الثلاثاء، 16 نوفمبر 2021


 

خطابنا المنبري والمسجدي

علينا أن نعي أنَّ خطاب المنابر والمساجد خطاب مقعد، أسير التكرار والاجترار، غير متجدد، ويمتلك أدوات وأساليب التخويف والوعيد أكثر من أدوات وأساليب النهوض والارتقاء والشفاء.

ولا نجد له حديثاً مفصلاً في المفاهيم الإنسانية الكبرى؛ في معنى الوجود، ومكانة الإنسان، وقيمة الإنسان العقائدية، وإجابات الإسلام عن العدل والحرية والكرامة ونظام الحياة والتعايش، بكافة نظمها، الثقافية والتربوية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

وللأسف فإنَّ أكثر من يمتطي صهوة هذه المنابر من يمتهن أسلوب الصراخ، وأكثرهم صراخاً هو أكثرهم نجاحاً، وأما صاحب الصوت الرخيم فأكثرهم قبولاً، وأما الفهم والإفادة فلا يهم عند المستمع!!

ألا يعي الخطيب أنه يخاطب شرائح متعددة في المجتمع؛ من أطباء وأساتذة جامعات وثانويات وآخرين، وبلغة عفا عليها الزمن، وبمنهج أقرب إلى السطحية والخرافة والأساطير، لا تقنع العقول السليمة، ولا تنسجم مع ما يستجد من معارف علمية وتقنية.

إنهم لا يتجددون، بل يحفظون ويكررون ما جاء عن السلف، بعيداً عن معطيات التحليل العقلي والعلمي، ولهذا لا نجدهم يهتمون باستخدام المناهج النفسية والتربوية والانثربولوجية؛ لأنهم لا يبحثون ولا يطالعون.

اعذروني عن هذه القسوة، ولكن ماذا أقول وواقعنا يشير إلى بلوانا!

ألا ترى أنه إذا خطب الخطيب المفوّه الحافظ للنصوص والأشعار، والرافع صوته أمام الجماهير، يعد عالماً نحريراً لا يشق له غبار، وأما إذا خطب العالم المفكر الذي يستخدم منهج العلم والتفكير والفلسفة، فلا مكانة له بينهم؛ لأننا أمة إذا استمعت لا تستقبل الخطاب بعقولها بل بعواطفها.

وأتذكر في هذا المقام طرفة (حقيقية)، أنَّ أحدهم، قال: فلان الخطيب عالم لا يشق له غبار. فقال له صاحبه وهو يحاوره: ما الذي قاله لتحكم كذلك؟ ما الذي فهمته؟ قال: وكيف أفهمه وهو عالم كبير؟!

في هذا العصر يجب أن ننظر في كلِّ خطيب لا يستجمع العلوم الإنسانية والاجتماعية، ولو في مبادئها، فلا يسمح له أن يرتقي المنبر، ناهيك عن العلوم الطبيعية وأوّلياتها.

إنَّ الشهيد الشيخ مرتضى مطهري -رحمه الله- يدعو إلى تصحيح النظرة في التعاطي مع المنابر الحسينية، فهي ليست مناسبة لإذكاء الحماسة والانفعال، وإثارة الخيال والأوهام، واختراع القصص الخيالية، من أجل إدخال الحرارة إلى المجلس؛ ليتفاعل الناس مع ذلك، بل إنّ المنابر الحسينية مناسبة لبناء الذات والوعي وتأصيل الشخصية، عبر استلهام ما تحمل من عِبَر ومواعظ، تخاطب العقل والشعور.

كما يدعو -رحمه الله- إلى مقاومة اللاوعي واللامسؤولية في استحضار عاشوراء وتسطيحها، فعاشوراء مناسبة للتحليق في سياقات الوعظ والتأمّل والإصلاح، وليس في فضاء الخيال، وحول هذا الأمر يقول: >فمن أجل شدّ الناس إلى صورة الفاجعة التاريخية وتصويرها المأساوي، ودفع الناس إلى البكاء والنحيب، ليس إلّا كان الواعظ على الدوام مضطراً إلى التزوير والاختلاق< (الملحمة الحسينية: ج 1 ص 16).

 

مواصفات الخطيب:

1 . أن يكون الخطيب ناطقاً باسم الإسلام ومحافظاً عليه؛ وتلك هي فلسفة إقامة المنابر الحسينية، وإلا فما قيمة هذه المجالس عندئذ.

2 . أن يكون الخطيب في موضع هداية وإرشاد إلى الطريق الله القويم.

3 . أن يتصف الخطيب بالإخلاص والصدق، بحيث لا يكون المنبر محلاً للرياء والسمعة، وهو جوهر العبادة، قال سبحانه وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}.

4 . أن يتبع الخطيب أسلوب الوعظ، وذلك من خلال التعريف بالخُلق الفاضل والحث على امتثاله، وبيان الخُلق السيئ والتنفير منه، مستعيناً بما يرقق القلب ويزيل القسوة منها، ويخفف حدة الغضب والشهوة، ويسكِّن أهواء النفس ويصقل القلب ويمنحه الشفافية والصفاء.

5 . أن يقوم بإفهام الناس ما يصلح لهم في دينهم ودنياهم، وما الذي يجب أن يقوموا به؛ ليكون خيراً لهم في الدنيا والآخرة. وهذه المهمة كبرى بحيث يستوجب على الخطيب أن يكون ذا علم وسعة واطّلاع كبير.

6 . أن يتمتع الخطيب بالمعرفة الدينية الكافية، وأن تكون معرفته بالإسلام كاملة، وأن يكون مطلعاً على روح التعاليم الإسلامية. وعليه يكون عارفاً بالمجتمع وظروفه، وأن يطّلع على أوضاع الدنيا وما يجري فيها؛ ليضع الناس أمام مجريات الأمور وما تقتضيه المصلحة.

ويرى الشهيد مطهري أنّ من الخطباء >مَن يقصر مطالعاته على بضعة كتب معيّنة كالفقه، أو الآداب، أو الفلسفة، ويعيش منزوياً في إحدى المدارس، لا يستطيع أن يفهم ما يجري في المجتمع وما يجب عمله، فهو يحتاج إلى حسّ نافذ ينذره بما ينتظر حدوثه في المستقبل، فيتهيأ له حتى يقود المجتمع عبره بأمان، فالهداية بغير القدرة على التنبؤ مستحيلة< (بين المنبر والنهضة الحسينية: ص 222-223).

والذي لا بدَّ أن نعترف به أنَّ خطابنا الديني لا يرقى إلى كونه منظومة متماسكة وملتئمة، بل هو مليء بالتناقضات والانغلاق، ماضوي التفكير غالباً، مضامينه غير متجددة، ولا تحتكم لمنجزات الإنسان المتفوقة في العلم والمعرفة. فيستجدي كلَّ صغيرة وكبيرة من أقوال الماضين، ويخاف على الأموات من الأحياء، في الوقت الذي ينبغي أن يخاف فيه على الأحياء من الأموات.

ولا بدَّ أن نعترف -أيضاً- أنَّ خطابنا الديني جعل الروح القرآنية آخر اهتمامه وعنايته، وعلينا أن نستعيد الإسلام المنسي، إسلام القرآن أولاً، ثم إسلام المصادر الخاضعة لضوء القرآن وهدايته، الإسلام المنفتح على منجزات البشر كحكمة ضالة، حيث ما وجدها التقطها، إسلام محوره الإنسان مع الله سبحانه، وليس إسلام الله فقط أو الإنسان فقط.

نحن معنيون باستعادة التوازن في محاور الوجود: مع الله سبحانه وتعالى، مع البشر، مع الكون، مع الحياة، مع التاريخ.

نبحث عن الإنسان مع الله؛ ويكون الله سبحانه معه، محباً رحيماً مشفقاً، نتجاوز النزعات المعادية لحرية البشر وانطلاقه. عملاً بأنَّ الدنيا مزرعة الآخرة. والآخرة حصاد. والمخطئ يثوب ويرجع. والمحاولة تقتضي الخطأ لا الخطيئة.

ونبحث عن المعنويات الروحية والجمالية في كلِّ صقع من أصقاع الأرض، ونتواضع للناس كلهم، وأنتم -أيها المسلمون- جزء من الناس ولستم الناس.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محرم 1447 في الصحافة الكويتية