ينطلق للمستقبل بتطلعات رائدة.

 

ونحن إذا ما سبرنا تاريخ الرسالة الخاتمة، لأدركنا أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) هو الخبير بتجارب بيئته، وما يعاينه كل إنسان من تجارب الآخرين، أو يتناهى إلى سمعه عن تجارب الماضين، فيكتسب خبرة عالية، ويمتلك أنظارًا صائبة وتشخيصًا دقيقًا وتحليلًا عميقًا لمجريات الأمور وعواقبها، ما يمكّنه من الإدلاء برأيه في جميع القضايا المحيطة به، لا بصفته رسولًا ومبلغًا عن الله فقط، بل بصفته خبيرًا حكيمًا فطنًا، لا تهجم عليه اللوابس، ولا تعوزه المخارج.

 

وقد علّم (صلى الله عليه وآله) طريقة ذلك لربيبه علي بن أبي طالب، وعلّمها بدوره لأبنائه؛ يقول (عليه السلام) في وصيته لولده الحسن (عليه السلام): "أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ نَخِيلَهُ (المصفّى منه)، وَتَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ، وَصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ...".

 

من هنا: فإنّ أخذ عنصر الزمان بنظر الاعتبار، في المعرفة الدينية وتبليغ الدين، يُعدّ أمرًا ضروريًا؛ حيث يجعل من العلاقات والمعادلات والموضوعات على امتداد الزمان في معرض التغيير والتبديل.

 

يقول علي (عليه السلام): "إِنَّمَا مَثَلِي بَيْنَكُمْ كَمَثَلِ السِّرَاجِ فِي الظُّلْمَةِ يَسْتَضِيءُ بِهِ مَنْ وَلَجَهَا فَاسْمَعُوا أَيُّهَا النَّاسُ وَعُوا وَأَحْضِرُوا آذَانَ قُلُوبِكُمْ تَفْهَمُوا".

 

فالعلم بالزمان كفيل بإحداث قناعات جديدة ورؤى جديدة، تبعث الحياة من جديد، وتمنع من تدميرها عندما تتوفر أدوات وسائل التجديد التي تقود إلى الصلاح والرشد.

 

وعلى الدعاة -بوجه خاص- أن يعوا اقتضاءات وخصوصيات الزمان؛ لكيلا تهجم عليهم اللوابس والانحرافات والاشتباهات، وليؤدوا رسالتهم بشكل سليم.

 

وكما هو الحال في الدعاة اليوم، فإنَّ طريقة المرجعية، بمنظارها السابق، يقول العلامة السيد محمد حسين فضل الله (رحمه الله): "أصبحت (المرجعية) لا تسد حاجة الناس، بل أضحت خارج نطاق الزمن، في حين يحتاج المرجع اليوم، بالإضافة إلى اجتهاده في الفقه والأصول، أن يكون عارفًا بزمانه وأكثر من ذلك أن يكون عارفًا بالقرآن، فالمرجع الذي ليس لديه ثقافة القرآن لا يستطيع أن يكون مجتهدًا بالمعنى الصحيح للاجتهاد؛ لأنَّ الاجتهاد قائم على الكتاب والسنّة، فإذا كان لا يعرف من الكتاب إلاّ آيات الأحكام وبطريقة أصولية بحتة فإنَّ من الصعب أن يفهم كلام الله".

 

لقد كان الناس في الماضي يصنعون بيئاتهم المحلية بأنفسهم على المستوى العام، وكان تأثيرهم بما يجري بعيدًا عن ديارهم ضئيلًا جدًا، وقد يكون معدومًا -حين كان الناس يعيشون في الصحاري والقرى الصغيرة.. ولم يكن من المألوف أن تتأثر حركة الحياة اليومية في قِطر نتيجة اتخاذ قرارات معينة في قِطر آخر إلا على نطاق محدود.

 

وحين قامت (العلاقات الاعتمادية) بين الشعوب، على نطاق واسع، أخذ كل شيء يختلف، وصار من الممكن أن يجوع إنسان أو شعب في أقصى الشرق بسبب اتخاذ قرار في أقصى الغرب.

 

فأي علماء نريد؟!

من الذي تختصره الآيات القرآنية:

1- الذي يقرن طريق الله بالعمل الصالح ليتشكل من خلالها الإسلام: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت: 33).

2- النموذج المثال للرحمة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107).

3- الذي لا يكره في الدين أحدًا، بل للإنسان مطلق الحرية: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99).

4- الذي يؤمن بأنَّ للعقل مكان الصدارة: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} (الأنفال 22).

5- الذي يتطلع إلى آيات الكون بأنها مواضع التعقل: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الجاثية: 5).

6- الذي يؤمن بأنَّ الثواب والعقاب منوطان بالعمل: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ} (التوبة: 105).

7- الذي يعلن أنَّ الإسلام دين سلام ومحبة على قلوب البشر، ولم يأتِ للتعجيز والارهاق: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286).

 

إنَّ هذا التواصل الكوني يستدعى وجود معايير عابرة للقارات، مثل: (الاستيعاب، والفاعلية، والتأثير، وحسن التصرف، والإنتاجية، والقدرة على الاحتمال..). والأمم الأكثر حضورًا في ساحات الإعلام والإنتاج والتقنية والسياسة هي التي تضع تلك المعايير.. وبقطع النظر عن صواب تلك المعايير فإنه لا يمكن تجاهلها على نحو تام.

 

من هنا تأتي النتيجة الحتمية: العيش خارج العصر لا يحتاج إلى تخطيط ولا إلى جهد، وأما العيش داخل العصر فهو الذي يتطلب الكثير من الفهم والعناء والبذل!!..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محرم 1447 في الصحافة الكويتية