التدين
السطحي والتشدد الديني
يقول
الإمام الحسين (ع): "الناس عبيد الدنيا، والدين
لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء
قلَّ الديانون".
قد نتعلق بالدين ما دام منسجمًا مع أطماعنا
ولذَّاتنا، ولكن عندما نخضع للتجربة التي نقف من خلالها بين الحق والباطل، بين
الخير والشر، بين الجمال والقبح، ... فإننا نسقط..
لقد
أصبح الكثير من الناس يصنفون المجتمعات حسب درجة تمسكهم بالتدين الظاهري (الطقوس)،
وكلما كانت درجة التمسك بالدين الشكلي (الطقوس) كبيرًا أصبح هذا المجتمع في عرفهم
مجتمعًا متدينًا، بل لا يتردد بعضنا في جعله معيارًا للحكم على مدى تديّن الأشخاص
ذكورًا أو إناثًا! .. ولربما بلغ الأمر ببعض المتعجلين إلى درجة القذف أو السب
والشتم، كأنْ يصف امرأةً أو رجلًا من خلال شكلهما الخارجي فقط بعدم التدين!
وعندما
يتمسك الأفراد بالدين الشكلي، ويتفاخر بأنه مجتمع متدين فإنه يسعى بذلك إلى
الارتكاز على أنّ الآخر الذي لا ينتهج المسلك الشكلي للدين هو إنسان يسير إلى
الهاوية.
وأي
مجتمع يؤدِّي الطقوس الدينية الشكلية الخالية من القيم والمعاني العميقة للدين
فإنه يؤسس لمفاهيم مغلوطة.
ومما
ساعد على انتشار ظاهرة التدين الشكلي (الطقوس) في المسلكيات العامة لمجتمعاتنا
الإسلامية هو تمكن الخطاب الثقافي (المتزمت والمتشدد والمغالي والشعائري) وتغلغله
في مناهج الإعلام المرئي والمسموع، بل وفي المناهج التعليمية أيضًا.
إنّ
أزمتنا الكبيرة تتمثل في فرض التدين المشبع بالفكر الأحادي، والاعتقاد القسري،
وفرضه كشكل ومظهر وشعب، بينما الأصل في الدين أن يبقى خيارَ الفرد الحر في الحياة
وبعيدًا عن مسرحية التظاهرة الشكلية المسلوبة من المعاني الروحانية العميقة ذي
العلاقة الوجدانية الخالصة بين الإنسان وربه.
المحور الأول: مفهوم التدين
وأشكاله:
أ- مفهوم التدين:
التديّن
كلمة كثر النطق بها على ألسنة الناس في العقود الأخيرة من هذا القرن، وقد اختلفت
مقاصد الناس ومراميهم حول ما تشير إليه هذه الكلمة، غير أنها على أي حال قد صارت
تستخدم من قبل سواد عظيم منهم في معانٍ تتراوح بين الالتزام بتعاليم الدين والتقوى
والورع وربما تتعدى ذلك إلى كل خُلُق حسن يتحلى به المرء إتباعًا لدين والتزامًا
بمنهج.
وتستوقف
هذه الكلمة على بدهيتها كل من يمعن النظر في المشهد الثقافي والفكري المعاصر، خاصة
أنها -على الأغلب- لم تشع على الألسنة قبل بضعة عقود من اليوم أو تزيد.
فالصلاح
والتقوى والورع وإتباع أوامر الله وما إليها من الأوصاف التي تدور حول هذا
المضمار، كانت قد ذكرت في كتاب الله تعالى، وفي سنة رسوله الكريم (ص) ومن بعد ذلك
وردت على ألسنة الصحابة والتابعين، ثم في كتب العلماء، أما كلمة الـ"تدين"
أو وصف المرء أنه "متدين"، فكلمة نستطيع القول إنها حديثة الظهور في
الوجدان العربي.
فماذا
تعني كلمة "التدين"؟
دعونا
نتوقف هنيهة مع الخلفية اللغوية لهذه الكلمة..
حينما
نلتمس معاني هذه الكلمة وما وراءها، وطرق الكشف عن جذورها في معاجم اللغة العربية،
نرى أنها قد وردت في لسان العرب لابن منظور على النحو التالي: "يقال: دَانَ بكذا ديانة وتَدَيَّنَ به فهو دَيِّنٌ
ومُتَدَيَّنٌ، ودَيَّنْتُ الرجلَ تَدْينيًا إذا وكلته إلى دينه. والدِّين:
الإسلامُ وقد دنتُ به".
وفي
القاموس المحيط لم يرد لهذه الكلمة بحد ذاتها معنى، وإنّما دارت الأوزان الواردة
في هذه المادة حول معاني الدَّين الذي هو اقتراض مؤجل، وما يدور حوله من أوصاف
الفاعل والمفعول على اختلاف الأوزان والمعاني.
وأما
في المراجع اللغوية الحديثة، مثل المحيط، ومحيط المحيط، والوسيط،.. والتي أُعدت
جميعًا ما بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الثاني من القرن العشرين:
ورد
في محيط المحيط: "وتديَّن بالإسلام اتَّخذهُ
دِينًا،.. الدَّيّن صاحب الدِّين والمتمسّك به".
وفي
المحيط: "تَدَيَّنَ يَتَدَيَّنُ تَدَيُّنًا:
اتخذ دِينا؛ تَدَيَّنَ بالإسلام/ تَديَّن بالنصرانية: تشدَّد في أمر دِينه..".
ويبدو
مما أوردته المراجع الأصيلة للسان العربي أن التديّن بمعناه المألوف اليوم لم يكن
لفظًا مطروقًا وقت إنشاء تلك المراجع، إلا إذا استخدم على الوجه اللغوي المحض لوزن
تلك الكلمة: (متفعِّل)، والمرء حين يتفعل الشيء إنّما يتخذه أو يتحلى به أو
يتكلفه.. وهو ما أورده لسان العرب في "دان بكذا
ديانةً وتديّن به فهو ديّن ومتديّن"؛ فالمرء -إذا فُهمت الكلمة على
هذا الوجه- حين يتدين، إنّما يتخذ لنفسه دينًا وكفى.
وقد
نراه جليًّا كذلك على نحو ما قدمته لنا المعاجم حديثًا فإنَّ كلًا من محيط المحيط،
والمحيط قد قدمت ذات المعنى "اتخذ دينًا"،
غير أنّ المحيط زاد عليها: "تشدَّد في أمر دِينه" وهو مقتضى
الوزن (تفعّل) والذي ينصرف إلى ألفاظ توازي هذه الكلمة في المعنى مثل: "تكلّف"،
و"تشدّد".. ونحن كذلك في حياتنا اليومية نستخدم ألفاظًا مساوية لهذا
اللفظ في الوزن ينصرف جلها إلى معان أدق من تلك الأولى في مقصودها، كـ"تزوج"،
و"تأهل" و"تعنت"، فتزوج يراد بها "اتخذ زوجًا"،
وتأهل يراد بها "اتخذ أهلًا"، وتعنت يراد بها "قصد أو ابتغى العنت".
ونستنبط
من كل ما سبق أنّ لفظة "التدين" تتسم بقدر بالغ من العمومية وتفتقر إلى
نصيب كبير من الدقة حين يستخدمها المتحدث العربي اللسان على الوجه الذي تقدم
الحديث حوله.
ولاستجلاء الموقف .. نقول: التدين -كما أفهمه- الخلاص في الدنيا
والخلاص في الآخرة لمن يؤمن به بحسب ما بعث الله من رسل، وأنزل من كتب، وخلق من
وجود، والخلاص -في هذا كله- أن لا نكون أداة للشر، أن أقبل الخير وأرفض الشر، أن أتعاون
على الخير وأن لا أتعاون مع الشر: {وَتَعَاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}
المائدة: 2. وفي الإنجيل : "الحق والحق أقول لكم: إنّ كل من يعمل الخطيئة هو عبد
للخطيئة" يوحنا: 8
: 34.
فالخلاص
في أن لا نتعاون مع الشر، وأن لا نكون أداة عبيدًا للشر، لا أن نقتل الشرير؛ لأنّ
قتل الشرير مثل كسر الكأس بدل غسله وإعادة تنظيفه!
هل
نقطع اليد إذا تلوثت أو ننظفها ونغسلها؟
وهل
نقطع الرأس إذا طرأ عليه التلوث؟
إذا
كان أسلوب طبيبنا في العلاج هو قتل المريض بدلًا من علاجه، وإذا كان أسلوب مثقفنا
في العلاج، هو تزيين قتل الجاهلين بدل تعليمهم وترشيدهم، إذا كنتَ لا تضيء وإذا
كنتُ لا أُضيء، فكيف سيأتي الضياء؟
وإذا
كان النور الذي فيك ظلامًا فالظلام كم يكون؟
يصف
المسيح عيسى (ع) مثقفي عصره بأوصاف كثيرة، منها: "وَيُحِبُّونَ الْمُتَّكَأَ الأَوَّلَ فِي الْوَلاَئِمِ،
وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ، وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ،
وَأَنْ يَدْعُوَهُمُ النَّاسُ: سَيِّدِي سَيِّدِي! وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تُدْعَوْا سَيِّدِي...، لَكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ
أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ
مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ، فَلاَ تَدْخُلُونَ
أَنْتُمْ، وَلاَ تَدَعُونَ الدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ، وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا
الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تَأْكُلُونَ بُيُوتَ
الأَرَامِلِ، ولِعِلَّةٍ تُطِيلُونَ صَلَوَاتِكُمْ. لِذَلِكَ تَأْخُذُونَ
دَيْنُونَةً أَعْظَمَ. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تَطُوفُونَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ
لِتَكْسَبُوا دَخِيلًا وَاحِدًا، وَمَتَى حَصَلَ
تَصْنَعُونَهُ ابْنًا لِجَهَنَّمَ أَكْثَرَ مِنْكُمْ مُضَاعَفًا" متى: 23:
6-15.
فالمشكلة
ليست في السياسي فقط، بل في المثقف، صانع الثقافة التي تصنع الأمة بكل مؤسساتها،
ينبغي أن لا نخطئ في الفهم، وعلينا أن نتحمل المسؤولية. السياسي أداة المثقف وليس
العكس، إن لم نكشف هذا نكون كالشيطان نبرّئ أنفسنا ونتهم الآخر .. الفهم والتفهيم وظيفة
المثقف ومسؤوليته، فإذا عجزنا عن الفهم والتفهيم، فمن نلوم؟! علينا أن لا نلوم أحدًا
إلا أنفسنا..
يقول
النبي محمد (ص): "من وَجد
خيرًا فليحمد الله، ومن وجَدَ غير ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسَه". وهو
مصداق قرآني {مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ
نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} النساء:
79.
حين
نفهم هذا نصل إلى حالة من الراحة النفسية والسعادة التي لا يمكن أن نجدها عند من يُدين
الآخرين ويُبرئ نفسه، وقد يكون وصل إلى ما يسمى بلغة القرآن (القلب السليم)، وأن
لا يبقى في القلب كراهية لأحد {يَوْمَ لا يَنْفَعُ
مَالٌ ولا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} الشعراء:
88-89.
المشكلة
في سلامة القلب، في سلامة المفهوم الذي في القلب؛ والسلام يبدأ من المفهوم السليم
من المعرفة الصحيحة.
بالمعرفة
الصحيحة تحصل الطمأنينة في القلب {الَّذِينَ آمَنُوا
وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ
الْقُلُوبُ} الرعد: 28.
حينما
تحصل المعرفة في القلب، يحل السلام في القلب، ويظهر ذلك في اللسان فيسلم اللسان عن
ذكر السيئات، ويكف اليد عن الأذى، وتصير كيد ابن آدم: {لَئِنْ
بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ
لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} المائدة: 28.
فكأنه
يقول: إنني دخلت إلى مرحلةٍ يمكن فيها أن أفهم بالكلام، وأن أقوم بعملية التفهيم،
وبذلك خرجت من العنف إلى السلام، ومن عالم الحيوان إلى عالم الإنسان، فإن لم أتمكن
من الفهم والتفهيم، فلن ألوم أحدًا ولن أحاول قتل أحد، وإنما سألوم نفسي، وسأبذل
الجهد لأصل إلى تحصيل المعرفة، ونقل المعرفة بالأسلوب المتطور، وسأدرب نفسي على
التزام هذا من جانب واحد، وقد قال لي ربي أن ألتزم هذا: {وَأَلْزَمَهُمْ
كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} الفتح: 26..
هذا
هو الدين بكل إيجاز.
والمقصود
بـ(التدين): ممارسة الدين وتحويله إلى تطبيق عملي، وهو تعبير عن الممارسة الإنسانية والتطبيق البشري
للدين.
وكلمة
التدين ليست خاصة بالدين المحمدي بل تشمل النصرانية واليهودية وغيرها، فالدين هو
التسليم، وفي داخل المجتمع المسلم
هناك المتدين الذي يمارس التدين بشكل صحيح، وعنده الإحساس بشمولية التدين وأنه للحياة جميعًا،
وهناك من هو دون ذلك ولديه جانب خاص من التدين.
وبعض
المجتمعات لديها قصور في الفهم للتدين حيث يقع على السلوكيات أو على الشكليات
فيقولون فلان متدين لأنه ملتحي -مثلًا-، لكن الدين أوسع من هذا.
كما
نلفت إلى وجود بعض المفرطين في جوانب دينية لكنهم صالحين في جوانب أخرى، فالالتزام
أمر نسبي، وينبغي أن يضبط هذا المصطلح: مصطلح الملتزم وغير الملتزم، ومصطلح المتدين وغير المتدين فهذه دائمًا
تستخدم في غير محلها.
ب- أشكال التدين بحسب رؤية أفراد البشر:
الرؤية (1): بعض الناس يظن خطأ أنّ الدين مجرد عقائد للإيمان بها، وكأنّ العقائد
غاية في ذاتها، وليست وسيلة لبناء الضمير الإنساني الذي هو ركيزة المجتمع ومحرك
التاريخ. وما أكثر المعتقدات الخاصة والعامة في التاريخ وفي الأديان، إنما المحك
هو معيار الصدق.
فالإيمان
بعقيدة ما ليس مجرد قرار فردي، بل هو برهان وتصديق وأثر في الحياة الفردية
والاجتماعية. وما أكثر العقائد التي ألّهت السلاطين والملوك أو التي طالبت الناس
بالخضوع والولاء لمن يقول مثل فرعون: {فَقَالَ أَنَا
رَبُّكُمُ الأَعْلَى}.
فالإيمان
هو حقيقة تتكشف في القلب، وتتحول إلى فعل وممارسة، وتعبر عن مستقبل أفضل للعالم.
وهو بالتالي: طاقة وحركة، تصور ونظام، نظر وعمل، بحيث تحاول الأيديولوجيات
والمذاهب السياسية في المجتمعات الغربية جاهدة أن تكون بديلًا عنها.
يقول
تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ
إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ
بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا
بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ
وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ}.. إنّ الملحوظ في مفردات القضايا والظواهر التي أثارتها الآية
الكريمة أمام الإنسان هو أنها تواجه الناس في حياتهم اليومية، فتلفت أنظارهم بشكل
طبيعي إلى أنّ الطريق إلى معرفة الله لا يتوقف على الاستغراق في الأجواء الفلسفية
المجردة التي تبتعد بالإنسان عن حياته، ليضيع في متاهات الفرضيات المتنوعة
والأساليب المتضادة، ولا يخضع للانطلاق إلى أجواء بعيدة عن أجوائه المادية، بل كل
ما هناك هو الالتفات إلى ما حوله من ظواهر الطبيعة ومفردات الحياة التي تحيط به.
ولذا
نجد القرآن الكريم في حديثه عن ظواهر الكون، ينسب الفعل إلى الله، ولا يغفل دور
الإنسان في النسبة، في ما يتعلق بالأفعال التي تتصل بإرادته بشكل مباشر، وذلك
بالتعبير نفسه، كما في قوله تعالى: {وَاللهُ
خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}.
الرؤية (2): يظن البعض خطأ أيضًا أنّ الدين هو مجرد شعائر أو طقوس تمارس
فردًا أو جماعة، بحيث تكوّن مجموعة من المظاهر الخارجية والتي هي أقرب إلى
الاحتفالية، وكما كان الحال في الديانات القديمة .. وكلما زاد الانبهار بالطقوس
عظم شأن الدين من حيث: عظمة الكنائس، وكبر المعابد، وثراء المساجد، ورموز حسية مثل
إطلاق اللحى، ومسك المسبحة، ولبس الجلباب الأبيض، والتعطر بعطر منسوب لمكة
والمدينة، واللطم والتطبير، و... وبالتالي تغليب الشكل على المضمون، والمظهر على
المخبر، والخارج على الداخل.
مع
أنّ الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وأنّ العمل هو العمل الصالح النافع
للفرد والجماعة. لذلك جاء نداء القرآن باستمرار {إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..}. ويقول الرسول (ص): "لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا، وصمتم حتى تكونوا
كالأوتار، لم يقبل الله منكم إلاّ بورع".
الرؤية (3): يظن فريق ثالث أنّ الدين هو المؤسسات الدينية التي تكوّن سلطة
وأحيانًا واسطة بين الإنسان والله، وهي في الغالب مؤسسات تاريخية نشأت في ظروف
تاريخية محددة مثل الكنيسة في الغرب والمعبد أيام الرومان، ومشيخة الطرق الصوفية،
ودور الإفتاء أيام الدولة العثمانية، والمرجعيات الدينية بعد غياب الإمام.
والحقيقة أنّ الدين في القلب، علاقة مباشرة بين الإنسان والله. ولا يحتاج إلى توسط
مؤسسة دينية تاريخية، سلطة بشرية في أصلها وتدعى بعد ذلك أنها سلطة دينية في
جوهرها. تسيطر أكثر مما تحرر، وتقمع أكثر مما تطور.
ولهذا
ذم القرآن طريقة العلاقة العصبية بعقيدة الآباء؛ ففي قصة موسى (ع): {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا
عَلَيْهِ آبَاءَنَا}؛ قالوها في عملية إنكارٍ للنتائج السلبيّة التي
يواجهون من خلالها هزيمة كل مفاهيم الصنمية المتخلفة التي ورثوها من آبائهم، فعاشت
-في داخلهم- في مواقع القداسة الجاهلة التي ترى في الماضي معنى التقديس، فلا يمكن
أن يناقشه أحد، مهما كانت درجة الخطأ فيه، لأنهم لا يميزون بين العاطفة التي تحكم
علاقتهم بالماضي، وبين الإيمان الذي يخضع لاعتبارات الحق المرتكز على الحجة
والبرهان، ولو فكروا جيدًا في المسألة، لرأوا أنّ هؤلاء الآباء هم بشر كبقية
البشر، فقد يصيبون الحقيقة، وقد يخطئونها، فلا بدَّ من مناقشة فكرهم وعاداتهم
وتقاليدهم، تمامًا كما نناقش فكر الآخرين الذين يعيشون معنا؛ لأنّ الزمن لا يعطي
للشخص أو للفكر معنى الحقيقة في حركته، بل كل ما هناك، أنه يفسح المجال للطاقة
الفاعلة أن تتحرك في مجاله، لتعبر عن نفسها بما تملكه من ملامح الحق والباطل،
وبذلك يصبح من حق أي إنسان يفكر بغير الطريقة التي يفكر بها الأقدمون، أن يعمل
ليغيّر الفكر الذي تركوه، والبناء الذي بنوه، فليس لأحدٍ أن ينكر عليه ذلك، بل كل
ما هناك أن لهم أن يناقشوه في طروحاته، كما يناقش هو الآخرين، في ما طرحوه.
الرؤية (4): يظن فريق رابع أنّ الدين هو لحظات فريدة في التاريخ، يعيش معها
الناس بذاكرتهم إلى الوراء منتزعين أنفسهم من حاضرهم وتاركين مستقبلهم. ففي
اليهودية يظن البعض أنها العهد أو الميثاق في صيغته الأخيرة عند موسى (ع) مع ما
يتضمنه ذلك من أرض الميعاد والشعب المختار، والأرض والمدينة والمعبد، والنصر،
والجيش، والمغنم، والخروج من مصر، والتوجه إلى الأرض المقدسة. هذا التصور للدين
يبرر القتل والعدوان كما تفعل الصهيونية في فلسطين وكأنّ الدين بضاعة يدافع عنها
صاحبها.
ويتصور
المسيحيون أنّ الدين أيضًا لحظة فريدة في التاريخ، ظهور السيد المسيح عندما اجتمع
الخلود والزمان في الشخص.
ويتصور
المسلمون أنّ الدين -فقط- هو العودة بالذاكرة إلى أيام النبوة، والسيرة العطرة لأهل
بيته، وللصحابة، والتابعين. ويؤدي هذا التصور إلى رد الزمان كله إلى لحظة واحدة في
الماضي وإلى إيقاف التاريخ كله، مساره وتقدمه في مرحلة واحدة في الماضي وكأنّ ما
يحدث الآن ليس من الدين في شيء.
الرؤية (5): يظن فريق خامس أنّ الدين هو ميدان الأسرار والغيبيات
والمعجزات، وكل ما يخرج عن نطاق العقل ويسبح في الخيال، ميدان الدهشة والعجب الذي
يدفع الإنسان إلى الإيمان والاستسلام. مع أنّ الإسلام دين العقل والبرهان، والرسول
المبعوث من الله بشر مثلنا يُوحى إليه، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. وعندما طلب
منه إجراء المعجزات كما فعل موسى، تنزيل المطر من السماء، أو تفجير العيون من
الأرض أجاب بأنّ ذلك خارج سلطة البشر بما في ذلك الرسول {وَقَالُواْ
لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ
لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا
تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ
تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن
زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى
تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ
إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ
الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولًا * قُل لَّوْ كَانَ
فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ
السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولًا}.
لا
شك أنّ مثل هؤلاء القوم ينطلقون من انطباعات ساذجة، ناشئة من الاستغراق في الجوانب
البارزة للخصائص غير العادية أو غير المألوفة لهذه المخلوقات، التي يمنحونها هذه
الصفة من دون التفات إلى أنّ الله قد يمنح بعض عباده قدرات لا يمنحها لغيرهم، لأنّ
هناك دورًا محدّدًا يفرض ذلك، أو لأنّ طبيعة الموقع الذي يتحرك فيه هذا المخلوق
يتوقف على ذلك. فالله الذي أعطى القدرة المألوفة، هو الذي يعطي القدرة غير
المألوفة، بالإضافة إلى أنّ الألفة لا تمنح الشيء الحالة الذاتية الطبيعية، ليكون
المقابل لها حالة خارقة خارجة عن الطبيعة، فلو دققنا في عمق هذه الحالة أو تلك،
لرأينا سرّ الإبداع والعظمة مشتركًا بينهما، في نوعية الخصائص التي يتميز بها هذا
عن ذاك، ولكن الألفة تخفف عظمة الأشياء في الوجدان.
وهذا
ما يفرض علينا، في المنهج التربوي للتصور، عدم الاستغراق في الظواهر المثيرة أو
إعطائها قداسة غير حقيقية، من خلال مشاعر الانبهار التي يخضع فيها الإنسان لإحساس
غير طبيعي في استيحاء العظمة الخارقة من بعض الظواهر، لأنّ الجهل بعمق السرّ
الحقيقي للحالة أو للظاهرة، لا يعني أن نقفز إلى وضع التقديس لنجعله الوجه البارز للمسألة
أو العمق الطبيعي لها، من دون أساس للاستغراق في دائرة التهاويل الغامضة المسيطرة
على الفكر والشعور.
إذن
لا بد للمنطق التقديسي من موازين دقيقة؛ إذ علينا أن نعطي الأشياء حجمها الطبيعي
في الدائرة الإنسانية عندما تتصل المسألة بتعظيم إنسان ما، إذ لا بدّ من أن ندخل
في عملية تقييم دقيقة للمنطق التقديسي من خلال الخصائص المميزة، لنعرف -جيدًا- هل
هي متصلة بالذات في جوانب العظمة في عالم الأسرار، أو هي متصلة بالدور في مواقع
الحركة للرسالة أو للرسول أو للولي ... وبذلك نبتعد عن التضخيم الذي يقودنا إلى
الغلو في الشخصية إذ نمنحها ما ليس فيها، وبالتالي إلى الانحراف في العقيدة
والعمل.
بعد هذا التطواف نقول:
هذه
التصورات للدين هي في الحقيقة ابتسار للدين وتضييق لمجاله، وإبعاده عن الحياة
وواقع الناس، ويصبح عالمًا مغلقًا على ذاته، غاية في ذاته وليس وسيلة لغاية أخرى
مثل إسعاد البشر. فالدين هنا غريب عن الحياة ومغترب عنها، يدفع بالمتدين إلى خارج
العالم المادي المعاش، ويصبح أداة لنسيان الهم، والعزاء والسلوى للضنك والكرب،
مجرد راحة من تعب، وهدنة في حرب، ونوم بعد يقظة. يقبله العاجزون الذين لا يجدون له
بديلًا، ويرفضه القادرون إلى ما هو أكثر التصاقًا بالحياة، المذاهب السياسية
والتيارات الفكرية والمدارس الفنية.
إنّما
الدين في الحقيقة هو نظام حياة للفرد والأسرة والمجتمع والإنسانية جمعاء. هو تصور
كامل للحياة ينبثق منه نظام للمجتمع متفق مع نظام الكون. الدين وسيلة وليس غاية في
ذاته، طريق لإسعاد البشر لا لتبرير الشقاء مفجر لإبداعات البشر من خلال الاجتهاد
والتعبير الحر، والقدرة على الجهر بالحق وليس أداة كبت وخوف وقهر وحرمان. والدين
دافعٌ على التقدم ومخططٌ للمستقبل وليس راجعًا إلى الوراء ـ حنينًا إلى الماضي ـ.
فالجنة في المستقبل وليست في الماضي، والعصر الذهبي قادم ولم يتول بعد.
إنّ
المتأمل في الحديث المشهور "بني الإسلام على خمس" ليجد في هذه الأركان
الخمسة ارتباط الدين بالحياة.
وكما
يذكر الناس عادة أركان الإسلام الخمس، يذكر الفقهاء ضروريات الشريعة؛ وهي التي
حصرها الشهيد الأول (المتوفى 786هـ) في أمور خمسة وسماها بالضروريات الخمس: "حفظ النفس، وحفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النسب، وحفظ
المال".
والعقل
أول مظهر للحياة؛ فهو أداة العلم، وهو أيضًا أساس التكليف وشرط المسؤولية، ويتجه
العقل نحو كل شيء بالتحليل والنقد، والمواجهة والحوار، دون تسليم وطاعة.
وأما
الدين، فهو المعيار العام الشامل الذي لا يختلف عليه البشر مثل العدل والحرية
والأخوة بين البشر، فالكل لآدم وآدم من تراب، حماية للروح الإنساني من الوقوع في
النسبية والشك واللاأدرية حتى العدمية، وهو ما يحدث حاليًا في الوعي الغربي.
والعرض
(النسب) ليس فقط عرض الأفراد؛ حماية لحقوقهم، بمعنى الحفاظ على طهارة الأنساب، بل
يعني أيضًا عرض الشعوب وكرامة الأمم وكل ما ينال من قيم الشرف. فالأرض عرض في
المثل الشعبي، وكرامة الأمة عرض سياسي. وحصار شعب ينال من عرضه وكرامته، وتشويه
صور ثقافة ينال من عرضها في التاريخ.
ولا
يعني المال، المال الخاص بل الثروة العامة، ثروات الأمم دون استغلال أو احتكار،
وتوجيهها للصالح العام. ولا يعني المال السائل أي النقود بل الثروات المنظورة وغير
المنظورة، على سطح الأرض وفي باطن الأرض، الزراعة والتعدين، المنقول وغير المنقول.
إذن
لا عذر لمن يترك الدين لأنه بعيد عن الحياة ويلجأ إلى المذاهب السياسية لأنّ بها
إجابات عن الأسئلة التي يطرحها. إنما العيب فيمن استحوذ على الدين وأبعده عن
الحياة طلبًا للرئاسة والسيطرة. والعيب أيضًا على من استسهل وترك الدين في يد
أعدائه وذهب إلى دين آخر بديل لا يدري هل هو من صنع الأصدقاء أو من صنع الأعداء.
المحور الثاني:
التشدد الديني والتدين السطحي (البداية
والخطر وكيفية العلاج):
تعاني
مجتمعاتنا العربية الإسلامية من موجات التشدد التي تختلف قوة من مجتمع إلى آخر،
وتتخذ مظاهر مختلفة، وتتصدى هذه المجتمعات لمشاكل التشدد عن طريق وضع حلول عدة
لها، وهذه محاولة لإلقاء الضوء على مظاهر التشدد الديني وبيان أسبابه وطرق
معالجته. والمقصود هنا المبالغة والغلو في غير موضعه وفرض الرأي على الآخر وإساءة
الظن به وتأثيمه، وقد يصل الأمر إلى تكفيره.
ومنهج
الإسلام الذي يقوم على اليسر ورفع الحرج والبعد عن التعسير يرفض التشدد. ونصوص
القرآن والسنة وتؤكد أنَّ المرونة واليسر من العناصر الأساسية في المنهج الإسلامي
وذلك لعدة اعتبارات:
1.
كون النصوص التشريعية محدودة، والمستجدات
الحياتية محدودة، والمسكوت عنه من الأحكام أكثر بكثير من الأحكام المنصوص عليها.
2.
كون معظم النصوص ظنية الدلالة، قابلة
لتعدد الآراء وحمالة لأوجه من الفهم والاجتهاد.
3.
كون الإسلام صالح لكل زمان ومكان،
والمقصود هنا الأصول والثوابت.
4.
كون الرسول (ص) جاء لرفع القيود والأغلال
عن الأمة لإسراف من قبلنا في التشدد والابتداع في الدين. كل هذه الاعتبارات تحتم
المرونة والتيسير وإلا وقعت الأمة في حرج شديد، ووقع الفرد المسلم في تأزم نفسي
بين تكاليف دينه ومتطلبات حياته وعصره.
ثم
إنّ التشدد مخالف للفطرة الإنسانية ومناقض لقاعدة أساسية في الإسلام وهي أنّ الأصل
في الأشياء والأفعال والتصرفات الإباحة، بينما التشدد ينطلق من قاعدة الأصل في
الأشياء الحظر والحرمة.
والملاحظ في أمر التشدد مظاهر أربعة هي:
1.
إن التشدد آفة المجتمعات الإسلامية قديما
متمثلا في الخوارج وفهمهم المغلوط للدين، وحديثا في الجماعات المتشددة، غير أن
تأثير التشدد قديما كان محدودا والفتنة كانت محصورة، بعكس ما هو ظاهر الآن من
انتشار موجات التطرف في المجتمعات الإسلامية وبخاصة بين الشباب، حتى ليصل في بعض
المجتمعات إلى صدام دموي بين الجماعات نفسها، وكذلك بينها وبين الأنظمة.
2.
إن التشدد لو كان محصورا على ثوابت الدين
وأحكامه الأساسية وقضايا المجتمع الرئيسية في الحرية والعدالة والشورى، وفي
التنمية والتحرر، لكان أمرا محمودا ومطلوبا، أما أن يكون التشدد في الفرعيات
والخلافيات والتوسع في الحظر والتحريم وشغل الناس بأمور جانبية وإثارة المعارك حول
الخلافيات العقيمة كفرض النقاب، وتقصير الثياب، وحرمة التصوير، وعمل المرأة في
المجتمع ووضعها الاجتماعي والاختلاط، فهذا غير مقبول في الإسلام، لأنه يصرف الجهود
في قضايا فرعية بدلا من توجيهها لبناء المجتمع القوي المنتج.
3.
إن التشدد ولو كان مقصورا على أهله دون
أن يتجاوز ذلك إلى فرضه على الآخرين لما كان الأمر مثارا للاعتراض، بل قد يُحمل في
بعض الحالات على باب الورع، وأما أن يستخدم أهل التشدد سلطتهم ونفوذهم لفرض رأيهم
دون اعتبار للآخرين، بل يتجاوزون إلى التشكيك في عقائد المخالفين لهم والتفتيش في
ضمائرهم، فهذا خروج عن المنهج الحق.
4.
وكذلك يلاحظ في أمر المتشددين أن الأقوال
تناقض السلوكيات والأفعال، مخالفة لتعاليم الإسلام، فتجد الغلظة والصلافة والتجهم
في تعاملهم مع الآخرين، وتجدهم في مواطن الإنتاج والعمل وحقوق الناس متساهلين
مفرطين.
وللتشدد أسباب وعوامل مساعدة هي:
1.
مع أن معظم المتشددين عاطفتهم الدينية
طاغية، فإن وعيهم محدود وثقافتهم الدينية ضحلة، هي ثقافة قشرية ومظهرية، فلا فقه
صحيحا لهم في أمور الدين، ومعظمهم لم يدرس دراسة شرعية نظامية، وزادهم العلمي
الثقافي مستمد من كتيبات وأشرطة تُروج في بقالات ومحلات وعلى أرصفة، ووضعها أناس
غير متخصصين، ومعظمها لا قيمة علمية لها، ومشكلة هؤلاء ليست في قلة الدين، ولكن في
قلة الفهم والعقل كما يقول الكاتب الإسلامي فهمي هويدي.
2.
أن من بين هؤلاء من يتخذ من التشدد وسيلة
للبروز الاجتماعي وطلبا للشهرة والزعامة وتحقيقا لمصالح عاجلة، وهو غير مؤهل علميا
وثقافيا.
3.
عدم كفاية التحصين الديني والفكري
والثقافي في البيت والمجتمع والمدرسة والجامعة، وهذا يدعونا إلى إعادة النظر في
مناهج التعليم والتربية والبرامج الإعلامية. إن التنشئة الاجتماعية الأولى عندنا
لا تعطي الحرية الكافية للطفل للحوار، ولا تربيه على احترام الرأي الآخر.
4.
وجود الفراغ الثقافي والسياسي والاجتماعي
في أوساط الشباب نتيجة عدم تنشيط وتشجيع الحوار الحر، وتوجيه الشباب نحو الانشغال
بقضايا البناء والتنمية.
5.
قصور إسهامات الكفاءات العلمية والفكرية
والثقافية في ملء الساحة العريضة وانسحابها من الميدان لأسباب عدة لا مجال لذكرها
الآن، وهي معروفة على كل حال.
6.
ضعف مستوى بعض الدعاة نتيجة لضعف الحصيلة
الثقافية والعلمية التي تم تزويدهم بها، فلا تسمع منهم إلا حديثا مكررا بعيدا عن
اهتمامات الناس وهمومهم.
7.
أمراض نفسية هي إفرازات مجتمعاتنا
المحبطة والمقهورة سياسيا وثقافيا واجتماعيا، تشكل نوعا من الهوس الديني، وتمثل
نوعا من ردود الفعل المرضية تجاه المتغيرات المعاصرة.
8.
تعصب الحركات المتشددة لمذاهب معينة،
ولأشخاص معينين يتخذونهم أئمة وأمراء يأتمرون بأمرهم وآرائهم لا يحيدون عنها.
حلول ومقترحات قد تخفف من حدة المشكلة:
1.
منها ما يتصل بمسؤولية السلطات في إبعاد
المتشددين عن مراكز القيادة والتوجيه والتربية والتعليم والإعلام.
2.
ومنها ما يتصل بواجب العلماء وأهل الفكر
والثقافة في التصدي لمقولات المتشددين لبيان تفاهتها حتى لا يغتر بها بعض الشباب،
وكذلك لإرشاد هؤلاء المتشددين وتوجيههم إلى المفاهيم السليمة وهدايتهم إلى النهج
العدل وإصلاحهم بالحوار والتناصح والإقناع.
3.
ومنها ما يتصل بمسؤولية الإعلام من زيادة
الجرعات الدينية والثقافية الممثلة لتعاليم الإسلام ومبادئه وقيمه، والقائمة على
العدل والوسطية دون غلو أهل التشدد ولا تفريط غيرهم.
4.
ومنها ما يتصل بمسؤولية البيت والمدرسة
والجامعة من الاهتمام بالتحصيل الديني والفكري والثقافي للشباب بتشجيع الحوار
والمناقشة واحترام الرأي الآخر والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وإشاعة الروح
العقلانية بهدف تكوين العقلية الواعية الناقدة.
5.
ومنها ما يتصل بضرورة وضع خطة أو
إستراتيجية للتنمية الثقافية والدينية على مستوى الدولة، تساهم فيها الجهات
المختلفة في المجتمع.
المحور الثالث: سمات
المجتمع المتدين (وكيفية تحقيق الدين المعاملة):
ربما
علينا أن نسأل سؤالًا مهمًا وصريحًا: ما هو علاقة الدين بالحياة (القانون)؟
هو
الذي يبين المحرمات والواجبات، القانون يتولد تلقائيًا حين يلتقي الناس، فإذا حدث
أن دخل إنسان كهفًا وليس فيه أحد، يباح له أن يجلس في أي مكان شاء، ولكن إذا كان
فيه أحد من البشر، لا يمكن أن يجلس في المكان الذي يجلس فيه الآخر، فيحرم عليه هذا
المكان الذي يجلس فيه الآخر، فيكون تولد الحرام تلقائيًا، الأطفال وهم يلعبون
يضعون قانونًا للعبة يلتزم به الطرفان، وحين يحدث خرق للقانون ويريد البعض أن
يجلسوا على ظهور الآخرين، هنا ينبغي أن يتدخل الوعي الإنساني الاجتماعي لوضع حد
لانتهاك المحرم، وعندئذٍ تبرز مشكلة القانون في أعمق مستوياته، لأن القانون يفترض
التزام الأطراف لحماية الأفراد الذين يقع عليه العدوان. والقانون بمجرد التفكير
فيه، يتولد منه تلقائيًا، إلغاء العنف، وإعلان الخروج من العنف، وحل المشكلات من
دون لجوء إلى العنف، فمن لا يقبل ترك العنف، لا يمكن أن يدخل في عالم القانون.
والدخول
إلى القانون طوعي، لا يكون القانون قانونًا، إن لم يطبق على كل الذين يدخلون فيه،
المشكلة ليست في قسوة القانون أو لينه، المشكلة أن لا يخرج أحد على القانون وأن لا
يُنْقَضَ الميثاق، لأن قسوة القانون ولينه يمكن التدخل فيها باتفاق الداخلين فيه،
والأنفس تطبيقه على بعض وعدم تطبيقه على آخر فهذا الظلم الذي على أساسه هلاك
المجتمعات.
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي
أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى
إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}.
معنى
القانون حماية الأفراد الذين يدخلون فيه، لقد تنازلوا للقانون، كي يحميهم وتنازلوا
عن أن يلجؤوا هم لحماية أنفسهم، هذا هو معنى أن يعيش الإنسان في مجتمع، أن يحمي
المجتمع الأفراد الذين ينتمون إليه، ويفصل بينهم بالعدل، وإذا تخلى المجتمع عن
حماية أفراده يكون المجتمع قد رجع إلى شريعة الغاب. ولن يوجد قانون في مكان يعتمد
فيه الناس على قوتهم، وليس على قوة القانون والمجتمع.
إذن
القانون هو إيقاف العنف ليكون الحل بالسلم، ولن تحل الديمقراطية في مكان يعتمد فيه
الناس على قوتهم الخاصة، أو يوجد فيه أناس يؤمنون بأنّ القوة التي عندهم هي التي
ستحميهم، وليست قوة القانون وقوة الفهم.
والخلاصة: حيث تسيطر القوة الجسدية فلا شريعة ولا قانون، وحيث يسيطر
العلم والفهم تكون الشريعة والقانون، ولا سلطان للجسد. إذن هل السلطة للمعرفة، للجهاز
العصبي أم للجهاز العضلي؟ هذا هو الفيصل بين مجتمع العنف واللاعنف، بين اللاشرعية
والشرعية.
القانون
والعنف ينفي أحدهما الآخر، لا قانون حيث يوجد العنف، ولا عنف حيث يوجد القانون.
إنّ
الديمقراطية (الشورى) هي حل المشكلات من دون عنف، وخاصة المشكلات السياسية؛ لأنه
حيث تحل المشكلات بالعنف فلا ديمقراطية، وحيث توجد الديمقراطية لا تحل المشكلات
بالعنف.
علينا
أن نجتهد كثيرًا حتى يصير هذا الشيء -الذي هو واضح وخفي في آن واحد- واضحًا ويزول
عنه الخفاء الذي يغفله، بحيث يتحول إلى واضح وبديهي، وعلينا أن نتذكر لنتمكن من
فهم الوضوح والخفاء موضوع الشمس، كم كان فهم حركة الشمس خفيًا على الناس جميعًا؟
إنّ
أوضح شيء في الوجود كان أبعد شيء عن الإدراك، فكما تخفى علينا في لحظات ضياع
المقياس، أي القطارين هو الذي يتحرك في المحطة، كذلك يخفى علينا منشأ الحركة بين
العنف والقانون، بين العضلات والجهاز العصبي، لقد ضرب القرآن مثلًا في حركة الظل
على خفاء مفهوم الحركة، وكذلك ذكر القرآن كيف ينخدع الإنسان بصوره الذهنية (أهوائه)
ويتخذها إلهًا، وكأنّ صورته الذهنية هي الحقيقة، ويشبههم القرآن بالأنعام بل أضل
سبيلًا، لأنّ الأنعام تسير حسب غرائزها لا حسب معرفة الخير والشر، فالإنسان الذي
صار عارفًا الخير من الشر إذا تخلى عن ذلك يفسد أكثر من الأنعام، ثم يضرب مثلًا
بحركة الظل، وكيف لنا أيضًا على أنّ صورنا الذهنية تخطئ في فهم أوضح شيء وهو
الشمس، إلا أنّ خطأنا في الفهم لن يغير نظام الفلك، ونحن الذين سنتغير.. وكذلك لن
تتغير علاقة القانون والعنف، حين نتوهم أننا لن نستطيع أن نعيش دون عنف.
إن
الذي يجهل تاريخ تطور المعرفة، هو الذي يمكن أن يتخذ إلهه هواه (صورة الذهنية).
ولكنّ التاريخ وعواقبه هو الذي يكشف خطأ صورنا الذهنية، إنّ تاريخ المعرفة هو
الشفاء من أن يتخذ الإنسان فهمه إلهًا. حين أعلنوا في الغرب عن موت الله على يد
الإنسان، ثم مات الإنسان بعد ذلك، يمكن القول بأنّ الله والأنبياء اللذين كانا في
أذهانهم ماتا فعلًا، ووصلوا إلى العدمية مرة أخرى، وسبب موت الله والأنبياء هو
غياب التاريخ، إنّ التاريخ سيبعث الله وسيبعث الإنسان.
ولكن
التاريخ الدائم سيتغلب على الفساد الطارئ المؤقت، إن العالم لن يفسد إذا تصورناه
فاسدًا:
{وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ
وَالأرْضُ}
المؤمنون
: 71..
{أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ
أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ
يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ
سَبِيلًا * أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ
لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} الفرقان: 43-45.
إنّ
الدين والقانون ينبغي أن لا يتأسسا على أهواء الناس، أي صورهم الذهنية عن الدين
والأنبياء بل ينبغي أن توزن هذه الصور والأهواء بميزان تاريخ المعرفة الذي يحكمه
قانون: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً
وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} الرعد: 17.
إنّ
ديننا وثقافتنا لم يُبنيا على أسس متينة؛ إنّ المؤسسات الدينية والأمم المتحدة
-وهي أعلى مؤسسة سياسية عالمية- مبنية على إلغاء الدين، وإلغاء القانون وعلى عبادة
القوة، عبادة العجل الذهني. والمثال على ذلك: إنّ حق (الفيتو) عارٌ على المثقفين
الصامتين إنها ثمرة غرس المثقفين في العالم شاؤوا أم أبوا، هذا ما قدمته أيدهم، من
هنا نعلم إلى أي درجةٍ فسادُ التُرْبَة، وفساد الغرسة التي غرسها المثقفُ حيث كانت
ثمرة غراس ثقافة القرن العشرين.
والسيد
المسيح (ع) يقول -واضعًا لنا ميزانًا لمعرفة الخير من الشر، ولتمييز الأنبياء
الصادقين عن الذئاب الخاطفة-: "من ثمارهم تعرفونهم" هل يمكن أن نعرف من
هذه الثمرة ضعف الشجرة التي أثمرت هذه الثمرة الفجة التي تُعَقِّدُ المشكلات ولا
تحلها؟ إنّ (الفيتو) هو دين فرعون وقانونه حيث يقول: {أنا
رَبُّكُم الأعَلى} النازعات : 24، ويقول: {لَئِنْ اتَّخَذْتَ
إِلَهًَا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ} الشعراء: 29.
ولقد
جاء في كثير من الأحاديث أنّ أئمة الإسلام كانوا يقولون: ما الدين إلا الحب.
ومن ذلك ما جاء في الخصال والكافي عن الصادق (ع) أنّه قال: "وهل الدين إلا الحب" ثم تلا هذه الآية {قُلْ إِن كنتمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى}.
وموضوع
الحب والفهم يمكن أن يكون مرادفًا لموضوع الإخلاص والصواب..
ويرى المتألهون أنّ الله والإنسان
يتبادلان الحب {يحبهم ويحبونه} المائدة:
54،
وإن كان حب الله يسبق حب الإنسان.
ولو راجعنا النصوص التأسيسية للأديان
نراها تتفق جميعا بتوجيه إتباعها
نحو حب الخير للغير، مثلما يحبه المرء لنفسه, وفيما يلي نماذج لتعاليم أبرز الأديان في العالم حيال
الآخر:
-
"هذا مجمل الواجبات:
لا تعامل الغير بما إذا عوملت به آلمك" البراهمانية، مهبهراتا، 5:
1517.
-
"لا تؤذ الغير
بسلوك تجده أنت بنفسك مؤذيًا لو سلك معك" البوذية، أودانا-فارقا، 18 : 5.
-
"هذا حقًا مثل
المحبة اللطيفة: لا تعامل الغير بما لا تريد أن يعاملوك به"، [الكونفوشوسية، ديوان، 15: 23].
-
"الشيء الذي
تبغضه، لا تعامل به صحبك، هذا مجمل الناموس، وكل ما تبقى شروح" [اليهودية، التلمود، شباط:
31أ].
-
"سمعتُم أنّه قيل
تُحبُ قريبك وتبغض عدوَّك. وأمّا أنا فأقول لكم أَحبّوا أعداءكَم باركوا
لاعنيكم. أحسنوا إلى مُبغضيكم. وصلّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم" [إنجيل متى, 5: 43].
-
"فكل ما تريدون أن
يفعل الناس بكم، افعلوا هكذا انتم أيضًا بهم، لأنّ هذا هو الناموس والأنبياء" [إنجيل متى، 7: 12].
-
{وَلا تَسْتَوِي
الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا
إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} فصلت: 34 - 35.
-
"لا يكون المؤمن
مؤمنًا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" [حديث نبوي].
إنّ السبيل للتخلق بأخلاق الرحمن إنما يتحقق عبر إنقاذ النزعة الإنسانية
في الدين، وإضاءة أبعاده الأخلاقية والمعنوية والرمزية
والجمالية، وتطهير التدين من كافة أشكال الكراهية.
ولا ريب في أنّ ذلك لا يعني اختزال الإنسان
في مجموعة مفاهيم وقيم مثالية، تتعالى على بشريته، وتصيره كائنًا سماويًا مجردًا،
منسلخًا عن عالمه الأرضي، مثلما تريد بعض الاتجاهات
الصوفية والدعوات الرهبانية، بل يعني إنقاذ النزعة الإنسانية إيجاد حالة من
التوازن والانسجام بين متطلبات جسده من حيث هو كائن بشري، وإمكانية غرس وتنمية روح
التصالح مع العالم ، والتناغم مع إيقاع الكون، وتكريس حالة الانتماء للوجود،
والتعاطف مع كافة الكائنات الحية والشفقة عليها، وتعزيز أخلاقية المحبة، وتدريب
المشاعر والأحاسيس والعواطف على القيم النبيلة، والسعي لاكتشاف روافد ومنابع إلهام الطاقة الحيوية الايجابية في هذا
العالم، والتواصل العضوي معها. وهذا يعني استيحاء صفات الرحمة والمحبة والسلام
ونحوها من الرحمن، وليس صفات الموت والانتقام ونحوها من الله تعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق