الإمام أبو القاسم الخوئي شمس في سماء العلماء
قال أمير المؤمنين عليه السلام: >يَا
كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ مَعْرِفَةُ الْعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ، بِهِ يَكْسِبُ الإِنْسَانُ
الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ وَجَمِيلَ الأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَالْعِلْمُ
حَاكِمٌ وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ. يَا كُمَيْلُ هَلَكَ خُزَّانُ الأَمْوَالِ
وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، أَعْيَانُهُمْ
مَفْقُودَةٌ، وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ..<.
·
العلماء عند أمير
المؤمنين.
·
فكرة المجددين في
الدين.
·
إطلالة على ذكرى السيد
الخوئي.
أولاً: العلماء عند أمير المؤمنين:
كلمات الإمام علي عليه السلام من أروع الكلمات التي تؤكد قيمة العلم والعلماء، فالعلم هو الذي يعرِّفك
ربك، ودينك والناس مِنْ حولك، والحياة التي تحياها. ولذلك فالعلم هو الذي يحدِّد
لك مسؤولياتك في وعيها أمام الله والرسول والحياة كلها، فالعلم دين يدان به، فلا
بدَّ لك أن تلتزمه كخط للحياة وكطابع للشخصية وكالتزام في الواقع تماماً كما هو
الدين في التزاماته.
فما فائدة العلم؟
والجواب في كلام أمير المؤمنين عليه السلام: >بِهِ
يَكْسِبُ الإِنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ وَجَمِيلَ الأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ<؛ لأنّه يبني
العقل، ولأنّه يُبدع الفكر، ولأنّه ينمِّي الحياة، ولأنّه يرفع مستوى الإنسان،
ويتحرك به في آفاق الإبداع، وهو حاكم لأنّه يسيطر على حركة الحياة، فالحياة بدون
علم موت وجمود، ذلك أنّ العلم هو الذي يعطي الحياة حيويتها، وهو الذي يعطي الإنسان
حركيته.
وما الفرق بين العلم والمال؟
والجواب يأتينا من كلام
أمير المؤمنين عليه السلام: >وَالْعِلْمُ
حَاكِمٌ وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ<؛ فالعلم يحكم والآخرون
يخضعون له، أما ترون إلى العالَم، الآن كيف يخضع للعلم الذي أنتجه الإنسان؟! فنحن
نخضع للعلم التأملي والتجريـبي والتقني وغيره، والعلم هو الذي يحكم الحرب والسلم
والاقتصاد والاجتماع وغيرها من شؤون الإنسان الحياتية، وهو الذي يضع القوانين
والشرائع والبرامج والمناهج والوسائل والأساليب والأهداف، وهو الذي يمنح الإنسان
القدرة على النفاذ إلى أسرار الكون ويساعده على تجاوز آفاقه.
وأما محكومية المال فلأنّه
يخضع للقوانين التي تحرّكه، ولحركة الاقتصاد هنا وهناك، ولكل شهوات الإنسان، وأما
العلم فلا يخضع لأحد، بل هو يقتحم عقول الذين لا يؤمنون بالفكر ليفرض نفسه عليها.
ونتساءل:
ما مصير خزَّان الأموال أصحاب القنوات المشبوهة، وما مصير العلماء؟
ويأتينا الجواب من كلام
أمير المؤمنين عليه السلام: > يَا
كُمَيْلُ هَلَكَ خُزَّانُ الأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ
مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ
مَوْجُودَةٌ<.. كم من الناس الذين يملكون الملايين ويخزنونها في
صناديقهم أو مصارفهم، حيث لا يحسّ أحدٌ بهم، ولا يسمع لهم ذكراً، بل هم مجرّد رقم
من الأرقام ليس إلا، فخزّان المال يجمعون أرقاماً ويتحولون إلى رقم، ألا تسمعون
بعض المصطلحات المتداولة في السوق التجارية التي تقيّم الإنسان على قدر ما يملك من
المال فيقول أحدهم: كم يساوي فلان؟ ذلك يعني كم لديه من المال؟
ولذلك أصبح الرقم هو
المعيار في التقييم، فيقيّم الإنسان إيجاباً أو سلباً بمقدار ارتفاع الأرقام أو
انخفاضها. ولكن قيمة العالم هي ما قاله علي عليه السلام في
موضع آخر: >قيمة كلّ امرئ ما يحسنه<.
إذن العلم هو القيمة.
قل لي كم هو علمك أقُل لك
كم هي قيمتك؛ لأنَّ العلم هو أنت، وأما المال فهو شيء يشتريك وتشتريه. فهل يشعر
أحدكم أنَّ علياً C في عداد الأموات؟! إنَّ حضوره أقوى من حضور
كلِّ هؤلاء الذين يملكون الدنيا وما فيها مالياً واقتصادياً. فعلي C معنا
بكلِّ حيوية علمه ومعرفته بالله وسيرته.
إذن العلماء غائبون عن عالم الحس ولكنهم حاضرون في
عالم المعنى والفكر والمثال، فهل تشعر بفراغ في قلبك بفقدهم؟ إنّهم يعيشون في
قلوبنا كمثل الضوء الذي يشرق في القلوب، وعلي عليه السلام هو
الذي يشرق في عقولنا فكراً، وفي قلوبنا حقاً، وفي حياتنا خيراً ومحبة.
ثانياً: الوهم وفكرة المجددين في
الدين:
يعتبر انتشار فكرة
المجددين مظهر من انحراف أفكار المسلمين بشأن مفهوم العلم. هذه الفكرة تستمد
جذورها من حديث ذي سند واه يقول: >أنّ الله يبعث لهذه
الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها<.
هذه الفكرة راجت في
الفكرين السني والشيعي غير أنّها لم تدخل الوسط الشيعي قبل القرن الحادي عشر، ففي
هذا القرن كتب الشيخ البهائي P عن الكليني، ووصفه بأنّه مجدد المذهب في رأس
القرن الثالث، مستعيراً هذا الوصف ممّا أشيع في الفكر السني. بعد ذلك أطلق على
المجلسي أنّه مجدد المذهب في رأس القرن الثالث عشر، والميرزا الشيرازي مجدد المذهب
على رأس القرن الرابع عشر الهجري.
والغريب في هذه الفكرة أنّ
النوابغ الذين ظهروا في أواسط القرون الهجرية لم يُعتبروا مجددين، كل ذنبهم أنّهم
لم يظهروا على رأس القرن كالشيخ الطوسي مثلاً وكذلك الإمام الخوئي في العصر الحديث.
والأغرب من ذلك أنَّ
الباحثين عن المجدِّدين لم يستثنوا عتاة الملوك من حساباتهم فاعتبروا نادر شاه -
مثلاً - من المجدِّدين!!
وهذه الفكرة تتعارض
تعارضاً تاماً مع مبدأ التغيير الذي تقره الآية الكريمة: {إِنَّ
اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.
هذا المبدأ يربط كل تغيير
في المجتمع الإنساني بتغيير المحتوى الداخلي لأفراد ذلك المجتمع. وتجديد الحياة
الاجتماعية - انطلاقاً من مفهوم هذه الآية - لا يتم إلا حينما يكون أفراد الأُمة
مستعدين لمثل هذا التغيير. بينما فكرة المجددين تُعفي الأُمة من هذه المسؤولية،
وتلقيها على عاتق فرد أو أفراد معينين، وبهذا الترتيب تمسخ أعظم فكرة قرآنية حركية
عملية.
وهذه الفكرة استغلها
المستثمرون المستغلون ليثيروا الفتن والمجازر، وليصرفوا الأُمة عن التفكير
بنواقصها ومشاكلها وتخلفها وانحرافها.
نحن لا نفهم دعوة (تجديد
الدين) ولا ندعو لها بل ينبغي أن ندعو إلى أن نفهم الدين فهماً مستقلاً كما فهمه
العلماء الذين سبقونا، وهم رحمهم الله وشكر سعيهم كانوا مجتهدين، فهموا الكتاب
والسنة بطريقة، ونحن نفهمهما بطريقة أخرى. وليس غريباً أن يطرح أي مجتهد بعض
الفتاوى الجديدة، طالما ترتكز على أسس الاستنباط المعروفة.
إذن الدعوة تنحصر إلى
التجديد في الفكر الإسلامي، وليس معناه أننا نجدّد الإسلام، لأنّ الإسلام جديد في
كل زمان وفي الحقائق التي انطلق بها، ولكننا نجدّد فهمنا للإسلام وطريقتنا في
تحليل الفكر الإسلامي وفي دراسته.
ثالثاً: إطلالة على حياة السيد الإمام
الخوئي:
أبو القاسم بن علي أكبر بن
هاشم الموسوي الخوئي، أحد علماء الإمامية، ولد في بلدة (خوي) من بلاد أذربيجان
بإيران ليلة 15 من شهر رجب سنة 1317هـ، وتوفي في عصر يوم السبت 8 صفر 1413هـ.
هاجر مع عائلته إلى النجف
الأشرف سنة 1330هـ، وابتدأ فور وصوله إليها بالدراسة حتى نال درجة الاجتهاد، وهو
في مرحلة مبكرة من عمره الشريف.
تصدّى للتدريس والبحث
بصورة واسعة، وألقى محاضرات قيمة في الفقه والأصول والقرآن، وكان يحضر مجلس درسه المئات
من طلبة العلوم، وتخرّج على يديه الكثير من الفقهاء والمجتهدين حتى وصف بأنه أستاذ
الفقهاء والمجتهدين وزعيم الحوزة العلمية الذي لا يشق له غبار.
ومما
ذكره الفقيه العلامة الشيخ محمد جواد مغنية في حق الإمام الخوئي: >أما اسمه الشهير
فالسيد الخوئي، وأما وصفه فالعالم لحماً ودماً، عالم لم يقف عند جهة واحدة من جهات
العلم والفكر، بل أتقن منها ما أتقن، وألمَّ بما ألمَّ وأحاط وتعمق في أشرفها
وأعظمها، حتى أصبح علماً من أعلامها الأمثلين، ورائداً من روادها المقلدين، فقد
لبث زمناً يدنو من السبعين يتعلم ويعلم ويؤلف، ويخرِّج العلماء، ويناقش الجدد منهم
والقدماء...<.
آلت إليه مرجعية الطائفة
الشيعية في العالـم بعد وفاة الإمام السيد محسن الحكيم سنة 1390هـ.
أبدى اهتماماً كبيراً
بالجوانب الاجتماعية، فأسس الكثير من المؤسسات الخيرية في الكثير من دول العالـم،
التي أخذت على عاتقها نشر الثقافة الإسلامية، والاهتمام بتوفير الأجواء الإسلامية
للمسلمين في تلك البلاد.
تمكن من المحافظة على وجود
واستمرار استقلالية الحوزة العلمية في النجف الأشرف، ومواجهة جميع الضغوط الشديدة
التي تعرضت لها، وشارك في دعم الانتفاضة الشعبية التي حدثت في العراق سنة 1411هـ،
فاعتقلته السلطات الحاكمة بعد إخماد الانتفاضة، ثم أطلقت سراحه.
أكمل خلال عمره الشريف،
وخلال أكثر من نصف قرن من التدريس للبحث الخارج دورتين كاملتين لمكاسب الشيخ
الأنصاري، ودورتين كاملتين لكتاب الصلاة، وبحوثاً وأبواباً متنوعة من كتاب العروة
الوثقى، وأكمل في علم الأصول ست دورات كاملة.
منعت السلطات الحاكمة أن
يُقام له تشييع عام، وأجبرت أهله على دفنه ليلاً، فدفن في مقبرته الخاصة في جامع
الخضراء في النجف الأشرف.
نهض بالحوزة العلمية، وكان
عالماً فذاً، ويتمتع بملكات التقوى والورع ما جعله زعيماً للحوزة العلمية، وقد
جاءت أقوال العلماء لتؤكد ذلك من خلال أقوالهم.
يقول الإمام السيد محمد
رضا الكلبايكاني -رحمه الله- إنَّه: >كان مناراً للعلم والتقى، وسلطان الفقاهة
والإفتاء، زعيم الحوزات العلمية<.
ويقول الإمام السيد علي السيستاني
-دام ظله-: >كان
أعلى الله مقامه، نموذج السلف الصالح، بعبقريته الفذة، ومواهبه الكثيرة، وملكاته
الشريفة، التي أهلته لأن يعد في الطليعة من علماء الإمامية، الذين كرسوا حياتهم
لنصرة الدين والمذهب<.
علاقته
بالإمام الحكيم:
بعد وفاة
المرجع الكبير السيد عبد الهادي الشيرازي، والذي كان يتميز بروحانية عاليه وبثقة
كبيرة في الفقاهة، فإنَّ معظم تلامذته الذين يمثلون ثقلاً علمياً في النجف، رجعوا
إلى الإمام الخوئي من بعده، ولم يرجعوا إلى الإمام محسن الحكيم الذي كان المرجع
المتقدم في ذلك الوقت، ولذلك فُتحت مرجعية السيد الخوئي على مناطق متعددة من خلال
كل من يرتبط بتلامذة السيد عبد الهادي الشيرازي.
لقد برزت
مرجعية الإمام الخوئي في ذلك الوقت بالطريقة الواسعة إلى درجة أنَّ الحكومة
العراقية عندما كانت تصطدم بالإمام محسن الحكيم في أيام عبد الكريم قاسم وعبد الرحمن
عارف، وعبد السلام عارف كانت تحاول الاستقواء بالإمام الخوئي على الإمام الحكيم،
على أساس أنه إذا ابتعد عن السلطة مرجع فهناك مرجع آخر.
وتذكر بعض
المصادر أنّ اللإمام الخوئي S أصيب بمرض شديد في وقت من الأوقات، ونُقل إلى المستشفى في بغداد،
وكان وزير الوحدة آنذاك الدكتور عبد الرزاق محيي الدين الذي كان طالباً في النجف،
وكان ممن تتلمذوا على الإمام الخوئي، وكان يحترم اللإمام الخوئي كثيراً، قد استفاد
من موقعه ومن حاجة الحكومة العراقية إلى الاستقواء بمرجع على مرجع، ولاحظ الإمام
الخوئي أنَّ السفراء والوزراء والشخصيات الكبيرة في بغداد تزوره في المستشفى في
وقت لم يكن بلغ في المرجعية موقعاً يبرر مثل هذه الزيارات، لأنّ المرجع كان الإمام
الحكيم.
وعندما شفي
الإمام الخوئي استعد أصحابه مع الحكومة العراقية لإقامة استقبال كبير له، وعندما
توجهوا إلى النجف، حيث كان مسكنه، طلب منهم التوجه إلى الكوفة، حيث كان يقيم الإمام
الحكيم، ولم يكن أبلغَ أحداً من أبنائه وأنسبائه بشيء، فتوجهوا إلى منزل الإمام
الحكيم وكان نائماً، فطلب إيقاظه، وفوجئ الإمام الحكيم به، لأنّه ربما لم يكن أرسل
من يعوده.
وقال الإمام
الخوئي له: قد تستغرب مجيئي، لكنني لاحظت عندما كنت في المستشفى أنَّ رجال الدولة
اهتموا بي اهتماماً كبيراً، وأنا إذا كنت أعتبر نفسي مرجعاً فلست مرجعاً معروفاً،
أنت المرجع، لذلك أحسست بأنَّ الجماعة يريدون أن يستقووا بي عليك، وأن يضربوك بي،
ولذا جئت إليك لأعلن لك بأنني لن أكون عليك.
ولقد
بدأت منذ ذلك الوقت علاقة حميمة بين السيدين العظيمين والتي عبَّرت عنها لقاءات الإمام
الحكيم والإمام الخوئي بما يشبه الاجتماعات اليومية.
وعندما اُضطهد
الإمام الحكيم وأعلن الاعتصام في بيته ضد النظام الطاغي في العراق، كان الإمام
الخوئي يذهب إليه، وبذلك كانت المسألة مهيأة بعد الإمام الحكيم أن يكون المرجع هو
الإمام الخوئي بلا منازع، وكانت الظروف قد تهيأت ليكون المرجع الأوحد المعيَّن،
لأنَّ معظم العلماء في النجف كانوا تلامذته وتلامذة تلامذته.
وهكذا
استطاعت مرجعيته أن تنفتح على العالم الشيعي كله، بل كان الكثير، حتى ممن يلتزمون
قيادة الإمام الخميني، من مقلديه أو تلامذته.
انفتاحه على التغيير:
لقد كان الإمام
الخوئي رجلاً منفتحاً على التجديد بحجم ما كانت النجف تحتاج إلى التجديد، ومنها:
(1) كان أول مرجع يخطط لدرس تفسير
القرآن في النجف، وتعلمون أنَّ النجف في برنامجها الدراسي لا تضع تفسير القرآن في
برنامجها العام، بل تأخذ من القرآن بمقدار ما يتصل بالشريعة، أما الدراسة القرآنية
التفسيرية الواسعة، فأمر يخضع إلى توجهات الطالب الشخصية، إذ قد تكون لبعض الطلاب
اهتمامات في الدراسات القرآنية تجعلهم ينفتحون على القرآن تفسيراً أو دراسة.
فالإمام
الخوئي هو أول شخص، في تلك المرحلة، أسس درساً للتفسير على مستوى درس الخارج،
وأعطى فيه دروس مقدمة التفسير التي طبعت تحت عنوان (البيان في تفسير القرآن)، كما
أعطى دروساً في تفسير القرآن مما لم يطبع حتى الآن، وربما كان سبقه إلى ذلك أستاذه
الشيخ محمد جواد البلاغي -رحمه الله- الذي كان يتولى تدريس تفسير القرآن في النجف،
ولكن هذا التفسير قُطع لأنّه لم يلقَ إقبالاً كاملاً في الحوزة بالطريقة التي كان
فيها الإقبال على تدريس الفقه والأصول.
(2)
كان السيد الخوئي يحمل في داخل ذاته ذهنية مفتوحة على مسألة التغيير لكن إمكانات
التغيير لم تكن متاحة له، وكان ينفتح على ما ينفتح عليه بعض طلابه الكبار في
القضايا الإسلامية العامة.
أ -
فنحن نلاحظ أنّ السيد الخوئي كان يعمل على تعزيز مكانة الشهيد السيد محمد باقر
الصدر -رحمه الله-، الذي كان من أبرز تلامذته، فكان حين يعطي السيد الصدر ملاحظة
في الدرس، يستمع إليه بهدوء، ثم يأخذ الفكرة منه ويقررها على الطلاب ويرد عليها،
في وقت كان الإمام الخوئي يعرف أنَّ السيد الصدر كان منفتحاً على الحركة
الإسلامية، وهو الذي أسس الحركة الإسلامية الشيعية.
ب -
كما أنّ السيد الخوئي تجاوب مع الانطلاقة الإسلامية لمواجهة المد الشيوعي، وكان من
الأشخاص الذين أيدوا جماعة العلماء في النجف الأشرف، وكان يشجع هذه الاتجاهات.
ج -
وإذا أردنا أن نقترب من المسألة السياسية، نلاحظ أنّ أول إطلالة للإمام الخوئي على
هذه المسألة، كانت عندما اضطهد الإمام الخميني في إيران، وشاعت الأخبار عن نية
إعدامه، فوقف الإمام الخوئي بشكل قوي ولافت للنظر، وأطلق بيانات نارية ضد الشاه
وحكومته في الحوزة العلمية، حيث حول النجف إلى ما يشبه حال التوتر الذي أثار الجو
في شكل عام، في وقت كانت المرجعية منفتحة على الحكم في إيران، لا من خلال رضاها
بالحكم، ولكن لشعورها بإمكان الإفادة منه في الإطلالة على الواقع الشيعي في
العالم، لأنّها كانت لا تملك قناة أخرى لإيصال المساعدات إلى هذه المنطقة أو تلك.
مواجهته الشاه محمد رضا:
في ذلك
الوقت لم يكن يملك الإمام الخوئي طريقة يرسل بها المساعدات إلى المسلمين الشيعة في
أندونيسيا إلا من خلال الحكومة الإيرانية، ولذلك كانت الواسطة بين المرجعية في
النجف والحكومة الإيرانية هو أحد العلماء المبرزين في طهران والمحترمين من قبل
الشاه هو السيد محمد البهبهاني. وكذلك فإنّ المرجعية المتمثلة بالإمام محسن الحكيم
كانت إذا أرادت شيئاً من حكومة إيران، فإنّها لا ترسل إلى الشاه مباشرة، وإنّما
كانت ترسل إلى السيد محمد البهبهاني.
في ظل
الوضع القاسي الذي عاشه الإمام الخميني أثار الإمام الخوئي أكثر من حركة، فأطلق
مجالس تعزية وقام بمبادرة تجاه الإمام الحكيم حتى يمارس ضغطاً على الحكومة
الإيرانية يمنعها من إصدار حكم الإعدام ضد الإمام الخميني. وفي ذات يوم ذهب مرة والمرجع
الكبير السيد محمود الشاهرودي -رحمه الله-، وتحدثا مع الإمام الحكيم P، ويبدو أنّ الإمام
الحكيم كان قام باتصالات حول هذا الموضوع، ولذلك طمأنهم بأنّ الإمام الخميني لن
يُعدم.
ولم يكتف
الإمام الخوئي بهذه المبادرة النجفية، بل أرسل في ذلك الوقت رسولاً إلى علماء
لبنان الكبار، من أمثال الشيخ حبيب آل إبراهيم والشيخ موسى عز الدين والشيخ محمد
تقي الصادق والسيد محمد حسن فضل الله والسيد عبد الرؤوف فضل الله، يدعوهم إلى
الاجتماع، للإنكار على الشاه وسياسته، وإصدار البيانات في هذا المجال، كخطوة
تصعيدية للضغط على حكومة الشاه لمصلحة الإمام الخميني.
وجاء
رسول الإمام الخوئي إلى لبنان، وهو الشيخ محمد رضا الجعفري، وهو من تلامذة الإمام
الخوئي، وحضر اجتماع العلماء في المدرسة الدينية في صور الذي حضره العلماء الكبار.
وأوكل أمر إصدار البيان إلى السيد موسى الصدر وإلى الشيخ الجعفري، وكتب البيان،
ووضعت تواقيع العلماء، وأرسل إلى الصحف، ولم تنشره آنذاك إلا جريدة (صوت العروبة)،
باعتبار أنَّ الصحف الأخرى في لبنان كانت تؤيد الشاه، فيما كانت (صوت العروبة)
تؤيد جمال عبد الناصر الذي كان يقف في خط المواجهة للشاه.
د -
وقف الإمام الخوئي مع القضية الفلسطينية من خلال إصدار الفتاوى لدفع الحقوق
الشرعية للمجاهدين، كما كان يتعاطف مع الحركة الإسلامية في العراق بطريقة أو
بأخرى، وكان يتعاطف مع الذين يتحركون ضد الظلم في العراق بالأسلوب الذي يتناسب مع
موقعه ومع قدراته وإمكاناته.
بين المكاسب والخسائر:
لقد كانت
للإمام الخوئي رؤيته في كيفية التعاطي مع الواقع العراقي، وقد حدَّد موقفه على هذا
الأساس، فربما كان يرى أنّ هذا الواقع لا يملك القاعدة التي تستطيع أن تنهض معه
لمواجهة الحكم العراقي، لأنّ القاعدة الموجودة في العراق تختلف عن القاعدة الشعبية
الموجودة في إيران، خصوصاً وأنّ هذه الأخيرة خضعت لتربية تاريخية طويلة في مسألة
الالتزام الشرعي للمراجع من جهة، وفي مسألة حركة الواقع السياسي على مستوى الخط
الشرعي في علاقة المراجع بالشعب، الأمر الذي لم يكن موجوداً عند الآخرين، لأنّ
الالتزام الديني في العراق لا يشكل حتى 20% من الالتزام الديني في إيران، ولعل
السيد الخوئي رأى أنّ الإمكانات المتاحة له في العراق لا تحمل أية آمال لقيام
الثورة، ما يعني أنّ القيام بالمواجهة أكثر خطراً من الموادعة.
حصار وتشتيت:
كان من
الممكن للإمام الخوئي أن يقوم بالكثير الكثير في عملية التغيير في خط المرجعية لو
أتيحت له الظروف الملائمة، ولكنه حوصر عندما حوصرت الحوزة أولاً وشتّتت ثانياً،
وقاربت الإلغاء ثالثاً، وكان يعيش في موقع لا يملك فيه أن يطل به على الواقع بشكل
واسع، حتى أنّه كان يصعب على كثير من وكلائه وتلامذته الاتصال به ليبحثوا معه
قضاياهم بشكل تفصيلي، ويضعونه في الصورة الواضحة، فحاصرته الظروف من كل حدب.
وما زال
البعض يريدون أن ينالوا من هذه الشخصية العظيمة، الذي عمل في سبيل الله، وانطلق
إلى الله، وعاش مع الله، ليشوهوا قيمة المرجعية العليا المتمثلة في شخصية الإمام
الخوئي قدس سره، ليعبروا من بعدها إلى خططهم الأخرى مع أعداء الله، وأعداء
الإسلام، وأعداء أهل البيت.
ولله در الشاعر الذي يقول:
بتقـادم الأزمـان أنـت عظـيم
وبعرش حوزات العلوم مقيم
فيـك الـبراءة والولاء تجسدا
فلأنت نهج شـاهق وقـويم
ولأن يجـافيك الجهول بقوله
فلكم يعيب الشامخين رميم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق