الأحد، 26 سبتمبر 2021


 

خلود كربلاء

 

في المعتبرة عن عبد الله بن ميمون القداح، عن أبي عبد الله (ع) قال: "مرّ أمير المؤمنين (ع) بكربلاء في أناس من أصحابه، فلمّا مرّ بها اغرورقت عيناه بالبكاء، ثمّ قال: هذا مُنَاخُ ركابهم، وهذا مُلقى رحالهم، وهنا تُهرق دماؤهم، طوبى لكِ من تربة عليك تُهرق دماءُ الأحبّة" [كامل الزيارات: ص 269 ح 11].

 

كربلاء وواقعتها مصداق جليّ لحقيقة قرآنية {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.

 

لست -هنا- بصدد متابعة جميع تجليات كربلاء، وإنّما أريد أن أشير لبعد من أبعاد تلك الحقيقة، وهو المدلول عليه بقوله تعالى: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} بما يمثله من عمق في امتداد الأرض قوة وثباتاً، بحيث لا يمكن لأية عاصفة أن تقتلعها، مهما كانت قوتها. وليس لعطائها وقت محدود، بل أودع الله فيها من عناصر النموّ الذاتية، والقدرة على الاستمرار في التفاعل مع كل العوامل الخارجية المحيطة بها.

 

ü   فما هي العوامل التي ساهمت في تخليد كربلاء؟

ü    وكيف نورث حب كربلاء للأجيال؟

العوامل التي ساهمت في خلود رسالة كربلاء:

·      هدفية النهضة (المشروعية)

·      السبب الاستراتيجي (الواقعية)

·      آلية تطبيق المنهج (الخطط والمبادئ)

·      جاهزية الإظهار (الإعلام)

العامل الأول: يكمن في هدفية نهضة كربلاء (المشروعية):

 

لا بد أنّ خلود أي نهضة إنما يأتي من فاعلية المبادئ التي تحملها هذه النهضة، وما عكسته على أرض الواقع من تطبيق لهذه المبادئ: فما هو الهدف من النهضة الحسينية؟

 

1- بعضهم ذهب إلى أنّ الهدف هو إيقاظ الأمة، كما ذهب إليه الشهيد الصدر محمد باقر الصدر (قده).

2- وبعضهم ذهب إلى أنّ الهدف هو الوصول إلى الحكم.

3- الهدف هو نزع المشروعية السياسية والدينية عن السلطة الأموية، حيث كانت هذه السلطة تقدم صورة مشوهة عن الإسلام، كما تسعى لاستغلال الدين من أجل تبرير أفعالها.

 

نقول: ما نؤمن بداهة أنّ مسؤولية النبوة والإمامة بل مسؤولية (الرسالي) أيضاً هي الهداية لا الثورة (العمل المسلح)، فالثورة ليست أصيلة في حياة الإمام، وإنّما الأصالة للهداية، نعم قد تتحقق الهداية عبر وسيلة الثورة، وقد تتحقق بغيرها، فمن قال إنّ الظلم لا يرتفع إلاّ عن طريق الثورة والاقتصاص من شخص الظالم; فهذا إن صح في بعض الأحيان إلاّ انه لا يصح مطلقاً.

 

يقول الإمام الخميني في هذا السياق: "إنّ النبي الأكرم (ص) لم يُختر لحمل الرسالة الخاتمة من أجل إقامة حكومة، ولم يكن ذلك هو الهدف الأساسي والنهائي لرسالته السماوية، وكذلك الحال بالنسبة لبقية الأنبياء... إنّما كان هدفهم من إقامة العدل وتشكيل الحكومات مقدمة وتمهيداً لتحقيق الهدف السامي والجوهري من إرسالهم إلى الأمم، ألا وهو تعريف الناس بالخالق سبحانه وتعالى".

 

فما تقول في قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ} أي في إلزامهم القسري -وبطريقة غير عادية- على المنهج الأخلاقي في سلوكهم العملي.. فإنّ دورك الرسالي هو إبلاغ الرسالة في تفاصيلها بكل جهدك في طرح الفكرة وتنويع الأسلوب، وإيجاد الأجواء الملائمة التي تنفذ -من خلالها- الفكرة إلى عقولهم لتكوين قناعاتهم على أساس ذلك كله، فتلك هي قدرتك البشرية التي تتحرك الرسالة في نطاقها الخاص الطبيعي، فلا تملك أيّ وضع آخر غير عادي، لأنّ المعجزة ليست سبيلك في الهداية، بل هي سبيلك بإذن الله في ردّ التحدي. {وَلَـكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ} بما أودعه في الإنسان من عناصر الهداية في أسبابها الوجودية.

 

فالعمل السياسي، والتكليف الشرعي، إنما كانت (سلوكاً) قبل أن تكون (دعوى)، أن تلتصق هذه الممارسة بوشيجتين لم يستطع أعداؤه التفريق بينهما أو تفكيكهما، وشيجة مع الناس، ووشيجة مع الله تعالى، وما عدا ذلك سيكون مثله مثل أولئك الذين {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ}.

 

تماماً كما أراد الإمام الحسين (ع) من وراء ثورته وتضحيته حين لخّص هدفه السامي المقدس ذاك بقوله: "اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماساً لفضول الحطام، ولكن لنرّد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويُعمل بفرائضك وسننك وأحكامك".

العامل الثاني: السبب الاستراتيجي لنهضة الحسين (الواقعية):

وقف الإمام الحسين (ع) ليعالج مرضاً أصيبت به الأمة وهو (هو حالة انعدام الإرادة وانعدام وضوح الطريق)؛ ووصل ذلك عبر سلسلة من الإزاحات:

·      فقد استسلمت الأمة بعد الرسول لعهد (الخلافة الراشدة) وتحقيق نظرية "المفضول على الفاضل". إنّ وصول رجال للسلطة غير منصوص عليهم، قد عطل فاعلية الروح، وأبعد المجتمع عن المسار الإلهي لولا وجود علي (ع) وقتها.

·      ثم تتابع الصدام الدموي ضد أمير المؤمنين (ع)، والذي أوصل الأمة إلى حالة (الشك والإنقلاب) مع بداية ملك معاوية.. فوصول آل أبي سفيان وآل الحكم، قد مثل انحرافاً كاملاً للمجتمع عن حقيقة الروح الاجتماعية وفق المنظور الإلهي.

·      الوضوح والتصارح بين جناحين متصارعين، وما اتضحت معالمه إلا بعد أن فقدت الأمة كامل إرادتها، واستطاع الذين اغتصبوها وسرقوا شخصيتها وزوّروا إرادتها وأباحوا كرامتها، أن يخدّروها وأن يجعلوها غير قادرة على مجابهة الموقف.

 

لا شك أنّ فترة عشر سنوات في حياة الشعوب والحضارات تعتبر قصيرة جداً خاصة إذا ما أريد لها تربية الناس على خلاف ما كانوا قد ترعرعوا عليه من سجايا وخصائص، كما هو الحال في المجتمع الجاهلي الذي كان على النقيض تماماً من مضامين هذه الركائز في كل شؤونه. لذلك لم يدم الوضع طويلاً على تلك الحالة، فكلما كان الوقت يمضي كان المجتمع الإسلامي ينحدر تدريجياً نحو الضعف والخواء.

 

لم يمض بعدُ نصفُ قرن على رحيل الرسول (ص) حتى كادت تلك الركائز -التي على أساسها أشاد النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والقضائي...- كادت تنقرض وتنمحي من حياة الناس. ولم يعد معاوية خليفة لمن قبله، كنسق سائد عند الخلفاء السابقين، وإنّما أضحى بين ليلة وأخرى خليفة الله، واجتهد حزبه في البرهنة على حقهم الشرعي والحصري بالخلافة، أي بسياسة الناس في دينهم ودنياهم، مما يستتبع نشوء حاكمية مزدوجة (دينية/مدنية) والتي هي الوجه الحقيقي لعملهم السياسي. واعتمدوا في تبرير سلطتهم وامتيازاتهم على موقعهم النسبي!

 

ولذلك نرى أنّ السلطة الأموية، أجازت:

 

1- أن تحافظ على النظام المناسب لها، وتنتقل وفقاً لإجراءات وراثية على امتداد التسلسل الإداري.

2- أن تساهم في بروز أحداث غير مألوفة ومقلقة (كقتل الهاشميين)، وانتهاك الحرمات والمقدسات والتي تمثلت بدك الكعبة وإحراقها.

3- أن تحطم المدرسة المعرفية والفكرية لأهل البيت (ع)؛ من خلال: اختلاق الأحاديث في ذم علي (ع) والنيل منه على المنابر، وعدم الرواية عن الحسين (ع).

4- أن تعتمد على ربط السياسة بالقداسة، وأن ترمي بالكفر جميع الأحزاب الخارجة عليها. وتطبيق قاعدة (المحلل والمحرم) (المقدس والمدنس). فكل اعتداء على السلطة هو سقوط في دائرة المحرمات (المدنسات)، وكل تحالف معها هو إحياء في دائرة المحللات (المقدسات). ولذلك خرج شعار "إذا كان بينكم أمير، وقام أحد وادعى الإمارة، فسارعوا واقتلوه". وعرف فيما بعد ذلك بـ"حرمة الخروج على الحاكم الظالم".. ولهذا كانت بعض الأحاديث محل عناية من الجهاز الثقافي للسلطة...

 

إنّ حشد هذا المفهوم كانت له تداعيات خطيرة على مستوى تشكيل الوعي الديني / السياسي للمجتمع الإسلامي، ومن هذه التداعيات:

أ- حرمة الخروج على الحاكم الظالم.

ب- وجوب طاعة الحاكم الظالم.

ج- حرمة نقض البيعة للحاكم الظالم.

د- حرمة الخروج على الجماعة وشق عصا المسلمين. وهذا ما قاله معاوية صريحاً لعبد الله بن عمر عندما سأله عن سبب تنصيب يزيد خليفة: "إني أحذرك أن تشق عصا المسلمين وتسعى في تفريق مَلَئِهم وأن تسفك دماءهم" [ الإمامة والسياسة: ص 210].

 

5- أجازت أن ترسي دعائم الجبر والإرجاء: من خلال التلاعب في أسس الدين وعقائده ومفاهيمه الصحيحة، ومن أخطر ما روجوه بين الأمة وأكدوا على إشاعته هو فكرة الجبر الإلهي بهدف التمكن من السلطة والسيطرة التامة على مصير الناس(المغني، كتاب المخلوق: ص 4، واقرأ: العدالة الاجتماعية، لسيد قطب).

 

يقول الدكتور أحمد محمود صبحي: "إنّ معاوية لم يكن يدعم ملكه بالقوة فحسب ولكن بأيديولوجية تمس العقيدة في الصميم، ولقد كان يعلن في الناس أنّ الخلافة بينه وبين علي قد احتكما فيها إلى الله فقضى الله له على علي... وهكذا كاد يستقر في أذهان المسلمين أنّ كل ما يأمر به الخليفة حتى لو كانت طاعة الله في خلافه قضاء من الله قد قدر على العباد" (نظرية الإمامة لدى الشيعة: ص 349).

 

إنّ المشكلة الكبيرة التي كانت تواجه معاوية هي قضية تنصيب ولده يزيد خليفة على المسلمين، لذا كان على معاوية أن يحرف في بعض مفاهيم الدين من أجل أن يبرر تولية ابنه. فقصد المدينة من أجل تهيئة الظروف المناسبة لولاية يزيد وأخذ البيعة له، والتقى في سبيل ذلك بالسيدة عائشة فكان مما قاله لها: "إنّ أمر يزيد قضاء من القضاء، وليس للعباد الخيرة من أمرهم" (الملل والنحل، سبحاني: ج 1 ص 240).. وقد استخدم هذا الأسلوب أيضاً مع عبد الله بن عمر (الإمامة والسياسة: ج 1 ص 189).

 

وفتحت هذه الفكرة للسلطة الباب على مصراعيه من أجل ارتكاب أفظع وأشنع الجرائم طالما أنّ الخطاب التبريري حاضر من أجل أن يرفع عن السلطة ورموزها كافة أشكال المسؤولية، باعتبار أنّ ما حصل إنّما هو من قضاء الله!!

 

من هنا نستطيع أن نقف على خطورة موقف الإمام الحسين (ع)، فلقد واجه كل هذا الركام المدسوس بنهضة رائدة، وبوعي نبوي ثاقب.

العامل الثالث: آلية تطبيق المنهج (الخطط والمبادئ):

من خلال المنهج الأخلاقي والتربوي في ثورة الحسين (ع)؛ وهذا العامل يرجع إلى عظمة صاحبها وامتيازه لكونه إماماً معصوماً وسيد شباب أهل الجنة باتفاق المسلمين. يقول الاقتصادي العالمي صامويل بريتان: "إنّ أكبر خطأ يرتكبه المكابرون المتشككون هو التقليل من شأن دور الشرعية الأخلاقية في الأفعال البشرية. فلا يمكن لأية منظمة بشرية أن تنجح في القيام بعملها بدون نوع من القواعد التي تكبح السعي وراء المصلحة الخاصة".

 

البعد الأول: الإيمان أساس الحق:

عن الحسين بن علي (ع)، في حديثه عن الإيمان في الأفق الواسع يقول في أول خطوة في مسيرة نهضته: "فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ علي أصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين".

 

البعد الثاني: الحرية:

حين أحس الإمام الحسين (ع) بمدى انتهاك حرية الإنسان، الذي باشرت به حكومة يزيد بن معاوية بحق أبناء الأمة لم يكن ليقف مكتوف الأيدي إزاء ذلك، بعد أن استنفد كل الوسائل الممكنة لثني ذلك الطاغية عن ممارساته تلك عندها باشر شخصيا بممارسة التغيير الذي عبر عنه بقوله: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر". وبقوله (ع): "لا ينبغي لنفس مؤمنة ترى من يعصي الله فلا تنكر عليه".

 

البعد الثالث: الابتعاد عن الحمية والعصبية (التمييز العنصري):

قال الحسين (ع): "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ علي أصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين".

 

البعد الرابع: المسؤولية والواقعية:

قال الإمام الحسين (ع): "إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر". وحينما بايعه أهل الكوفة وطلبوا منه القدوم، أرسل إليهم مسلم بن عقيل وقال: "وإنّي باعث إليكم بأخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلمَ بن عقيل، فإن كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأي ملأكم، وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قَدِمَت به رُسُلكم وقرأتُ في كتبكم، فإنّي أقدم إليكم وشيكاً إن شاء الله؛ فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله، والسلام".

 

البعد الخامس: المحبة والرحمة:

وهو مشحون الدلالة في قضية كربلاء.

العامل الرابع: جاهزية الإظهار (الإعلام بين الثابت والمتغير):

يمكن تحليل العناصر التي تُكوِّن المدوَّنة الحسينيّة (الملحمة العاشورائيّة)، كما تتجلّى في الممارسة الإحيائيّة عبر التاريخ، إلى ما يلي:

 

1-  التأسيسُ للنياحة على المصيبة وإظهار الحزن وعواطف الأسى على ما حدث.

2-  التدارسُ حول موقع الشهادة من الخروج الحسيني، وهل هي محصّلة مطلوبة سلفاً أم أنها إرادة من السّماء برزت من غير وضوح الاعتبارات الموضوعيّة لها، أم أنها واقع غير مطلوب انتهت إليه النهضة بفعل اختلال الموازين في اللحظات الحرجة.

3-  البحثُ في مجريات السيرة الحسينيّة وحركة النهوض ومسارها ومحطاتها والخطابات التي قيلت في كلٍّ منها، والتحقيق فيما هو ثابت أو ضعيف أو موضوع منها.

4-  التفكير والتجريب في أشكال إحياء النهضة الحسينية، تبعاً لاختلاف الزمان والمكان، والتداول حول معيار كلّ شكل إحيائي ومرجعية قبوله أو رفضه.

 

هذه العناصر كانت، ولا زالت محوراً لمختلف النقاشات والتساؤلات والإشكالات التي تُطرح في هذا الصّدد.

 

ومن الملاحظ أنّ كلّ هذه الإثارات تبقى مفتوحة، ولا تنتهي مع أيّ توضيح، أو إجابة تُقدّم، والسبب في ذلك أنّ المتغيرات الطارئة على محيط الناس يجعل من الحدث العاشورائي طرياً على الدوام، ويستصحب معه شتى الملفات الصعبة والمحيّرة.. إنّ جوهر خلود النهضة الحسينية وتعبيراتها؛ هو هذه الحيوية غير النهائية في الاستيعاب للمصاديق، وهو أمر لا يتوجب الحد منه أو التشنيع فيه لمجرد الاختلاف معه اجتهاداً.

 

v  كيف نورث حب كربلاء للأجيال؟

من سمات الذين يعيشون خارج العصر أنهم يفقدون روح المبادرة الشخصية، فهم ما زالوا ينتظرون من غيرهم نوعاً من الرعاية لهم. فالطفل يُكثر من استخدام ضمير (أنت): أنت لم تأخذني، أنت لا تحبني... والمراهق يُكثر من استخدام ضمير (أنا): أنا أضرب، أنا أفعل كذا.... أما الناضج فيكثر من استخدام ضمير (نحن): حيث يغلب عليه شعور الجماعة.

 

إذا حاولنا أن نعمّق النظر في أحوال عصرنا، فإننا سنجد أنّ (المبادرة الفردية)، قد أسهمت على نحو فذ في تكوين النهضة الحديثة، بل يمكن القول: إنّ مجموع المبادرات الفردية في أي مجتمع هو مقياس دقيق لمدى حيوية ذلك المجتمع، وقابليته للنمو والتقدم.

 

ومن يقرأ السيرة النبوية يقف على الكثير من المبادرات الخيرة .. فها هو يدعو الخلق إلى الإسلام وهو محصورٌ في الشَّعب، ويفتح الفرص لأصحابه للدعوة حتى ولو كان خارج إطارِ مكة.. والهجرتان إلى الحبشة نماذجُ عالية للمبادرة والدعوة.. أما دعوتُه العربَ في المواسم.. ثم ذهابه إلى الطائف لدعوة ثقيف فكلُّ ذلك أدلةٌ واضحة على قيمة (المبادرة) في السيرة ثم كانت الهجرة للمدينة وما استتبعها من جهادٍ ودعوة مرحلةً متميزةً في المبادرات النبوية.

 

أجل لقد بادر وحيَّد اليهود بمعاهداتٍ شرقوا بها حتى نقضوها.. وبادر إلى بعث البعوث التعليمية والدعوية في المدينة وما جاورها، ومهما نزل بالمسلمين من مصائب وابتلاءات لهذه البعوث والمعارك فقد أدت هذه المبادراتُ دورَها وطار صيتُ الإسلام في أرض العرب كلَّها.. بل تجاوزت مبادراتُ الرسول (ص) أرض العربِ لتصل إلى أرض الروم وفارس يوم أن بعث النبي (ص) الرُسل وكتب الكتب.

 

يقول الإمام الخميني: "اجتماعاتنا اليوم تخلوا من البحوث البناءة، وحين نشاهد ما يطرح في هذه الاجتماعات على صعيد الأقطار الإسلامية لا ترى غير الشعر والخطابة والفلسفة والعرفان وأمثالها، أما المسائل التي ترتبط بسر انتصار المسلمين في صدر الإسلام فغير مطروحة...".

 

فالتربية لدينا ما زالت تركز على تخريج الإنسان التابع، والمعتمد على غيره، على أنّ الوضعية العامة لـ(التكليف) في الإسلام تؤكد على تنمية روح المبادرة والمسؤولية الفردية، وسلوك طرق الخير مهما كانت موحشة ومهجورة.

 

لقد رسم الإمام الحسين (ع) مبادرة لا مثيل لها في مسيرة التصحيح عندما قال: "شاء الله أن يراني قتيلاً"؛ لأنه يعلم بأنّ هذه الروح التي يحملها بين جنبيه لا يمكن أن تستوعب ذلك العصر... "إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (ص)، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب".

 

إنّ عظمة الثورة الحسينية وامتيازها في التاريخ لها ثلاثة أسرار وراء خلودها الزماني والمكاني:

 

الأول: هو عظمة صاحبها وامتيازه لكونه إماماً معصوماً وسيد شباب أهل الجنة باتفاق المسلمين.

وثانياً: ظروف الثورة. لقد ثار الحسين في وقت كانت إرادة الأمة ميتة فأراد الحسين بثورته المباركة إحياء هذه الأمّة الميتة التي تقبلت الظالمين كقدر مقدور وارتضت الخنوع علاجا لهذا المرض. فجاءت ثورة الحسين كالزلزال الذي أيقظ الأمة وعلمها أنّ العزة ضرورة كضرورة الهواء الماء وأنّ الميت العزيز أفضل من الحي الذليل.

وثالثها: هو إحياء الإسلام ذاته. حيث حاول المخطط الأموي القضاء على الإسلام ابتداءً من معاوية وتوجت الجهود بيزيد. وحيث إنّ الأمّة مبتلية بالخنوع والذل وفقدان الإرادة ، لذا لو هدم يزيد الإسلام الأصيل لما تجرأ أحد على فعل أي شيء. لذلك احتاجت الأمة والإسلام لدم بعظمة الحسين للحفاظ على الإسلام الأصيل.

 

 

الثلاثاء، 21 سبتمبر 2021


 

بين منبرين ومستمِعَين

 

هل يعني لك شيء، حين يأتي خطيب ويوصي من يجلس تحت منبره من المعاصرين أن يترسَّموا سير السالفين؟

ماذا يخطر ببال المستمع حين يدعوه ذلك الخطيب إلى إحياء تراث الآباء في هذا العصر؟

هل يستطيع المستمع واقعاً أن يلتمس لنفسه طريقاً يجمع فيه بين القديم والجديد، بين الموروث والمعاصر؟

هل يغيِّر من شكله وهيئته وهندامه؟

هل يتخلَّى عن طرق التفكير العلمي والمنهجي إلى طريقة ومنهجية السالفين من قبله؟

 

قد يسهُل على شاعرينا الكبيرين (جاسم الصحيح) و(شفيق العبادي) أن نطالبهما في هذا اليوم بأن ينظِما على غرار ما نظم الشعراء الأقدمون..

وأن يحكُم القاضي في الناس بما كان يحكُم به قضاة الأمس البعيد..

 

ولكن ما عسانا أن نقول في علماء اليوم؟!!

إنَّ بين أيديهم من المسائل والتجارب ما لم يحلُم به أحد من السابقين..

إن حياة الناس اليوم، ليست كسابقتها، عبارة عن صِيغ شعرية ونثرية فقط، حتى يسهل على الخطيب أن يطلب من مستمعيه أن يتحركوا بمثل ما تحرك به القدماء..

أضحت الحياة اليوم برمتها أبحاث علمية تجري في المعمل والمصنع، وتدار عجلتها وفق نظم جديدة في التعليم والإدارة والسياسة والاقتصاد..

 

كيف يجوز للمتوهم أن يتوهَّم بأن حياة اليوم يمكن أن تُصَبَّ بحذافيرها في قوالب السالفين؟!!

إنَّ الأخذ عنصر الزمان بنظر الاعتبار في المعرفة الدينية وتبليغ الدين يُعدّ أمراً ضرورياً، حيث يجعل العلاقات والمعادلات والموضوعات على امتداد الزمان في معرض التطور. يقول علي (ع): "إِنَّمَا مَثَلِي بَيْنَكُمْ كَمَثَلِ السِّرَاجِ فِي الظُّلْمَةِ يَسْتَضِيءُ بِهِ مَنْ وَلَجَهَا فَاسْمَعُوا أَيُّهَا النَّاسُ وَعُوا وَأَحْضِرُوا آذَانَ قُلُوبِكُمْ تَفْهَمُوا".

 

فالعلم بالزمان، كفيل بإحداث قناعات جديدة، ورؤى جديدة، تبعث حياة جديدة، عندما تتوفر أدوات ووسائل التجديد، التي تقود إلى الصلاح والرشد. فعلى علماء الدين أن يعوا اقتضاءات وخصوصيات الزمان لكي لا تهجم عليهم اللوابس والانحرافات والاشتباهات.. عن الصادق (ع): "الْعَالِمُ بِزَمَانِهِ، لَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ اللَّوَابِسُ". وعن علي (ع): "حَسْبُ الْمَرْءِ مِنْ عُرفانِه، عِلْمَهُ بِزَمَانِهِ".

 

وتعتبر قاعدة: (القرآن يفسره الزمان)؛ الأصل الأول من أصول التفسير، فكلما تقدم الزمان استطاعت الإنسانية أن تستكشف معاني القرآن، وكلما تقدم الزمان تكشفت أبعاد الآيات ودلالاتها..

وقد سئل الإمام الصادق (ع): مَا بَالُ الْقُرْآنُ لَا يَزْدَادُ عَلَى النَّشْرِ والدرسِ إِلَّا غضاضةٌ؟ فأجاب (ع): "لِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَجْعَلْهُ لزمانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَ لَا لناسٍ دُونَ نَاسٍ، فَهُوَ فِي كُلِّ زَمَانٍ جَدِيدٌ، وَعِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ غَضٌّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".

هذا في القرآن فكيف في الإنسان!! ..

 

لقد كان الناس في الماضي يصنعون بيئاتهم المحلية بأنفسهم، وكان تأثيرهم بما يجري خارج بيئتهم ضئيلاً جداً، وقد يكون معدوماً -حين كان الناس يعيشون في الصحاري والقرى المتباعدة. ولم يكن من المألوف أن تتأثر حركة الحياة اليومية في مكان نتيجة اتخاذ قرارات معينة في مكان آخر إلا على نطاق محدود.

وحين قامت (العلاقات الاعتمادية) بين الشعوب على نطاق واسع، أخذ كل شيء يختلف، وصار من الممكن أن يجوع إنسان أو شعب في أقصى الشرق بسبب اتخاذ قرار في أقصى الغرب.

 

وهذا استدعى وجود معايير جديدة وعابرة للقارات متلائمة مع عصر القوة، لذلك نرى أنّ الأمم الأكثر حضوراً في ساحات الإعلام والإنتاج والتقنية والسياسة، هي التي تضع تلك المعايير. ولا يمكن تجاهلها على نحو تام.

 

إذا كنا نريد أن نعيش خارج زماننا فهذا لا يحتاج إلى تخطيط، ولا إلى جهد. وأما إذا كنا نريد أن نعيش داخل زماننا فإنه يتطلب منا الكثير من الفهم والعناء والبذل..

 

ولا يحق لنا أن نلوم غيرنا إذا استخدم ما يملك من وسائل لنصرة باطله، لأننا نحن أيضاً يمكن أن نستخدمها في نشر دعوة الحق والخير، ولقد أمر الله نبيه محمداً (ص) أن يقولها لقومه: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}.

 

الذي لا يعبأ بالصحة والمرض والقوة والضعف، ليس مطالباً بأي شيء من التمارين.. فالتصرف في الحياة على السجية (من دون أي صقل للذات أو ترقية للمهارات أو محاولات للفهم) تعتبر حياة نموذجية لمن يريد أن يعيش خارج زمانه وعصره. 


وعلينا ان نعي أنَّ المنبر ليس (كيس بركة) وليس (صندوقًا مغلقًا) بل هو خطاب تنويري متجدد وواقعي؛ ولكن الخطر أنه قد يرتقيه شيطان وأنت تحسبه ملاكاً. ولهذا يقول الإمام محمد الباقر (ع) محذراً: "من أصغى إلى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق يؤدي عن الله عز وجل فقد عبد الله وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان".

الاثنين، 13 سبتمبر 2021


 القلب والعقل والروح

 

وردني سؤال من إحدى السيدات الفاضلات تقول فيه: "حدثوني ذات مرة أن القلب والعقل والروح هم جوهر واحد (كالمثلث الهرمي) المثلث واحد بكل مكوناته ولكن له ثلاثة أوجه.. فما رأي سماحتكم؟".

 

الجواب:

لا بد لنا أن نؤمن أنَّ مثل هذه المفردات في تجليها لا بد لنا من الرجوع إلى النص اليقين المجلي للحقائق فيها، والمتأمل في الآيات القرآنية يجد أنَّ الجوهر، أو ما نسميه بالكيان الإنساني الروحي، هو الجامع لكل الأوصاف والخصائص، والمميزات والصفات والقدرات المعنوية التي يشتمل عليها الإنسان كنفس أو روح.

 

وبعبارة أدق؛ هناك مطابقة تامة بين القلب بالمعنى الروحي القرآني، وبين الإنسان كنفس أو روح؛ أي أنَّ ألفاظ: القلب، النفس، الروح، هي أسماء لمسمى واحد، ولكن تختلف في وظائفها الحيوية عند الإنسان.

 

فالقلب -في القرآن- يعقل ويفقه ويحب ويكره، ويؤمن ويكفر، ويلين ويقسو، إلى غير ذلك من الأوصاف التي يتصف بها الإنسان كروح أو نفس.

 

أما فيما يخص العقل، فإنه لم يذكر في القرآن إلا في صيغة الفعل، وفاعله هو الإنسان أو قلبه أو روحه أو نفسه. فلا يوجد ذكر للعقل في القرآن بمعنى الفاعل. مما يفيد أنَّ الأفعال: يعقلون، تعقلون، نعقل، ...الخ الواردة في القرآن تشير إلى عملية التعقل التي يقوم بها الفاعل العاقل، الذي هو الإنسان أو قلبه بمعنى الروح أو النفس.

 

ولكي نوضح بشكل أكثر نتكلم في:

الروح:

إنَّ الروح في القرآن لها ارتباط بأمر الله سبحانه؛ وهي السر الإلهي، الذي به حوَّل البشر من كائن طيني إلى إنسان؛ لأنَّ الله سبحانه نفخ في الإنسان من روحه: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (الحجر: 29)، {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} (غافر: 15)، {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (التحريم: 12)، {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 91).

 

أي أنَّ روح الانسان هي نفخة إلهية في آدم حولت الكائن الطيني إلى الكائن إنساني. فالروح هي التي أعطت الإنسان إنسانيته.. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء: 85).

 

 العقل:

هو آلة التفكير، وهو لدى الإنسان متطور عن الحيوانات بحيث أنَّ لديه القدرة على التحليل والاستنتاج والتحكم، ولديه القدرة على التفكير والحفظ والحساب واللغة والتطوير والتواصل والاختراع والاكتشاف والتصليح والتنظيم والتخطيط والتأمل والتوجيه وتفسير فعاليات الجسد وإصدار الأوامر، ويمثل مكان قيادة الجسد، كما أنه مكان الانفعالات والعواطف والتقييم والتحكيم والتحكم.

 

العقل هو مكان الذكاء الإنساني، وهو مدير الصراع والتآمر والتنافس، وحسب المعلومات المتوفرة لدينا حتى الآن فإنَّ مكان وجود العقل من الجسد هو في الدماغ، ولكن هناك إشارات قرآنية عن وجوده أو بعضه في القلب.

 

ويختلف العلماء في مكان وجود الضمير هل هو في العقل أو القلب أم في النفس، وهو عضو نفسي مهم موجود في الإنسان فقط كما يعتقد.

 

كما تختلف العلوم في مكان وجود الفعاليات النفسية هل هو في النفس أم العقل، خصوصاً أنّ العلم الذي يدرس الفعاليات النفسية يسمى علم النفس؛ لتمييزه عن العلوم التي تدرس الجسد كالتشريح والفسلجة والانسجة والطب بمختلف فروعه.

 

{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44).

{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (البقرة: 73).

{أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة: 75).

 

ورحلة الإنسان العاقل اقترن مع تطور اللغة عنده، حيث بدأت علاقته باللغة منذ زمن قديم، وانتقلت من مرحلة إلى أخرى في تطور تصاعدي، ولا يمكن أن ننظر إلى تعليم الله الإنسان البيان -{علمه البيان}- على أنه تعليم وقع دفعة واحدة؛ لأنَّ هذا الفهم يسقط مفهوم الخلق الكامل لآدم، كما يسقط قدرة آدم على التواصل باللغة.

 

وتعلل الدراسات الأنثروبولوجية أنَّ انقراض البشر السابق (النياندرتال) على الإنسان الحالي بسبب عجزه عن التواصل اللغوي، والجميل أنَّ العالم المسلم ابن حزم الأندلسي، يؤكد على وجود تلازم بين الوجود أو البقاء واللغة، وأنَّ العجز عن الكلام يؤدي إلى العجز عن البقاء (الإحكام في أصول الأحكام: ج ١ ص ٣٠).

 

القلب:

وردت هذه المفردة في القرآن الكريم في ثلاثة وثلاثين ومئة موطن (133)، وهو عدد كبير يبرز أهمية القلب ودوره في الإنسان.

 

ولأول وهلة قد يتبادر إلينا أنّ استخدام القرآن لهذه المفردة ينحصر في القضايا المادية فقط، إلا أنّ القرآن يتعامل مع هذه المفردة في القضايا المجردة كمرض النفس والفكر.. (راجع: الأحزاب: 32؛ البقرة: 10).

 

وينبغي أن نذكر بعض الدلالات القرآنية لمفردة القلب:

1- قدرة التمييز بين الحق والباطل.. (البقرة: 283).

2- تقع عليه المسئولية.. (البقرة: 225).

3- محل العواطف.. (البقرة: 74).

4- مهبط الوحي.. (البقرة: 97).

5- مركز الإيمان.. (الحجرات: 14).

6- مستقر للطمأنينة والسكينة.. (الرعد: 28).

7- محل للنفاق.. (آل عمران: 167).

8- يقع عليه صفتا التكبر والعجب.. (غافر: 35).

9- إدراك الحقائق.. (ق: 37).

10- موضع العلم والمعرفة.. (الإسراء: 47).

 

واضح عندنا أنّ المقصود من القلب حقيقة سامية ممتازة، تختلف عن العضو الموجود في الجسد، ويعتبره القرآن الكريم وسيلة للمعرفة.. ولكي نكفل إدراك الحقائق إدراكاً كاملاً ينبغي أن يكمل الإدراك الحسي بإدراك آخر هو (القلب). ولذلك فإننا نرى أن القسم الأكبر من نداءات القرآن تخاطب قلب الإنسان.

 

وأميل إلى أنَّ القلب قوة ثالثة غير النفس والروح، وهو الحاكم الذي يحتل مكان القيادة والحواس بمثل الجند له، وهو الذي يوجهها حيث يشاء.

 

ويؤيده ما روي عن الإمام الصادق (ع): "إنّ منزلة القلب من الجسد بمنزلة الإمام من الناس"، ولا يعني بذلك اللحمة الصنوبرية لأنها لا تعقل -كما هو واضح-، كما أنه لا يصح تشبيه الإمام -بما له من مسئولية القيادة والإدارة- إلا بما يعقل.

 

وخلاصة القول أنّ القلب قوة من قوى (الإنسان) شأنها شأن تلقي المعلومات فقط دون تحليلها أو تركيبها أو استنباطها، فإنّ ذلك وظيفة قوة أخرى وهي العقل. ومن هنا نذهب إلى أنّ القلب منطقة تلقي الغرائز، يتأثر تأثيراً كبيراً بالانفعالات.

 

وإذا ما أردنا الارتباط القرآني فيما يتعلق بالقلب فلا بد من معرفة ما استعمله القرآن من مفردات هي: القلب والصدر والفؤاد.

 

القلب قوة من قوى النفس شأنها تلقي المعلومات فقط (القصص: 108). تحليلها أو تركيبها أو استنباطها، وأما الصدر فهو خزانة في النفس تشتمل على قوة القلب (الحج: 46)، وأما الفؤاد فدائرة ذات عمق تتركز فيه خصائص النفس ووظائفها وأعراضها.

 

وكل من (القلب والصدر والفؤاد) لا تخرج عن الميل الإرادي في كل ما تتصف به لحكومة الإرادة في النفس.. فالميل الإرادي في الصدر تشير إليه آيات قرآنية (العاديات: 9-11)، وفي الفؤاد (الإسراء: 36)، وفي القلب (المطففين: 15).

 

 

إذن ..

العقل والقلب متكاملان؛ فـ"العقل امتاز بالصلابة والقوة؛ لأنه يرتكز دائماً على المنطق والاستدلال، ويحكم في مختلف القضايا وفق مَعايير جازمة، بينما اختصَّ القلب باللين واليُسر، وكلاهما لا غنى للإنسان وبنائه الروحي عنهما، فصلابة العقل تلطفها رقة القلب، ولين القلب يُهذبه تدبير العقل".. أي إنَّ عقل الإنسان وقلبه هما اللذان يحددان سلوكه ويستأثران في طبيعة مساره وفعالياته؛ فالعقل يُنذرنا بما ينبغي تجنبه، والقلب يقول لنا ما ينبغي فعله.

 

وقول الله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} توحد بين القلب والعقل، وبذلك تبين تلك العلاقة بين العقل والقلب في عملية الإدراك والفهم وأنهم متعلقون ببعضهم كثيرًا، ولكن تعلقهما مع بعض لا يعني أنهما واحد، حيث إنَّ للعقل قوة الإدراك وللقلب قوة الفهم.

 

وللتفصيل يمكن مراجعة كتابي "الغضب".

محرم 1447 في الصحافة الكويتية