الخميس، 21 يوليو 2022

 


تأملات في حديث المباهلة

 

الأصل القرآني في قصة المباهلة هو قوله تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61].


شهدت علاقة النبي (ص) بالنصارى  رحمةً وإحساناً، وتسامحاً دينياً قلَّ نظيره، ولا سيما نصارى نجران، علماً أنّه قد ورد في بعض الروايات، والتي يصحِّحها بعض الفقهاء، أنّ نصارى نجران هم شرُّ النصارى يرويها الإمام جعفر الصادق (ع) قال: "قالَ رَسُولُ اللهِ (ص): شَرُّ الْيَهُودِ يَهُودُ بَيْسَانَ، وشَرُّ النَّصَارَى نَصَارَى نَجْرَانَ" (الكافي: ج ٣ ص ٢٥٠).


فلقد أدخلهم (ص) مسجده، وسمح لهم بالصلاة وضرب الناقوس فيه، وناظرهم وحاورهم في أمر المسيح وغيره، ثم دعاهم للمباهلة أمام الله، وجعله حَكَماً بينهم، وتواعدوا لها، ولكنّهم انسحبوا منها، وقالوا لرسول الله (ص): "نعطيك الرضا فاعفنا من المباهلة"، فصالحهم النبي (ص) على الجِزْية، وانصرفوا (راجع: مغني المحتاج للشربيني: ج 4 ص 248).


فليس النبي (ص) هو الذي فرض عليهم الجِزْية ابتداءً ومبادرة، وإنّما هم مَنْ طلب رضاه؛ ليعفيهم من المباهلة، فوضع عليهم هذه الضريبة المالية.


وروى عليّ بن إبراهيم القمّي في (التفسير: ج 1 ص 104)، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن عبد الله ابن سنان، عن أبي عبد الله (ع):

إنّ نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله (ص)، وكان سيدهم الأهتم والعاقب والسيد، وحضرت صلاتهم، فأقبلوا يضربون بالناقوس وصلّوا<

فقال أصحاب رسول الله (ص): هذا في مسجدك؟!

فقال: دَعوهم<

فلمّا فرغوا دنوا من رسول الله (ص)، فقالوا: إلى ما تدعو؟ 

فقال (ص): إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأنّ عيسى عبدٌ مخلوق يأكل ويشرب ويحدث.

قالوا: فمَنْ أبوه؟

فنزل الوحي على رسول الله (ص)، فقال: قُلْ لهم: ما تقولون في آدم (ع)، أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب وينكح؟

فسألهم النبي (ص)، فقالوا: نعم.

فقال: فمَنْ أبوه؟

فبُهِتوا، فبقوا ساكتين، فأنزل الله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ…الآية﴾، وقوله: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ﴾ إلى قوله: ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾<

فقال رسول الله (ص): فباهلوني، فإنْ كنتُ صادقاً أنزلت اللعنة عليكم؛ وإنْ كنتُ كاذباً نزلت عليَّ،

فقالوا: أنصفْتَ. فتواعدوا للمباهلة.

فلمّا رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم، السيد والعاقب والأهتم: إنْ باهلنا بقومه باهلناه؛ فإنّه ليس بنبيٍّ؛ وإنْ باهلنا بأهل بيته خاصّةً فلا نباهله؛ فإنه لا يقدم على أهل بيته إلا وهو صادقٌ<

فلمّا أصبحوا جاؤوا إلى رسول الله (ص) ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم، فقال النصارى: مَنْ هؤلاء؟ فقيل لهم: هذا ابنُ عمِّه ووصيُّه وختنُه عليُّ بن أبي طالب، وهذه بنته فاطمة، وهذان ابناه الحسن والحسين (ع)، فعرفوا، وقالوا لرسول الله (ص): نعطيك الرضا فاعفنا من المباهلة، فصالحهم رسول الله (ص) على الجِزْية، وانصرفوا.

  

ولا تعتبر المباهلة بتفاصيلها حدثاً عادياً ويراد من خلالها تحقيق أمور عديدة:


1- حسم الحوار، الذي قد لا يصل إلى نتيجة، بحيث لا ينعكس الخلاف سلباً على أرض الواقع فيؤدي إلى التشنج والعصبيات والحساسيات أو حتى إلى التقاتل، فيُترك الأمر إلى الله سبحانه، ليصدر حكمه الواضح في الدنيا، كما يحكم تعالى في الآخرة، بما يساهم في إزالة كل النوازع الذاتية ما دام الأمر يتعلق بالجانب الديني، حيث يعمل الطرفان على وصول الحوار إلى نتيجة متفق عليها وعندما لا يتم ذلك، فإنهما يتركان الأمر لله سبحانه لأنه الحكم ولأنه المنطلق والهدف.

وقد عبّر الإمام الحسين (ع) عن هذه الصورة عندما قال: "لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي اصبر حتى يحكم الله بيني وبين القوم الظالمين".

فقد أشار (ع) إلى أنه يصبر إلى أن يصدر الحكم من الله تعالى فإليه يرجع الأمر كله.


2- كان الحرص في إعلان المباهلة على أن يتم في ظل اجتماع   الطرفين، لإزالة التوتر بين المتحاورين وبين مجتمعاتهم أيضاً.. بحيث تزول من خلال ذلك كل الرواسب التي قد تحدث في داخل المجتمع المتنوع.


3- عندما تقام المباهلة، فإنّ الدعاء لله يحصل من الجميع بصوت واحد وقد جاء في القرآن الكريم: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}، بحيث يدعو الجميع أن يُخرج الله من رحمته كل مخالفٍ للحقيقة، عسى أن يفتح ذلك فرصة الخير في قلوب المعاندين، للاذعان إلى الحقيقة بعد رفضها.

حيث إنّ الجو المهيب الذي يحصل من خلال هذا الاجتماع، يفرض على الكاذب أن يفكر ملياً بما هو مقبلٌ عليه.

وإننا بحاجة إلى تأكيد المباهلة كعنصر إيجابي يساهم في إزالة النزاع من النفوس، وتفريغ السلبيات المكنونة فيها لتوضع عند الله عز وجل، فيحكم بين عباده وهو خير الحاكمين.


4- التركيز على أسلوب القرآن، فعندما تكون هناك مشكلة بينك وبين شخص آخر، فعليك في طريقة التعبير أن تساوي نفسك بالآخر، فعندما تتحدث -مثلاً- مع شخص يشك وأنت على يقين، ففي مجال الحوار ولأجل إيصاله إلى الحقيقة، حاول أن تُظهر نفسك بمظهر الشاكّ، أو إذا كانت هناك مباهلة فإنَّك في العادة تقول للطرف الآخر إذا كنت كاذباً فسيلعنك الله، في حين أنّ أسلوب القرآن يعلّمك أن تقول: سيلعن الله الكاذب منّا حتى لو كنت صادقاً.


ففي تفسير العياشي بإسناده عن محمد بن سعيد الأزدي، أنّ موسى بن محمد بن الرضا (ع) أخبره أن يحيى ابن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل: "أخبرني عن قول الله تبارك وتعالى: {فإن كُنتَ في شَكٍّ ممَّا أنزَلْنَا إليكَ فاسألِ الذينَ يقرأون الكتابَ مِن قَبْلِكَ}، مَن المخاطب بالآية؟ فإن كان المخاطب فيها النبي (ص)، أليس قد شك في ما أنزل الله؟ وإن كان المخاطب به غيره فعلى غيره إذاً أنزل الكتاب؟!

قال موسى: فسألت أخي (أي الهادي (ع)) عن ذلك، قال: "فأما قوله: {فإن كُنتَ في شَكٍّ ممَّا أنزَلْنَا إليكَ فاسألِ الذينَ يقرأون الكتابَ مِن قَبْلِكَ} فإنَّ المخاطب بذلك رسول الله (ص)، ولم يكُ في شك مما أنزل الله، ولكن قالت الجهلة: كيف لم يبعث إلينا نبياً من الملائكة، إنه لم يفرق بينه وبين نبيّه في الاستغناء في المأكل والمشرب والمشي في الأسواق.

فأوحى الله إلى نبيّه: {فاسألِ الذينَ يقرأون الكتابَ مِن قَبْلِكَ} بمحضر الجهلة: هل بعث الله رسولاً قبلك إلاَّ وهو يأكل الطعام ويشرب ويمشي في الأسواق، ولك بهم أسوة، وإنّما قال: فإن كنت في شك ولم يكن -أي لم يكن في شك- ولكن ليتبعهم كما قال: {فقُلْ تَعالَوا نَدْعُ أبنَاءَنا وأبْنَاءكُمْ ونِساءَنا ونِسَاءَكُمْ وأنفُسَنَا وأنفُسَكُمْ ثُمَّ نبْتَهِلْ فَنَجْعَل لعنَةَ الله على الكاذِبين}".


فكأنه يفرض النبي شاكّاً -وهو ليس بشاك- ويقول له كما هم شاكّون افترض أنك في موضع الشك، وذلك من أجل أن تجتذب هؤلاء لتحتجَّ عليهم بذلك، فالمباهلة تقتضي أن يفقد كل طرف صفته التي تميز بها.


ثم يقول الإمام الهادي (ع): "ولو قال: تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم، لم يكونوا يجيئون للمباهلة، وقد عرف أنّ نبيكم مؤدّ عنه رسالته، وما هو من الكاذبين، وكذلك عرف النبي (ص) أنه صادق في ما يقول، ولكن أحبّ أن ينصف من نفسه".


فالذي يستفيده الإمام الهادي (ع) من القرآن هو الأسلوب العلمي الذي يجعل الإنسان الذي يحاورك يقف معك بكلِّ قلب مفتوح، لأنك ساويت نفسك به وأعطيته النَصف من نفسك، وهذا تطبيق للآية الكريمة التي تقول: {وإنَّا أو إيَّاكُم لَعَلى هُدىً أو في ضَلالٍ مبينٍ}.











هناك تعليق واحد:

محرم 1447 في الصحافة الكويتية