بين منبرين ومستمِعَين
هل
يعني لك شيء، حين يأتي خطيب ويوصي من يجلس تحت منبره من المعاصرين أن يترسَّموا سير
السالفين؟
ماذا
يخطر ببال المستمع حين يدعوه ذلك الخطيب إلى إحياء تراث الآباء في هذا العصر؟
هل
يستطيع المستمع واقعاً أن يلتمس لنفسه طريقاً يجمع فيه بين القديم والجديد، بين
الموروث والمعاصر؟
هل
يغيِّر من شكله وهيئته وهندامه؟
هل
يتخلَّى عن طرق التفكير العلمي والمنهجي إلى طريقة ومنهجية السالفين من قبله؟
قد
يسهُل على شاعرينا الكبيرين (جاسم الصحيح) و(شفيق العبادي) أن نطالبهما في هذا اليوم
بأن ينظِما على غرار ما نظم الشعراء الأقدمون..
وأن
يحكُم القاضي في الناس بما كان يحكُم به قضاة الأمس البعيد..
ولكن
ما عسانا أن نقول في علماء اليوم؟!!
إنَّ
بين أيديهم من المسائل والتجارب ما لم يحلُم به أحد من السابقين..
إن
حياة الناس اليوم، ليست كسابقتها، عبارة عن صِيغ شعرية ونثرية فقط، حتى يسهل على
الخطيب أن يطلب من مستمعيه أن يتحركوا بمثل ما تحرك به القدماء..
أضحت
الحياة اليوم برمتها أبحاث علمية تجري في المعمل والمصنع، وتدار عجلتها وفق نظم جديدة
في التعليم والإدارة والسياسة والاقتصاد..
كيف
يجوز للمتوهم أن يتوهَّم بأن حياة اليوم يمكن أن تُصَبَّ بحذافيرها في قوالب
السالفين؟!!
إنَّ
الأخذ عنصر الزمان بنظر الاعتبار في المعرفة الدينية وتبليغ الدين يُعدّ أمراً
ضرورياً، حيث يجعل العلاقات والمعادلات والموضوعات على امتداد الزمان في معرض التطور.
يقول علي (ع): "إِنَّمَا مَثَلِي بَيْنَكُمْ
كَمَثَلِ السِّرَاجِ فِي الظُّلْمَةِ يَسْتَضِيءُ بِهِ مَنْ وَلَجَهَا فَاسْمَعُوا
أَيُّهَا النَّاسُ وَعُوا وَأَحْضِرُوا آذَانَ قُلُوبِكُمْ تَفْهَمُوا".
فالعلم
بالزمان، كفيل بإحداث قناعات جديدة، ورؤى جديدة، تبعث حياة جديدة، عندما تتوفر أدوات
ووسائل التجديد، التي تقود إلى الصلاح والرشد. فعلى علماء الدين أن يعوا اقتضاءات
وخصوصيات الزمان لكي لا تهجم عليهم اللوابس والانحرافات والاشتباهات.. عن الصادق (ع):
"الْعَالِمُ بِزَمَانِهِ، لَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ
اللَّوَابِسُ". وعن علي (ع): "حَسْبُ
الْمَرْءِ مِنْ عُرفانِه، عِلْمَهُ بِزَمَانِهِ".
وتعتبر
قاعدة: (القرآن يفسره الزمان)؛ الأصل الأول من أصول التفسير، فكلما
تقدم الزمان استطاعت الإنسانية أن تستكشف معاني القرآن، وكلما تقدم الزمان تكشفت
أبعاد الآيات ودلالاتها..
وقد
سئل الإمام الصادق (ع): مَا بَالُ الْقُرْآنُ لَا يَزْدَادُ عَلَى النَّشْرِ
والدرسِ إِلَّا غضاضةٌ؟ فأجاب (ع): "لِأَنَّ
اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَجْعَلْهُ لزمانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَ لَا لناسٍ
دُونَ نَاسٍ، فَهُوَ فِي كُلِّ زَمَانٍ جَدِيدٌ، وَعِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ غَضٌّ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
هذا
في القرآن فكيف في الإنسان!! ..
لقد
كان الناس في الماضي يصنعون بيئاتهم المحلية بأنفسهم، وكان تأثيرهم بما يجري خارج بيئتهم
ضئيلاً جداً، وقد يكون معدوماً -حين كان الناس يعيشون في الصحاري والقرى المتباعدة.
ولم يكن من المألوف أن تتأثر حركة الحياة اليومية في مكان نتيجة اتخاذ قرارات
معينة في مكان آخر إلا على نطاق محدود.
وحين
قامت (العلاقات الاعتمادية) بين الشعوب على نطاق واسع، أخذ كل شيء يختلف، وصار من
الممكن أن يجوع إنسان أو شعب في أقصى الشرق بسبب اتخاذ قرار في أقصى الغرب.
وهذا
استدعى وجود معايير جديدة وعابرة للقارات متلائمة مع عصر القوة، لذلك نرى أنّ الأمم
الأكثر حضوراً في ساحات الإعلام والإنتاج والتقنية والسياسة، هي التي تضع تلك المعايير.
ولا يمكن تجاهلها على نحو تام.
إذا
كنا نريد أن نعيش خارج زماننا فهذا لا يحتاج إلى تخطيط، ولا إلى جهد. وأما إذا كنا
نريد أن نعيش داخل زماننا فإنه يتطلب منا الكثير من الفهم والعناء والبذل..
ولا
يحق لنا أن نلوم غيرنا إذا استخدم ما يملك من وسائل لنصرة باطله، لأننا نحن أيضاً
يمكن أن نستخدمها في نشر دعوة الحق والخير، ولقد أمر الله نبيه محمداً (ص) أن
يقولها لقومه: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى
مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
الذي
لا يعبأ بالصحة والمرض والقوة والضعف، ليس مطالباً بأي شيء من التمارين.. فالتصرف
في الحياة على السجية (من دون أي صقل للذات أو ترقية للمهارات أو محاولات للفهم) تعتبر
حياة نموذجية لمن يريد أن يعيش خارج زمانه وعصره.
وعلينا ان نعي أنَّ
المنبر ليس (كيس بركة) وليس (صندوقًا مغلقًا) بل هو خطاب تنويري متجدد وواقعي؛
ولكن الخطر أنه قد يرتقيه شيطان وأنت تحسبه ملاكاً. ولهذا يقول الإمام محمد الباقر
(ع) محذراً: "من أصغى إلى ناطق فقد عبده فإن كان
الناطق يؤدي عن الله عز وجل فقد عبد الله وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد
الشيطان".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق